س587: لمن وجه السيد المسيح قوله: "أَيُّهَا الْجِيلُ غَيْرُ الْمُؤْمِنِ وَالْمُلْتَوِي" (لو 9: 41)؟ وهل التلاميذ لم يفهموا سر آلام المسيح لأنه أخفي عنهم، أم لأنهم يرفضون أن يتألم سيدهم ويُعذَب ويُصلَب ويموت (لو 9: 45)؟ وهل يوجد تناقض بين قول السيد المسيح: "مَنْ لَيْسَ عَلَيْنَا فَهُوَ مَعَنَا" (لو 9: 50) وقوله: "مَنْ لَيْسَ مَعِي فَهُوَ عَلَيَّ" (لو 11: 23)؟ ولماذا رفض السامريون السيد المسيح (لو 9: 53) الذي يجول يصنع خيرًا، ولماذا رفض السيد المسيح اقتراح يعقوب ويوحنا (لو 9: 54)؟
ج: 1- لمن وجه السيد المسيح قوله: "أَيُّهَا الْجِيلُ غَيْرُ الْمُؤْمِنِ وَالْمُلْتَوِي" (لو 9: 41)..؟ عندما عجز التلاميذ عن طرد الروح النجس من الصبي، واشتكى والد الصبي من عجز التلاميذ عن طرد هذا الروح العنيد: "فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ أَيُّهَا الْجِيلُ غَيْرُ الْمُؤْمِنِ وَالْمُلْتَوِي إِلَى مَتَى أَكُونُ مَعَكُمْ وَأَحْتَمِلُكُمْ". وقوله هذا موجه للجميع سواء التلاميذ أو والدي الصبي، فجميعهم افتقروا للإيمان القوي. وقد سبق مناقشة هذا الموضوع فيُرجى الرجوع إلى مدارس النقد - عهد جديد جـ 4 س369. ونضيف هنا قول "القديس كيرلس الكبير" حيث يُلقي الضوء على والد الطفل، فيقول: "فوالد الصبي الذي به الروح الشرير، كان خشنًا وغير لطيف، لأنه لم يطلب ببساطة شفاء الولد، ويتوجّ الشافي بالمديح والشكر بل بالعكس، تكلم باحتقار عن التلاميذ، ويعيب على النعمة المُعطاة لهم إذ يقول: "وَطَلَبْتُ مِنْ تَلاَمِيذِكَ أَنْ يُخْرِجُوهُ فَلَمْ يَقْدِرُوا".. ومع ذلك فإنه بسبب نقص إيمانه فإن النعمة لم تعمل لا يدرك هو أنه هو نفسه كان السبب في عدم إنقاذ الولد من مرضه الخطير..؟ لذلك كان من الواجب على والد الصبي أن يُلقي باللوم على عدم إيمانه، بدلًا من أن يلقيه على الرسل القديسين. لهذا السبب قال المسيح بحق: "أَيُّهَا الْجِيلُ غَيْرُ الْمُؤْمِنِ وَالْمُلْتَوِي إِلَى مَتَى أَكُونُ مَعَكُمْ وَأَحْتَمِلُكُمْ؟ ".. لذلك فهو بحق يدعو ذلك الرجل نفسه وأولئك الذين على شاكلته "جيل غير مؤمن".." (235).
2- هل التلاميذ لم يفهموا سر آلام المسيح لأنه أخفي عنهم، أم لأنهم يرفضون أن يتألم سيدهم ويُعذَب ويُصلَب ويموت (لو 9: 45)..؟ لم يُدرك التلاميذ سرَ آلام المسيح لسببين:
أولًا: إنه أُخفي عن أعينهم موضوع آلام المسيح وصلبه وموته وقبره وقيامته وصعوده، لأن هذا الموضوع كان فوق طاقتهم واحتمالهم، وهذا ما أوضحه القديس لوقا عندما قال: "وَكَانَ مُخْفىً عَنْهُمْ لِكَيْ لاَ يَفْهَمُوهُ" (لو 9: 45)، وحتى عندما حدثهم السيد المسيح عن آلامه بصورة أشمل، يقول القديس لوقا أيضًا: "وَأَمَّا هُمْ فَلَمْ يَفْهَمُوا مِنْ ذلِكَ شَيْئًا وَكَانَ هذَا الأَمْرُ مُخْفىً عَنْهُمْ وَلَمْ يَعْلَمُوا مَا قِيلَ" (لو 18: 34).
