س114 : هل كان لنسَّاخ العهد الجديد نوايا خبيثة فغيروا ما نسخوه عن قصد وأضافوا بعض الكلمات لتوضيح المعاني الغامضة، وتأثروا ببعض النصوص التي استخدمت في العبادات الليتورجية بعد إدخال بعض الزخارف عليها، وغيروا ما يعتمد عليه الهراطقة في بث أفكارهم، وأضافوا ما يؤيد عقيدتهم، وفكرهم اللاهوتي؟
يقول "بارت إيهرمان": "لم يكن أي من هذه النسخ دقيقة تمامًا بما أن بعض الناسخين الذين نسخوها غيَّروها عامدين، أو غير عامدين في بعض الأماكن. كل النُسَّاخ فعلوا ذلك. لذا فبدلًا من امتلاكنا للكلمات الموحى بها في المخطوطة الأصلية (أي النص الأصلي) للإنجيل، فإن ما لدينا هو النسخ المليئة بالأخطاء عن المخطوطات الأصلية"(829).
كما يقول "بارت إيهرمان": "لأن النسَّاخ الذين نسخوا النصوص (بسبب زلة قلم أو قلة في الانتباه) أو عن سابق تصميم (عندما يغير ناسخ كلمة ينسخها عن عمد). ولم يكن أي شخص يقرأ كتابًا في القديم واثقًا بالكامل أنه يقرأ ما كان الكاتب قد كتبه يمكن أن تكون الكلمات قد تغيرت في الواقع. إن هناك احتمالًا كبيرًا أن تكون قد تغيرت حتى ولو بشكل ضئيل"(830).
ويقول "ديفيد أ. ده سيلفا": "والأناجيل كسائر الكتب القديمة، كان يُعاد إنتاجها يدويًا، فكل كنيسة رغبت أن تحصل على إنجيل لوقا، كان لديها ناسخ ليقوم بهذا العمل (سواء كان مؤمنًا متمرسًا بالنسخ أو ناسخًا محترفًا) ليعيد إنتاج مخطوطة كلمة بعد أخرى. لم يخف النسَّاخ من "تحسين" النص إذا واجهوا مشكلة. سواء أكانت خطأ نحويًا أم أسلوبًا غير ملائم أم مفهومًا أو اقتباسًا يحتاج إلى شرح موجز، ولا عجب أننا نجد غالبًا محاولات من قِبل الكتَّاب (يقصد النسَّاخ) للتوفيق بين الأناجيل.
بما أن التقاليد الشفهية عن يسوع والأقوال المنسوبة له استمر حفظها واستخدامها في الكنيسة الأولى، حدث أحيانًا أن هذه التقاليد أثرت على نص الأناجيل، بينما حاول النسَّاخ أن يضمّنوا - بهدف حفظه من النسيان - قولًا منفردًا من أقوال يسوع أو حتى مقطعًا لم يتم تضمينه سابقًا في النص المكتوب، بل كان لا يزال يتداول به في التقليد الشفهي. هناك مخطوطة واحدة ترجع إلى القرن الخامس، ادخلت قولًا منفصلًا من أقوال يسوع إلى قصة الجدل حول فرك سنابل القمح يوم السبت (لو 6 : 1 - 5) "وفي اليوم ذاته، عندما رأى رجلًا يعمل في السبت، قال له: يا صاح إن كنت تفهم ما أنت تعمل فأنت محظوظ، ولكن إن كنت لا تفهم، فأنت ملعون وتكسر الناموس". من الواضح أن هذا القول ليس له ما يبرر وجوده أصلًا في نص لوقا الأصلي، ولكن وجد ناسخ ما أنه من المناسب إدخال قول تعلمه من التقليد الشفهي وأعتقد بالفعل أنه قول حقيقي وإقحامه في مكان مناسب في رواية الإنجيل، بهدف حفظه"(831).
