ج: قال "العلامة أوريجانوس": "نعلن بجرأة أن زهرة الكتب المقدَّسة كلها هيَ الأناجيل، وأن زهرة الأناجيل هيَ الإنجيل بحسب يوحنا، فلن يفقه معناه إلاَّ الذي اتكأ على صدر يسوع، الذي ورث من يسوع نفسه مريم أمًا له" (27). ويقول "الدكتور القس إبراهيم سعيد": "أهذه البشارة مقالة تاريخية؟ أم هيَ بحث فلسفي أُفرغ في قالب تاريخي؟ أم هيَ حجة لاهوتية جمعت بين ثناياها دقائق التاريخ وجمال الفلسفة؟ أم هيَ كل هذه مجتمعة معًا؟... فلا عجب إذا جادت قرائح القديسين بأمجد الألقاب وأقدسها على هذه البشارة، فمن قائل أنها: "بشارة الأبديَّة"، إلى قائل أنها: "تعبير قلب الله"، إلى قائل أنها: "بشارة الحب الخالص "... أنها "بشارة الحق"... هذه هيَ بشارة "ذات" المسيح، فيها يحدثنا بنفسه عن نفسه قائلًا: "أنا هو ".." (28).
ويشمل إنجيل يوحنا (21) إصحاح ويغطي نحو عشرين يومًا من أيام السيد المسيح على الأرض بالجسد التي امتدت إلى نحو 33 عامًا وثلث، فالنصف الأول من الإنجيل (يو 1: 19 - 12: 50) يقدم في الإصحاح الأول المسيح الكلمة الأزلي، وفي الثاني المسيح الهيكل الجديد، وفي الثالث المُخلص الحقيقي، وفي الرابع الماء الحي، وفي الخامس الشفاء الكامل، وفي السادس خبز الحياة، وفي السابع الصخر الحقيقي، وفي الثامن نور العالم، وفي التاسع الفصح الحقيقي، وفي العاشر الراعي الصالح، وفي الحادي عشر القيامة والحياة، وفي الثاني عشر المسيح الملك. أمَّا في النصف الثاني فيقدم القديس يوحنا أحداث الآلام والقيامة (يو 13 - 21). وفيما يلي نقدم ملامح وسمات وصفات إنجيل يوحنا، فهو:
1- إنجيل اللاهوتيات: لم يقصد يوحنا الحبيب أن يدوّن السيرة الذاتية للسيد المسيح، إنما قصد أن يُظهِر هوية وشخصية وطبيعة أقنوم الكلمة، ابن الله الوحيد الجنس، نبع الحياة والنور... إلخ. بهدف محدد، وهو: "لِتُؤْمِنُوا أَنَّ يَسُوعَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ الله، وَلِكَيْ تَكُونَ لَكُمْ إِذَا آمَنْتُمْ حَيَاةٌ بِاسْمِهِ" (يو 20: 31). والرمز الذي أعطته الكنيسة لإنجيل يوحنا هو "النسر" الذي يُحلّق في العلو ويطير تجاه الشمس، فهكذا حلَّق القديس يوحنا في سماء اللاهوتيات ناظرًا إلى "اللوغوس" شمس البر... حقًا بعد أن استوفت الأناجيل الإزائية الثلاث، متى ومرقس ولوقا، الحديث عن الجوانب البشرية للسيد المسيح جاء يوحنا اللاهوتي ليُحلق بنا في سماء اللاهوتيات. يقول "الأب متى المسكين": عن الأناجيل المتوافقة: "وبعد أن تتبعت التاريخ الآبائي حتى إبراهيم وآدم، واستوفت طبوغرافية الأرض التي سار عليه المسيح وتنقَّل بين ربوعها، وبعد أن رصدت السنين والشهور والأيام والليالي حتى استوفت الإطار الإنساني الذي يخص المسيح من كافة الوجوه. هكذا قال التقليد الآبائي الكنسي بأعلى صوته مؤكدًا أن القديس يوحنا كتب إنجيله الروحي بإلحاح زملائه بعد أن استوفت الأناجيل الأخرى ما يخص الأمور الظاهرة أي الجسدية التي للمسيح والقديس يوحنا نفسه كتب على هذا الأساس" (29).
وعندما نقول أن إنجيل يوحنا إنجيل اللاهوتيات هذا لا يعني أنه لم يهتم بالأحداث التاريخية، ولا يعني أيضًا أن الأناجيل الإزائية أهملت اللاهوتيات، إنما نقصد أن القديس يوحنا إزاء الهرطقات التي ظهرت في نهاية القرن الأول الميلادي ركز على الوهية المسيح وطبيعته من خلال قالب تاريخي جغرافي فتجده يهتم بتحديد الزمان والمكان، يُحدّد الفصل أنه كان شتاءً، ويحدد اليوم، وعما إذا كان الوقت ليلًا، وأحيانًا يحدد الساعة، ويهتم بذكر موقع الأحداث مثل بئر يعقوب، وبركة بيت حسدا، وبركة سلوام، ورواق سليمان، وبيت عنيا... إلخ. يقول "القديس يوحنا ذهبي الفم": "وما نشير إليه هو أن ما يستحق العجب أن يوحنا الذي كرَّس نفسه لهذا التعليم العلوي لم يتجاهل تدبير (الخلاص)، كما أن الإنجيليين الآخرين لم يقفوا عند الارتباط بهذه الحدود ولا صمتوا عن كيانه (كيان المسيح) قبل العصور" (30).
