ج: 1- منذ أن كتب القديس يوحنا الرسول ابن زبدي إنجيله خلال الفترة (96 - 98م) تلقفته الكنيسة وقبلته وقد أقرَّت قانونيته، واستقر في وجدان الكنيسة وانتشر انتشارًا واسعًا في الأمصار والأقطار في زمن وجيز، ولم يشكك أحد في قانونية الإنجيل ونسبته إلى كاتبه يوحنا الإنجيلي، حتى نهاية القرن الثامن عشر وفي القرن التاسع عشر اشتدت موجة التشكيك فأدعوا أن الكاتب لم يكن شاهد عيان إنما عاش في القرن الثاني الميلادي، وما حمله الإنجيل لا يُمثل ما قاله السيد المسيح بالفعل ولا يمثل ما فعله السيد المسيح فعلًا، إنما يمثل رؤية الكنيسة في القرن الثاني، فهو لا يطابق الحقيقة، ولا سيما أن الإنجيل لم يحمل اسم كاتبه (راجع وليم ماكدونالد - تفسير إنجيل يوحنا). ومن الذين أنكروا نسبة هذا الإنجيل ليوحنا الحبيب "موفات" في كتابه "مقدمة العهد الجديد"، و"بيكون" في كتابه "الإنجيل الرابع بين البحث والحوار" (راجع دائرة المعارف الكتابية جـ 1 ص 471).
وفي سنة 1792م قال الباحث الإنجليزي "إيفانسون" Evanson في كتابه "الاختلاف بين الأناجيل الأربعة" أن كاتب الإنجيل ليس هو يوحنا الرسول كاتب سفر الرؤيا، ولعل هذا إعادة لما قاله "يوسابيوس القيصري" في القرن الرابع حيث قال يوسابيوس: "أستطيع الحكم في طبيعة كليهما (إنجيل يوحنا وسفر الرؤيا) وفي طبيعة التعابير وفي مضمون كل السفر أنه ليس من تصنيفه، لأن الإنجيلي لم يذكر اسمه في أي مكان، ولم يعلن عن ذاته لا في الإنجيل ولا في الرسائل... ويوحنا لم يتحدث قط مشيرًا إلى نفسه أو إلى شخص آخر، أما كاتب سفر الرؤيا فيقدم نفسه في البداية" (ك 7 ف 25 ع 8-9) (36). وادعى "إيفانسون" أن كاتب إنجيل يوحنا هو فيلسوف أفلاطوني عاش في القرن الثاني الميلادي.
وأيضًا من الذين شكَّكوا في نسبة إنجيل يوحنا لكاتبه يوحنا الحبيب الناقد الألماني "دافيد شتراوس" (1808 - 1874م)، والناقد الكاثوليكي "الفريد لويزي" (1857 - 1940م) الذي ادعى أن كاتب الإنجيل الرابع شخص عاش في القرن الثاني الميلادي في أفسس أو أنطاكية، وهو من أصل يهودي يوناني، فمزج الأفكار المسيحية بالأفكار الوثنية والأفكار اليهودية. وفي سنة 1930م قال "أدولف هارناك" أن كاتب إنجيل يوحنا ليس هو يوحنا الرسول، بل هو "يوحنا الشيخ" الذي عاش في أفسس وكان معاصرًا ليوحنا الرسول ولعل هذا يرجع للفهم الخاطئ لما قاله بابياس ونقله يوسابيوس القيصري، وسنعود إليه ثانية. وتطرَّف "كيرسوب ليك" Kirsopp Lake في شكوكه حتى أنه قال: "إنجيل يوحنا قد يحتوي متناثرات قليلة من التقليد الحقيقي، ولكن على العموم هو قصة خيالية تعتمد على الوهم" (37).
وهنا نكتفي بذكر أهم خمسة شكوك دارت حول قانونية إنجيل يوحنا، ونسبته إلى كاتبه يوحنا الرسول وهي:
أولًا: اختلاف أسلوب إنجيل يوحنا عن أسلوب سفر الرؤيا الذي كتبه يوحنا الرسول.
ثانيًا: الادعاء بأن كاتب الإنجيل الرابع هو "أريستون" أو "يوحنا الشيخ".
ثالثًا: يوحنا الرسول لم يذكر اسمه في الإنجيل الرابع.
