الساعة تقترب من الثالثة صباحًا من يوم الجمعة، والجند يدفعون بيسوع موثقًا من بيت حنان إلى بيت قيافا، ولم يستلزم هذا منهم إلاَّ هبوط عدَّة درجات، وعبور الدهليز، وصعود عدَّة درجات مماثلة، والخدم يتبعونهم... القصر كله يقظ وقد جافى النوم عينيه فلا الرجال ولا السيدات ولا الخدم ولا العبيد ولا الإماء ذاقوا النوم في تلك الليلة، فهي ليلة ليست مثل كل ليلة... هناك من يذهب وهناك من يئيب... الخدم والعبيد يذهبون في مأموريات عاجلة، وأعضاء السنهدريم يتوافدون، واحد يلو الآخر، وكذلك شهود الزور يتدفقون على القصر، والكل مشغول بقضية مُعلّم الجليل الرجل المعجزة قاهر الموت، وبينما الخدم والعبيد يحاولون اختلاس النظرات لذاك الذي هو أبرع جمالًا من بني البشر، فإن سيدات القصر يستجدين الأخبار منهم... أنه يُحاكم أمام سيدنا حنان... لقد لُطِم على وجهه... أنه يُقاد إلى سيدنا قيافا...
وإذ كانت الليلة شديدة البرودة، تجمَّع بعض الخدم في الفناء حول النار يصطلون، ورغم انتشار المصابيح في الطرقات والردهات، ولكن من لي ليُبدّد ظلمة تلك النفوس، فلا النار ولا النور بوسعيهما أن يقشعا الظلمة عن تلك النفوس الظمأى لدم الناصري.
ومرقس الذي انطلق إلى بيته عريانًا، عاد سريعًا وقد ارتدى ملابسه إلى بيت رئيس الكهنة، ودلف في غفلة من البوابة إلى القصر، وأيضًا يوحنا الذي استجمع شجاعته جاء ودخل علانية لأنه كان معروفًا لدى الخدم، إذ كان يُحضر الأسماك الطازجة والمميَّزة إلى هذا القصر، وبعد قليل همس مرقس في أذن يوحنا: إنني لمحت بطرس يحوم حول القصر.
فذهب يوحنا وكلم البوابة بدالة فأدخلت بطرس إلى القصر رغم أنه شخص مجهول بالنسبة لها. بل ربما شكت فيه إنه أحد أتباع المتهم.
وكان قيافا قد رتب أوراقه للحكم على مُعلّم الجليل بأي تهمة تفضي إلى القتل، ولكيما يكون انعقاد مجمع السنهدريم صحيحًا، يجب ألاَّ يقل عدد الأعضاء المجتمعين عن ثلث الأعضاء، وبالفعل نجحت مساعي حنان وقيافا في استدعاء أكثر من هذا العدد في تلك الساعة بفضل الإلحاح والترجي، فكان هناك رؤساء الكهنة حنان وأولاد الخمسة وقيافا سبعة رجال من أعضاء المجلس الموقر، وجميعهم من " الصدوقيين " نسبة لصادوق الكاهن الذي خصه الملك سليمان برئاسة الكهنوت دون أبياثار (1 مل 2: 35) وقد انحدروا إلى الدرجة التي أنكروا فيها القيامة والملائكة والأرواح وحياة الدهر الآتي، ولذلك اضطربوا من يسوع الذي جاء يكلمهم عن القيامة والدينونة والحياة الأخروية، وقد سبق وأرسلوا له يسألونه في مثل المرأة التي تزوجت بسبعة أخوة الواحد بعد موت الآخر، فقال لهم "تضلُّون إذ لا تعرفون الكتب ولا قوة الله لأنهم في القيامة لا يُزوّجون ولا يتزوَّجون بل يكونون كملائكة الله في السماء وأما من جهة قيامة الأموات أما قرأتم ما قيل لكم من قبل الله القائل. أنا إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب. ليس الله إله أموات بل إله أحياء" (مت 22: 29 - 32) وهكذا اقتصر رجاء الصدوقيين على هذه الحياة الأرضية وصرفوا اهتماماتهم نحو التراب والترابيات...
