St-Takla.org  >   books  >   helmy-elkommos  >   biblical-criticism  >   new-testament
 

مكتبة الكتب المسيحية | كتب قبطية | المكتبة القبطية الأرثوذكسية

كتاب النقد الكتابي: مدارس النقد والتشكيك والرد عليها (العهد الجديد من الكتاب المقدس) - أ. حلمي القمص يعقوب

586- هل عندما تحدث السيد المسيح عن حمل الصليب (لو 9: 23) أدرك السامعون المعنى والمغزى؟ وهل يوجد تناقض في قول المسيح: "مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا وَمَنْ يُهْلِكُ نَفْسَهُ مِنْ أَجْلِي فَهذَا يُخَلِّصُهَا" (لو 9: 24)؟ ولماذا اختلف البشيرون الثلاث في وصف تجلي السيد المسيح (مت 17: 2، مر 9: 2، 3، لو 19: 28)؟ ولماذا بطرس ويوحنا ويعقوب بالذات هم الذين شاهدوا التجلي، ولماذا موسى وإيليا بالذات هما اللذان ظهرا في وقت التجلي (لو 9: 28، 30)؟ وكيف تثقل بطرس ويوحنا ويعقوب بالنوم بينما السيد المسيح يتجلى بمجده أمامهم وفي حضور موسى وإيليا (لو 9: 32)، وكيف يخافون والمسيح معهم (لو 9: 34)؟

 

س586: هل عندما تحدث السيد المسيح عن حمل الصليب (لو 9: 23) أدرك السامعون المعنى والمغزى؟ وهل يوجد تناقض في قول المسيح: "مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا وَمَنْ يُهْلِكُ نَفْسَهُ مِنْ أَجْلِي فَهذَا يُخَلِّصُهَا" (لو 9: 24)؟ ولماذا اختلف البشيرون الثلاث في وصف تجلي السيد المسيح (مت 17: 2، مر 9: 2، 3، لو 19: 28)؟ ولماذا بطرس ويوحنا ويعقوب بالذات هم الذين شاهدوا التجلي، ولماذا موسى وإيليا بالذات هما اللذان ظهرا في وقت التجلي (لو 9: 28، 30)؟ وكيف تثقل بطرس ويوحنا ويعقوب بالنوم بينما السيد المسيح يتجلى بمجده أمامهم وفي حضور موسى وإيليا (لو 9: 32)، وكيف يخافون والمسيح معهم (لو 9: 34)؟

St-Takla.org                     Divider فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

ج: 1- هل عندما تحدث السيد المسيح عن حمل الصليب (لو 9: 23) أدرك السامعون المعنى والمغزى..؟ بلا شك كان السامعون يدركون معنى الصليب: "لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ عُلِّقَ عَلَى خَشَبَةٍ" (غل 3: 13).. " لأَنَّ الْمُعَلَّقَ مَلْعُونٌ مِنَ الله" (تث 21: 23)، وأيضًا كان الصلب وسيلة الإعدام لكل من لا يحمل الجنسية الرومانية، فغالبًا أن معظم السامعين شاهدوا موكب الصلب، حيث يسير بعض الجنود وهم يحيطون بأحد الأشخاص المحكوم عليه بالصلب حاملًا صليبه، يتقدمهم أحد الجنود حاملًا لافتة توضح سبب الحكم، في رحلة اللاعودة وسط سخرية المارة به، وإن كان أحد السامعين لم يشهد هذا الموكب فإنه بكل تأكيد سمع عن هذه العقوبة القاسية والآلام التي تصاحب المصلوب، وعندما أشعل "يهوذا الجليلي" الثورة في الجليل ضد الرومان وأخمدها القائد الروماني "فاروز" Varus أمر بصلب ألفي رجل، وقد سبق الإجابة على التساؤل فيُرجى الرجوع إلى مدارس النقد جـ 4 س327، س366. ونضيف هنا قول "دكتور وليم باركلي": "ما معنى حمل الصليب؟ لقد عرف يسوع معناه جيدًا عندما كان عمره إحدى عشرة سنة، حين قام يهوذا الجليلي بثورة ضد الرومان، واقتحم مخزن الأسلحة الملوكي في مدينة سيفوريس Sephoris التي تبعُد أربعة أميال عن الناصرة عندئذ ثارت ثائرة الرومان وغلى دم الكبرياء في عروقهم بحدة جارفة، فأحرقوا (مدينة) سيفوريس بالنار وباعوا أهلها عبيدًا، وصلبوا ألفي ثائرًا منهم على صلبان، في صفوف طويلة بطول الطريق ليحبطوا ويثبطوا كل ثورة تكمن في نفس أي إنسان... ومن بين سطور هذه الحادثة نعلم أن حمل الصليب هو أن يعد الإنسان نفسه لكل شيء، ومثل هذا الولاء للَّه يجعل الإنسان مستعدًا لاحتمال أشد الظروف وأرهبها التي يُجرها العالم ضدنا لكي يقطع عري صداقتنا المتينة باللَّه" (227).