رابعًا: الادعاء بأن يوحنا كان عاميًا غير متعلم.
خامسًا: تعبير " التِّلْمِيذُ الَّذِي كَانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ" ينطبق بالأكثر على لعازر أخو مرثا ومريم (يو 11: 3، 11، 36).
![]() |
أولًا: اختلاف أسلوب إنجيل يوحنا عن أسلوب سفر الرؤيا الذي كتبه يوحنا الرسول: قال "ول ديورانت": "يبدو من غير المعقول أن يكون كاتب سفر الرؤيا هو نفسه كاتب الإنجيل الرابع، ذلك أن سفر الرؤيا سفر يهودي وأن الإنجيل فلسفة يونانية" (38)، وأيضًا استبعد "يوسابيوس القيصري" أن يكون يوحنا بن زبدي هو كاتب سفر الرؤيا (يوسابيوس 7: 25: 7-9)، [راجع تاريخ الكنيسة ط 1960م ص 339]. وقديمًا لاحظ العلامة أوريجانوس، وكذلك البابا ديونيسيوس رقم (14) بأن الأسلوب المستخدم في إنجيل يوحنا مختلف عن أسلوب سفر الرؤيا، فأسلوب الإنجيل صحيح تمامًا من جهة قواعد اللغة اليونانية، وأيضًا الأسلوب بسيط وسهل وسلس، بينما أسلوب سفر الرؤيا لم يهتم بقواعد اللغة، بعيد عن الفصحى، وأحيانًا الأسلوب غير مترابط. كما أن أسلوب الإنجيل غني من جهة المصطلحات المستخدمة مثل اللوغوس، والنور، والحياة، والحق، والنعمة، وهذا خلا منه سفر الرؤيا، وبينما أفصح كاتب سفر الرؤيا عن شخصه: "أَنَا يُوحَنَّا أَخُوكُمْ وَشَرِيكُكُمْ فِي الضِّيقَةِ" (رؤ 1: 9) نجد إنجيل يوحنا لم يذكر فيه اسم الكاتب صراحة (راجع فهيم عزيز - المدخل إلى العهد الجديد ص 653).
1- في الحقيقة الرأي القائل بأن كاتب إنجيل يوحنا ليس هو كاتب سفر الرؤيا رأي ضعيف، بينما الآباء الأولين شرقًا وغربًا شهدوا بأن يوحنا الحبيب كاتب سفر الرؤيا في جزيرة بطمس، كتب إنجيله بعد عودته إلى أفسس. وكثير من الدارسين وعلماء الكتاب أكدوا على نسبة الإنجيل الرابع ليوحنا الرسول مثل "جودت" و"سكوت" و"دوثاردت" و"ماير" في مقدمات شرح الإنجيل، و"عزرا أبوت" في كتاب "الإنجيل الرابع وكاتبه" و"ذاهن" في "مقدمة العهد الجديد جـ3" و"ساندي" في كتابه "نقد للإنجيل الرابع" و"دياموند" في كتابه "طبيعة الإنجيل الرابع وكاتبه"، (راجع دائرة المعارف الكتابية جـ 1 ص471، والقمص عبد المسيح بسيط - إنجيل يوحنا كيف كُتب وكيف وصل إلينا، ودكتور محمد زهران - إنجيل يوحنا في الميزان).
ويقول "الأب متى المسكين": "وفي الوقت الذي تضافرت فيه العقول الجبارة لهدم إنجيل يوحنا بالنقد السلبي غير البناء، كانت هناك مجموعة من العلماء من مختلف الجنسيات يحدوهم روح الإيمان والتقوى والعلم أيضًا للدفاع عن صحة إنجيل يوحنا وأصالة مستواه الروحي، وحقَّقوا أن كاتبه هو القديس يوحنا الرسول ابن زبدي، وأن الخط التاريخي فيه أشد صحة مما كان يظن هؤلاء النُقَّاد، وأن منهجه اللاهوتي والسرائري والكنسي فائق القيمة، وقد استخدم معظمهم المنهج التقليدي في البحث العلمي الدقيق. وأثبت معظمهم أن إنجيل القديس يوحنا من وضع نهاية القرن الأول سنة 100م، أو ربما أقل قليلًا، الأمر الذي أثبتت البرديات التي اُكتشفت بعد ذلك بنصف قرن صحة وصدق إيمانهم. ولكن لا تخلو هذه الأبحاث والشروحات من الهنَّات التي يمليها الفكر العلمي، فتقف ذات لون باهت يسهل فرزها إزاء ضوء الإيمان الأرثوذكسي الساطع" (39).