كيف يجبون جباية الهيكل ويحصلون على العشور ويحلبون الشعب؟!
كيف نسوا الفقراء وتركوا المحتاجين وأهملوا الغرباء، وصرفوا ببذخ على أنفسهم، فعاشوا عيشة الملوك؟!
كم كان لديهم من عبيد وخدام وإماء، وأجزلوا العطاء لروما ليلبثوا في مناصبهم أطول فترة ممكنة؟!
إنهم بالحقيقة يمثلون الطبقة الأرستقراطية في المجتمع اليهودي، وانشغالهم بالثراء والسياسة صرفهم تمامًا عن الاهتمام بأمور الدين والأخلاق الحميدة، وترجع أهمية طائفة الصدوقيين ليس إلى عددهم بل إلى خطورة مناصبهم، وكانوا يركزون على سلطة وسلطان الهيكل ويرفضون كل ما هو جديد.
أما "الفريسيون" أي المعتزلون أو المفروزون، فقد أطلق عليهم الصدوقيون هذه التسمية نظرًا لاعتزالهم عن المجتمع، وكان الفريسيون يشعرون أنهم مميَّزون لدى الله عن بقية اليهود بسبب تدقيقهم واعتزالهم عن الأمم، وقد اهتموا بالوعظ وتفسير الناموس، ولذلك اكتسبوا شعبية تفوق تلك التي لرؤساء الكهنة الصدوقيين، وكان الشعب يضع ثقته فيهم، وتقلد الفريسيون سلطة القضاء بمجمع السنهدريم، وتمسكوا بالتفسير الحرفي للناموس، فلا عجب أن نسمع عن مشادة بين مدرستي "شماي" ومدرسة "هاليل" بسبب تحليل أو تحريم البيضة التي وضعتها الدجاجة في يوم سبت، وبينما كانت مدرسة هاليل تحرّم أكل هذه البيضة، فإن مدرسة شماى كانت أكثر تسامحًا فسمحت بأكلها، ونسمع عن مجادلة حول الإنسان الذي يتعرض للحرق يوم سبتٍ، هل يحل له إطفاء ملابسه المشتعلة..؟! وانتهى الرأي إلى تحليل إطفاء ملابسه الداخلية فقط التي تستر عريه، أما بقية الملابس فيتركها تحترق، وكانوا يعتبرون أن لبس الحلي أو الأسنان الصناعية أو حمل الأطراف الصناعية يكسر السبت لأنه نوع من الأحمال المحرمة، وقتل البرغوث يكسر السبت لأنه نوعًا من الاقتناص...
وبينما كان الفريسيون على خلاف شديد مع الصدوقيين، فإنهم ارتبطوا بعلاقة وثيقة مع الكتبة، وكان للفريسيين تقليداتهم التي دعوها "تقليدات الشيوخ" ورفعوا من شأنها إلى درجة الناموس، فهم يعتبرون أنفسهم معلموا الطقوس، وظنوا أن الله يبارك اليهود لكونهم أولاد إبراهيم، ولذلك وبخهم يوحنا المعمدان قائلًا لهم " يا أولاد الأفاعي من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي. فاصنعوا أثمارًا تليق بالتوبة. ولا تبتدئوا تقولون في أنفسكم أن لنا إبراهيم أبًا. لأني أقول لكم أن الله قادر أن يقيم من هذه الحجارة أولادًا لإبراهيم" (لو 3: 7، 8) وكان منهم غمالائيل معلم الناموس وتلميذه شاول الطرسوسي، ونيقوديموس وسمعان الأبرص عضوي مجمع السنهدريم.
