س369: كيف أعطى السيد المسيح تلاميذه سلطانًا على الأرواح النجسة ليخرجوها (مت 10: 1) ثم يعجزون عن إخراج الشيطان (مت 17: 16 - 28) فهل المسيح لم يكن صادقًا معهم أو أنه لم يكن يعلم عدم إيمانهم؟ وهل قول السيد المسيح: "وَأَمَّا هذَا الْجِنْسُ فَلاَ يَخْرُجُ إِلاَّ بِالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ" (مت 17: 21) قول دخيل على النص؟ ولماذا أفاض مرقس في تفاصيل الحدث أكثر من متى ولوقا، فما أورده متى في ثمانٍ آيات وأورده لوقا في سبع آيات أورده مرقس في 13 آية؟ وإن كان إيمان مثل حبة الخردل يفعل كل شيء، فلماذا اشترط المسيح الصوم والصلاة لطرد الشياطين (مت 17: 21)؟
يقول "حفيظ اسليماني": "هل للتلاميذ الاثنى عشر سلطانًا بأن يشفوا كل مرض وعلة؟
نعم حسب (مت 10: 1): "ثُمَّ دَعَا تَلاَمِيذَهُ الاثْنَيْ عَشَرَ وَأَعْطَاهُمْ سُلْطَانًا عَلَى أَرْوَاحٍ نَجِسَةٍ حَتَّى يُخْرِجُوهَا وَيَشْفُوا كُلَّ مَرَضٍ وَكُلَّ ضُعْفٍ ".
لكن حسب (مت 17: 14) الجواب لا: "وَلَمَّا جَاءُوا إِلَى الْجَمْعِ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ رَجُلٌ جَاثِيًا... فَشُفِيَ الْغُلاَمُ مِنْ تِلْكَ السَّاعَةِ...
وبالتالي فالنصين متضاربين فعلًا... فأقول إذًا هل المسيح عليه السلام كذب على التلاميذ ولم يعطهم أي سلطان؟ أم أنه أعطاهم السلطان ولم يعلم إيمانهم؟" (1011). (راجع أيضًا دكتور محمد توفيق صدقي - نظرة في كتب العهد الجديد وعقائد النصرانية ص51، وأينوك باول - تطوَّر الإنجيل ص295، وعلاء أبو بكر - البهريز جـ 4 س137 ص99، 100).
ج: 1ــ عندما اختار السيد المسيح تلاميذه كان يعلم عنهم كل شيء يخص ماضيهم أو حاضرهم أو مستقبلهم، اختارهم وهو يعلم أن واحد منهم سينكره وآخر سيسلمه للموت، وجميعهم يعانون من ضعف الإيمان، وكثيرًا ما لفت أنظارهم لهذا، فمثلًا عندما هاج البحر وهو نائم في السفينة أيقظوه فأبكم البحر الهائج، وقال لهم: "مَا بَالُكُمْ خَائِفِينَ يَا قَلِيلِي الإِيمَانِ" (مت 8: 26)، وعندما مشى بطرس على الماء ثم بدأ يغرق: "وَقَالَ لَهُ يَاقَلِيلَ الإِيمَانِ، لِمَاذَا شَكَكْتَ" (مت 14: 31). فقد اختارهم السيد المسيح وهو عالِم أنه سيشكلهم ويصنع منهم لوحة رائعة، ويعزف بهم سيمفونية مُدهشة، وحقًا قال الكتاب: "بَلِ اخْتَارَ اللَّه جُهَّالَ الْعَالَمِ لِيُخْزِيَ الْحُكَمَاءَ. وَاخْتَارَ اللَّه ضُعَفَاءَ الْعَالَمِ لِيُخْزِيَ الأَقْوِيَاءَ. وَاخْتَارَ اللَّه أَدْنِيَاءَ الْعَالَمِ وَالْمُزْدَرَى وَغَيْرَ الْمَوْجُودِ لِيُبْطِلَ الْمَوْجُودَ" (1 كو 1: 27، 28).