2- القول بأن أسلوب إنجيل يوحنا مختلف عن أسلوب سفر الرؤيا، ليس صحيحا في المُطلّق، وذلك لكثرة التشابهات بين السفرين، فمثلًا:
أ - السيد المسيح هو "اللوغوس" (قابل يو 1: 1 مع رؤ 19: 3) وهو "حمل الله" (قابل يو 1: 29، 35؛ مع رؤ 5: 6، 8، 12؛ 21: 9، 14، 22) وهو " الراعي" (قابل يو 10: 11، 14؛ 21: 15 - 17؛ مع رؤ 7: 17) وهو " المن" (قابل يو 6: 31-32؛ مع رؤ 2: 17).
ب - أزلية الابن " هذَا كَانَ فِي الْبَدْءِ عِنْدَ الله" (قابل يو 1: 2، 18؛ 8: 58؛ مع رؤ 1: 8، 17).
جـ - من يشرب من الماء الحي الذي يعطيه المسيح لا يعطش (يو 3: 14) يقابل: "أَنَا أُعْطِي الْعَطْشَانَ مِنْ يَنْبُوعِ مَاءِ الْحَيَاةِ مَجَّانًا" (رؤ 21: 6).
د - من يؤمن بالسيد المسيح لا يُدان (يو 3: 18)، ومن يسمع كلامه ويؤمن به له حياة أبدية ولا يأتي إلى دينونة (يو 5: 24)، وهذا نجده في سفر الرؤيا في منظر جموع المتسربلين بالثياب البيض حاملين سعف النخل وهم يهتفون بخلاص الله (رؤ7: 9).
هـ - إعلان المسيح عن نفسه " أنا هو" (يو 6: 35؛ 8: 12؛ 10: 11؛ 11: 25؛ 14: 6)، نجده في سفر الرؤيا (رؤ 1: 8؛ 11: 17).
و - " مَنْ يُقْبِلْ إِلَيَّ فَلاَ يَجُوعُ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِي فَلاَ يَعْطَشُ أَبَدًا" (يو 6: 35)، نجدها في سفر الرؤيا: "لَنْ يَجُوعُوا بَعْد،ُ وَلَنْ يَعْطَشُوا بَعْد... لأَنَّ الْخَرُوفَ الَّذِي فِي وَسَطِ الْعَرْشِ يَرْعَاهُمْ وَيَقْتَادُهُمْ إِلَى يَنَابِيعِ مَاءٍ حَيَّةٍ" (رؤ 7: 16-17).
ز - " أَنَا هُوَ نُورُ الْعَالَمِ" (يو 8: 12)، تقابل " وَالْمَدِينَةُ لاَ تَحْتَاجُ إِلَى الشَّمْسِ وَلاَ إِلَى الْقَمَرِ لِيُضِيئَا فِيهَا لأَنَّ مَجْدَ الله قَدْ أَنَارَهَا وَالْخَرُوفُ سِرَاجُهَا" (رؤ 21: 23).
ح - حديث السيد المسيح عن حفظ وصاياه وكلامه (يو 8: 51؛ 14: 15)، يقابلها ما جاء في (رؤ 3: 10؛ 12: 7).
ط - قول السيد المسيح " وَإِلَيْهِ نَأْتِي وَعِنْدَهُ نَصْنَعُ مَنْزِلًا" (يو 14: 23)، يقابلها في سفر الرؤيا: "إِنْ سَمِعَ أَحَدٌ صَوْتِي وَفَتَحَ الْبَابَ أَدْخُلُ إِلَيْهِ وَأَتَعَشَّى مَعَهُ وَهُوَ مَعِي" (رؤ 3: 20).
ى - قول السيد المسيح " ثِقُوا أَنَا قدْ غَلَبْتُ الْعَالَمَ" (يو 16: 33)، تقابل " وَخَرَجَ غَالِبًا وَلِكَيْ يَغْلِب" (رؤ 6: 2).