وهاجم هؤلاء الفريسيون معلم الناصرة واتهموه أنه يخرج الشياطين ببعلزبول رئيس الشياطين، وأنه بصنعه المعجزات والأشفية في يوم السبت يكسر السبت، ولاسيما عندما قال للمفلوج أحمل سريرك وأمشي... فكم غضبوا عليه حينئذ..؟! ولاموا على المسيح، لأن تلاميذه لا يصومون، بينما كانوا هم يصومون يومي الاثنين والخميس من كل أسبوع، فيوم الخميس تذكارًا لصعود موسى للجبل لاستلام الشريعة، ويوم الاثنين تذكارًا لنزوله من الجبل. وانتقدوا معلم الناصرة انتقادًا مرًا بسبب أكله مع الخطاة والعشارين والزواني، وكثيرًا ما جربوه ليصطادوه بكلمة ويحكمون عليه. أما المعلم فقد وبخهم على ريائهم قائلًا " أنتم الآن أيها الفريسيون تنقُّون خارج الكأس والقصعة وأما باطنكم فمملوء اختطافًا وخبثًا. يا أغبياء أليس الذي صنع الخارج صنع الداخل أيضًا... ويل لكم أيها الفريسيون لأنكم تعشرون النعنع والسَّذَاب وكل بقلِ وتتجاوزون عن الحق ومحبة الله. كان ينبغي أن تعملوا هذه ولا تتركوا تلك. ويل لكم أيها الفريسيون لأنكم تحبون المجلس الأول في المجامع والتحيات في الأسواق. ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون لأنكم مثل القبور المختفية والذين يمشون عليها لا يعلمون" (لو 11: 39 - 44) ولذلك لك أن تتصوَّر يا صديقي مدى نقمتهم على يسوع، فكم يشتهون أن يشفوا غليلهم عندما يروه مُعلقًا على خشبة العار؟! وإن كان معظمهم قد آثر الانسحاب من حلقة الصراع الأخيرة تاركين مهمة القضاء على يسوع للصدوقيين ومشايعيهم.
أما "الكتبة" فكان عملهم نسخ الأسفار المقدَّسة وتفسيرها، وعُرِفوا باسم السفريم، وهي مشتقة من كلمة سفر أي سجل أو كتاب، وكان الكتبة يعتبرون أنفسهم معلموا اللاهوت، وكان بعضهم أعضاءًا في مجمع السنهدريم، ونال بعضهم رتبة "رابي" Rabbi، وبعضهم نالوا الرتبة الأعلى "رابوني" Rabboni، وألتزم الكتبة بالتفسير الحرفي للناموس وتشدَّدوا في حفظ تقاليد الشيوخ، ولذلك ارتبطوا بصلة وثيقة مع الفريسيين.
وقاوم الكتبة معلم الناصرة، فلقد كان دائم التوبيخ لهم " على كرسي موسى جلس الكتبة والفريسيون. فكل ما قالوا لكم أن تحفظوه فاحفظوه وافعلوه. ولكن حسب أعمالهم لا تعملوا لأنهم يقولون ولا يفعلون. فأنهم يحزمون أحمالًا ثقيلة عسرة الحمل ويضعونها على أكتاف الناس وهم لا يريدون أن يحركوها بإصبعهم. وكل أعمالهم يعملونها لكي تنظرهم الناس.." (مت 23: 1-7) وبالتالي فإن هؤلاء الكتبة كانوا ناقمين على مُعلّم الناصرة يتمنُّون من كل قلبهم الخلاص منه.
وكان هناك أيضًا طائفة "الناموسيين" الذين اهتموا بدراسة ناموس موسى من الجهة القانونية، فهم معلموا القانون ويعتبرون أنفسهم حماة الشريعة مثل الكتبة والفريسيين، ورفضوا مثلهم بشارة يوحنا المعمدان، وكرازة يسوع، وحاولوا اصطياده بكلمة، وقال أحدهم للمُعلّم عندما وبخ الفريسيين: يا مُعلّم حين تقول هذا تشتمنا نحن أيضًا فقال لهم "وويل لكم أنتم أيها الناموسيون لأنكم تُحّملون الناس أحمالًا عسرة الحمل وأنتم لا تمسون الأحمال بإحدى أصابعكم. ويل لكم لأنكم تبنون قبور الأنبياء وآباؤكم قتلوهم.." (لو 11: 46 - 48).