![]() |
2- إنجيل "أنا هو": عندما أرسل الله موسى لينقذ شعبه سأل موسى الرب قائلًا: إن سألونني عن أسمك ماذا أقول؟ " فَقَالَ الله لِمُوسَى أَهْيَهِ الَّذِي أَهْيَهْ. وَقَالَ هكَذَا تَقُولُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَهْيَهْ أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ. وَقَالَ الله أَيْضًا لِمُوسَى هكَذَا تَقُولُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ يَهْوَهْ إِلهُ آبَائِكُمْ إِلهُ إِبْرَاهِيمَ وَإِلهُ إِسْحَاقَ وَإِلهُ يَعْقُوبَ أَرْسَلَني إِلَيْكُمْ" (خر 3: 14-15) و" أَهْيَهِ الَّذِي أَهْيَهْ" هو لقب الكينونة الإلهيَّة، ومعناه "أكون الذي أكون" أي "انا الكائن"... "I am the being" أي "أنا هو الكائن بذاتي". و" أنا هو" جاءت (106) مرة في العهد القديم، سواء مجردة " أنا هو"، أو مع إضافات مثل " أنا هو الرب" أو " أنا هو الرب الإله" (راجع الأب متى المسكين - المدخل لشرح إنجيل القديس يوحنا ص 222، 223). وبينما وردت " أنا هو" في الأناجيل الإزائية أربع مرات فقط، فأنها وردت في إنجيل يوحنا (26) مرة منها (9) مرات جاءت " انا هو" بصورة مطلقة مجردة، تمامًا كما جاءت في العهد القديم، وهذه المرات التسع هيَ:
(1) قول السيد المسيح للمرأة السامرية: "أَنَا الَّذِي أُكَلِّمُكِ هُوَ" (يو 4: 26)، تعيد للأذهان ما جاء في سفر إشعياء: "يَعْرِفُونَ أَنِّي أَنَا هُوَ الْمُتَكَلِّمُ" (إش 52: 6).
(2) قول السيد المسيح للتلاميذ: "أَنَا هُوَ لاَ تَخَافوا" (يو 6: 20)، تعيد للأذهان ما جاء في سفر أيوب: "الْمَاشِي عَلَى أَعَالِي الْبَحْرِ" (أي 9: 8).
(3) قول السيد المسيح للجموع: "لأَنَّكُمْ إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا أَنِّي أَنَا هُوَ تَمُوتُونَ فِي خَطَايَاكُمْ" (يو8: 24) تقابل ما جاء في سفر إشعياء: "أَنَا أَنَا هُوَ الْمَاحِي ذُنُوبَكَ" (أش43: 25).
(4) قول السيد المسيح لليهود: "مَتَى رَفَعْتُمُ ابْنَ الإِنْسَانِ فَحِينَئِذٍ تَفْهَمُونَ أَنِّي أَنَا هُوَ" (يو 8: 28).
(5) قول السيد المسيح لليهود أيضًا: "الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَنَا كَائِنٌ" (يو 8: 58).
(6) قول السيد المسيح للتلاميذ: "أَقُولُ لَكُمُ الآنَ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ حَتَّى مَتَى كَانَ تُؤْمِنُونَ أَنِّي أَنَا هُوَ" (يو 13: 19).
(7) قول السيد المسيح للذين جاءوا للقبض عليه: "مَنْ تَطْلُبُونَ؟ أَجَابُوهُ يَسُوعَ النَّاصِرِيَّ. قَالَ لَهُمْ أَنَا هُوَ" (يو 18: 4-5).
(8) ومرة ثانية في البستان: "فَلَمَّا قَالَ لَهُمْ إِنِّي أَنَا هُوَ رَجَعُوا إِلَى الْوَرَاءِ وَسَقَطُوا عَلَى الأَرْضِ" (يو 18: 6).
(9) ومرة ثالثة في البستان: "أَجَابَ يَسُوع قَدْ قُلْتُ لَكُمْ إِنِّي أَنَا هُوَ" (يو 18: 8).
ومن أمثلة المرات التي ورد فيها تعبير " أَنَا هُوَ" مع إضافات، ما يلي:
(1) " أَنَا هُوَ خُبْزُ الْحَيَاةِ" (يو 6: 35، 48).
(2) " أَنَا هُوَ الْخُبْزُ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ" (يو 6: 41).
(3) " أَنَا هُوَ الْخُبْزُ الْحَيُّ" (يو 6: 51).
(4) " أَنَا هُوَ نُورُ الْعَالَمِ" (يو 8: 12).
(5) " أَنَا هُوَ الشَّاهِدُ لِنَفْسِي" (يو 8: 18).
(6) " أَنَا هُوَ الْبَابُ" (يو 10: 9).
(7) " أَنَا هُوَ الرَّاعِي الصَّالِحُ" (يو 10: 11، 14).
(8) " أَنَا هُوَ الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ" (يو 11: 25).
(9) " أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ" (يو 14: 6).
لقد ركز إنجيل يوحنا على شخصية وطبيعة السيد المسيح من خلال ألقابه، فنجد نحو تسعة ألقاب في الإصحاح الأول فقط، وهيَ:
الكلمة (يو 1: 1، 14).
الله (يو 1: 1).
الحياة والنور (يو 1: 4-5، 9).
الابن الوحيد (يو 1: 14، 18).
حمل الله (يو 1: 29، 36).
ابن الله (يو 1: 18، 34، 49).
المسيا (يو 1: 46).
ملك إسرائيل (يو 1: 49).
ابن الإنسان (يو 1: 51).
كما أنك تجد عدة ألقاب أخرى للسيد المسيح في ذات الإنجيل، مثل:
(1) المعلم والسيد (يو 1: 38؛ 6: 25؛ 13: 13).
(2) العريس (يو 3: 29).
(3) مُخلص العالم (يو 3: 17؛ 4: 42).
(4) الكرمة الحقيقية (يو 15: 1، 5).
(5) الرب والإله (يو 20: 28).