ويقول "د. رويكد بن صالح التميمي النجدي": "إن القارئ للكتاب المقدَّس يضيق ذرعًا بالنص لصعوبة فهمه واستغلاق إدراكه. فهو نص مفكَّك غير منسَّق البتة لا يضبطه ضابط، ولا يحدَّده قانون فأول الصفحة منبت عن آخرها وذلك لأن الكلمات قد تغيرت استخداماتها بتغير ناسخيها. وذلك لأجل أن النص أُخضع لهوى النسَّاخ واستحساناتهم التي قد تعدلها وتغيرها أو حتى تحذفها فيما بعد، وذلك غفلة حينًا، وعمدًا أحيانًا. والمستنسخ عنه قد يغير ويبدل من الكلمات والتراكيب ما يتوافق مع ذائقته بغض النظر عن الأمانة العلمية في دقة النقل عمن سبقه. فما بالك عندما تتكرَّر هذه العملية عشرات المرات إن لم تكن مئات المرات. فلا شك أن النص المسكين سيكون في نهاية المطاف هو الضحية ولا شك، فلذلك فإن التفكك النصي وعدم الاتساق من أبرز مظاهر التحريف والتغيير المستمرين.
إن ما أدخله النسَّاخ على النص من التحريف والتبديل والزيادة والنقصان قد يكون مرجعه الخطأ أو النسيان أو الفهم الخاطئ أو قلة الفقه أو الاعتماد على الرأي الفردي الضيق أو قلة التركيز أو النكاية في الخصم وليًا لاعتناق النصوص أو تعمد التحريف والتدليس. لذا فإن كان هذا هو حال النص فمحال أن يستطيع أحد استرجاع أصوله. والنصوص المتوفرة الآن على الرغم من قدمها ما هيَ إلاَّ نصوص مثقلة بأنواع التبديل والتحريف والتغيير، فلا يُرجى برئها ولا الانتفاع منها"(832).
وجاء في مقدمة "الطبعة اليسوعية للعهد الجديد": "إن نُسَخ العهد الجديد التي وصلت إلينا ليست كلها واحدة. بل يمكن المرء أن يرى فيها فوارق مختلفة الأهمية، ولكن عددها كثير جدًا على كل حالٍ هناك طائفة من الفوارق لا تتناول سوى بعض قواعد الصرف والنحو أو الألفاظ أو ترتيب الكلام، ولكن هناك فوارق أخرى بين المخطوطات تتناول معنى فقرات برمتها.
واكتشاف مصدر هذه الفوارق ليس بالأمر العسير، فإن نص العهد الجديد قد نُسِخ ثم نُسِخ طوال قرون كثيرة بيد نسَّاخ صلاحهم للعمل متفاوت. وما من واحد منهم معصوم من مختلف الأخطاء التي تحول دون أن تتصف أي نسخة كانت مهما بُذل فيها من الجهد، بالموافقة التامة للمثال الذي أُخذت عنه. يُضاف إلى ذلك أن بعض النسَّاخ حاولوا أحيانًا، عن حسن نية، أن يصوّبوا ما جاء في مثالهم وبدا لهم أنه يحتوي أخطاء واضحة أو قلة دقة في التعبير اللاهوتي. وهكذا أدخلوا إلى النص قراءات جديدة تكاد أن تكون كلها خطأ. ثم يمكن أن يضاف إلى ذلك كله الآن الاستعمال لكثير من الفقرات من العهد الجديد في أثناء إقامة شعائر العبادة أدى أحيانًا كثيرة إلى إدخال زخارف غايتها تجميل الطقس أو إلى التوفيق بين نصوص مختلفة ساعدت على التلاوة بصوت عالٍ"(833).
ج: بالإضافة إلى ما ذُكر في إجابة السؤال السابق والذي يغطي بعض التساؤلات المطروحة، دعنا يا صديقي نضيف نقاط أخرى لاستكمال الإجابة على هذه الاعتراضات الرئيسية المطروحة، والتي يمكن حصرها في خمسة اعتراضات، هيَ:
3ـ قارئ الكتاب المقدَّس يضيق ذرعًا بالنص لصعوبة فهمه واستغلاق إدراكه، لأنه نص مفكَّك بلا ضابط.
4ـ تأثر الناسخ ببعض النصوص التي استخدمت في شعائر العبادة، وقد أضيف إليها بعض الزخارف اللفظية.