كما ضم المجمع اليهودي طوائف أخرى شتى أقل أهمية مثل "الأسينيون" الذين عاشوا حياة البتولية والنسك والتقشف و"الهيردوسيون" الذين يوالون العائلة الهيرودسية، و"الغيورون" الذين لا يعترفون بسلطة أحد من الشعب ولكنهم يعتبرون بسلطة الله فقط، ومنهم سمعان الغيور، وكانوا يقاومون الرومان بحماس وغيرة شديدة.
أما "مجلس السنهدريم" فهو يمثل السلطة الأعلى في المجتمع اليهودي بكل طوائفه وفئاته، وجاءت تسمية السنهدريم من "سنهدريم" Sunhedrion أو "سنهدرين" Sunhedrin والكلمتان من الكلمة اليونانية "سندريون" Synedrion أي محكمة، ويرجع تاريخ هذا المجمع إلى زمن موسى النبي عندما اختار سبعين من شيوخ إسرائيل ليعاونوه في احتياجات الشعب وأعمال القضاء بحسب مشورة حماه يثرون، ولذلك فإن اليهود قد حافظوا على نفس العدد سبعين شيخًا بالإضافة إلى رئيس الكهنة الذي يمثل موسى، ويبلغ عدد أعضاء الهيئة العليا للمجمع ثلاثة وعشرين عضوًا من الواحد والسبعين.
اجتمع مَنْ تَجمَّع من أعضاء المجلس الموقر في صالة الاجتماعات الخاصة بهم، والساعة تجاوزت الثالثة صباحًا، ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي اجتمع فيها المجلس بشأن هذه القضية، فقد طُرحت قضية يسوع على مائدة البحث في هذا المجلس الموقَّر مرة ومرات، أرسلوا خدامًا ليحضروه من قبل ولكنهم عادوا قائلين " ما سمعنا أحد قط يتكلّم بكلامه " ومرة أخرى أرسلوا أُناسًا ليصطادوه بكلمة فيحكموا عليه، ولكنهم باءوا بالفشل الذريع، ومنذ أيام قليلة كان هناك اجتماعًا موسعًا بسبب إقامة لعازر من الموت، وإيمان عدد كبير من اليهود مؤكدين أنه ليس أحد يقدر أن يعمل هذه المعجزة إن لم يكن الله معه، حتى الذين كانوا يخشون السلطات الدينية المستاءة من يسوع لم يعودوا يخشون شيئًا، بل اجتاحتهم الشجاعة وأقرُّوا المعجزة مؤكدين أن هناك أمرًا ما يفوق الطبيعة يخص يسوع، وقد عمَّت الأخبار أورشليم ومدن إسرائيل، وانتظر الشعب هبوب رياح الثورة والتغيير على يد يسوع الجبار ليطيح بالفساد الديني والنير الروماني الذي طالما أثقل الأعناق... وكم كان اجتماعًا مثيرًا!! فقد حضره كل أعضاء المجلس وناقشوا موضوع يسوع من وجهة نظر أنانية، وقال أحدهم:
عندما يلتف الشعب كله حوله... فأين هو دورنا نحن..؟! لابد إننا سنختفي من على خشبة المسرح... نحن حماة الشريعة وحماة الهيكل، وهل يعتمد على يسوع الذي يُعلّم أتباعه محبة الأعداء؟! ذاك الذي لا يملك سيفًا، أيدافع عن الهيكل..؟! لابد أن الرومان الذين رفعوا البيارق من قبل على قلعة أنطونيا المشرفة على الهيكل، سيرفعون مثل هذه البيارق الوثنية على الهيكل نفسه.
وقال آخر: وماذا لو واتت يسوع الشجاعة وقام بثورة ضد الرومان، رغم أن هذا ضد مبادئه المتسامحة، وماذا لو فشلت ثورته... تُرى ماذا يكون رد الرومان علينا؟
وأجابه آخر: سيأخذون موضعنا... سيكتسحون أمتنا... سيعلقون شبابنا ورجالنا وأراخنتنا على الصلبان، ويرملون نساءنا وييتمون أطفالنا، وقد يحرقون هيكلنا.
فقال حنان: وحينها سنفقد سلطتنا وسطوتنا وكل شيء.