ومما يذكر أن يوحنا الإنجيلي أكثر من استخدم اسم " يسوع" فبينما ورد هذا الاسم المبارك في إنجيل مرقس (81) مرة، وفي إنجيل لوقا (89) مرة، وفي إنجيل متى (150) مرة، فأنه ورد في إنجيل يوحنا (237) مرة (راجع الأب متى المسكين - شرح إنجيل القديس يوحنا جـ 1 ص 116).
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
3- إنجيل الروح القدس: إنجيل يوحنا هو أكثر الأناجيل حديثًا عن الروح القدس، حتى دُعي يوحنا الإنجيلي بنبي الباراقليط، ومن أمثلة الحديث عن الروح القدس، ما يلي:
(1) الروح القدس الذي أرشد يوحنا المعمدان للسيد المسيح، فقال المعمدان: "إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ الرُّوحَ نَازِلًا مِثْلَ حَمَامَةٍ مِنَ السَّمَاءِ فَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ. وَأَنَا لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُهُ..." (يو 1: 32-33).
(2) الروح القدس يهب الولادة الجديدة: "الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنَ الْمَاءِ وَالرُّوحِ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ مَلَكُوتَ الله" (يو 3: 5 - 8).
(3) الروح القدس هو الذي يهب الإنسان العبادة المقبولة: "الله رُوحٌ. وَالَّذِينَ يَسْجُدُونَ لَهُ فَبِالرُّوحِ وَالْحَقِّ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدُو" (يو 4: 24).
(4) الروح القدس واهب العزاء للمؤمنين: "وَأَنَا أَطْلُبُ مِنَ الآبِ فَيُعْطِيكُمْ مُعَزِّيًا آخَرَ لِيَمْكُثَ مَعَكُمْ إِلَى الأَبَدِ" (يو 14: 16).
(5) الروح القدس يذكر المؤمنين بوصايا يسوع: "فَهُوَ يُعَلِّمُكُمْ كُلَّ شَيْءٍ وَيُذَكِّرُكُمْ بِكُلِّ مَا قُلْتُهُ لَكُمْ" (يو 14: 26) - " وَأَمَّا مَتَى جَاءَ ذَاكَ رُوحُ الْحَقِّ، فَهُوَ يُرْشِدُكُمْ إِلَى جَمِيعِ الْحَقِّ" (يو 16: 13).
(6) الروح القدس يشهد للمسيح: "رُوحُ الْحَقِّ الَّذِي مِنْ عِنْدِ الآبِ يَنْبَثِقُ، فَهُوَ يَشْهَدُ لِي" (يو 15: 26).
(7) لقد مجَّد الآب الابن: "مَجَّدْتُ وَأُمَجِّدُ أَيْضًا" (يو 12: 28)، كما أن الابن مجَّد الآب: "مَجِّدِ ابْنَكَ لِيُمَجِّدَكَ ابْنُكَ أَيْضًا... أَنَا مَجَّدْتُكَ عَلَى الأَرْضِ" (يو 17: 1، 4) كذلك الروح القدس من خلال عمله في الكنيسة يمجّد الابن ويشهد له: "ذَاكَ يُمَجِّدُنِي لأَنَّهُ يَأْخُذُ مِمَّا لِي وَيُخْبِرُكُمْ" (يو 16: 14).
(8) من يؤمن بالابن يفيض فيه الروح القدس: "مَنْ آمَنَ بِي كَمَا قَالَ الْكِتَابُ، تَجْرِي مِنْ بَطْنِهِ أَنْهَارُ مَاءٍ حَيٍّ. قَالَ هذَا عَنِ الرُّوحِ الَّذِي كَانَ الْمُؤْمِنُونَ بِهِ مُزْمِعِينَ أَنْ يَقْبَلُوهُ..." (يو 7: 38-39).
(9) عمل الروح القدس: "مَتَى جَاءَ ذَاكَ يُبَكِّتُ الْعَالَمَ عَلَى خَطِيَّةٍ وَعَلَى بِرّ وَعَلَى دَيْنُونَة..." (يو 16: 8 - 11).
(10) الروح القدس لن يأتي إلاَّ بعد إتمام الفداء: "لأَنَّهُ إِنْ لَمْ أَنْطَلِقْ لاَ يَأْتِيكُمُ الْمُعَزِّي، وَلكِنْ إِنْ ذَهَبْتُ أُرْسِلُهُ إِلَيْكُمْ" (يو 16: 7).
(11) أوضح السيد المسيح سرمدية أقنوم الروح القدس: "وَأَنَا أَطْلُبُ مِنَ الآبِ فَيُعْطِيكُمْ مُعَزِّيًا آخَرَ لِيَمْكُثَ مَعَكُمْ إِلَى الأَبَدِ... لأَنَّهُ مَاكثٌ مَعَكُمْ وَيَكُونُ فِيكُمْ" (يو14: 16-17)... " رُوحُ الْحَقِّ الَّذِي مِنْ عِنْدِ الآبِ يَنْبَثِقُ" (يو 15: 26).
ويقول "الأب متى المسكين": "أما لفظ " الباراقليط " فيأتي كاسم علّم شخصي مُذكَر لذلك يعتبر إنجيل يوحنا هو الإنجيل الوحيد الذي أعطى للروح القدس - لغويًا من جهة النحو - صفة الشخصية إذ نقله لغويًا من دائرة المجرَّدات كقوة إلى ذات لشخصه. وبهذا يكون إنجيل يوحنا قد مهَّد بهذا اللقب لمفهوم الثالوث الأقدس" (31). وقد رتبت الكنيسة قراءة فصول الباراقليط (من يو 13: 33 إلى آخر الإصحاح السابع عشر) (يو 13: 33 - 17: 26) لتُقرأ في الساعة الأولى من ليلة الجمعة العظيمة.