5ـ حذف النسَّاخ النصوص التي اعتمد عليها الهراطقة، أو أضافوا نصوصًا تثبت عقائدهم وفكرهم اللاهوتي.
والآن نجيب باختصار على هذه الاعتراضات:
تعليق: صوَّر النُقَّاد النسَّاخ وكأنهم يتأمرون على النصوص المقدَّسة، وكل منهم يتفنَّن في إفساد النص، وهذا أمر مجافٍ للحقيقة، لأنه لم يقم أي ناسخ بتغيير كلمة أو عبارة بهدف زعزعة حقيقة لاهوتية، أو لزرع فكر هرطوقي. ويقول "بارت إيهرمان": "من الخطأ الاعتقاد أن التغييرات الوحيدة كانت تصدر من نُسَّاخ ذوي أهواء شخصية في كلمات النص. من الواقع فإن معظم التغييرات الموجودة في المخطوطات المسيحية، زلات قلم أو لا مبالاة أحيانًا، إضافة غير مقصودة، كلمات تُهجَّأ بشكل خاطئ، أخطاء من نوع أو آخر، يمكن أن يكون النُسَّاخ غير أكفاء، ومن الضروري أن نتذكر أن معظم النُسَّاخ في القرون الأولى كانوا غير مدرّبين على هذا النوع من العمل... وحتى وقت لاحق بدأ من القرن الرابع والخامس عندما برز النُسَّاخ المسيحيون المحترفون ضمن الكنيسة، وحتى لاحقًا عندما كانت المخطوطات تُنسَخ من قِبل الرهبان المكرسين لهذا العمل في الأديرة... حتى النُسَّاخ الذين كانوا أكفاء ومدربين ويقظين يقترفون الأخطاء أحيانًا. فأحيانًا كما رأينا كانـوا يغيرون النص، لأنهم يظنون أنه يجب أن يغيَّر. ولم يكن ذلك لأسباب لاهوتية معينة فقط. لقد كان هناك أسباب أخرى ليقوم النسَّاخ بتغيير النص عامدين (عندما يظنون أن هناك خطأ ناسخ سابق).. فعندما كان النسَّاخ يقومون ببعض التعديلات عامدين كانت دوافعهم أحيانًا نقية كالثلج المتساقط، ولكن التغييرات قد تمت دون شك، وكلمات الكتاب الأصلية يمكن أن تتغير أو تضيع في النهاية كنتيجة لذلك"(834).
وإن كنا نأخذ بشهادة بارت إيهرمان بحسن نية النسَّاخ، إلاَّ أننا لا نوافقه أن بعض الكلمات الأصلية كان من الممكن أن تضيع، فما يجب التأكيد عليه أنه نتيجة كثرة عدد المخطوطات فإن كلمات الكتاب جميعها لم يُفقد منها شيء على الإطلاق. وأيضًا نؤكد أنه ليس جميع النسَّاخ في القرون الأولى كانوا غير أكفاء لسببين على الأقل، الأول: إن بعض النسَّاخ اليهود المحترفين والمدربين عندما آمنوا بالمسيحية لم يكفُّوا عن نساخة الأسفار المقدَّسة سواء الخاصة بالعهد الجديد أو العهد القديم، والسبب الثاني: أنه سريعًا ما انتشرت المسيحية في الإسكندرية حيث مكتبة الإسكندرية وعظماء النسَّاخ وبعضهم آمن بالمسيحية، فحافظوا على دقة النص كعادتهم، فمن المعروف أن "النص الإسكندري" يتميز بالدقة الكبيرة، وهذا ما شهد به "بارت إيهرمان" نفسه عندما قال: "في القرون الأولى للكنيسة فإن بعض الأماكن كانت لديها نسَّاخ أفضل من أماكن أخرى. وقد ميَّز الباحثون المعاصرون أن النسَّاخ في الإسكندرية ـ التي كانت مركزًا فكريًا هامًا في العالم القديم - كانوا أكثر تدقيقًا حتى في تلك القرون الأولى. ولذلك فقد حُفظت النصوص الكتابية الأولى في الإسكندرية في المسيحية بشكل نقي جدًا بواسطة نسَّاخ مسيحيين، متفانين وموهوبين"(835).
