س462 *: ما هو علم "النقد النصي" Textual Criticism ؟ وما هيَ الخطوات التي يتبعها الناقد النصي في عمله؟ وهل كثرة المخطوطات تُعد عيبًا؟
ج: أولًا: علم النقد النصي Textual Criticism: هو فرع من علم "البيبلوجرافيا" Bibliography أي علم "نسخ الكتب" و"كتابة الكتب" وهو علم عُرِف مُنذ القرن الخامس قبل الميلاد، وهو علم يهتم بدراسة ووصف وتصنيف المخطوطات من جهة المؤلّف، وعنوان المخطوط، وتاريخ نساخته، والمادة التي أستخدمها الناسخ سواء ورق بردي أو رقوق أو ورق عادي، وفحص نوع الحبر الذي أستخدمه الناسخ، ويستخدم ميكروسكوب الليزر في تحديد ارتفاع وأعماق الحبر وزوايا القلم، كما يهتم هذا العلم بفحص نوع الخط المستخدم في نساخة المخطوط، وطبيعة الزخارف التي حواها... إلخ. (راجع مدارس النقد - عهد جديد - مقدمة (2) س 106).
وعلم "نقد النص" علم تجريدي يحكم على مدى موثوقية أي عمل كلاسيكي وصل إلينا عبر النساخة المتكررة، ولا يوجد أي أثر للنسخة الأم أي المخطوط الأول الذي كُتب بخط المؤلّف أي "الأتوجراف" Autograph، فهو علم تجريدي لا يرتبط بديانة معينة، إنما يرتبط بالمخطوطات القديمة سواء كانت أعمال أدبية أو تاريخية أو دينية، فعلم "النقد النصي" يهتم بالنص وكافة المعلومات المتعلقة به، وطريقة انتقاله منذ كتابته حتى وصل إلينا من مخطوطة إلى أخرى، ويدرس اللغة التي كُتب بها النص وأيضًا اللغات التي تُرجم إليها إذا كان له ترجمات مثل الكتاب المقدَّس، ويحدد النقد النصي عمر كل مخطوطة ويوصِّفها، ويقارن بينها، ويحدد القراءات المختلفة بين المخطوطات، ويحدد أخطاء النساخة ويصحّحها، ويحاول أن يصل بالنص إلى أقرب ما يمكن من الأصل، وعلم النقد النصي عندما يحدد موثوقية أي عمل كلاسيكي لا بمنحه أكثر من 99 % من الموثوقية، وهذه أعلى درجة من الموثوقية، ولا يأخذ أي عمل موثوقية 100% إلاَّ إذا كان المخطوط الأصلي الذي كتبه المؤلّف بيده، وقد حقَّق العهد الجديد أعلى نسبة موثوقية عن أي عمل أدبي آخر، فموثوقية العهد الجديد (4000) مرة من موثوقية أي عمل كلاسيكي آخر نظرًا للعدد المهول من مخطوطاته والذي يتعدى الخمسة والعشرين ألفًا، وقرب أقدمها من الأصل بفاصل زمني لا يُذكر. ومن المفروغ منه أننا لا يمكن أن نحمّل النص الأصلي أخطاء النساخة أو الترجمة، ولهذا وُجِد هذا العلم الخاص بالنقد النصي لمعالجة هذه المشاكل والكشف عن أصل النص ومقارنته وتخليصه من أي شوائب لصقت به حتى أن "ألفريد هاوزمان" في تعريفه للنقد النصي يقول عنه: "هو الفن والعلم المتعلق بتحديد أصح القراءات للنص".
ويقول "ترجليس": "موضوع النقد النصي هو إحضار أي عمل قديم، بقدر الإمكان، في الكلمات ذاتها والشكل الذي وضعه الكاتب بيده"
(An Account of the Printed Text of the Greek New Testament P174) (1).
ويقول "سوتير": " النقد النصي يهدف إلى إعادة الكلمات ذاتها التي للوثائق الأصلية التي بُليت، بالتمرين المعرفي والحكم المُدَّرب" (The text & canon of the NT P 3) (2).