(12) بعد قيامة السيد المسيح نفخ في وجوه التلاميذ: "وَقَالَ لَهُمُ اقْبَلُوا الرُّوحَ الْقُدُسَ. مَنْ غَفَرْتُمْ خَطَايَاهُ تُغْفَرُ لَهُ وَمَنْ أَمْسَكْتُمْ خَطَايَاهُ أُمْسِكَتْ" (يو 20: 22-23).
4- إنجيل الثالوث القدوس: إنجيل يوحنا هو الإنجيل الذي حدثنا باستفاضة عن أقنوم الآب الذي لم يره أحد قط، من جهة اسمه، ومحبته، وعمله في الفداء، ووصاياه... كما حدثنا عن أقنوم الابن، اللوغوس، الحياة والنور، حمل الله، ابن الله، المسيا، ملك إسرائيل، ابن الإنسان، خبز الحياة، الماء الحي، نور العالم، الراعي الصالح، باب الخراف، الطريق والحق والحياة، القيامة، والكرمة الحقيقية (راجع 2- إنجيل "أنا هو") وأيضًا حدثنا عن الروح القدس روح الحق المنبثق من الآب، المعزي، الذي يشهد للابن، ويأخذ مما للابن ويعطينا... (راجع 3- إنجيل الروح القدس). أيضًا إنجيل يوحنا أكثر الأناجيل حديثًا عن سر الثالوث القدوس، فأوضح وحدة الطبيعة الإلهيَّة، فالابن أقنوم الكلمة يقول: "أَنَا وَالآبُ وَاحِدٌ" (يو 10: 30) واحد في الجوهر... " الآبَ فِيَّ وَأَنَا فِيهِ" (يو 10: 38)... " أَنَا فِي الآبِ وَالآبَ فِيَّ" (يو14: 10)، ومن جانب آخر أوضح التمايز بين الآب والابن: "وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ الله" (يو 1: 1)... " أَبِي يَعْمَلُ حَتَّى الآنَ وَأَنَا أَعْمَلُ" (يو 5: 17)... " أَنَا هُوَ الشَّاهِدُ لِنَفْسِي وَيَشْهَدُ لِي الآبُ الَّذِي أَرْسَلَنِي" (يو 8: 18). كما كشف عن مساواة الابن للآب: "كُلُّ مَا لِلآبِ هُوَ لِي" (يو 16: 15)... " وَكُلُّ مَا هُوَ لي فَهُوَ لَكَ وَمَا هُوَ لَكَ فَهُوَ لِي" (يو 17: 10).
ويقول "الأب متى المسكين": "فالآب والابن لهما طبيعة واحدة أي جوهر إلهي واحد، وهما ذات واحدة، بمعنى أن الذات الواحدة للَّه تحمل الأبوَّة والبنوه معًا. وهذا ليس غريبًا عن واقع أي "ذات". فالذات البشرية هيَ تجد ذاتها أب وابن معًا لا يفرقهما إلاَّ الزمن. فكل أب كان ابنًا، وكل ابن يمكن أن يصير أبًا والذات هيَ هيَ. ولكن لا يوجد في ذات الله عامل الزمن فهو أب وابن دائمًا ومنذ الأزل، ولم يكن الله قط أبًا بدون ابن ولا كان ابنًا بدون أب. فكيانهما واحد وكل واحد كائن في الآخر. وهذا هو سر الله أو سر اللاهوت الذي كان مخفيًا عن عقل الإنسان وإدراكه إلى أن أعلنه الله بإرساله ابنه - متجسدًا علنًا - لتجديد خلقة الإنسان" (32).
5- إنجيل ضد الهرطقات: تميَّز إنجيل يوحنا بالرد على البدع والهرطقات التي ظهرت في القرن الأول الميلادي مثل الأبيونية، والغنوسية بتشعباتها العديدة، والألوجينية، والكيرنثية، والمعمدانية، وليس هذه البدع التي ظهرت فقط، بل صار إنجيل يوحنا مُعين لا ينضب لمقاومة البدع والهرطقات التي ظهرت فيما بعد وشكَّكت في الإيمان المستقيم المُسلَّم مرة للقديسين، فكان خير مُعين لأوريجانوس في مقاومة الغنوسية في القرن الثالث الميلادي، ولأثناسيوس في مقاومة الأريوسية في القرن الرابع، ولكيرلس الكبير في مقاومة النسطورية في القرن الخامس، وهلم جرا... وسيظل إنجيل يوحنا ذخرًا للكنيسة يدافع عن الإيمان القويم، فيقول "الأب متى المسكين": "أن إنجيل القديس يوحنا كُتب في زمانه ليس لمواجهة صعاب زمانه وحاجة زمانه فحسب، فقد أسَّس الروح القدس هذا الإنجيل لكي يكون سهمًا مبريًا في كف الكنيسة وسلاحًا مشهورًا في وجه الباطل أينما وُجِد في أي زمان ومكان" (33).
6- إنجيل الكنيسة: أوضح إنجيل يوحنا ملامح الكنيسة:
(1) أعضاء الكنيسة هم الذين قبلوا الإيمان بالمسيح: "أَمَّا كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَانًا أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ الله أَيِ الْمُؤْمِنُونَ بِاسْمِهِ..." (يو 1: 12-13).
(2) أعضاء الكنيسة هم الذي وُلدوا في جُرن المعمودية: "إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنَ الْمَاءِ وَالرُّوحِ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ مَلَكُوتَ الله" (يو 3: 5).
(3) أعضاء الكنيسة هم قطيع المسيح الناطق: "أَمَّا أَنَا فَإِنِّي الرَّاعِي الصَّالِحُ وَأَعْرِفُ خَاصَّتِي وَخَاصَّتِي تَعْرِفُنِي... وَلِي خِرَافٌ أُخَرُ لَيْسَتْ مِنْ هذِهِ الْحَظِيرَةِ يَنْبَغِي أَنْ آتِيَ بِتِلْكَ أَيْضًا فَتَسْمَعُ صَوْتِي وَتَكُونُ رَعِيَّةٌ وَاحِدَةٌ وَرَاعٍ وَاحِدٌ" (يو 10: 14، 16).