ك - نبوة زكريا عن طعن المسيح (قابل يو 19: 37؛ مع رؤ 1: 7).
ل - ظهور المسيح القائم لتلاميذه " أَوَّلُ الأُسْبُوعِ" (يو 20: 19)، وفي سفر الرؤيا يظهر المسيح ليوحنا في يوم الرب (رؤ 1: 10).
وهذه كلها مجرد أمثلة والدارس يجد الكثير من الأمور الشيقة المشبعة. وإن قال أحد أننا نجد تشابهات أكثر بين الأناجيل الإزائية مع اختلاف الكتَّاب، نقول أن التشابهات بين الأناجيل الإزائية تختلف عن التشابهات بين إنجيل يوحنا وسفر الرؤيا... لماذا؟ لأن الأناجيل الإزائية الثلاث اعتمدت على مصدر تاريخي واحد، وهو حدوث الحدث على يد السيد المسيح سواء كان معجزة أو تعليم أو حديث. بينما وضع التشابهات بين إنجيل يوحنا الذي يعتمد على مصدر تاريخي، وبين سفر الرؤيا وهو سفر رمزي مختلف، مما يدفعنا للقول بأن سر هذه التشابهات يرجع إلى أن الكاتب للسفرين واحد.
3- الذين ركزوا على اختلاف الأسلوب بين إنجيل يوحنا وسفر الرؤيا لم يضعوا في اعتبارهم أن سفر الرؤيا هو سفر رؤى له طبيعة خاصة، فنجد الكاتب يحاول استخدام المفردات البشرية والألوان والأعداد للتعبير عن أمور غير مادية، فمن الطبيعي أن يكون هناك تباين في الأسلوب بين إنجيل يوحنا الذي يعتمد على مصدر تاريخي، وبين سفر الرؤيا الرمزي الذي يفيض بالاستعارات والتشبيهات ويقف أمامنا كلغز يحتاج إلى حل، وبسبب طبيعة سفر الرؤيا التي تتميز بالغموض كان لا بد أن الكاتب يذكر اسمه صراحة ليعطي مصداقية لهذا السفر الرمزي.
4- يوسابيوس القيصري الذي رفض نسبة سفر الرؤيا للقديس يوحنا الرسول ابن زبدي لم يُنكر قانونية سفر الرؤيا فقال "على أنني لا أتجاسر أن ارفض السفر لأن الكثيرين من الإخوة كانوا يجلونه جدًا، ولكنني أعتبر أنه فوق إدراكي، وأن في كل جزء معاني عجيبة جدًا مختفية لأنني إن كنت لا أفهم الكلمات فأظن أن وراءها معنى أعمق.
وأنني لا أريد أن أقيسها أو أحكم عليها بعقلي، بل أعتبرها أعلى من أن أدركها تاركًا مجالًا أوسع للإيمان، ولستُ أرفض ما لا أدركه، بل بالعكس أتعجب لأني لا أفهمه" (يوسابيوس 7: 25: 4، 5) (40).
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
ثانيًا: الادعاء بأن كاتب الإنجيل الرابع هو "أريستون" أو "يوحنا الشيخ": ويعتمد هذا الادعاء على قول "يوسابيوس القيصري" (280 - 339م)، نقلًا عن "بابياس" أسقف هيرابوليس (80 - 160م)، الذي قال: "كلما أتى أحد ممن كان يتبع المشايخ سألته عن أقوالهم، عما قاله أندراوس أو بطرس، عما قاله فيلبس أو توما أو يعقوب أو يوحنا أو متى، أو أي واحد آخر من تلاميذ الرب، أو عما قاله أريستيون أو القس يوحنا أو تلاميذ الرب. لأنني لا أعتقد أن ما نحصل عليه من الكتب يفيدني بقدر ما يصل إليَّ من الصوت الحي الدائم" (3: 39: 4) (41) فقالوا أن هناك شخصان عاشا في أفسس باسم يوحنا، وهما يوحنا الرسول، ويوحنا الشيخ (القس يوحنا) أحد القادة الأوائل في آسيا الصغرى، والذي تأثر بلاهوت يوحنا الرسول، وهو الذي كتب الإنجيل، ومما يؤيد ذلك وجود قبرين باسم يوحنا في أفسس، فنسب بعضهم إنجيل يوحنا ليوحنا الشيخ (القس يوحنا) وبعضهم نسبه إلى أريستون. ويقف ضد هذا الادعاء تصريح يوسابيوس القيصري نفسه بأن يوحنا الرسول هو الذي دوّن الإنجيل الرابع، وأن يوحنا الشيخ دوَّن سفر الرؤيا (راجع مدخل إلى الكتاب المقدَّس - دار الثقافة - مجموعة من اللاهوتيين - ترجمة نجيب الياس ط 1977م ص 88، 89).
