ج: أولًا: معنى "الدوستية" Docetism وصلتها بالغنوسية وأسباب ظهورها: معنى "الدوستية" الظاهرية Dostism أو الخيالية Plantomism، حيث اعتقد أتباعها بأن السيد المسيح في تجسده لم يتخذ لنفسه جسدًا حقيقيًا ماديًا، إنما اتخذ جسدًا خياليًا شبحيًا أثيريًا، حتى أنه عندما كان يسير على الأرض لم يكن يترك أثرًا لقدميه، وكان يظهر للناس كأنه يأكل وهو لا يأكل، أو كأنه يشرب وهو لا يشرب، أو كأنه ينام وهو لا ينام، وهكذا بالنسبة للحزن والاضطراب والألم والموت فكل هذا لم يحدث له، إنما هو نوع من الخداع. وتعتبر الدوستية فرقة من الفرق الغنوسية، فهي تعتقد أن المادة شر وخطية...
أما عن أسباب ظهور هذه الفرقة، فهو العجز في تفسير أمرين:
1- كيف يتخذ الله في تجسده جسدًا بشريًا ماديًا، والمادة في نظرهم هيَ خطية وشر، والشر لا يتوافق مع قداسة الله؟ ولم يدركوا أن الجسد الذي اتخذه السيد المسيح لنفسه هو جسد مقدَّس تمامًا خالي من كل شر أو شبه شر، لأن الروح القدس، روح الله القدوس، قد حلَّ على العذراء مريم قبل حبلها وقدَّس وطهَّر ونقى مستودعها، لذلك المولود منها قدوس بلا خطية، وهذا ما أوضحه رئيس الملائكة جبرائيل للعذراء مريم عندما استفسرت منه كيف تنجب وهي غير متزوجة ولا تنوي الزواج. فقال لها: "اَلرُّوحُ الْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ وَقُوَّةُ الْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ فَلِذلِكَ أَيْضًا الْقُدُّوسُ الْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ابْنَ الله" (لو 1: 35)، وقال بولس الرسول عنه أنه: "قُدُّوسٌ بِلاَ شَرّ وَلاَ دَنَسٍ قَدِ انْفَصَلَ عَنِ الْخُطَاةِ وَصَارَ أَعْلَى مِنَ السَّمَاوَاتِ" (عب 7: 26)، " مُجَرَّبٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِثْلُنَا بِلاَ خَطِيَّةٍ" (عب 4: 15)، وهو قال عن نفسه: "مَنْ مِنْكُمْ يُبَكِّتُنِي عَلَى خَطِيَّةٍ؟" (يو 8: 46). أما الدوستيون الذين تشبعوا بالفكر الغنوسي فقد أصروا أن المادة شر، وأن جسد المسيح خيالي ظاهري.
2- كيف يموت الله الحي الذي لا يموت؟! ولم يدركوا أن السيد المسيح ليس هو الإله فقط، بل هو إنسان أيضًا، إذ اتخذ أقنوم الكلمة في تجسده طبيعة بشرية كاملة، جسد بشري وروح بشرية، وفي لحظة الموت وتسليم الروح انفصلت روحه البشرية عن جسده البشري، دون أن يفارق اللاهوت إحداهما، فالروح البشرية المتحدة باللاهوت نزلت إلى أعماق الهاوية وأضاءت ظلمة الجحيم، فأنقذ آدم وبنيه الذين ماتوا على الرجاء ونقلهم إلى فردوس النعيم، والجسد البشري المتحد باللاهوت ظل في القبر ثلاثة أيام لم يتعرض للفساد، وتحققت نبوة داود النبي: "لأَنَّكَ لَنْ تَتْرُكَ نَفْسِي فِي الْهَاوِيَةِ وَلاَ تَدَعَ قُدُّوسَكَ يَرَى فَسَادًا" (أع 2: 27)، فالسيد المسيح الإله المتجسد مات بالجسد، أما اللاهوت فهو منزَّه عن الألم والموت.