وهذه هيَ المرة الأولى التي يأتي فيها ذكر الصليب في إنجيل لوقا (لو 9: 23)، ولا بد أنه كان لفظ صادم لمشاعر التلاميذ ومؤذيًا لمسمعهم، فهم يعلمون أنه يحمل معنى اللعنة من اللَّه والألم والعناء والفضيحة، وفوجئ المستمعون بأن السيد المسيح يرفع من شأن الصليب في وقت كان الصليب يمثل اللعنة في أعماقها، حتى لفظة "الصلب" و "الصليب" لم تكن ترد في الأحاديث المهذبة بين الناس، ولم يكن هناك إنسان واحد يعتقد أن الصليب بركة، ولا أحد يفكر أن يوشم يده بعلامة الصليب، أو واحدة تعلق صليبًا على صدرها ولا أحد اعتقد أن يحمل صليبه برضى فيحمله الصليب ويعبر به من الموت إلى الحياة الأبدية، أو أن من يرتفع على صليب الألم يستطيع أن يدوس على شهوات العالم ومجده العاطل الباطل. فهذا يشبه من يفتخر اليوم بحبل المشنقة ويعشقه ويحمله في ذهابه وإيابه.

St-Takla.org Image: Cost of Discipleship: Carrying the cross: Jesus Christ: "If anyone desires to come after Me, let him deny himself, and take up his cross daily, and follow Me" (Luke 9: 23) - from the book: History of Jesus Christ (Historia von Iesu Christi), by Johann Christoph Weigel, 1695. صورة في موقع الأنبا تكلا: تكلفة التلمذة: حمل الصليب: السيد المسيح يسوع: "إن أراد أحد أن يأتي ورائي، فلينكر نفسه ويحمل صليبه كل يوم، ويتبعني" (لوقا 9: 23) - من كتاب: تاريخ السيد المسيح، يوهان كريستوف فيجيل، 1695 م.

St-Takla.org Image: Cost of Discipleship: Carrying the cross: Jesus Christ: "If anyone desires to come after Me, let him deny himself, and take up his cross daily, and follow Me" (Luke 9: 23) - from the book: History of Jesus Christ (Historia von Iesu Christi), by Johann Christoph Weigel, 1695.

صورة في موقع الأنبا تكلا: تكلفة التلمذة: حمل الصليب: السيد المسيح يسوع: "إن أراد أحد أن يأتي ورائي، فلينكر نفسه ويحمل صليبه كل يوم، ويتبعني" (لوقا 9: 23) - من كتاب: تاريخ السيد المسيح، يوهان كريستوف فيجيل، 1695 م.

وقد أكد السيد المسيح على ضرورة حمل الصليب طوعًا واختيارًا كل يوم، فيقول: "الدكتور القس إبراهيم سعيد": "إن من أوجب واجبات كل مسيحي أن يحمل صليبه:

(1) مختارًا طائعًا. لأن التعبير "يحمل صليبه" مستعار من العادة التي قضت بها الأنظمة الرومانية على المحكوم عليهم بالصلب.