ونحن لا نوافق بابياس بأنه كان هناك شخصان باسم يوحنا، هما يوحنا الرسول ويوحنا الشيخ (القس) الذي كتب الإنجيل الرابع. كما أننا لا نوافق يوسابيوس القيصري بأن كاتب سفر الرؤيا شخص آخر غير يوحنا الرسول، وهو يوحنا الشيخ، لكننا نوافقه القول بأن كاتب إنجيل يوحنا هو يوحنا الرسول. وجاء في "دائرة المعارف الكتابية" أن: "زاهن ودوم تشابمان (يوحنا الشيخ والإنجيل الرابع - سنة 1911م) فيعتقدان أيضًا أنه كان هناك يوحنا واحد فقط في أفسس، هو يوحنا بن زبدي... لأن التقليد المتواتر، الذي ربط هذا الإنجيل بالرسول يوحنا في المدة الأخيرة من إقامته في أفسس، تقليد واضح وقوي، وليس ثمة أساس جدي للشك في إقامته في أفسس في ذلك الوقت" (42). ويقول "دكتور موريس تاوضروس": "ونحن لا نستطيع أن نقبل هذا الرأي الذي يزعم بأن هناك شخصًا آخر غير يوحنا الرسول كتب سفر الرؤيا. ولسنا نعرف يوحنا الآخر هذا الذي كتب سفر الرؤيا. ويوحنا الشيخ الذي يشير إليه بابياس ليس هو في حقيقة الأمر غير يوحنا الرسول. ولقد أخطأ يوسابيوس إذ ظن أن بابياس يشير إلى يوحنا آخر" (43).
كما يوضح "دكتور موريس تاوضروس" لماذا ذكر بابياس اسم يوحنا مرتين، فيقول: "وقد فهم البعض مثل يوسابيوس من ذكر يوحنا مرتين أن بابياس يشير إلى شخصين والواقع أن بابياس يذكر يوحنا أولًا بين الرسل لأنه يسأل عما قاله يوحنا وغيره من الرسل في الماضي. ولما كان هؤلاء الرسل جميعهم قد ماتوا ماعدا يوحنا الذي كان لا يزال حيًّا فهو أيضًا يسأل عن أقوال يوحنا (القس يوحنا). ليست الأقوال التي سمعها في الماضي ولكن أقواله الحاضرة. فليست الإشارة هنا إلى شخص آخر أو إلى يوحنا آخر بل إلى أقوال أخرى. ولأن أريستون ويوحنا لا يزالان على قيد الحياة دون غيرهما، لذلك ذكرهما بابياس منفردين. وهو يخص هنا يوحنا بلقب الشيخ لأن يوحنا هو وحده بين الشيوخ الذين ذكرهم (أي من بين الرسل) كان لا يزال حيًّا. على أن بابياس لا يخص يوحنا بلقب الشيخ في هذا الموضع فقط بل في مواضع أخرى أيضًا يلقّبه بالشيخ وهذا يعني أن يوحنا الرسول كان معروفًا بهذا الاسم (الشيخ) وجرت العادة على تسميته بالشيخ. ولعل أقوى دليل على صحة ما نذهب إليه أن يوحنا نفسه قد لقَّب ذاته بهذا اللقب (2 يو 1؛ 3 يو 1)" (44). وهب أننا أمام قضية شملت شهادات عشرين شخصًا، أجمع جميعهم باستثناء واحد فقط على رأي واحد بعينه، فهل من العقل أن نرفض شهادات التسعة عشر شخصًا وهي شهادة تتمشى مع المنطق، ونقبل شهادة شخص واحد؟!! وبنفس القياس نقول أنه ليس من المنطق والعقل أن نقبل شهادة بابياس (على فرض أنه يقصد فعلًا أن هناك شخصان باسم يوحنا) ونرفض شهادات الكثيرين من الآباء الأولين.