![]() |
ثانيًا: رد يوحنا الرسول والقديس إيرينيئوس على الدوستيين: جاء رد يوحنا الحبيب على جميع الذين ادَّعوا أن السيد المسيح لم يتخذ جسدًا ماديًا بشريًا، قويًا وحازمًا وحاسمًا، إذ قال: "وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا" (يو 1: 14)، فنحن نؤمن أن اللوغوس أقنوم الكلمة اتخذ جسدًا، وليس العكس، وبمعنى أشمل أننا نؤمن بإله تجسد وتأنس أي اتخذ جسدًا بشريًا حقيقيًا وصار إنسانًا، ولا نؤمن بإنسان تألَّه. كما أننا نرفض قول نسطور وشركائه بأن العذراء مريم ولدت إنسانًا عاديًا وفي وقت معين صاحبه اللاهوت ووقت الصلب فارق اللاهوت الناسوت، فالذي صُلب شخص عادي، لأنه لو كان شخصًا عاديًا فكيف يستطيع أن يفدي البشرية كلها في كل زمان ومكان. نرفض بشدة تعاليم نسطور بطريرك القسطنطينية ومعلمه ثيؤدور أسقف مبسويست اللذين دعوا العذراء مريم "خرستوتوكس" أي والدة المسيح، بل نؤمن أن العذراء مريم هيَ "ثيؤطوكوس" أي والدة الإله. وقد أكد يوحنا الحبيب على حقيقة الناسوت، فجسد المسيح جسد بشري حقيقي كان يجوع، ويعطش، ويتعب، ويضطرب، ويتألم، ويموت، وعندما طُعن بالحربة في جنبه خرج دم وماء من جسده الحقيقي. أيضًا رد يوحنا الرسول على الدوستيين في رسالتيه الأولى والثانية (1 يو 4: 2-3؛ 2 يو 7).
ويقول "القديس إيرينيئوس": "1- لذلك، فأولئك الذين يزعمون أنه (أقنوم الكلمة) لم يتخذ شيئًا من مريم، هم يخطئون خطأ عظيمًا... هذا معناه، أنه ظهر بطريقة افتراضية، كإنسان حينما لم يكن إنسانًا، وأنه صار إنسانًا، بينما لم يأخذ شيئًا من الإنسان، لأنه لو لم يأخذ جوهر (أو مادة) الجسد من كائن بشري لما كان قد صار إنسانًا أو ابن الإنسان، ولو لم يصر إلى ما نحن عليه، فإن، ما عاناه وتحمله ليس شيئًا عظيمًا... والرسول بولس يقول أيضًا... " أَرْسَلَ الله ابْنَهُ مَوْلُودًا مِنِ امْرَأَةٍ" (غل 4: 4). وأيضًا في الرسالة إلى رومية يقول: "عَنِ ابْنِهِ الَّذِي صَارَ مِنْ نَسْلِ دَاوُدَ مِنْ جِهَةِ الْجَسَدِ... يَسُوعَ الْمَسِيحِ رَبِّنَا" (رو 1: 3-4).
2- وفي تلك الحالة أيضًا، يكون نزوله إلى مريم غير ضروري، فلماذا نزل في داخلها، إن كان لم يأخذ منها شيئًا؟ وأكثر من ذلك، لو لم يكن قد أخذ شيئًا من مريم، لما كان قد انتفع شيئًا بالمرة من تلك الأطعمة الناتجة من الأرض، التي يتغذى بها ذلك الجسد المأخوذ من الأرض، ولما كان قد جاع بعد أن صام أربعين يومًا مثل موسى وإيليا... ولما كان تلميذه يوحنا قد قال: "فَإِذْ كَانَ يَسُوعُ قَدْ تَعِبَ مِنَ السَّفَرِ جَلَسَ هكَذَا عَلَى الْبِئْرِ" (يو 4: 6)،... ولما كان بكى لعازر، ولما كان عرقه كقطرات دم، ولما كان قد قال: "نَفْسِي حَزِينَةٌ جِدًّا حَتَّى الْمَوْتِ" (مت 26: 38)، ولا حينما طعن جنبه خرج دم وماء. فكل هذه هيَ علامات الجسد المأخوذ من الأرض...
3- ولذلك يشير لوقا إلى تتبع ميلاد ربنا رجوعًا إلى آدم، إلى أن شجرة النسب تحوي اثنان وسبعين جيلًا، فتربط النهاية بالبداية، وتعني أنه هو الذي جمع من ذاته كل الأمم، من آدم فما بعده، وكل اللغات وكل أجيال البشر، مع آدم نفسه..." (ك 3 ف 22: 1، 2، 3) (117).