(2) وأن يحمله "كل يوم" وهذه العبارة انفرد لوقا بذكرها، فهو صليب يتجدَّد كل يوم كلما تجددت الآمال والآلام في الحياة اليومية العملية. فلا بد إذًا لحمل الصليب من خطوة تسبقه وخطوة تعقبه. أما الخطوة السابقة له، فهي "إنكار النفس" بمعنى أن يقول تلميذ المسيح لنفسه... "لا". لأن حمل الصليب هو حمل العار مضافًا إلى ألم الموت. وهو عمل يستلزم إنكار النفس، لأن الرومان لم ينفروا من الصليب فقط بل فزعوا من ظله أيضًا، كذلك كان شعور اليهود بأن حمل الصليب هو حمل اللعنة، لأنه مكتوب في ناموسهم "ملعون كل من عُلق على خشبة". والخطوة اللازمة للحمل -بل الخطوات- هيَ إقتفاء آثار المسيح: "ويتبعني".. إتباع المسيح حيث يمضي "إلى جثسيماني" - إلى الجلجثة - إلى القبر - إلى القيامة - إلى عرش اللَّه!!" (228).

← انظر باقي سلسلة كتب النقد الكتابي هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت للمؤلف.

 

2- هل يوجد تناقض في قول المسيح: "مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا وَمَنْ يُهْلِكُ نَفْسَهُ مِنْ أَجْلِي فَهذَا يُخَلِّصُهَا" (لو 9: 24)..؟ لم يحظى قول من أقوال السيد المسيح بالاهتمام مثل هذا القول الذي أوردته الأناجيل الأربعة فقد ورد في إنجيل مرقس (مر 8: 34، 35) وفي إنجيل يوحنا (يو 12: 25). أما في إنجيل متى فقد ورد مرتين (مت 10: 38، 39، 16: 24، 25)، وفي إنجيل لوقا ورد ثلاث مرات (لو 9: 23، 14: 26، 27، 17: 33). والذي يدَّعون أن هناك تناقض في هذا القول لا يدركون أن المقصود بإهلاك النفس ليس إهلاك الإنسان نفسه ككيان، إنما إهلاك الرغبات الفاسدة والشهوات الجسدية والذات المتسلطة، ويقول "القديس أوغسطينوس": "إنه يلزمنا أن نهلك ذواتنا لنربح أنفسنا" (229).

فمن أراد أن يخلص نفسه بعيدًا عن المشيئة والإرادة الإلهيَّة، فإنه يُستعبد لذاته التي تقوده بعيدًا عن الباب الضيق والطريق الكرب والاضطهادات والآلام التي يجوز فيها الإنسان، فيرفض صليبه ويهرب منه، فلن ينجو من العقوبة الإلهيَّة وينتهي به المطاف بعيدًا عن ملكوت اللَّه. لكن كل من يسلّم نفسه للمشيئة الإلهيَّة فإنه يهرب من ذاته، ويُخضِع نفسه للوصية، ويدخل من الباب الضيق ويرتضي أن يسلك في الطريق الكرب، فيظهر وكأنه يبغض نفسه ويهلكها بالأصوام وتحمل المشقات، بينما هو في الحقيقة ينجيها من نار جهنم.

وبمعنى آخر أن لكل إنسان صليب، فمن يحمل صليبه بمعزل عن السيد المسيح يفشل وتتحطم حياته، فصليب بلا مسيح يكسر القلب ويحطم النفس، بينما من يحمل صليبه متحدًا بالمسيح غالب الموت، يجوز الموت ويصل إلى القيامة منتصرًا ظافرًا، ولا قيامة ونصرة بدون المسيح، ولذلك قال: "إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ كُلَّ يَوْمٍ وَيَتْبَعْنِي" (لو 9: 23) الصليب كشركة مع المسيح المصلوب ربح وليس خسارة، حياة وليست موتًا، قيامة وليس هلاكًا، فرح وليس حزنًا وحسرة، بركة وليس لعنة، علوًا وارتفاعًا وليس انسحاقًا.

ويقول "متى هنري": "يجب أن نفضل خلاصنا وسعادة أنفسنا فوق كل اهتمامات دنيوية مهما كانت:

أ– ذاك الذي من أجل المحافظة على حريته أو أملاكه أو إنقاذ حياته ينكر المسيح والحقائق المتعلقة به لن يكون "غانمًا" بل خاسرًا إلى أبعد الحدود: "فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ" بناءً على هذه الشروط فإنه " يُهْلِكُهَا" بل سيفقد روحه الثمينة التي هيَ أكثر قيمة وبدرجة أسمى بكثير.