وفي هذا الحدث إنتهر التلاميذ الشيطان بكلمات جوفاء خارجة من الذهن فارغة من الإيمان القلبي فلم يطعهم الروح النجس وفشلوا في طرده بالرغم من السلطان المخوَّل لهم من قِبَل الإله المتجسد (مت 10: 1) فشلوا فيما سبق أن نجحوا فيه من قبل (مت 10: 17)، وربما سخرية الكتبة بهم وبمعلمهم وصعوبة حالة الولد جعل إيمانهم يهتز، ولذلك قال الرب يسوع لهم وللمجتمعين ولوالدي الولد المجنون: "أَيُّهَا الْجِيلُ غَيْرُ الْمُؤْمِنِ الْمُلْتَوِي إِلَى مَتَى أَكُونُ مَعَكُمْ إِلَى مَتَى أَحْتَمِلُكُمْ" (مت 17: 17). وعندما قال أبو الولد للسيد المسيح: "إِنْ كُنْتَ تَسْتَطِيعُ شَيْئًا فَتَحَنَّنْ عَلَيْنَا وَأَعِنَّا. فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ إِنْ كُنْتَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُؤْمِنَ. كُلُّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ لِلْمُؤْمِنِ" (مر 9: 22، 23).
ويقول "الأب متى المسكين": "يوضَح المسيح هنا سرَّ عجز تلاميذه في إخراج الشيطان، مع أنه قد سبق وأعطاهم السلطان، ولكن العلة خطيرة، إذ اعتمدوا على المسيح واسمه وسلطانه عندما بدأوا يخرجون الشيطان، ولم يكن لهم في قلبهم رصيد من الإيمان أنهم قادرون على إخراجه، فلم يخرج. وهكذا تتحوَّل الكرازة إلى صناعة أو مهنة دون مؤهل شخصي، وكأنه معزّم مثل المعزمين الذين يسترزقون من إخراج الشياطين. ومن هنا نفهم أن إخراج الشيطان يساوي أو يكون على قدر قوة الإيمان بالقدرة على إخراجه" (1012).
2ــ قول السيد المسيح لتلاميذه: "وَأَمَّا هذَا الْجِنْسُ فَلاَ يَخْـرُجُ إِلاَّ بِالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ" (مت 17: 21) قول أصيل في النص، وإن خلَّت منه بعض المخطوطات فهذا لا يُعد مبررًا لحذف هذا النص الذي يتمشى تمامًا مع الموقف، ويقول "وليم ماكدونالد": "وَأَمَّا هذَا الْجِنْسُ فَلاَ يَخْرُجُ إِلاَّ بِالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ: تحذف معظم الترجمات الحديثة هذه الجملة لأنها غير موجودة في كثير من النُسخ القديمة. لكن مع ذلك فأننا نجدها في مُعظم النسخ الأخرى وهيَ تناسب محتوى النص الذي يُعالج تلك المشكلة الصعبة" (1013). وقد فسَّر الآباء الأُول هذا النص كنص إنجيلي أصيل، فيقول "القديس أغسطينوس": "إن كان يحثهم على الصلاة أنهى حديثه بقوله: "وَأَمَّا هذَا الْجِنْسُ فَلاَ يَخْرُجُ إِلاَّ بِالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ ". إن كان يليق بالإنسان أن يصلي ليُخرج الشيطان من آخر، فكم بالأولى يليق به أن يُصلي ليخرج منه طمعه وسُكره وترفه ونجاسته؟! كم من الأمور قاطنة في الإنسان لو بقيت فيه لا يُقبَل في ملكوت السموات" (1014).