(4) أعضاء الكنيسة هم المفديين بدم المسيح: "أَنَا هُوَ الرَّاعِي الصَّالِحُ، وَالرَّاعِي الصَّالِحُ يَبْذِلُ نَفْسَهُ عَنِ الْخِرَافِ" (يو 10: 11).
(5) أعضاء الكنيسة هم عروس المسيح: "مَنْ لَهُ الْعَرُوسُ فَهُوَ الْعَرِيسُ" (يو 3: 29).
(6) أعضاء الكنيسة مرتبطين معًا برباط المحبة: "بِهذَا يَعْرِفُ الْجَمِيعُ أَنَّكُمْ تَلاَمِيذِي إِنْ كَانَ لَكُمْ حُبٌّ بَعْضًا لِبَعْضٍ" (يو 13: 35)..." هذِهِ هِيَ وَصِيَّتِي أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا" (يو 15: 12).
(7) أعضاء الكنيسة هم أعضاء المسيح: "أَنَا الْكَرْمَةُ وَأَنْتُمُ الأَغْصَانُ..." (يو 15: 5).
(8) الكنيسة ولدت من جنب المسيح المطعون " وَلِلْوَقْتِ خَرَجَ دَمٌ وَمَاء" (يو 19: 34) الدم إشارة لسر الإفخارستيا، والماء إشارة لسر المعمودية.
(9) الكنيسة في وحدة مع الثالوث القدوس: "لِيَكُونَ الْجَمِيعُ وَاحِدًا كَمَا أَنَّكَ أَنْتَ أَيُّهَا الآبُ فِيَّ وَأَنَا فِيكَ لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضًا وَاحِدًا فِينَا" (يو 17: 21)، وهنا نأتي إلى سؤال جانبي: هل الكنيسة في نظر يوحنا الإنجيلي مكوَّنة من الأمم أكثر من اليهود؟ أو بمعنى آخر هل اهتم القديس يوحنا أن يكتب إنجيله للأمم دون اليهود؟... وبلا شك فإن الإجابة بالنفي، لأن القديس يوحنا كما اهتم بدعوة الأمم لم يغفل اليهود، بدليل أننا نجد في إنجيل يوحنا نحو عشرين إشارة لأحداث في العهد القديم، فمثلًا:
(1) في حديثه عن السيد المسيح "اللوغوس" (يو 1: 1)، استمد هذا من حديث العهد القديم عن "كلمة الله" وبالأرامية "ممرا" كما سنرى هذا بالتفصيل.
(2) قول القديس يوحنا " وَحَلَّ بَيْنَنَا" (يو 1: 14)، أي خيَّم بيننا فأنه يرجع بنا إلى خيمة الاجتماع التي كان يجتمع فيها الله مع شعبه.
(3) حديث يوحنا المعمدان عن السيد المسيح على أنه " حَمَلُ الله" (يو 1: 29)، يرجع بنا إلى حمل الفصح.
(4) قول السيد المسيح عن جسده: "انْقُضُوا هذَا الْهَيْكَلَ" (يو 2: 19)، يضعنا أمام هيكل الله في أورشليم كما ظن اليهود.
(5) حديث السيد المسيح مع نيقوديموس عن ابن الإنسان الكائن في السماء وعلى الأرض (يو 3: 13)، يرجع بنا إلى سلم يعقوب.
(6) ربط السيد المسيح بين الحيَّة النحاسية وصليبه (يو 3: 14).
(7) حديث السيد المسيح عن خبز الحياة (يو 6: 35)، يرجع بنا إلى المن الذي نزل من السماء وأشبع شعب الله في البرية.
(8) حديث السيد المسيح عن ماء الحياة (يو 4: 10؛ 7: 37)، يرجع بنا إلى الصخرة التي تفجَّرت منها المياه في البرية.
(9) حديث السيد المسيح عن الراعي الصالح (يو 10: 14)، يضعنا أمام ما جاء في سفر حزقيال النبي عن الرعاية (حز 34).
(10) إعلانات السيد المسيح عن نفسه " أَنَا هُوَ" تضعنا أمام ظهور الله لموسى في العليقة وسؤال موسى للَّه عن اسمه (خر 3: 14).
(11) تشبيه السيد المسيح نفسه بالكرمة (يو 15: 1)، يرجع بنا إلى الكرمة التي نُقلت من مصر وغُرست في أرض كنعان (مز 80: 8).
(12) أشار القديس يوحنا إلى بعض النبوات التي تحققَّت مثل تقسيم ثياب يسوع (يو 19: 24)، وعظم منه لا يُكسَر (يو 19: 36)...