ب- علينا أن نؤمن إيمانًا راسخًا بأنه إذا ما فقدنا حياتنا من أجل تمسكنا بالمسيح، فإننا بذلك نخلصها لما فيه فائدتنا غير المحدودة، وسوف نستردها ثانية حياة جديدة وأبدية.

جـ- إذا ربحنا العالم كله وخسرنا المسيح فلن يكون هناك تعويض عن خسارتنا الأبدية لنفسنا وهلاكها... إذا فُرض أننا نستطيع أن نكسب كل ثروات العالم ومجده ومسرته عن طريق إنكار المسيح، فإننا إذا أقدمنا على ذلك لخسرنا أنفسنا إلى الأبد" (230).

 

3- لماذا اختلف البشيرون الثلاث في وصف تجلي السيد المسيح (مت 17: 2، مر 9: 2، 3، لو 9: 29)..؟ قال القديس متى: "وَتَغَيَّرَتْ هَيْئَتُهُ قُدَّامَهُمْ وَأَضَاءَ وَجْهُهُ كَالشَّمْسِ وَصَارَتْ ثِيَابُهُ بَيْضَاءَ كَالنُّورِ" (مت 17: 2).

وقال مارمرقس: "وَتَغَيَّرَتْ هَيْئَتُهُ قُدَّامَهُمْ. وَصَارَتْ ثِيَابُهُ تَلْمَعُ بَيْضَاءَ جِدًّا كَالثَّلْجِ لاَ يَقْدِرُ قَصَّارٌ عَلَى الأَرْضِ أَنْ يُبَيِّضَ مِثْلَ ذلِكَ" (مر 9: 2، 3).

وقال لوقا الإنجيلي: "صَارَتْ هَيْئَةُ وَجْهِهِ مُتَغَيِّرَةً وَلِبَاسُهُ مُبْيَضًّا لاَمِعًا" (لو 9: 29).

وهنا لا نجد تعارض بل اتفاق وتكامل، فكل من متى ومرقس اتفقا في ذات الوصف: "وَتَغَيَّرَتْ هَيْئَتُهُ قُدَّامَهُمْ"، وأوضح لوقا أن تغيُّر الهيئة ظهر في الوجه المُبارك لربنا يسوع المسيح، والمفردات اليونانية التي استخدمها تعيد للأذهان قصة موسى على الجبل وكيف أضاء وجهه (خر 34: 29، 30). ففي تجلي السيد المسيح صارت هيئة وجهه مُنيرة، فالمجد أشرق من داخله ولم يكن مُنفصلًا عنه. نبع هذا المجد من داخله ولم يأتِ له من الخارج، فالسيد المسيح هو بهاء مجد اللَّه الآب: "الَّذِي وَهُوَ بَهَاءُ مَجْدِهِ وَرَسْمُ جَوْهَرِهِ" (عب 1: 3)، عندما أظهر مجده لإشعياء النبي صرخ قائلًا: "وَيْلٌ لِي إِنِّي هَلَكْتُ... لأَنَّ عَيْنَيَّ قَدْ رَأَتَا الْمَلِكَ رَبَّ الْجُنُودِ" (إش 6: 5)، وعندما ظهر لدانيال النبي لم يضبط قوة (دا 10: 15-17)، رأى شاول الطرسوسي نوره العجيب فسقط على وجهه (أع 9: 3، 4). جاء في "دائرة المعارف الكتابية": "فيسوع بهاء مجد اللَّه. ومن بيت الأمجاد أتى، وإلى بيت الأمجاد سيعود. لذلك لا عجب أن يشرق عليه بهاء السماء في تلك الساعة التي إلتقت فيها الأرض بالسماء. زيادة على ذلك نقول، أن بهاء لاهوته، قد أشرق من خلال ستار الناسوت... يقول البشير متى: "وَتَغَيَّرَتْ هَيْئَتُهُ قُدَّامَهُمْ" والكلمة في الأصل في كل موضع وردتْ فيها في العهد الجديد تعني "تجلي" (راجع 2 كو 3: 18).." (231).