لقد كان هؤلاء النسَّاخ في منتهى الأمانة يتعاملون مع النصوص المقدَّسة بمخافة ومهابة وتوقير شديد، فينسخون ويراجعون ما نسخوه بدقة ويصححون ما يجب تصحيحه، لا يتغاضون عن حرف واحد، فقد وضعوا نصب أعينهم التحذير الإلهي: "إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَزِيدُ عَلَى هذَا يَزِيدُ اللهُ عَلَيْهِ الضَّرَبَاتِ الْمَكْتُوبَةَ فِي هذَا الْكِتَابِ. وَإِنْ كَانَ أَحَدٌ يَحْذِفُ مِنْ أَقْوَالِ كِتَابِ هذِهِ النُّبُوَّةِ يَحْذِفُ اللهُ نَصِيبَهُ مِنْ سِفْرِ الْحَيَاةِ وَمِنَ الْمَدِينَةِ الْمُقَدَّسَةِ وَمِنَ الْمَكْتُوبِ فِي هذَا الْكِتَابِ" (رؤ 22 : 18، 19).
ويجب أن لا نغفل خطأ التعميم الذي سقط فيه النُقَّاد، فاتهامهم الواضح والصريح بأن جميع نسَّاخ العهد الجديد غيروا النصوص عن عمد وخبث، هو إتهام مجحف بعيد عن الحقيقة، فما الذي يدفع بالناسخ إلى هذا العمل الشاق الذي يستلزم السهر الدؤوب إلاَّ محبته لله وكتابه المقدَّس..؟! فكيف يحب الناسخ الله ويهابه ويخافه ثم يغيّر ويبدّل ويحرّف في كلماته ويُخضِع النص لهواه..؟! من يصدق هذا الهراء. وهل هذا الناسخ هو حرُّ طليق يضيف ويحذف ويغيّر ويبدّل كما يحلو له..؟! ألا يعلم الناقد أنه كانت تجرى مراجعات قاسية على هذه المخطوطات بعد الانتهاء من نساختها وقبل إجازة استخدامها، فإذا وجد فيها عدد من الأخطاء تُحرق أو تُكفن في قماش من كتان وتُدفن في مكان يُدعى الجنيزة، ولعل الناقد لم يسمع عن جنيزة معبد ابن عزرا بمصر القديمة، فعند هدم المعبد وتجديده سنة 1890م عُثر على جنيزة (وهيَ مكان إخفاء أو تخزين الأسفار المقدَّسة التي لم يتم إجازتها) يرجع تاريخها إلى سنة 882 م يحوي عشرة آلاف مخطوطة لأسفار العهد القديم، يرجع تاريخها من القرن السادس وحتى القرن التاسع، وتشمل مخطوطات تعرَّضت للتلف أو مخطوطات لم يصرح استخدامها نظرًا لما حوَته من أخطاء في النساخة.
وكان التدقيق من أهم مؤهلات الناسخ، وكان الناسخ يخشى أن يأتي بعده ناسخ آخر فيغير في المخطوطة، لذلك صب لعناته على من يفعل هذا، وعندما ترجم "روفينوس" أحد أعمال "أوريجانوس" كتب في نهاية المخطوطة: "في حضرة الله الحقيقي، الآب والابن والروح القدس، أستحلف كل شخص يمكن أن يقرأ أو ينقل هذه الكتب بإيمانه بالمملكة الآتية وسر القيامة من الموتى وبالنار الأبدية المُعدّة للشيطان وملائكته، ولكي لا يحصل على ميراث أبدي في ذلك المكان حيث البكاء وحريف الأسنان وحيث لا تنطفئ النار ولا تموت الأرواح، أن لا يضيف شيئًا لما كُتِب وأن لا يأخذ شيئًا منه وأن لا يقوم بأي إدخال أو تعديل ولكن يقارن ما نقله مع النُسخ التي نقلها منه"(836).