7- إنجيل الحياة: كثيرًا ما تحدث إنجيل يوحنا عن السيد المسيح رب الحياة: "فِيهِ كَانَتِ الْحَيَاةُ وَالْحَيَاةُ كَانَتْ نُورَ النَّاسِ" (يو 1: 4)، وهو الذي يهبنا الحياة الأبدية: "مَنْ يَسْمَعُ كَلاَمِي وَيُؤْمِنُ بِالَّذِي أَرْسَلَنِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ... حِينَ يَسْمَعُ الأَمْوَاتُ صَوْتَ ابْنِ الله وَالسَّامِعُونَ يَحْيَوْنَ. لأَنَّهُ كَمَا أَنَّ الآبَ لَهُ حَيَاةٌ فِي ذَاتِهِ كَذلِكَ أَعْطَى الابْنَ أَيْضًا أَنْ تَكُونَ لَهُ حَيَاةٌ فِي ذَاتِهِ" (يو 5: 24 - 26)... " اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّة" (يو 6: 47)، كما أعلن عن ذاته قائلًا: "أَنَا هُوَ خُبْزُ الْحَيَاةِ" (يو 6: 35)، وكلامه هو كلام الحياة " اَلْكَلاَمُ الَّذِي أُكَلِّمُكُمْ بِهِ هُوَ رُوحٌ وَحَيَاةٌ" (يو 6: 63). فهو الطريق الوحيد للحياة" أَنَا هُوَ الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاة" (يو 11: 25)... " أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ" (يو 14: 6)، بل أن هدف الإنجيل كله أن نؤمن بالابن لكي تكون لنا حياة: "وَأَمَّا هذِهِ فَقَدْ كُتِبَتْ لِتُؤْمِنُوا أَنَّ يَسُوعَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ الله وَلِكَيْ تَكُونَ لَكُمْ إِذَا آمَنْتُمْ حَيَاةٌ بِاسْمِهِ" (يو 20: 31)، ووردت كلمة الحياة في إنجيل يوحنا نحو (56) مرة منها (42) مرة وردت في الأصحاحات الست الأولى.
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
8- إنجيل النور: أوضح القديس يوحنا في صدارة إنجيله أن السيد المسيح هو " النُّورُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي يُنِيرُ كُلَّ إِنْسَانٍ آتِيًا إِلَى الْعَالَمِ" (يو 1: 9)، وأشار السيد المسيح لنفسه قائلًا: "النُّورَ قَدْ جَاءَ إِلَى الْعَالَمِ وَأَحَبَّ النَّاسُ الظُّلْمَةَ أَكْثَرَ مِنَ النُّورِ لأَنَّ أَعْمَالَهُمْ كَانَتْ شِرِّيرَة" (يو 3: 19)، وأعلن عن نفسه قائلًا: "أَنَا هُوَ نُورُ الْعَالَمِ" (يو 8: 12)، وقال لليهود: "النُّورُ مَعَكُمْ زَمَانًا قَلِيلًا بَعْدُ، فَسِيرُوا مَا دَامَ لَكُمُ النُّورُ لِئَلاَّ يُدْرِكَكُمُ الظَّلاَم" (يو 12: 35)، وهو يقول لنا: "مَا دَامَ لَكُمُ النُّورُ آمِنُوا بِالنُّورِ لِتَصِيرُوا أَبْنَاءَ النُّورِ" (يو 12: 36). وإن كان الأسينيون استخدموا بعض المفردات مثل "النور" و"الحق" و"الحياة" إلاَّ أنهم جعلوها وقفًا على أعضاء جماعتهم فقط، بينما في إنجيل يوحنا نجد النور والحق والحياة يلازمون جميع المؤمنين بالمسيح في كل زمان وكل مكان. أيضًا في الفكر الأسيني نجد العالم ينقسم إلى جيشين جيش الظلام وجيش النور ورئيسه ملاك، أما في إنجيل يوحنا فنجد السيد المسيح النور الحقيقي الذي يضئ كل إنسان آتٍ إلى العالم. ولدى الأسينيين حروب طويلة لا تنتهي تدور رحاها بين أبناء النور وأبناء الظلمة بينما في إنجيل يوحنا نجد أن السيد المسيح حسم المعركة وحقَّق النُصرة على مملكة الظلمة بصليبه وقيامته. وبينما يعتقد الأسيني أنه ينال الخلاص بإطاعة شريعة موسى يؤكد يوحنا الإنجيلي أن الخلاص بالإيمان بالمسيح يسوع.
9- إنجيل الحق: في إنجيل يوحنا نلتقي بالمسيح يسوع: "كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ مَمْلُوءًا نِعْمَةً وَحَقًّا" (يو 1: 14)، وكثيرًا ما نطق بلفظة "الحق" مزدوجة علامة التأكيد قائلًا: "الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ..." (يو 3: 3، 5، 11) العبارة التي تميز بها إنجيل يوحنا، كما أشار إلى نفسه قائلًا: "وَتَعْرِفُونَ الْحَقَّ وَالْحَقُّ يُحَرِّرُكُمْ" (يو 8: 32)... " أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ" (يو 14: 6)، وكلام الله هو كلام حق يُقدّس الإنسان: "قَدِّسْهُمْ فِي حَقِّكَ. كَلاَمُكَ هُوَ حَق" (يو 17: 17)، والسيد المسيح جاء إلى عالمنا ليشهد للحق: "قَدْ أَتَيْتُ إِلَى الْعَالَمِ لأَشْهَدَ لِلْحَقِّ" (يو 18: 37)، والروح القدس هو " رُوحُ الْحَقِّ" (يو 15: 26؛ 16: 13). وجاءت كلمة " الحق" في إنجيل يوحنا نحو خمسين مرة.
10- إنجيل المجد: السيد المسيح في إنجيل يوحنا هو رب المجد " وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ مَجْدًا كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ" (يو 1: 14)، وعندما حوَّل الماء إلى خمرًا: "وَأَظْهَرَ مَجْدَهُ فَآمَنَ بِهِ تَلاَمِيذُهُ" (يو 2: 11)، كما ظهر مجده في إقامة لعازر فآمن به كثيرون: "أَلَمْ أَقُلْ لَكِ: إِنْ آمَنْتِ تَرَيْنَ مَجْدَ الله؟" (يو 11: 40)، وأيضًا ظهر مجد يسوع بالصليب والفداء: "لأَنَّ يَسُوعَ لَمْ يَكُنْ قَدْ مُجِّدَ بَعدُ" (يو 7: 39)، (راجع يو 12: 16؛ 13: 31-32) والرب يسوع هو الذي يهبنا المجد: "وَأَنَا قَدْ أَعْطَيْتُهُمُ الْمَجْدَ الَّذِي أَعْطَيْتَنِي" (يو 17: 22).