حينئذ نهض قيافا قائلًا: لقد فاتكم شيئًا ألاَّ ترون أنه خير لنا أن يموت يسوع من أن تُهلك الأمة بأسرها... خير أن يموت إنسان واحد عن الشعب ولا يضيع الشعب كله ونضيع نحن معه.
وشعر نيقوديموس ويوسف الرامي أن حلقات الشر تضيق حول يسوع، فإن هؤلاء القوم يطلبون مسيحًا يوافق هواهم، يسير في طوعهم، ويُثبّت أقدامهم، وهذا بعيد كل البعد عن معلم الجليل، ولم تواتي نيقوديموس ولا يوسف الجرأة للشهادة للحق خشية طردهم من المجمع، وانساق المجمع كله وراء قيافا، واتخذوا القرار بقتل يسوع، وحياهم حنان على روح الغيرة هذه قائلًا "نعمًا ما فعلتموه يا أبناء يعقوب" واستمر النقاش حول كيفية تنفيذ القرار، فقال أحدهم: نُرسل إليه من يغتاله سرًا؟
حنان: إن تلاميذه لا يفارقونه، ولو اكتشف الشعب هذه الجريمة ربما يرجموننا.
وقال آخر: إذًا فلنقبض عليه ونقدمه للمحاكمة أمامنا في هذا المجلس الموقر.
حنان: حسنًا، ولكن متى يكون هذا؟
قيافا: ليس في العيد لئلا يحدث شغب في الشعب... وكان رؤساء الكهنة والكتبة يطلبون كيف يمسكونه بمكر ويقتلونه. ولكنهم قالوا ليس في العيد لئلا يكون شغب في الشعب... وهكذا اتفق الجميع على القبض على يسوع في غيبة من الجماهير، وأصدروا قرارهم الأخير "إن عرف أحد أين هو فليدل عليه".
وبناء على القرار السابق تقدم يهوذا الإسخريوطي يعرض تسليم مُعلّمه إليهم، وهوذا الآن كل شيء قد تم بسلام، وهوذا يسوع ماثلًا أمامهم، فكل الظروف قد تغيرت... هكذا كان يفكر رؤساء الكهنة ومشايعيهم، وهم يجلسون في مجلسهم مع بقية الأعضاء على شكل حرف U وجلس كاتبا الجلسة على طرفي المقاعد، كما وفد عدد كبير من الكهنة وشيوخ الشعب والكتبة وبعض الجنود والخدام والعبيد الذين قبضوا على يسوع، وكلهم يختالون زهوًا بهذا العمل البطولي، ووقف يسوع في الوسط بين جنديين من حرس الهيكل، ووقف يوحنا الحبيب يتأمل ويتألم، وكان قيافا يستحث الحاضرين ليقدم كل منهم شكاية على يسوع قبيل الجلسة.
وبدأت الجلسة برئاسة قيافا بحكم منصبه كرئيس للكهنة -كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى- ونادى المنادي أسماء الأعضاء لإثبات حضورهم، فكانت هذه المحاكمة الثانية لمعلم الناصرة بعد محاكمته الأولى السريعة أمام حنان، وهذه المحاكمة شابها منذ بدايتها ثلاثة أخطاء جسيمة:
1- حسب الشريعة اليهودية كانت المحاكمة تبدأ بأشخاص متضرّرين يُمثّلون الإدعاء، وذلك لعدم وجود نيابة عامة لدى اليهود تنوب عن المجتمع ككل حينذاك، وهؤلاء المتضرّرين يتقدمون بتهم مُحدَّدة ضد المتهم، ويكون لديهم على الأقل شاهدين، فإن لم تتوفر مثل هذه الشروط فلا يجوز القبض على المشكو في حقه، وبالرغم من عدم توافر هذه الشروط في هذه القضية فقد قبضوا على يسوع، وأكثر من هذا أنهم استخدموا الرشوة ليتمكنوا من القبض عليه.
2- بينما كان المتهم يُعتبَر بريئًا حتى تثبت إدانته، فإنهم اعتبروا يسوع مُدانًا وحكموا عليه بالموت في جلسة السنهدريم السابقة قبل أن يسمعوا منه.