تعليق: نحن لا نخشى هذه الاختلافات، ولا ندَّعي عصمة الذين نسخوا الأسفار المقدَّسة على مدار العصور، إنما نؤمن بعصمة الأسفار المقدَّسة في أصولها، أما جميع المخطوطات وجميع الترجمات فإننا نخضعها للبحث العلمي، وجاء فــي "دائـرة المعارف الكتابية": "أنماط من الاختلافات: كان الناسخون سببًا في وقوع أنواع من الاختلافات في مخطوطات العهد الجديد يمكن تصنيفها كالآتي:
(1) اختلافات عفوية: (أو من غير عمد) أو أقل تكرارًا، وتشمل هذه الاختلافات العفوية أخطاء النظر والسمع والذاكرة والكتابة والاجتهاد.
أما أخطاء النظر فتشمل الالتباس بين الحروف المتشابهة وبخاصة في الكتابة بالحروف الكبيرة المنفصلة، أو الخلط بين أحد الاختصارات وكلمة معينة قريبة الشبه به، وقد تنتقل عين الناسخ من كلمة إلى الكلمة نفسها ولكن في موضع لاحق فيُسقط بذلك الكلمات المتوسطة بينهما. وقد يقرأ الكلمة الواحدة أو العبارة الواحدة مرتين، أو قد يخلط بين كلمتين متقاربتين في الحروف.
وقد تنشأ أخطاء السمع عندما تكتب جماعة من النسَّاخ المخطوطات عن طريق الإملاء، وبخاصة لتشابه بعض الحروف في نطقها، كما قد يخطئ الناسخ في هجاء بعض الكلمات.
أما أخطاء الذاكرة فقد ينتج عنها تغيير موضع الكلمة في الجملة، أو استبدال كلمة بما يرادفها، أو أن تدخل كلمة أو عبارة عفوًا نقلًا عن فقرة مماثلة تحويها الذاكرة.
أما أخطاء الكتابة فقد تشمل إضافة أو حذف حرف أو عدة حروف أو حذف علامات الاختصار، أو تكرار كلمة أو عبارة أو حرف.
أما أخطاء الاجتهاد ـ بالإضافة إلى الأخطاء السابقة - فقد تدفع الناسخ إلى تسجيل ملحوظة هامشية باعتبارها جزءًا من النص نفسه، ويجد البعض في هذا تفسيرًا لما ورد في إنجيل يوحنا (5 : 3، 4) عن تحريك الماء، حيث يغلب أنها كانت عبارة هامشية أدخلها الناسخ في النص.
(2) اختلافات مقصودة: وقعت هذه الاختلافات المقصودة نتيجة لمحاولة النسَّاخ تصويب ما حسبوه خطأ، أو لزيادة إيضاح النص أو لتدعيم رأي لاهوتي. ولكن - في الحقيقة - ليس هناك أي دليل على أن كاتبًا ما قد تعمّد إضعاف أو زعزعة عقيدة لاهوتية أو إدخال فكر هرطوقي.
ولعل أبرز تغيير مقصود هو محاولة التوفيق بين الروايات المتناظرة في الأناجيل. وهناك مثالان لذلك: فالصورة المختصرة للصلاة الربانية في إنجيل لوقا (لو 11 : 2 - 4) قد أطالها بعض النسَّاخ لتتفق مع الصورة المطوّلة للصلاة الربانية في إنجيل متى (مت 6 : 9 - 13). كما حدث نفس الشيء في حديث الرب يسوع مع الرجل الغني في إنجيل متى (مت 19 : 16، 17) فقد أطالها بعض النسَّاخ لتتفق مع ما يناظرها في إنجيل لوقا ومرقس.
وفي قصة الابن الضال في إنجيل لوقا (لو 15 : 11 - 32) نجد أنه رجع إلى نفسه وقرر أن يقول لأبيه: "اِجْعَلْنِي كَأَحَدِ أَجْرَاكَ" (لو 15 : 19) فأضاف بعض النسَّاخ هذه العبارة إلى حديث الابن لأبيه في العدد الحادي والعشرين"(837).