وجاء في موسوعة "ويكبيديا الموسوعة الحرة": " النقد النصي هو فرع من الفيلولوجيا أو البيبلوجرافيا يهتم بالتعرُّف على أخطاء نصوص المخطوطات وإزالتها، تحوي المخطوطات القديمة عادة أخطاء أو تغييرات قام بها النسَّاخ الذين نسخوها باليد. يطلب الناقد النصي التعرف على أقرب نص للنص الأصلي أو النسخة القديمة أو أن نسخة أخرى وُجدت في الماضي" (3).
ويقول "بول ليتل": " أن فحص الأسفار وأصولها يُسمىَ علم نقد النص (Textual Criticism) وهو له علاقة بمدى موثوقية النص، أي كيف يمكن مقارنة النص الحالي مع الأصول، وما مدى دقة نسخ المخطوطات القديمة إلى أن وصلت إلينا الآن" (4).
ويقول "إدوارد ج. يونج": " النقد الأدنى. وهو أعظم ما أعان الكتاب المقدَّس وخدمه إذ اتجه إلى دراسة المخطوطات دراسة علمية دقيقة، ووزن اللغة، والآية الكتابية، وتاريخ المخطوطة وعمرها، وبحثها بحثًا علميًا دقيقًا" (5).
ويقول "القمص عبد المسيح بسيط": " النقد النصي Textual Criticism أو النقد الأدنى Lower Criticism هو الذي يبحث في الوثائق القديمة والنسخ العديدة المنقولة عن المخطوطات الأصلية سواء بلغتها الأصلية أو باللغات التي تُرجمت إليها، خاصة اليونانية واللاتينية والسريانية والقبطية، وذلك في عصور وأزمنة وبلدان وأمم مختلفة، للتأكد من صحة النصوص ومطابقتها أو الوصول بها إلى التطابق الكامل مع النصوص الأصلية كما دوَّنها كُتاب الوحي (The Revell Bible Dictionary P. 153) واستعادة الكلمات الصحيحة الأصلية في حالة ما إذا كان قد طرأ عليها تبديل أو تغيير بسبب عمليات النسخ اليدوي المتكرر على مر العصور والأزمنة في مختلف البلاد والقارات وذلك بواسطة كتبة (نسَّاخ) مختلفين في الفكر والثقافة والظروف... ومما يسهل هذه المهمة، نسبيًا، وجود آلاف المخطوطات (بخاصة العهد الجديد) التي ترجع أقدمها إلى زمن قريب نسبيًا من زمن المخطوطات الأصلية.." (6).
ويمتد عمل النقد النصي ليس لمخطوطات الأسفار المقدَّسة فقط، بل أنه يستعين بمخطوطات الكتب الكنيسة التي حوت أجزاء من الأسفار المقدَّسة، وأيضًا باقتباسات الآباء من هذه الأسفار، فجاء في "الموسوعة البريطانية": "عندما يفحص أحد العلماء بالمخطوطات والترجمات لا يكون قد أنهى دراسته لنصوص العهد الجديد، فإن كتابات آباء الكنيسة الأولين تُلقي مزيدًا من الضوء، لأن بها اقتباسات من العهد الجديد قد تختلف عن أحدى أو بعض المخطوطات الحالية، لأنها مأخوذة من مخطوطات أقدم لم تصل إلينا. وعلى هذا فإن شهادة هؤلاء الآباء للنص، وبخاصة عند تطابقه مع المصادر الأخرى يجب أن تضاف إلى ما عندنا من مراجع" (7).
← انظر باقي سلسلة كتب النقد الكتابي هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت للمؤلف.