3- منعت الشريعة مُحاكمة الإنسان المتهم بتهم تفضي إلى الإعدام ليلًا، فمثل هذه المحاكمات لابد أن تبدأ في وضح النهار وتنتهي في وضح النهار. أما المحاكمات المتعلقة بالأمور المالية والمديونية فكان مسموح لها بأن تنعقد في وضح النهار وتنتهي ليلًا، وبالرغم أن أحد أعضاء غرفة المشورة قد لفت نظر الأعضاء لهذه المخالفة لكنهم تعلَّلوا بأن الأمر جد عاجل وخطير ولا يحتمل التأجيل، وربما مخالفة الأعضاء لضمائرهم في الأمور السابقة جعلهم يدقَّقون في موضوع الشهود وبقية الإجراءات الشكلية.
وكما شاب هذه المحاكمة أخطاء جسيمة في بدايتها فقد شابتها الأخطاء أيضًا في انعقادها، وفي ختامها كما سنرى حالًا... منذ سبعمائة سنة قال الروح القدس عن هذه المحاكمة "ها أنهم يجتمعون اجتماعًا ليس من عندي" (أش 54: 5).
ووقف أحد أعضاء المجلس يعرض التهم التي من أجلها يُحاكم يسوع الناصري وأهمها إدعائه أنه المسيا، وأنه ابن الله... وتقدم شهود الزور يشهدون كذبًا وافتراءًا، ونادى قيافا بصوت جهوري: لك أن تدافع عن نفسك يا يسوع...
والتزم يسوع جانب الصمت ولم يجب بشيء...
وتكرَّر النداء القيافي ثانية وثالثة، ومازال يسوع صامتًا... سألوه كثيرًا فلم يجب ولا بإيماءة بسيطة، وكأن هذه الأسئلة لا تخصه... فلماذا صمتَّ يا يسوع؟..
هل صمتك هذا كان احتجاجًا على ظلمهم..؟! ربما...
هل صمتَّ لأنك وجدت الجور في مكان العدل، والظلم في مجلس الحكم..؟! ربما...
هل صمتك يعني موافقتك على كل الاتهامات الموجهة إليك لأنك حمل الله الذي يحمل خطية العالم كله؟!..ربما...
هل صمتَّ لأنك لو تكلمت فإنك ستُبكم الكل، فيطلقونك وتتعطل قضية الخلاص..؟! ربما...
هل صمتَّ حزنًا على كل إنسان مظلوم يقف أمام محكمة جائرة، لا يعرف أن يحير أو يدير..؟! ربما...
ولنا أن نستمع إلى شهادة أحد الأشخاص غير المسيحيين في أيامنا هذه " وقد استمع (يسوع) إلى هذه الأقوال ولم يُعقِب عليها لأنه أدرك أنه لا فائدة من التعقيب، فطريقة القبض عليه ومحاكمته في دار أعدى أعدائه في مثل هذا الوقت المتأخر من الليل والتزييف الذي لمسه من أقوال الشهود، والمرارة التي أحس بها في لهجة الذين نصَّبوا أنفسهم قضاة ومُحلفين، وفي تصرفاتهم والشرر الذي يتطاير من أعينهم، كل أولئك دفعه إلى الصمت" (11).
وتوتر حنان العجوز وهو يكتم غيظه، فما هو السبيل للحكم على إنسان صامت لا يدافع عن نفسه؟!
إن صمته القوي كشف مؤامرتهم وفضحهم أمام أنفسهم... فأخذت المحكمة تُناقش الشهود في أقوالهم، وكان معظمهم من خدام رؤساء الكهنة، ورغم أن الشاهد كان يقسم اليمين على قول الحق، إلاَّ أن جميع شهادتهم جاءت كاذبة أو مُلفَّقة، فهي شهادات واهية يعوزها الدليل، غير متناسقة ولا مُتفقة، محض أكاذيب وافتراءات باطلة، تحمل زيفها في طياتها، فانكشف شهود الزور واحدًا يلو الآخر، وتضاربت أقوالهم، وماتت شهاداتهم في مهدها، أو قل أنها وُلِدت ميتة، فرُفضوا جميعًا، بل إن بعض هذه الشهادات كانت تُثير السخرية، ولاسيما عندما قال أحد الخدام أنه شاهد بأم عينيه المُعلّم يقلب موائد الصيارفة وتلميذه الأسخريوطي يدس بعض الدراهم في جيبه، وبما أنه تلميذ يسوع فيجب الاقتصاص من المُعلّم عوضًا عن التلميذ، وتململ يهوذا وأراد أن يُكذَب هذا الرجل، ولكن شجاعته كانت قد ذابت فآثر الصمت، واستاء قيافا من هذه الشهادة التي تُدين حبيبه يهوذا.