تعليق: مَن يطالع الأناجيل يدرك مـدى سهولتها، وترابطها، وتماسكها، وتناسقها، وجمالها، والمعاني العميقة التي تخفيها تلك الكلمات المقدَّسة، يفهمها الأطفال ويحار في بساطتها وحكمتها الفلاسفة والعلماء... أنها كلمات السيد المسيح كلمة الله، أنها روح وحياة، ونور وضياء، لها فاعليتها في النفس البشرية، وهكذا أيضًا الرسائل الجامعة، ولا ننكر أن رسائل بولس الرسول فيها بعض الأمور عسرة الفهم، ولكن روح الله كشفها لنا من خلال تفسيرات الآباء، وهذه الأمور نسبتها ضئيلة جدًا جدًا، أم الغالبية الساحقة من أقوال بولس الرسول فيلسوف المسيحية فهيَ كلمات مفهومة ومُدرَكة، وكان على "رويكد بن صالح" أن يضع النصوص الإنجيلية مقابل النصوص القرآنية ويقارن أيهما أسهل وأيسر استيعابًا، وأيهما أكثر ترابطًا وتسلسلًا وتماسكًا، وأيهما أسرع في سكنى القلب والفؤاد... لو فعل هذا ما كان يتهم العهد الجديد بمثل هذا الاتهام، ولو ترجم النصوص الإنجيلية والنصوص القرآنية وقارن بين الترجمتين لأدرك الحقيقة وعرف أن قارئ الكتاب المقدَّس لا يجد صعوبة قط لقراءة الإنجيل بلغته اليونانية أو بأي لغة من لغات العالم، ونشكر الله أن الكتاب المقدَّس تُرجم إلى معظم لغات ولهجات العالم التي قاربت الألفين، حتى الناس البدائيين الذين كانوا يتكلّمون لغة لم تُكتَب ذهب إليهم المبشرون واستحدثوا كتابة لغات عديدة لم تُكتَب من قبل، وترجموا لها الأسفار المقدَّسة وجميع الذين آمنوا بالإنجيل استنارت حياتهم وانقلبت وحشيتهم وشراستهم إلى حياة الطيبة والوداعة والتواضع والحُب، ووضعوا أقدامهم على طريق الرقي والتقدم... ألا يذكر "رويكد بن صالح" أن "جوهان جوتنبرج" الذي اخترع آلة الطباعة، قد اخترعها بالأكثر من أجل طباعة الكتاب المقدَّس والحفاظ عليه، والعمل على نشره..؟! وعندما يرى "رويكد بن صالح" المطابع تنتج له ملايين النسخ من القرآن... ألا يشعر أنه مدين بالفضل للإنجيل المقدَّس، الذي دفعت محبته "جوهـان جوتنبرج" لاختراع آلة الطباعة؟!
تعليق: لا يستطيع الناقد أن يجزم بأن:
أ - جميع كنائس العالم قد أدخلت زخارف لفظية للنصوص الإنجيلية التي استخدمتها في العبادة.
ب - جميع النسَّاخ تأثروا بهذه الزخارف لدرجة أنهم فقدوا التمييز بين ما يرونه بأعينهم وينقلونه بأيديهم، وبين ما هو محفوظ في ذاكرتهم يتعبدون به.
جـ - جميع النسَّاخ غلَّبوا العاطفة على الأمانة العلمية، فكتبوا في نسخهم ما هو ليس مكتوبًا في النسخ التي ينقلون منها حرفًا حرفًا وكلمة كلمة وعبارة عبارة.
د - جميع الذين قرأوا النُسخ القديمة والجديدة لم يلاحظ أحد منهم هذه الإضافات ويحتج عليها ويُبصّر الآخرين بها.
والمثل الذي ساقه "ديفيد أ. ده سيلفا" أوضح أنه حدث في نسخة واحدة ترجع إلى القرن الخامس، ولم يشر لا من قريب ولا من بعيد أن هذا وباء تفشّى بين النسَّاخ، بل أن الذين نسخوا من هذه النسخة لابد أنهم استدركوا هذه الإضافة وأسقطوها، ولا سيما أنها لا تتمشى مع روح المسيح، فلم نسمعه قط يلعــن إنسانًا، فالإضافة التي أضافها هذا الناسخ "يا صاح إن كنت تفهم ما أنت تعمل فأنت محظوظ، ولكن إن كنت لا تفهم فأنت ملعون وتكسر الناموس"، فهيَ ليست أسلوب المسيح قط، ولعلها كانت ملحوظة هامشية أضافها أحد النسَّاخ، فأدخلها الناسخ عن سهو إلى متن النص، ولم تتكرَّر مثل هذه الحادثة في هذا الموضع وبهذه الصورة ثانية قط... فهذه إضافة مكشوفة في ضوء عشرات بل مئات بل ألوف المخطوطات الأخرى.