ثانيًا: الخطوات التي يتبعها الناقد النص في عمله: على الناقد النصي أن يلتزم بمبادئ النقد الصحيح، فمن تعريف "النقد" كما علمنا أنه يعني الإدراك، والتميّيز، والتقييم، وإصدار الحكم. فالخطوات التي يجب أن يتبعها من يعمل في مجال النقد:
1- الإدراك: أن يدرك الناقد ويفهم ويعي النص، فلا بد أن يكون له دراية كاملة باللغة التي كُتب بها النص، والمعلومات المتعلقة بالنص، وأن يكون واسع الإدراك والثقافة، خبير بشئون عمله، يدرك المعنى اللغوي للنص، وأيضًا المعنى الرمزي والمعنى الروحي، فلديه قوة الإدراك وملكة التذوق.
2- التمييز: يكون للناقد القدرة على التمييز والإفراز بين ما هو صالح وما هو رديء، فكما علمنا أن النقد هو فن تمييز جيد الكلام من رديئة، وصالحه من فاسدة، مثلما يُميّز الإنسان بين الأوراق المالية الحقيقية التي لها قيمة، والزائفة التي لا تساوي شيئًا، مهما بلغت درجة التشابه بين هذه وتلك.
3- التقييم: أن يقيّم الناقد بعين فاحصة وقلب سليم النص محط الدراسة، بعد أن صار النص مكشوفًا أمامه، وكأنه مستكشف استطاع أن يكتشف أرضًا جديدة، فينير بصائرنا ويضعنا أمام جمال النص بمفرداته، فندرك ما بين السطور، ونضع أيديّنا على مواطن القوة والجمال والغنى والعمق، وتتكشف أمام أعيننا الجوانب الخفية، فنعيد قراءة النص بذكاء روحي وتقدير.
4- إصدار الحكم: أخيرًا يصدر الناقد النصي حكمه الصحيح بمدى موثوقية هذا النص، ويعطه النسبة المئوية التي تتلائم معه.
الأمر الشاذ أن الناقد المُغرِض يصدر حكمه مُسبَّقًا قبل أن يبدأ عمله، وبالتالي فأنه يصل إلى نتيجة بعيدة تمامًا عن الحقيقة، فربما يقع في التشهير والمسخ لأعمال عظيمة لم يأتِ التاريخ البشري بمثيل لها، مثل نصوص العهد الجديد، أو يقع في المدح والإطراء لأمور لا تستحق هذا، وقد صار هذا الناقد مثل إنسان معصوب العينين يريد أن يقود الآخرين إلى بر الأمان... عجبًا لناقد وضع في اعتقاده أن الكتاب المقدَّس هو كتاب مُحرَّف بسبب كثرة الاختلافات بين المخطوطات التي تُعد بالآلاف، وكأن كثرة المخطوطات لعمل معيَّن وهو ميزة عظيمة تظهر وكأنها صارت عيبًا، وكأن هذا الناقد لا يعرف أبجديات النقد النصي أنه كلما زادت عدد المخطوطات كلما زادت الخلافات بينها من جانب، ومن جانب آخر تسهل العمل للوصول للنص الأصلي، فأيهما أعظم مخطوطات هيروديت وأفلاطون وأرسطو التي تبلغ كل منها عشر مخطوطات كُتبت بعد كتابة الأصل بنحو ألف عام، ومع هذا فالجميع يثقون فيها، أم مخطوطات العهد الجديد التي فاق عددها خمسة وعشرين ألفًا، وأقدمها كُتب بعد الأصل بثلاثين عام أو أقل، ومع هذا راحوا يشككون فيها؟!!.. يقولون لك لا تفتخر أن لديك 25 ألف مخطوطة لأنها حوت 000 300 قراءة مختلفة بينها، ويدَّعون أن هذه القراءات المختلفة عن جهل أنها تحريفات، ويتجاهلون طريقة حساب القراءات المختلفة فربما اختلاف في حرف واحد يساوي 1000 قراءة مختلفة كما سنرى فيما بعد، وبعضهم يصرخ أن عدد الاختلافات فاق عدد كلمات العهد الجديد كله التي لم تتعدى 140 ألفًا، مما يترك انطباعًا لدى القارئ غير العارف بالأمور أن كل كلمة في العهد الجديد، حتى لو كانت تتكون من حرفين تحوي خطاءين أو أكثر، ويقولون أنه من ضرب المحال أن نصل للنص الأصلي للعهد الجديد. ويتجاهلون تمامًا أن العهد الجديد هو العمل الكلاسيكي الوحيد في العالم كله الذي حاز على نسبة موثوقية 99 %.