3- تباينت تفاصيل القصة فكل إنجيلي وظَّف القصة بحسب هدفه اللاهوتي من إنجيله (راجع رقم (3) من إجابة السؤال السابق س368) والأناجيل تتكامل فيما بينها، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. ويرى "الأب فاضل سيداروس" أن كل كاتب صاغ القصة بما يتفق مع مبدأ القصد الإلهي الذي إتبعه، فيقول: "في حين أن لوقا يورد المعجزة قاصدًا أن يروي معجزة بكل معنى الكلمة (الإسهاب في وصف المرض، فشل التلاميذ في شفائه، قلة إيمان الجيل الكافر الفاسد، دهشة الحاضرين من عظمة اللَّه في إنتصار يسوع على الشيطان) (لو 9: 37 - 43). يدقّق متى في تعليم يسوع عندما يسأله التلاميذ لماذا فشلوا: "لَوْ كَانَ لَكُمْ إِيمَانٌ مِثْلُ حَبَّةِ خَرْدَل.." ولا يُظهِر إعجاب الحاضرين، لأن هدفه تعليمي أكثر منه سرد معجزة (مت 17: 14 - 21). أما مرقس فأنه يدمج القراءتين للحدث نفسه، فيُظهِر مستوى المعجزة (قدرة يسوع على الشيطان)، ومستوى التعليم (إن المؤمن يستطيع كل شيء: آمنت فشدَّد إيماني الضعيف، أن هذا الجنس لا يُطرَد إلاَّ بالصلاة) (مر 9: 14 - 29). فالقصد اللاهوتي في الروايات المختلفة ينطلق من حدث وقع حقًا، لا يبتكره الإنجيلي بسبب قصده اللاهوتي، بل يُضفي على الحدث المعنى اللاهوتي الخاص به" (1015).
4ــ من قال أن الإيمان يُغني عن الصلاة والصوم في إخراج الشياطين، أو أن الصلاة والصوم يغنيان عن الإيمان، فصوم وصلاة بدون إيمان لا وزن لهما، وإيمان بدون الحياة المستقيمة والصلاة والصوم لا قيمة له. إذًا الأمر يحتاج للثلاثة مجتمعين معًا في دائرة الحب الإلهي، وقد أشار السيد المسيح لأهمية الإيمان عدة مرات:
† " فَالْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ لَوْ كَانَ لَكُمْ إِيمَانٌ مِثْلُ حَبَّةِ خَرْدَل لَكُنْتُمْ تَقُولُونَ لِهذَا الْجَبَلِ انْتَقِلْ مِنْ هُنَا إِلَى هُنَاكَ فَيَنْتَقِلُ وَلاَ يَكُونُ شَيْءٌ غَيْرَ مُمْكِنٍ لَدَيْكُمْ" (مت 17: 20).
† " اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنْ كَانَ لَكُمْ إِيمَانٌ وَلاَ تَشُكُّونَ فَلاَ تَفْعَلُونَ أَمْرَ التِّينَةِ فَقَطْ بَلْ إِنْ قُلْتُمْ أَيْضًا لِهذَا الْجَبَلِ انْتَقِلْ وَانْطَرِحْ فِي الْبَحْرِ فَيَكُونُ" (مت 21: 21).
† " فَقَالَ الرُّسُلُ لِلرَّبِّ زِدْ إِيمَانَنَا. فَقَالَ الرَّبُّ لَوْ كَانَ لَكُمْ إِيمَانٌ مِثْلُ حَبَّةِ خَرْدَل لَكُنْتُمْ تَقُولُونَ لِهذِهِ الْجُمَّيْزَةِ انْقَلِعِي وَانْغَرِسِي فِي الْبَحْرِ فَتُطِيعُكُمْ" (لو 17: 6).
وأيضًا السيد المسيح الذي أشار للإيمان أشار أيضًا لأهمية الصلاة والصوم (مت 6: 5 - 18) وإن كان مثقال ذرة من الخردل يُنقل الجبال فإن هذا الإيمان لا وزن له بدون المحبة، لذلك قال بولس الرسول: "وَإِنْ كَانَ لِي كُلُّ الإِيمَانِ حَتَّى أَنْقُلَ الْجِبَالَ وَلكِنْ لَيْسَ لِي مَحَبَّةٌ فَلَسْتُ شَيْئًا" (1 كو 13: 2).
_____
(1011) الأناجيل الأربعة دراسة نقدية ص92، 93.
(1012) الإنجيل بحسب القديس متى ص515.
(1013) تفسير الكتاب المقدَّس للمؤمن - تفسير العهد الجديد جـ 1 ص121.
(1014) أورده القمص تادرس يعقوب - تفسير إنجيل متى ص384.
(1015) تكوين الأناجيل ص53.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/369.html
تقصير الرابط:
tak.la/jmt7bch