تعليق: هذه الاتهامات الموجهة للنسَّاخ ليست حديثة، لكنها وُجِهت لهم من قِبل الهراطقة منذ القدم، فمثلًا يقول "ديفيد أ. ده سيلفا": "انتقد سيلسوس Celsus المسيحيين بتغيّر نص كتاباتهم المقدَّسة (إشارة للأناجيل) في كل مرة واجهوا فيها نقدًا، لكي يتمكنوا من إنكار الصعوبات"(838)، وقال "كليسوس" الوثني: "يذهب بعض المؤمنين (المسيحيين) لو أنهم (وكأنهم) في نوبة شرب إلى أبعد ما يمكن ويعارضون أنفسهم ويغيرون النصوص الأصلية للأناجيل ثلاث أو أربع أو عدة مرات ويغيرون من شخصيته ليمكنوا أنفسهم من إنكار صعوبات في وجه النقد"(839).. وهذا إتهام غير صحيح، فقد كان "أريوس" من أخطر هراطقة عصره، وتبعه "مقدونيوس" و"نسطور" وكثيرين، وتصدّى لهم آباء الكنيسة مثل: "أثناسيوس الرسولي" و"كيرلس عمود الدين" وغيرهما، ولم يشكّك هؤلاء الهراطقة قط في النصوص المكتوبة، إنما شكَّكوا في تفسير هذه النصوص، وجميع النصوص التي اعتمد عليها أريوس ومقدونيوس ونسطور ما زالت موجودة، لم يجرؤ أحد أن يحذف منها شيئًا، والدفاع عن العقيدة ليس هو قضية النسَّاخ بقدر ما هو مسئولية آباء الكنيسة، والطريق لم يكن بحذف نصوص وإضافة نصوص أخرى، لأن الآباء الذين قدَّسوا تلك النصوص وتمسّكوا بكل حرف منها من المستحيل أن يكونوا قد تلاعبوا بها، بل كانت لديهم أقلامهم كسيوف قاطعة تقطع لسان الهرطقات.
وأيضًا عندما قام "تاتيان" بحل مشكلة الأناجيل الأربعة بحسب تصوُّره وللرد على الهراطقة، فكوَّن منها إنجيلًا واحدًا دعاه الدياتسرون أي "الرباعي"، إنجيلًا متناغمًا بدون أية تناقضات ظاهرية، وظن بهذا أنه قضى على اتهامات الهراطقة وهجومهـم على النصوص، ولكنه فوجئ أن الكنيسة ترفض إنجيله هذا وتتمسك بالأناجيل الأربعة على ما يبدو بها من تناقضات ظاهرية، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. ويقول "ديفيد أ. ده سيلفا": " وقدم تاتيان Tatian عام 172م حله لمشكلة الأناجيل الأربعة، بحبكة الأربعة في سرد واحد متناغم، دعاه الدياتسرون Diatessoron أو اتفاق البشائر "عبر الأربعة". كان تاتيان قلقًا حيال الهجومات على صدقية الإيمان المسيحي، التي شنها أشخاص من الخارج على أساس التناقضات بين الأناجيل، كان معلمه يوستينوس الشهيد يميل للتعامل مع هذه الانتقادات بتوفيق سرد الحقائق بين الأناجيل المتشابهة النظــرة، عندمـا كان يقتبس من التقليد الشفهي"(840).