11- إنجيل المحبة: كاتب الإنجيل هو يوحنا " التِّلْمِيذَ الَّذِي كَانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ" (يو 21: 7) وتكررت هذه العبارة في إنجيل يوحنا خمس مرات. حدثنا عن محبة الآب للابن منذ الأزل " الآبَ يُحِبُّ الابْنَ وَيُرِيهِ جَمِيعَ مَا هُوَ يَعْمَلُهُ" (يو 5: 20)... " لأَنَّكَ أَحْبَبْتَنِي قَبْلَ إِنْشَاءِ الْعَالَمِ" (يو 17: 24)، كما حدثنا عن محبة الابن للآب " لِيَفْهَمَ الْعَالَمُ أَنِّي أُحِبُّ الآبَ" (يو 14: 31). ووصف مدى محبة الله الآب للعالم في أسلوب رائع: "هكَذَا أَحَبَّ الله الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ..." (يو 3: 16)، وأكد هذا قائلًا: "لأَنَّ الآبَ نَفْسَهُ يُحِبُّكُمْ" (يو 16: 27)، كما وصف محبة الابن للبشرية في أسلوب بليغ: "لَيْسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعْظَمُ مِنْ هذَا أَنْ يَضَعَ أَحَدٌ نَفْسَهُ لأَجْلِ أَحِبَّائِهِ" (يو 15: 13)، وقد تناهت محبة المسيح لتلاميذه حتى غسل أرجلهم: "قَدْ أَحَبَّ خَاصَّتَهُ الَّذِينَ فِي الْعَالَمِ أَحَبَّهُمْ إِلَى الْمُنْتَهَى..." (يو 13: 1 - 11)، وعندما رد يسوع بطرس إلى رتبته سأله عن محبته له: "أَتُحِبُّنِي... أَتُحِبُّنِي... أَتُحِبُّنِي" (يو21: 15 - 17). ومن يحب يسوع يحفظ وصاياه ويحب الإخوة: "إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَنِي فَاحْفَظُوا وَصَايَايَ" (يو 14: 15) (راجع يو 14: 21، 24؛ 15: 9-10، 12، 14، 17؛ 17: 23 - 26) ومحبة الإخوة هيَ الوصية الجديدة: "وَصِيَّةً جَدِيدَةً أَنَا أُعْطِيكُمْ أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا" (يو 13: 34)، واستخدم القديس يوحنا فعل "أحبَّ" (أغابي) نحو (36) مرة، وأقواها: "هكَذَا أَحَبَّ الله الْعَالَمَ حَتَّى... (يو 3: 16)، فهو أقوى تعبير عن المحبة في اللغة اليونانية، ولاسيما أنه سبقه تعبير "هكذا" أي بهذا المقدار الذي لا يُعبَر عنه أحب الله البشر، وبتعبير بولس الرسول: "اَلَّذِي لَمْ يُشْفِقْ عَلَى ابْنِهِ بَلْ بَذَلَهُ لأَجْلِنَا أَجْمَعِينَ" (رو 8: 32)... حقًا لا توجد بشارة من البشائر الأربعة تُعلِن عن عِظَم محبة الله للإنسان مثل بشارة يوحنا رسول المحبة، ومن جانب آخر أعلن عن عِظَم دينونة من يستهين بهذه المحبة اللانهائية حيث: "يَمْكُثُ عَلَيْهِ غَضَبُ الله" (يو 3: 36).
12- إنجيل الإيمان: ورد فعل "يؤمن" في إنجيل يوحنا نحو (97) مرة، فالهدف الذي لأجله كتب يوحنا إنجيله هو أن يؤمن الإنسان بابن الله فيجوز إلى الحياة الأبدية. يقول "قداسة البابا تاوضروس الثاني": "وهذا يكشف عن غاية السفر وهي: الإيمان القائم على المعرفة الروحية لكي يحيا الإنسان بروح الحُب" (34). ويقول "الخوري بولس الفغالي": "وهكذا يكون الهدف الأكبر لإنجيل يوحنا: أن يجعل المؤمنون يرون أن المسيح الذي به يؤمنون هو الإله الحي الذي دخل في التاريخ فأعطى التاريخ كامل معناه. الكلمة صار بشرًا، وسكن بيننا، يبقى علينا أن نؤمن به لتكون لنا الحياة الأبدية" (35).
13- إنجيل الشهادة: بينما غابت كلمة "الشهادة" عن إنجيل متى، وجاءت ثلاث مرات في إنجيل مرقس، نجدها ترد (14) مرة في إنجيل يوحنا، كما أن فعل "شهد - يشهد" نحو (33) مرة، وفي هذا الإنجيل نلتقي بالشهادة السباعية للسيد المسيح من قبل:
أ - يوحنا المعمدان: "وَأَنَا قَدْ رَأَيْتُ وَشَهِدْتُ أَنَّ هذَا هُوَ ابْنُ الله" (يو 1: 34)، (راجع يو 1: 7-8، 15، 19 - 34؛ 3: 26 - 36؛ 5: 33 - 36).
ب - الآب: "وَالآبُ نَفْسُهُ الَّذِي أَرْسَلَنِي يَشْهَدُ لِي" (يو 5: 37)، (راجع يو 8: 18؛ 12: 28).
جـ - الروح القدس: "رُوحُ الْحَقِّ، الَّذِي مِنْ عِنْدِ الآبِ يَنْبَثِقُ فَهُوَ يَشْهَدُ لي" (يو 15: 26)، (راجع يو 16: 14).