ويقول "الدكتور القس إبراهيم سعيد": "لنتأمل الوصف المثلث الذي يصف به البشيرون التجلي. ويقول متى: "وَتَغَيَّرَتْ هَيْئَتُهُ قُدَّامَهُمْ وَأَضَاءَ وَجْهُهُ كَالشَّمْسِ وَصَارَتْ ثِيَابُهُ بَيْضَاءَ كَالنُّورِ" ويقول مرقس: "وَصَارَتْ ثِيَابُهُ تَلْمَعُ بَيْضَاءَ جِدًّا كَالثَّلْجِ لاَ يَقْدِرُ قَصَّارٌ عَلَى الأَرْضِ أَنْ يُبَيِّضَ مِثْلَ ذلِكَ " ويقول لوقا: "صَارَتْ هَيْئَةُ وَجْهِهِ مُتَغَيِّرَةً وَلِبَاسُهُ مُبْيَضًّا لاَمِعًا ". وفي هذه الأوصاف وحدة متنوعة وتنوع موحد. يشبهه متى الإنجيلي بالنور، وشبهه مرقس بالثلج، ويصفه لوقا باللمعان ممثلًا إياه بالبرق. إذًا فقد جمع التجلي في أوصافه بين النور في ضيائه، والثلج في صفائه، والبرق في بهائه. فما كان أشد تعجب التلاميذ وإعجابهم برؤية سيدهم الممجد... الآن ينظرون المسيح المُمجَّد ووجهه يفيض بهذا اللمعان البهيج، الذي اضمحل أمامه بياض الثلج المنعكسة عليه أشعة النور" (232).

 

4- لماذا بطرس ويوحنا ويعقوب بالذات هم الذين شاهدوا التجلي، ولماذا موسى وإيليا هما اللذان ظهرا في وقت التجلي (لو 9: 28، 30)..؟ اختار السيد المسيح التلاميذ الثلاثة، وهو حر في اختياره، ولكن نستطيع أن نقول أن هؤلاء الثلاثة هم نواب عن التلاميذ الاثني عشر، وقد خصهم ببعض المواقف مثل إقامة ابنة يايرس، وكانوا أقرب التلاميذ إليه في صلاته في بستان جثسيماني. وإن كان بطرس يعبر عن الإيمان فإن يعقوب يعبر عن الأعمال، ويعبر يوحنا عن المحبة، والثلاثة يعبرون عن " الإِيمَانُ الْعَامِلُ بِالْمَحَبَّةِ" (غل 5: 6).

ولماذا موسى وإيليا هما اللذان ظهرا في وقت التجلي:

أ– يمثل موسى الناموس، ويمثل إيليا الأنبياء، فكل من الناموس والأنبياء يشهدان للسيد المسيح الذي إتهمه اليهود بأنه كسر الناموس، ولم يدركوا في شخص المسيح كما الناموس والنبوءات.

ب- يمثل موسى الأموات الذين رقدوا على رجاء القيامة، ويمثل إيليا الأحياء الذين لم يجوزوا الموت بعد، والسيد المسيح في مجيئه الثاني يجمع حوله الأحياء مع الأموات بعد قيامتهم.

جـ- يمثل موسى المتزوجين، ويمثل إيليا البتوليين.

د– كل من موسى وإيليا انفرد في البرية وصام أربعين يومًا.

هـ- قاوم موسى عناء وقسوة وتجبر فرعون ملك مصر، وقاوم إيليا ظلم آخاب ملك إسرائيل، وكل من فرعون وآخاب كان رمزًا للشيطان.

و– حظى موسى بلقاء اللَّه والحديث معه (خر 33: 18- 23)، وأيضًا إيليا (1 مل 19: 10- 13).

وتعليقًا على اختيار التلاميذ الثلاث والنبيين لينظروا التجلي، يقول "الدكتور القس إبراهيم سعيد": "هل وجد المسيح في هؤلاء الثلاثة قابلية تسع هذه الإعلانات المجيدة التي لا يسوغ للآخرين أن يطلعوا عليها، أم لأن المسيح كان يريد أن يضع عليهم في مستقبل الحياة مسئوليات خطيرة، لذلك زودهم بهذا الزاد الروحي ليكونوا أكثر استعدادًا لحملها؟ أم لأنهم كانوا في مقدمة المحتجين على صلب المسيح، وأرادهم أن يكونوا أول الموافقين؟ أم لأن المسيح كان قد أعد لهم صليبًا في أواخر أيامهم فقصد أن يجعل هذا التجلي ذخر مجد لهم قبل وقت آلامهم، فينير لبطرس طريق الألم يوم مات مصلوبًا منكس الرأس، وليعقوب يوم مات شهيدًا بيد هيرودس، وليوحنا يوم قضى منفيًا في جزيرة بطمس؟؟؟ أم أخذهم معه ليُهيئ للسماء والأرض فرصة لتقول كل منهما كلمتها للأخرى، فتقول الأرض مشيرة إلى التلاميذ: "هؤلاء رجالي"، وتقوم السماء مشيرة إلى ضيفيها: "هاذان رجلان من رجالي؟ ثم تهتف السماء والأرض معًا مشيرة إلى المسيح هوذا: "ابن الإنسان"..!