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
ثالثًا: الألوجينية: قال البعض أن كلمة "الألوجينية" ترجع إلى شخص يُدعى "ألوجين" عاش في القرن الثاني الميلادي، وتأثر بالفلسفة اليونانية، فهو يوناني وليس يهوديًا ولا مسيحيًا، قَبل الفكر اليوناني في "اللوغوس" على أنه العقل المُدبر، والحكمة، والقانون الكلي للكون، الذي يرتبط به كافة القوانين الإنسانية، فهو القانون الذي يكفي الكل ويسيطر ويسود على الكل. وقال البعض أن كلمة "الألوجينية" نسبة لجماعة ترفض الاعتراف بالثالوث القدوس، وتتمسك بوحدانية الله وتُنكر الأقانيم، فهي جماعة "ضد الثالوث" ومع خطورة هذه البدعة، لكن بسبب قلة عدد معتنقيها، لم يكن لها تأثير قوي، ولا صوت مسموع مثل بقية البدع، فلم تهتم الكنيسة بالرد على أفكارها الفاسدة، والتي تمثلت في:
1- إنكار الثالوث القدوس، فكانت هذه البدعة هيَ مقدمة وجذور لبدعة "سابليوس" التي قال أنه الله أقنوم واحد، دُعي في العهد القديم "الآب" ودُعي في التجسد "الابن"، ودُعي في العهد الجديد "الروح القدس". وقد سبق يوحنا الحبيب في التأكيد على طبيعة الله الواحد في الجوهر، المثلث الأقانيم، فطالما تحدث عن "الابن" (أقنوم الكلمة) من الآية الأولى في إنجيله (يو 1: 1)، مؤكدًا ألوهيته، وكثيرًا ما تحدث عن "الآب"، وأيضًا أكثر إنجيل تكلم عن "الروح القدس" (راجع س635 عن سمات إنجيل يوحنا: 1- إنجيل اللاهوتيات 2- إنجيل "أنا هو" 3- إنجيل الروح القدس 4- إنجيل الثالوث القدوس...).
2- نظرًا لأن إنجيل يوحنا قد حمل الردود المفحمة للأولوجينيين، فقد رفضوا هذا الإنجيل. ويقول "القمص تادرس يعقوب" عن قانونية إنجيل يوحنا وقبول الكنيسة له: "ولم يشذ عن ذلك سوى جماعة الألوجين Algi ، كما أشار القديس أبيفانيوس، الذين رفضوا السفر لتعارضه مع عقيدتهم في اللوغوس Logos، ولا يُعرَف إن كان الألوجيون هؤلاء هم جماعة أم مجرد شخص، ولكن على أي الأحوال لم يكن لهم صوت مسموع في العالم أو الكنيسة" (118).
رابعًا: تاتيان Tatian: وُلِد تاتيان في سوريا نحو 130م من عائلة غنية وثنية وتعلَّم البلاغة والفلسفة اليونانية، وأحَّب المعرفة حتى أنه كان ينتقل من بلد إلى آخر ليتتلمذ على يدي أحد المعلمين، وكان يشعر بالآسى تجاه الفلاسفة الذين سقطوا في محبة المال والشهوات والفساد الأخلاقي. وآمن تاتيان بالمسيحية على يد الشهيد يوستين في روما، وكان تاتيان كاتبًا سريانيًا بارعًا فوضع كتابين، الأول كتاب دفاعي موسَّع ضد الوثنيين، والثاني كتاب الدياتسرون، أي الرباعي، حيث دمج الأناجيل الأربعة في إنجيل واحد. وبعد استشهاد يوستين، انحرف "تاتيان" نحو البدعة الغنوسية وكوَّن جماعة نسكية، ونظرًا لنظريته الخاطئة للزواج رفض أن يتزوج، معتقدًا أن الزواج ضرب من الفسق والنجاسة والفساد، كما اعتقد بنظرية الانبثاقات وابتدع فيها بعض الأيونات Aeons. واعتقد أن عصير الكرمة محرَّم لذلك كان يقدم مع أتباعه الإفخارستيا بالخبز والماء، كما حرَّم أكل اللحوم، وظل أتباع تاتيان لهم تواجد على الساحة حتى القرن الخامس الميلادي رغم تصدي الآباء إيرينيئوس وترتليان وأكليمنضس السكندري وأوريجينوس وهيبوليتس.
_____
(117) ترجمة د. نصحي عبد الشهيد - ضد الهرطقات جـ 2، ص109 ، 110.
(118) الإنجيل بحسب يوحنا جـ 1، ص54.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/653.html
تقصير الرابط:
tak.la/2c5fv58