ثالثًا: يوحنا الرسول لم يذكر اسمه في الإنجيل الرابع: لم يدرك مثل هؤلاء النُقَّاد مدى عظمة اتضاع يوحنا الحبيب، التلميذ الذي كان يسوع يحبه، وقد تعلم الارتفاع عبر التواضع، واستمع وأطاع وصية معلمه: "تَعَلَّمُوا مِنِّي لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ الْقَلْبِ" (مت 11: 29). لقد أخفى الكاتب اسمه تمامًا لكي يُظهِر مجد المسيح، حتى يقول "سير أدون هوسكنر": "أنه قد أحرق نفسه حتى أننا لا نعرف عنه أي شيء في التاريخ المقدَّس. وفي نهاية دراستنا لا نستطيع أن نعرف عنه إلاَّ أنه صوت شاهد لمجد الله. لقد ترك كتابه بدون اسمه حتى لا نجد فيه غير اسم يسوع ابن الله. أنه محى نفسه على أنه هو الذي أنقص نفسه وضحى بها لكي يُعرَف الحق ويُنشَر، وأن يتمتع المؤمنون بالحياة الأبدية" (45).
لقد ذكرت الأناجيل الإزائية اسم يوحنا الحبيب ما يقرب من عشرين مرة، فكون إنجيل يوحنا لم يُورِد اسم يوحنا الحبيب ولا مرة واحدة، فهذا في حد ذاته دليل قوي على أن كاتبه هو يوحنا الرسول، لأنه لو كان الكاتب شخص آخر غير يوحنا الرسول لذكر اسم يوحنا بن زبدي، وما كان يتغافل أبدًا اسم ودور ذاك التلميذ الذي كان يسوع يحبه، أخو يعقوب الرسول، ابن الرعد، الذي أعد الفصح مع بطرس الرسول... إلخ.
رابعًا: الادعاء بأن يوحنا كان عاميًا وغير متعلم: قال بعض النُقَّاد من المستبعد أن يكون شخص مثل يوحنا الرجل البسيط صياد السمك العامي غير المتعلم (أع 4: 13)، أن يكتب إنجيلًا فلسفيًا مستخدمًا مصطلحات هلينية مثل اللوغوس، والحق، والنور، والحياة الأبدية، كالتي استخدمها الفيلسوف اليهودي السكندري "فلبون"، وأيضًا إنجيلًا يجمع بين السهل والممتنع، ويضرب في أعماق الروحانية. وبلا شك أن هؤلاء النُقَّاد فات عليهم أمور هامة، وهي:
1- عمل الوحي الإلهي، فهذا الإنجيل القانوني هو نتاج عمل مشترك بين القديس يوحنا والروح القدس، الذي اختار الكاتب ووضع فيه الدافع للكتابة، ولم يفارقه أثناء الكتابة، فكان ينير ذهنه ويذكره بالأحداث والأقوال، ويساعده في اختيار ما يكتب، وانتقاء الألفاظ، ويعصمه من أي خطأ كان.
2- لم يكن يوحنا الحبيب إنسانًا جاهلًا، إنما تعلَّم في المدراش اليهودي، وأحب العلم، وتتلمذ على يد يوحنا المعمدان أعظم مواليد النساء، ثم تتلمذ على مدار أكثر من ثلاث سنوات على يد الإله المتجسد، ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح، أقنوم الحكمة، فعندما وقف مع بطرس يخاطبان الشعب آمن الكثيرون وصارا مثار إعجاب القيادات اليهودية " فَعَرَفُوهُمَا أَنَّهُمَا كَانَا مَعَ يَسُوعَ" (أع 4: 13)، فمعية يوحنا مع السيد المسيح أكسبته علمًا وحكمة، وهذا ما حدث من قبل مع يسوع نفسه: "وَلَمَّا جَاءَ إِلَى وَطَنِهِ كَانَ يُعَلِّمُهُمْ فِي مَجْمَعِهِمْ حَتَّى بُهِتُوا وَقَالُوا مِنْ أَيْنَ لِهذَا هذِهِ الْحِكْمَةُ وَالْقُوَّاتُ؟ أَلَيْسَ هذَا ابْنَ النَّجَّارِ؟..." (مت 13: 54-55)، فإن كان ابن النجار أثار إعجاب هؤلاء اليهود فليس عجيبًا أن الصياد ابن الصياد يكتب إنجيلًا كهذا. يقول "يوسف دره الحداد: "من قال بأن يوحنا بن زبدي، الصياد مع أبيه وأخيه، كان أميًّا؟ لم يكن عاملًا بل تاجر سمك، من مدينة طبرية "مَعَ الأَجْرَى" (مر 1: 20). والتجارة تقتضي ثقافة. وميل يوحنا منذ شبابه إلى الدين والدعوة ظاهر من تلمذته للمعمدان، بجوار قمران. فأكتسب من المعمدان ومن قمران، قبل أن يكتسب من السيد المسيح" (46).