موسى وإيليا: الأول رجل الشريعة والثاني زعيم الأنبياء، والمسيح وسيط الطرفين هو "روح النبوة" و "غاية الناموس لكل من يؤمن". أتى موسى بالشريعة للشعب، وأتى إيليا بالشعب إلى الشريعة، والمسيح في الوسط نبع النعمة والحق. كلاهما انتهت حياته بطريقة عجيبة، صعد إيليا إلى السماء، ومات موسى على الجبل بطريقة خفيت عن الناس، وكل منهما مع المسيح صام أربعين يومًا. كم كان موسى سعيدًا في هذا الوقت على الجبل. أليست هذه أول مرة وطئت فيها قدماه أرض الموعد، التي سُمح له بأن يراها من بعيد من غير أن يدخلها..؟ وأمام شخص المسيح قد غُفرت خطيته. ومن يستطيع أن يصف شعوره عندما تملت عيناه برؤية هذا الشخص العجيب الذي سبق فتنبأ عنه قائلًا: "إن نبيًا مثلي سيقيم لكم الرب".. من يستطيع أن يصف لنا شعور إيليا الناري، عند إلتقائه بالمسيح الوديع الهادئ. أما إيليا النبي... كم كان سروره عظيمًا عندما رأى الحق مجسَّمًا؟

كان حديث إيليا وموسى أعجب من ظهورهما... كان يتكلمان عن "خروجه" الذي هو صليبه وقيامته. إذًا مركز المسيحية في صليب المسيح، وفي قيامته لا في تعاليمه (ومعجزاته). فقط موضوع حديثهما "خروجه" هذه الكلمة المُسمى بها السفر الثاني من توراة موسى "الخروج".."(233).

 