ثانيًا: أحب التلاميذ معلمهم وتركوا كل شيء وتبعوه، وصار هو محور حياتهم، بعد أن باعوا كل شيء واشتروا اللؤلؤة الكثيرة الثمن، وعاشوا معه أجمل أيام العمر، وكأنهم في حلم جميع ورائع لم يودوا أن يفوقوا منه ويستيقظون على منظر مُعلِّمهم ومصدر رجائهم، وهو مُعلّق على صليب العار عريانًا على ربوة عالية وسط هياج الطبيعة من ظُلمة وزلزلة، وهم يجهلون لماذا ينبغي أن معلمهم، الذي جال يصنع خيرًا، يُصلَب من أجل حياة العالم؟!! وخافوا أن يسألوه عن التفاصيل لئلا يصدموا بأخبار سيئة تكدر صفوهم وتقض مضاجعهم.
3- هل يوجد تناقض بين قول السيد المسيح: "مَنْ لَيْسَ عَلَيْنَا فَهُوَ مَعَنَا" (لو 9: 50) وقوله: "مَنْ لَيْسَ مَعِي فَهُوَ عَلَيَّ" (لو 11: 23)..؟ سبق مناقشة هذا الموضوع، فيُرجى الرجوع إلى مدارس النقد - عهد جديد جـ 4 س339، جـ 6 س521. ونضيف هنا قول "الدكتور القس إبراهيم سعيد": "لاحظ المسيح أن في حرص التلاميذ على شرف اسمه شيئًا كثيرًا من حب الاحتكار، الذي لا يوافق عليه المسيح. وهل يُحتَكر نور الشمس؟ أم هل تقوى حفنة واحدة على أن تقبض على كل مياه البحر؟ كان جواب المسيح لهم: "مَنْ لَيْسَ عَلَيْنَا فَهُوَ مَعَنَا". وواضح أن هذا التصريح لا يناقض التصريح الوارد في (لو 11: 23) " مَنْ لَيْسَ مَعِي فَهُوَ عَلَيَّ"، قصد المسيح بالقول الثاني أن يجعل منه مقياسًا، يفحص به الإنسان نفسه فيما إذا كان مع المسيح أم بعيدًا عنه. لكنه قصد أن يجعل من التصريح الأول قانونًا سمحًا... ومن التصريحين نستنتج أننا في حكمنا على أنفسنا ينبغي أن نكون قساة ما سمحت لنا القسوة، ولكن في حكمنا على الآخرين، ينبغي أن نكون متسامحين كل التسامح. إن الكلمة المركزية في التصريح الثاني هيَ: "مَعِي"، أي أن شخص المسيح الروحي هو الحكم في الإيمان به والمحبة له. والكلمة الرئيسية في التصريح الأول هيَ كلمة: "مَعَنَا" أي مع زمرة التلاميذ المنظورين... فما أحوجنا كأتباع للمسيح إلى أن نفكر في حسنات غيرنا وفي سيئاتنا نحن، بدلًا من أن نقضي وقتنا في نبش قبور الآخرين والتفرج على جثثهم!!" (236).
← انظر باقي سلسلة كتب النقد الكتابي هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت للمؤلف.
4- لماذا رفض السامريون السيد المسيح (لو 9: 53) الذي يجول يصنع خيرًا، ولماذا رفض السيد المسيح إقتراح يعقوب ويوحنا (لو 9: 54)..؟
أولًا: لماذا رفض السامريون السيد المسيح..؟ قال القديس لوقا عن رسل المسيح أنهم: "وَدَخَلُوا قَرْيَةً لِلسَّامِرِيِّينَ حَتَّى يُعِدُّوا لَهُ. فَلَمْ يَقْبَلُوهُ لأَنَّ وَجْهَهُ كَانَ مُتَّجِهًا نَحْوَ أُورُشَلِيمَ" (لو 9: 52، 53) فرفض السامريون إستقبال السيد المسيح:
أ– بسبب العداء المستحكم بين اليهود والسامريين، فالسامرة كانت قديمًا هيَ عاصمة المملكة الشمالية التي حكمها تسعة عشر ملكًا على التوالي، وكانوا جميعًا أشرارًا، وهذا ما عجل بسقوطها وسبيها إلى بلاد آشور سنة 722 ق.م، ورحَّل ملوك آشور خيرة سكان المملكة الشمالية إلى منطقة ما بين النهرين، وأحضر ملوك آشور أناس أمميين في منطقة ما بين النهرين وأسكنوهم في مملكة إسرائيل، وتزاوج معهم اليهود المتبقين في الأرض، فكان النتاج هم السامريين الأشرار، وكان يهود المملكة الجنوبية ولا سيما يهود أورشليم يستعلون على السامريين ويحتقرونهم ويزدرون بهم، وعاملهم السامريون بالمثل، وهذا ما عبرت عنه المرأة السامرية عندما طلب منها السيد المسيح ليشرب، فقالت له: "لأن اليهود لا يعاملون السامريين" (لو 4: 9)، وكان السامريون يرفضون أن يأووا اليهود العابرين في أراضيهم سواء من الجليل لليهودية أو العكس، وكانت الرحلة من الجليل إلى أورشليم تستغرق نحو ثلاثة أيام، ولا بد من قضاء ليلة في السامرة، ولهذا كان يضطر معظم المسافرين إلى تغيير خط سيرهم، فبدلًا من أن يسافروا في طريق مستقيم معبَّد وممهد من الجليل إلى أورشليم، كانوا يضطرون إلى عبور نهر الأردن والسفر في طريق أطول ومخاطره أكثر عبر شرق الأردن ليتفادوا العبور في السامرة، فيتعرضون للإيذاء والنهب.