3- لفظة "اللوغوس" التي شاع استخدامها في الثقافة اليونانية كان لها ما يقابلها في التراث العبري، وهي لفظة "ميمرا" أي "الكلمة" كما سنرى ذلك فيما بعد بالتفصيل. وأيضًا المصطلحات الهيلينية مثل الحق، والنور، والحياة التي استخدمها الفيلسوف "فيلون" كانت منتشرة ودخلت في إطار الثقافة العامة، وصارت تراثًا مشاعًا لكل الناس، واستخدمها الكثيرون، ولا ننسى أن السيد المسيح تكلم عن الحق، والنور، والحياة، وكانت من صميم منهجه التعليمي.
4- قول سفر الأعمال عن تعجب القيادات الدينية من بطرس ويوحنا: "فَلَمَّا رَأَوْا مُجَاهَرَةَ بُطْرُسَ وَيُوحَنَّا وَوَجَدُوا أَنَّهُمَا إِنْسَانَانِ عَدِيمَا الْعِلْمِ وَعَامِّيَّانِ، تَعَجَّبُوا" (أع 4: 13) ليس المقصود من عبارة " عَدِيمَا الْعِلْمِ وَعَامِّيَّانِ" أنهما يجهلان القراءة والكتابة، ولكنهم قصدوا بها أنهما لم يتتلمذا لدى أحد المعلمين اليهود المشهورين، مثلما تعلَّم شاول الطرسوسي تحت رجلي غمالائيل (أع 22: 3)، فبطرس الذي أتهموه أنه عديم العلم وعامي كتب رسالتين عميقتين جدًا، وكتب يوحنا خمسة أسفار في العهد الجديد.
خامسًا: تعبير " التِّلْمِيذُ الَّذِي كَانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ" ينطبق بالأكثر على لعازر أخو مرثا ومريم (يو 11: 3، 11، 36): وتغافل هؤلاء النُقَّاد ما يلي:
1- أن الإنجيل لم يذكر عن "لعازر" فقط أنه " التِّلْمِيذُ الَّذِي كَانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ" فهو لم يكن من جملة الاثني عشر، إنما أرسلت مرثا ومريم للسيد المسيح يخبرانه: "هُوَذَا الَّذِي تُحِبُّهُ مَرِيضٌ" (يو 11: 3)، وعندما جاء الخبر إلى يسوع قال: "لِعَازَرُ حَبِيبُنَا..." (يو 11: 11)، وقال المجتمعون " انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ يُحِبُّهُ" (يو 11: 36).
2- لم يكن لعازر من الذين لازموا السيد المسيح في ليلة آلامه. ولم يكن حاضرًا عند الحديث عمن سيسلمه " وَكَانَ مُتَّكِئًا فِي حِضْنِ يَسُوعَ وَاحِدٌ مِنْ تَلاَمِيذِهِ كَانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ. فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ سِمْعَانُ بُطْرُسُ أَنْ يَسْأَلَ..." (يو 13: 23-24).