فما العمل والشهادة الصحيحة تقوم على فم شاهدين أو أكثر..؟!
وكان رؤساء الكهنة والشيوخ والمجمع كله يطلبون شهادة زور على يسوع لكي يقتلوه فلم يجدوا. لأن كثيرين شهدوا عليه زورًا ولم تتفق شهاداتهم... إنها مهزلة قضائية... لقد أصدروا الحكم قبل النظر في القضية، وكل ما يفعلونه الآن هو ترتيب أوراق التين لستر عريهم... مجرد إجراءات شكلية لذرَّ الرماد في العيون... منذ ألف عام رأى داود هذه الأمور بعين النبؤة فقال "شهود زور يقومون عليَّ وعمَّا لم أعلم يسألونني. يجازوني عن الخير شرًا" (مز 35: 11، 12).
" وعندما بدأت المحاكمة، أصبحت في واقعها محاكمة للكهنة أنفسهم، فأي عار هذا عندما يلجأ رجال الدين إلى شهود كي يلصقوا علَّة بذلك القدوس. ومع هذا لم تتفق أقوالهم فازدادت خيبتهم وشعروا بضآلتهم أمام ذلك الشخص العظيم" (12).
وصرفت المحكمة وقتًا طويلًا في غربلة أقوال الشهود واستجوابهم، مما جعل الشهود أنفسهم يتخذون جانب الحيطة والحذر، وكفوا عن أكاذيبهم، ولاسيما أن الشريعة تُوجب رجم شاهد الزور، وجاء بالتقليد اليهودي في نص تحذير الشاهد في جرائم الأنفس " لا تنسَ أيها الشاهد أن هذه المحاكمة التي تتعلق بالحياة سيكون دم المتهم، ودم ذريته إلى انقضاء الزمن في رقبتك إن شهدت زورًا... فالله خلق آدم وحيدًا فريدًا، وهو يعلمك بهذا أن أي شاهد يتسبب في هلاك فرد في إسرائيل فكأنه أهلك العالم كله، أما من أنقذ إنسانًا واحدًا فكأنه أنقذ العالم كله" (13) كما إن الفقه اليهودي كان يميل إلى تأويل أقوال الشهود لصالح المتهم، حتى تثبت إدانته بالدليل القاطع قبل سفك دمه.
ووقف يسوع وحيدًا بلا سند ولا مُعين وسط هذا الجمع يُحاكم، بينما يحاول أعضاء المجلس الموقَّر أن يحسنوا إنتهاز الفرصة للحكم عليه، فلو زاغت من أيديهم هذه المرة، فلن تؤاتيهم مرة أخرى لا في المستقبل القريب ولا البعيد أيضًا، وربما كانت نهايتهم على يده، فهو القادر على تحريك الجماهير في أي اتجاه يريد، بل إن أتباعه لو علموا الآن أين هو لتجمهروا حول القصر، ولن ينصرفوا إلاَّ وهو معهم... بمثل هذه الأفكار كان ينشغل حنان وقيافا.
وهذه هي الفرصة الأخيرة للشهود حيث تقدم شاهدان وقالا: نحن سمعناه يقول: إني أقدر أن أنقض هيكل الله هذا المصنوع بالأيادي، وفي ثلاثة أيام أبني آخر غير مصنوع بالأيادي... وكان الهيكل موضع افتخارهم مثل آباؤهم الذين استبعدوا حدوث السبي وتهدم الهيكل، ولم يصدقوا لا أرميا ولا إشعياء، مما دفع النبي الباكي أن يقول لهم " لا تتكلوا على كلام الكذب قائلين هيكل الرب هيكل الرب هو" (أر 7: 4).