نحن لا ننكر أنه كان للنساخ أخطائهم سواء أخطاء عفوية ناتجة عن النظر أو السمع أو الذاكرة أو الهجاء أو الإجهاد والضعف البشري أو أخطاء مقصودة كمحاولة تصحيح ما ظنوه خطأ من ناسخ سابق، ونشكر ربنا أن علم النقد النصي قادر على التعامل مع هذه وتلك (راجع مدارس النقد - عهد جديد - مقدمة (2) س 114). وبينما يدَّعي النقَّاد المُغرِضين أن النسَّاخ كان كل منهم يكتب كما يحلو له وبما يوافق أهوائه وميوله اللاهوتية، وهذا حُكم ظالم لأن هؤلاء النساخ كانوا يقدّسون هذه النصوص وقد نسخوها بكل مهارة ودقة، وتميَّزوا بالنزاهة، وكان النسَّاخ المحترفين يستعينون بأكثر من مخطوطة في عملهم، وقد تعرضنا لهذا بالتفصيل، فيُرجى الرجوع إلى (مدارس النقد - عهد جديد - مقدمة (2) س 113، س 115).
ومن عجائب الأمور أن بعض النقَّاد الذين يحلمون بهدم ونقض الكتاب المقدَّس، وهم يجهلون أنه على صخرة هذا الكتاب تحطمت أقلام الفلاسفة والنقَّاد، وجبروت الملوك والأباطرة لأن اللَّه ساهر على كلمته ليجريها. مثل هؤلاء النقَّاد راحوا يدرسون اللغات القديمة التي كُتبت بها الأسفار المقدَّسة مثل العبرية واليونانية أو التي تُرجمت إليها الأسفار المقدَّسة مثل اللاتينية القديمة والسريانية... ولماذا فعلوا هكذا؟.. ليس لأجل أن يفهموا ويدركوا ويعوا النص، ويميزون، ويقيمون، ثم يصدرون حكمهم إنما فعلوا هذا ليستطيعوا أن يقرأوا النصوص قراءة حرفية سطحية وتصيُّد أي اختلافات في حرف أو كلمة أو عبارة، دون أن يدرسوا بنية النص، ودون استخدام القواميس المتخصصة في علم اللغة، ودون أن يتجردوا من هواهم الشخصي، فكل هدفهم ليس هو النقد بل النقض، وبالتالي جاءت دراستهم ليس هيَ بجادة ولا هيَ بمجدية. والحقيقة أنهم يُستأجرون برواتب مجزية بهدف التشويش على الإيمان المسيحي الذي يضم كل يوم مؤمنون جدد من أخوتهم وأبنائهم، فحملوا ميولًا خاطئة وأجهدوا أنفسهم في التدليل عليها وتصديقها ونشرها، وعشرات الفيديوهات على شبكة الأنترنت تشهد بهذا.
_____
* تمت الإجابة على (461) سؤالًا خلال الأجزاء الخمس السابقة من النقد الكتابي في العهد الجديد.
(1) أورده فادي أليكساندر - المدخل إلى علم النقد النصي للعهد الجديد ص 57.
(2) المرجع السابق ص 58.
(3) أورده فادي أليكساندر - المدخل إلى علم النقد النصي للعهد الجديد ص 58.
(4) ترجمة وجدي وهبه - لماذا أؤمن - إجابات منطقية عن الإيمان ص 88.
(5) ترجمة القس إيلياس مقار - أصالة الكتاب المقدَّس ص 10.
(6) الكتاب المقدَّس يتحدى نُقَّاده والقائلين بتحريفه ص 25، 26.
(7) أورده رأفت شوقي - دراسات كتابية في المدخل إلى العهد الجديد ج 3 ص 329.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/462.html
تقصير الرابط:
tak.la/2jt59np