3- لم يكن لعازر واقفًا عند صليب يسوع، ولم يتسلّم العذراء مريم أمًا له، فمن الثابت أن يوحنا هو الذي تسلّم العذراء وعاش معها حتى نياحتها: "فَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ أُمَّهُ وَالتِّلْمِيذَ الَّذِي كَانَ يُحِبُّهُ وَاقِفًا قَالَ لأُمِّهِ يَا امْرَأَةُ هُوَذَا ابْنُكِ. ثُمَّ قَالَ لِلتِّلْمِيذِ هُوَذَا أُمُّكَ. وَمِنْ تِلْكَ السَّاعَةِ أَخَذَهَا التِّلْمِيذُ إِلَى خَاصَّتِهِ" (يو 19: 26-27).
4- لم تذهب مريم المجدلية إلى لعازر لتخبره بأن القبر فارغ، إنما: "جَاءَتْ إِلَى سِمْعَانَ بُطْرُسَ وَإِلَى التِّلْمِيذِ الآخَرِ الَّذِي كَانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ" (يو 20: 2)، والكل يعرف مدى علاقة بطرس الرسول بيوحنا الحبيب.
5- لم يكن لعازر من السبعة تلاميذ الذين ذهبوا ليتصيدوا في بحيرة طبرية، بينما كان هناك يوحنا وأخيه يعقوب " وَابْنَا زَبْدِي" (يو 21: 2)، " فَقَالَ ذلِكَ التِّلْمِيذُ الَّذِي كَانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ لِبُطْرُسَ... فَالْتَفَتَ بُطْرُسُ وَنَظَرَ التِّلْمِيذَ الَّذِي كَانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ يَتْبَعُهُ وَهُوَ أَيْضًا الَّذِي اتَّكَأَ عَلَى صَدْرِهِ وَقْتَ الْعَشَاءِ وَقالَ: يَا سَيِّد،ُ مَنْ هُوَ الَّذِي يُسَلِّمُكَ؟" (يو 21: 7، 20).
6- يوحنا الرسول وليس لعازر، هو كاتب الإنجيل، ولهذا قال عن نفسه: "هذَا هُوَ التِّلْمِيذُ الَّذِي يَشْهَدُ بِهذَا وَكَتَبَ هذَا. وَنَعْلَمُ أَنَّ شَهَادَتَهُ حَقٌّ" (يو 21: 24).
7- أجمع الآباء منذ القرن الثاني الميلادي أن " التِّلْمِيذُ الَّذِي كَانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ" هو يوحنا بن زبدي، ولم يقل أحد أنه "لعازر"، ولا "الشاب الغني" الذي نظر إليه يسوع وأحبه (مر 10: 21) ولا نثنائيل، ولا أي شخص آخر غير يوحنا الحبيب.
8- أن آراء النُقَّاد فيمن كتب الإنجيل الرابع قد تضاربت تضاربًا كبيرًا، منهم من قال "أريستيون"، ومنهم من قال "يوحنا الشيخ". منهم من قال يوحنا الرسول كتب هذا الإنجيل بمعاونة أحد تلاميذه، ومنهم من قال أن أحد تلاميذ يوحنا هو الذي كتب الإنجيل مستعينًا بمذكرات وعظات يوحنا الرسول، منهم من قال أنه نتاج المدرسة البوحناوية في القرن الثاني الميلادي ومنهم من قال أن الكاتب فيلسوف أفلاطوني عاش في الإسكندرية في القرن الثاني، وهكذا لا تجد رأيًا ثابتًا متفقًا عليه لهؤلاء النُقَّاد، إنما جميعها ظنون واحتمالات وتخمينات.
_____
(36) ترجمة القمص مرقس داود - تاريخ الكنيسة ط 1960، ص339.
(37) أورده الأب متى المسكين - المدخل لشرج إنجيل القديس يوحنا، ص381.
(38) ترجمة محمد بدران - قصة الحضارة جـ 3، ص274.
(39) المدخل لشرح إنجيل القديس يوحنا، ص371.
(40) ترجمة القمص مرقس داود - تاريخ الكنيسة ط 1960م، ص338، 339.
(41) المرجع السابق، ص156.
(42) دائرة المعارف الكتابية جـ 1، ص472.
(43) المدخل إلى العهد الجديد، ص152.
(44) المرجع السابق، ص152، 153.
(45) أورده فهيم عزيز - المدخل إلى العهد الجديد، ص552، 553.
(46) صوفية المسيحية 1- الإنجيل بحسب يوحنا، ص146.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/636.html
تقصير الرابط:
tak.la/c9bm47y