د - السيد المسيح: "وَإِنْ كُنْتُ أَشْهَدُ لِنَفْسي فَشَهَادَتِي حَق... أَنَا هُوَ الشَّاهِدُ لِنَفْسِي" (يو 8: 14، 18)، (راجع يو 3: 11، 32؛ 8: 12، 38؛ 9: 5؛ 10: 11، 14؛ 11: 25؛ 14: 6؛ 18: 37).
هـ - أعمال المسيح: "الأَعْمَالُ بِعَيْنِهَا الَّتِي أَنَا أَعْمَلُهَا هِيَ تَشْهَدُ لِي" (يو 5: 36)، (راجع يو 10: 25، 37-38؛ 14: 11؛ 15: 24).
و - الأسفار المقدَّسة: "فَتِّشُوا الْكُتُبَ... وَهِيَ الَّتِي تَشْهَدُ لِي" (يو 5: 39)، (راجع يو 1: 45؛ 3: 14؛ 5: 46).
ز - المعاصرين: مثل شهادة نثنائيل (يو 1: 49)، والسامرية (يو 4: 25-26)، وبطرس (يو 6: 68)، وكثيرون من الجمع (يو 7: 31)، والمولود أعمى (يو 9: 35 - 38)، والتلاميذ (يو 15: 27)، وتوما (يو 20: 21).
14- إنجيل الساعة: من التعبيرات التي ترددت في إنجيل يوحنا تعبير "الساعة" إشارة إلى ساعة الصفر التي سيرتفع فيها السيد المسيح على الصليب، فمنذ بداية خدمته ومع أول معجزة أجراها في قانا الجليل، قال لأمه العذراء مريم: "لَمْ تَأْتِ سَاعَتِي بَعْدُ" (يو 2: 4) وفي عيد المظال أكبر أعياد اليهود عندما طلب إخوة يسوع منه أن يصعد إلى أورشليم ليعلن رسالته هناك بصورة أسرع، قال لهم: "إِنَّ وَقْتِي لَمْ يَحْضُرْ بَعْدُ" (يو 7: 6)..." وَقْتِي لَمْ يُكْمَلْ بَعْدُ" (يو 7: 8)، وتعبير "الوقت" مرادف لتعبير "الساعة"، وعندما صعد إلى أورشليم في منتصف العيد: "فَطَلَبُوا أَنْ يُمْسِكُوهُ وَلَمْ يُلْقِ أَحَدٌ يَدًا عَلَيْهِ لأَنَّ سَاعَتَهُ لَمْ تَكُنْ قَدْ جَاءَتْ بَعْدُ" (يو 7: 30)، وعندما جاء اليونانيون برفقة فيلبس وأندراوس: "قَدْ أَتَتِ السَّاعَةُ لِيَتَمَجَّدَ ابْنُ الإِنْسَانِ... اَلآنَ نَفْسِي قَدِ اضْطَرَبَتْ. وَمَاذَا أَقُولُ أَيُّهَا الآبُ نَجِّنِي مِنْ هذِهِ السَّاعَةِ. وَلكِنْ لأَجْلِ هذَا أَتَيْتُ إِلَى هذِهِ السَّاعَةِ" (يو 12: 23، 27)... " أَمَّا يَسُوعُ قَبْلَ عِيدِ الْفِصْحِ وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّ سَاعَتَهُ قَدْ جَاءَتْ لِيَنْتَقِلَ مِنْ هذَا الْعَالَمِ إِلَى الآبِ" (يو13: 1)... " تَكَلَّمَ يَسُوعُ بِهذَا وَرَفَعَ عَيْنَيْهِ نَحْوَ السَّمَاءِ وَقَالَ أيُّهَا الآبُ، قَدْ أَتَتِ السَّاعَةُ" (يو 17: 1). وبينما حددت الأناجيل الأزمنة بالتقريب، جاء إنجيل يوحنا أكثر تحديدًا للأوقات والأزمنة، فتجده يذكر تارة " نَحْوَ السَّاعَةِ الْعَاشِرَةِ" (يو 1: 39)... " السَّاعَةِ السَّابِعَةِ" (يو 4: 52)، كما يذكر " الْيَوْمِ الثَّالِثِ" (يو 2: 1)، و" يَوْمَيْنِ" (يو 11: 6)، و" سِتَّةِ أَيَّامٍ" (يو 12: 1)... إلخ. بل أن الكاتب اهتم بذكر الأعداد، فيذكر " اثْنَانِ مِنْ تَلاَمِيذِهِ" (يو 1: 35)، " سِتَّةُ أَجْرَانٍ" (يو 2: 6)، " خَمْسَةُ أَرْوِقَةٍ" (يو 5: 2)، " خَمْسَةُ أَرْغِفَةِ شَعِيرٍ وَسَمَكَتَانِ" (يو 6: 9)، " خَمْسَةِ آلاَفٍ" (يو 6: 10)، " أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ" (يو 19: 23)، " مِئَتَيْ ذِرَاعِ" (يو 21: 8)، "مِئَةً وَثَلاَثًا وَخَمْسِينَ" (يو 21: 11).
_____
(27) أورده يوسف دره الحداد - صوفية المسيحية 1 - الإنجيل بحسب يوحنا، ص49.
(28) شرح بشارة يوحنا، ص3، 4.
(29) المدخل لشرح إنجيل القديس يوحنا، ص402.
(30) أورده القمص تادرس يعقوب - الإنجيل بحسب يوحنا جـ 1، ص24.
(31) المدخل لشرح إنجيل القديس يوحنا، ص247.
(32) المدخل لشرح إنجيل القديس يوحنا، ص208.
(33) المرجع السابق، ص23.
(34) مفتاح العهد الجديد جـ 1، ص169.
(35) إنجيل يوحنا - دراسات وتأملات، ص73.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/635.html
تقصير الرابط:
tak.la/37r6sna