5- كيف تثقل بطرس ويوحنا ويعقوب بالنوم بينما السيد المسيح يتجلى بمجده أمامهم وفي حضور موسى وإيليا (لو 9: 32) وكيف يخافون والمسيح معهم (لو 9: 34)..؟ قبل أن يتجلى السيد المسيح بمجده، وقبل ظهور موسى وإيليا " اَللَّذَانِ ظَهَرَا بِمَجْدٍ" (لو 9: 31) كان السيد المسيح يصلي، وهذا ما انفرد به القديس لوقا: "وَصَعِدَ إِلَى جَبَل لِيُصَلِّيَ. وَفِيمَا هُوَ يُصَلِّي.." (لو 9: 28، 29)، ولعل صلاته طالت جدًا، فتثقل التلاميذ الثلاثة بالنوم، وبنومهم ضاعت عليهم فرصة ذهبية، وعندما استيقظوا لم يشهدوا سوى المشهد الأخير من التجلي: "فَلَمَّا اسْتَيْقَظُوا رَأَوْا مَجْدَهُ..، وَالرَّجُلَيْنِ الْوَاقِفَيْنِ مَعَهُ. وَفِيمَا هُمَا يُفَارِقَانِهِ.." (لو 9: 32، 33)، فلم يسعدوا بهذا اللقاء النوراني السمائي الروحاني سوى في لحظاته الأخيرة. لقد تثقل التلاميذ بالنوم بسبب الطبيعة البشرية الضعيفة، هذا من جانب، ومن جانب آخر أن السيد المسيح قبل منهم هذا الضعف فلم يبكتهم ولم يوبخهم ولا انتهرهم، هذا هو اللطف. وللأسف فإن المنظر يتكرَّر في بستان جثسيماني وابن اللَّه يصارع قوات الظلمة وتتصبَّب منه قطرات العرق كقطرات الدم، والسيد المسيح لم ينتهرهم، إنما عاتبهم قائلًا: "مَا قَدَرْتُمْ أَنْ تَسْهَرُوا مَعِي سَاعَةً وَاحِدَة؟" (مت 26: 40).. هذه هيَ الطبيعة البشرية الضعيفة التي لا تحتمل المجد في قمته ولا الألم في عمقه، فأمام هذا وذاك تتثقل بالنوم، وبسبب هذه الطبيعة البشرية الضعيفة خاف التلاميذ " وَلَمَّا سَمِعَ التَّلاَمِيذُ سَقَطُوا عَلى وُجُوهِهِمْ وَخَافوا جِدًّا" (مت 17: 6).. " فَخَافُوا عِنْدَمَا دَخَلُوا فِي السَّحَابَةِ" (لو 9: 34) لأنهم أحسوا أنهم دخلوا في الحضرة الإلهيَّة، فالسحاب علامة الحضور الإلهي، مثلما كان "عَمُودِ النَّارِ وَالسَّحَابِ" (خر 14: 24).. " وَهَدَاهُمْ بِالسَّحَابِ نَهَارًا وَاللَّيْلَ كُلَّهُ بِنورِ نَارٍ" (مز 78: 14).. " فَنَزَلَ الرَّبُّ فِي السَّحَابِ" (خر 34: 5) (راجع خر 33: 7-9، عد 9: 15-23، 12: 5-8، تث 31: 15، إش 4: 5). وأيضًا بسبب ضعف الطبيعة البشرية عجز التلاميذ عن طرد الروح النجس من الصبي (لو 9: 41)، وعجزوا عن فهم كلام السيد المسيح عن آلامه (لو 9: 45)، وبسبب الطبيعة البشرية الضعيفة راودهم فكر الكبرياء: "مَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ أَعْظَمَ فِيهِمْ" (لو 9: 46)، ومنع التلاميذ من يكرز بالمسيح ويخرج الشياطين بِاسمه لمجرد أنه لا يتبعهم (لو 9: 49).

ويعلق "القديس كيرلس الكبير" على موقف التلاميذ الأخير قائلًا: "هل لدغة الحسد أزعجت التلاميذ؟ هل هم يحسدون أولئك الذين أنعم عليهم؟ هل هم أدخلوا داخل نفوسهم شهوة رديئة جدًا ومكروهة جدًا من اللَّه؟ فهم يقولون: "رَأَيْنَا وَاحِدًا يُخْرِجُ الشَّيَاطِينَ بِاسْمِكَ فَمَنَعْنَاهُ". أخبرني، هل أنت تمنع واحدًا يزعج الشيطان بِاسم المسيح ويسحق الأرواح الشريرة..؟ كيف تمنع الذي بالمسيح يربح النصرة؟ يقول... نعم: "لأنه ليس يتبعنا" آه، ياللكلام الأعمى..! كل الذين يريدون أن يعملوا لمجد المسيح، هم معنا نحن الذين نحبه، وهم مكلَّلون بنعمته، وهذا قانون بالنسبة للكنائس مستمر حتى هذا اليوم، لأننا نكرّم فقط أولئك الذين يرفعون أيادي مقدَّسة، وبطهارة وبلا عيب ولا لوم، وينهرون الأرواح النجسة بِاسم المسيح وينقذون الجموع من أمراض متنوعة، لأننا نعلم أن المسيح هو الذي يعمل فيهم"(234).

_____

الحواشي والمراجع لهذه الصفحة هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت:

(227) ترجمة القس مكرم نجيب - تفسير العهد الجديد - إنجيل لوقا، ص157.

(228) شرح بشارة لوقا، ص230، 231.

(229) أورده القس أنجيلوس جرجس - يوميات مع كلمة الحياة، ص195.

(230) التفسير الكامل للكتاب المقدَّس جـ 1 العهد الجديد - الأناجيل الأربعة، ص442.

(231) دائرة المعارف الكتابية جـ 8 ص110، 111.

(232) شرح بشارة لوقا، ص239.

(233) شرح بشارة لوقا، ص240-242.

(234) ترجمة د. نصحي عبد الشهيد - تفسير إنجيل لوقا، ص267-269.


الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع

https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/586.html

تقصير الرابط:
tak.la/4tcg2rx