وقد يتبادر للذهن سؤالًا، وهو: أنه ما دام السيد المسيح عالِم بكل شيء، فلماذا أرسل رسله إلى قرى السامرة وهو يعلم أن السامريين سيرفضونهم ويزدرون بهم؟ ويُجيب على هذا التساؤل "القديس كيرلس الكبير" حيث يقول: "إنه يريدهم هم أيضًا أن يكونوا صابرين، وألا يتذمروا كثيرًا، حتى لو عاملهم الناس بإزدراء، فهو كما لو كان قد جعل الاحتقار الذي توصلوا له من السامرييين، تدريبًا تمهيديًا في هذا المجال. فالسامريون لم يقبلوا الرسل. وكان من واجب التلاميذ، باقتفائهم آثار خطوات سيدهم أن يحتملوا ذلك بصبر كما يليق بقديسين. وإلاَّ يقولوا عنهم أي شيء بغضب ولكنهم لم يكونوا بعد مستعدين لهذا" (237).
ب- ربما نما إلى علم السامريين أن السيد المسيح عندما أرسل تلاميذه للكرازة قال لهم: "إِلَى طَرِيقِ أُمَمٍ لاَ تَمْضُوا وَإِلَى مَدِينَةٍ لِلسَّامِرِيِّينَ لاَ تَدْخُلُوا" (مت 10: 5).
جـ- لأن السيد المسيح كان قد ثبت وجهه نحو أورشليم، والسامريون يكرهون أورشليم. ثبت وجهه إلى أورشليم أرض صلبه من أجل حياة وخلاص العالم بما فيهم السامريين. وظهر اهتمام لوقا الطبيب بأورشليم مدينة إلهنا، فذكر عدة مرات أن يسوع صعد أو سافر أو اتجه إلى أورشليم (راجع لو 9: 21، 51، 53، 13: 22، 23، 17: 11، 18: 31، 19: 11، 18) والعبارة التي استخدمها القديس لوقا: "وَحِينَ تَمَّتِ الأَيَّامُ لارْتِفَاعِهِ" (لو 9: 51) لا تجدها في أي موضع آخر في العهد الجديد، ولعله كان متأثرًا بمنظر التجلي وحضور إيليا النبي الذي ارتفع للسماء في مركبة نارية (2 مل 2: 11) وكأن الصليب هو المركبة النارية التي استقلها ابن الإنسان فأصعد البشرية بواسطتها من هوة الجحيم إلى السموات العليا، ولهذا ثبت السيد المسيح وجهه إلى الصليب بأورشليم ليرتفع عليه ويرفع البشرية من الموت للحياة.
وملاحظة جانبية نذكرها... لقد بدأت الرحلة الأخيرة إلى أورشليم واستغرقت نحو عشرة أصحاحات، وشملت ثلاث محطات تبدأ كل منها بذكر " أُورُشَلِيمَ"، وهيَ:
المحطة الأولى: (لو 9: 51-13: 21) وتبدأ بالقول: "وَحِينَ تَمَّتِ الأَيَّامُ لارْتِفَاعِهِ ثَبَّتَ وَجْهَهُ لِيَنْطَلِقَ إِلَى أُورُشَلِيمَ" (لو 9: 51)، فقد بدأ الانطلاق للرحلة الأخيرة إلى أورشليم مرورًا بالسامرة ثم عبور نهر الأردن للضفة الشرقية إلى "بيريه" والاتجاه جنوبًا صوب أورشليم.
المحطة الثانية: (لو 13: 22-17: 10) وتبدأ بالقول: "وَاجْتَازَ فِي مُدُنٍ وَقُرًى يُعَلِّمُ وَيُسَافِرُ نَحْوَ أُورُشَلِيمَ" (لو 13: 22) وفي هذه المرحلة توقفت الرحلة قليلًا حيث كان السيد المسيح يعلم في كل مدينة وقرية وهو في طريقه إلى أورشليم، وخلال هذه الرحلة نطق بأعظم الأمثال.