أما يسوع فظل صامتًا، تاركًا داود يغني لهم على الناي الحزين " قد قام عليَّ شهود زور ونافث ظلم" (مز 27: 12).. " وأما أنا فكأصم. لا أسمع. وكأبكم لا يفتح فاه. وأكون مثل إنسان لا يسمع وليس في فمه حجة" (مز 38: 13، 14) ونهض هوشع النبي ليخبر بلسانه " أنا أفديهم وهم يتكلمون عليَّ بالكذب" (هو 7: 13).
وأدرك قيافا أن مستوى الشهود لن يزيد بأي حال من الأحوال عن هذا المستوى، وأراد أن يوحي للحاضرين بأهمية هذا الاتهام، فهب واقفًا ملوحًا بيده نحو يسوع، وكاد يفقد أعصابه: أما تجيب بشيء؟ ماذا يشهد به هذان عليك؟.
وظل يسوع ساكنًا، كل هذه التهم الباطلة لم تهزه، ولم تحرك ساكنًا داخله... كان من السهل عليه جدًا فضح تلفيقهم، فهو لم يقل " إني أقدر أن أنقض هيكل الله " إنما قال "أنقضوا (أنتم وليس أنا) هذا الهيكل (وليس هيكل الله) " وهو يقصد هيكل جسده، وبكلامه هذا كان يتنبأ عما يحدث معه الآن... إذًا لم يصمت يسوع عن ضعف، ولا كأنه مذنب، ولا لأنه ليس في فمه حجة، ولكنه صمت لأن رؤساء الكهنة جلسوا يحاكمونه، وقد صموا أذانهم عن سماع الحق، وأغلقوا قلوبهم، فحب السلطة والمظاهر أعمى عقولهم وطمس أذانهم... لقد التحفوا بسحابة كثيفة من الحقد الأسود والغل الأحمر، ولا فائدة تُرجى من خلاصهم... كما إن صمت يسوع يعلمنا الصمت وقت التجارب والافتراءات الكاذبة.
وهمس أحد الأعضاء للجالس بجواره: لو كانت شهادة هذين الرجلين صحيحة، فلماذا تركوه للآن..؟! ألم يكن قوله هذا كافيًا لرجمه بالحجارة؟!
فرد عليه الآخر قائلًا: حتى ولو قال يسوع هذا، فما هو إلاَّ افتخارا باطلًا، لا يستوجب أبدًا حكم الموت.
وهمس عضو آخر: ومن يصدق أن هذا الشخص الوديع يقصد تحطيم الهيكل؟!
وهمس جاره: وما الهدف من هدمه للهيكل إذا كان سيعيد بنائه ثانية..؟! هل هي عملية استعراضية..؟! الجميع يعرفون أن هذا المُعلّم لم يكن متكبرًا قط، وليس صاحب حركات استعراضية. بل كان يوصي الكثيرين من المرضى الذين شفاهم بألا يقولوا لأحد شيئًا.
وبمجرد أن تعرض هذان المنافقان لقليل من الأسئلة... متى قال يسوع هذا؟ وفي أي مكان؟ ألم يعترض عليه أحد؟.. اضطربا، ورفضت شهادتهما.
ونظر حنان لقيافا بأسى بالغ، وكأنه يريد أن يقول له: وما الحل يا زوج ابنتي؟.. لقد أعيتني الحيلة، ويبدو أنني شخت ولا فائدة تُرجى مني، فعليك تقع المسئولية الآن...
_____
(11) محمد عطا - عيسى في الخالدين ص 114
(12) دكتور فؤاد بولس - تحت أقدام الصليب ص 102
(13) اللورد شواروف تفرملن - ترجمة د. جرجاوي ص 12 - أورده د. يسري لبيب في كتابه مُحاكمة المسيح ص 100
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/with-him/perjury.html
تقصير الرابط:
tak.la/6s6jrhb