المحطة الثالثة: (لو 17: 11-19: 27) وتبدأ بالقول: "وَفِي ذَهَابِهِ إِلَى أُورُشَلِيمَ اجْتَازَ فِي وَسْطِ السَّامِرَةِ وَالْجَلِيلِ" (لو 17: 11)، وفي هذه المرحلة جاء يسوع إلى بيت عنيا قبل دخوله الاحتفالي إلى أورشليم، وخلال هذه المرحلة تحدث عن مجيئه الثاني، حيث أن مجيئه الأول أوشك على الانتهاء.
ثانيًا: لماذا رفض السيد المسيح اقتراح يعقوب ويوحنا (لو 9: 54)..؟ رفض السامريون رسل يسوع، وجاء رفضهم مُوجعًا وقاسيًا على أذان التلاميذ حيث أنهم احتقروهم وازدروا بهم وبمعلمهم، حتى أن "أبني الرعد" قالا لمعلِّمهما: "يَارَبُّ أَتُرِيدُ أَنْ نَقُولَ أَنْ تَنْزِلَ نَارٌ مِنَ السَّمَاءِ فَتُفْنِيَهُمْ كَمَا فَعَلَ إِيلِيَّا" (لو 9: 54). وإن كان قولهما هذا يُظهِر مدى محبتهم وإيمانهم بقدرة معلِّمهم، ولكنه لا ينم عن فهمهما لطبيعة رسالته. وبالطبع قوُبل اقتراحهما بالرفض: "لأَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُهْلِكَ أَنْفُسَ النَّاسِ، بَلْ لِيُخَلِّصَ".. ويقول "القديس أُوغسطينوس": "إن المسيح بهذا الكلام منتهرًا تلميذيه بشدة لأنه أفهمهما أنهما بهذا الطلب يُقدمان لنفسيهما معولًا للهدم في يد عدو الخير وهما لا يشعران، بينما قد قصد لهما المسيح أن يكونا أداة خير وبناء" (238).
وإن كان السيد المسيح قد رفض نزول نار من السماء لتفني السامريين، فليس معنى هذا أن إيليا النبي قد أخطأ عندما أنزل نارًا من السماء لتأكل الذبيحة تارة، وتارة لتأكل القائدين وخمسينهما، لأنه كان في صراع مع الوثنية وقوات الظُلمة، وكان يغير على مجد الرب. واجه آخاب وزوجته الشريرة إيزابل التي أوت أنبياء البعل الذين أضلوا شعب اللَّه. كما واجه أخزيا الذي كان في حالة سُكر فترنح وسقط في الكوة، وأرسل يسأل "بعل زبوب إله عقرون". وقد سبق مناقشة هذا الموضوع، فيُرجى الرجوع إلى مدارس النقد - عهد قديم جـ 10 س1317.
ويقول "القديس كيرلس الكبير": "فهم كانوا سيصيران معلمي العالم كله، ويتجولون في المدن والقرى يُبشرون بأخبار الخلاص السارة في كل مكان، ولذلك، فأنهم أثناء سعيهم لتتميم إرساليتهم، بالضرورة يلتقون مصادفة مع أناس أشرار، يرفضون الأخبار الإلهيَّة... فلو أن المسيح مدحهم لرغبتهم أن تنزل نار على السامريين ويأتي عليهم هذا العذاب المؤلم ليصيبهم، لكانوا قد تصرفوا بطريقة مشابهة في مناسبات أخرى كثيرة، وحيثما يحدث أن يتجاهل الناس الرسالة المقدَّسة فإنهم ينطقون بالدينونة عليهم، ويطلبون أن تنزل نار عليهم من السماء. وماذا تكون النتيجة عندئذ من مثل هذا السلوك؟..! لا يعود التلاميذ يكونون أطباء فيما بعد، بل بالحري مُعذّبين... أنهم كمعلمين للأخبار الإلهيَّة، ينبغي بالحري أن يكونوا مملوئين من طول الأناة واللطف، ولا يكونوا مُنتقمين ولا يستسلموا للغضب" (239).
_____
(235) ترجمة د. نصحي عبد الشهيد - تفسير إنجيل لوقا، ص255، 256.
(236) شرح بشارة لوقا، ص254.
(237) ترجمة د. نصحي عبد الشهيد - تفسير إنجيل لوقا، ص273.
(238) أورده الدكتور القس إبراهيم سعيد - تفسير إنجيل لوقا، ص257.
(239) ترجمة دكتور نصحي عبد الشهيد - تفسير إنجيل لوقا، ص374، 375.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/587.html
تقصير الرابط:
tak.la/5aa3svk