وقال البعض أن أوريجانوس في رده على كليسوس لم ينفي تهمة الاختلافات بين المخطوطات، بل قال: "إن الاختلافات بين المخطوطات قد أصبحت كبيرة. إما بسبب إهمال بعض النساخ، أو بسبب التهوُّد الجامح لآخرين. فإما أن يهملوا تدقيق ما نقلوه. أو في أثناء عملية التدقيق يقومون بإضافات أو حذف ما يرغبون"(841) وتجاهل هؤلاء النُقَّاد أن أوريجانوس تكلم أيضًا عن ضبط المخطوطات، فيقــول "الشماس الدكتور أميل ماهر": "وقد أظهر "باك" Pack في دراساته عن طريقة أوريجانوس في مقارنة النصوص الكتابية أن أوريجانوس يُرجِع الفروق في القراءات إلى أسباب أربعة هيَ:
1ــ أخطاء أثناء عملية النقل بالنساخة نتيجة انخفاض درجة التركيز عند الناسخ في بعض الأحيان.
2ــ النسخ التي يُتلفها الهراطقة عمدًا ببث أفكارهم فيها أثناء النساخة.
3ــ التعديلات التي يجريها بعض النسَّاخ عن وعي وبشيء من الاندفاع بهدف تصحيح ما يرون أنه أخطاء وقعت من نسَّاخ سابقين أو اختلاف عن القراءة التي اعتادوا سماعها.
4ـــ تعديلات بهدف توضيح المعنى المقصود في العبارة.
والتوصل إلى الاختيار الصحيح للقراءات الصحيحة يبدو أنه في رأي أوريجانوس مؤسَّس على الآتي:
1ـــ التوافق مع العقائد الإيمانية.
2ـــ صحة المعلومات الجغرافية.
3ـــ التناسب والانسجام مع غيره من النصوص.
4ـــ الأصول الاشتقاقية اللغوية.
5ـــ إجماع غالبية المخطوطات المعروفة لديه.
وهذا الاختيار تحكمه ضوابط أساسية هيَ: المعنى الذي يقتضيه سياق النص ويرجّحه، والتناغم، وتقليد الكنيسة.
ذلك لأن مفهوم أوريجانوس للأسفار المقدَّسة مؤسَّس على ثلاثة اعتقادات إيمانية كبرى، هيَ أن:
1ـــ تقليد الكنيسة هو الإطار الذي يلزم أن يتم بداخله كل تعليم وعقيدة ونشاط.
2ـــ الأسفار المقدَّسة هيَ وحدة واحدة لها نور الله بالتساوي في كلا العهدين القديم والجديد.
3ـــ كل أسفار الكتاب موحى بها، سواء في ذلك أي جزء منها يبدو هامًا للقارئ أو لا يبدو كذلك. فكلها هامة ويلزم أن تُفسَّر بصــورة لا تتنافـى مع كرامتها الإلهيَّة. (Parvis in IDB vol. IV, P. 603) وفي نفس معنى العبارة الأخيرة يقول أوريجانوس (على إرميا، عظة 39 = الفيلوكاليا 10): "أتمسك بأن كل حرف عجيب في أقوال الله له مفاعيله. لا يوجد حرف يوضة واحد أو نقطة مكتوبة في الكتاب عند أولئك الذين يعرفون كيف يستخدمون قوة الكتب لا تصنع عملها المناسب. إنها مثل حالة الأعشاب، كل واحد له قوته، سواء لصحة الجسد أو لغرض ما آخر... فإن الإنسان القديس هو من قبيل خبير الأعشاب الروحي ينتقي من الأسفار المقدَّسة كل يوضة وكل اتفاق حرف، مكتشفًا قوة الحرف والغرض الذي من أجله هو مستعمل، وأن لا شيء مكتوبًا يكون خاليًا من المعنى"(842).
_____
(829) المرجع السابق ص 12.
(830) المرجع السابق ص 64.
(833) الكتاب المقدَّس - العهد الجديد - طبعة دار المشرق - بيروت سنة 1991م ص 12، 13 .
(834) ترجمة فادي مرعشلي - الاقتباس الخاطئ عن المسيح ص 74، 75.
(835) ترجمة فادي مرعشلي - الاقتباس الخاطئ عن المسيح ص 96.
(836) أورده بارت إيهرمان ـ ترجمة فادي مرعشلي - الاقتباس الخاطئ عن المسيح ص 74.
(837) دائرة المعارف الكتابية جـ 3 ص 294، 295.
(838) مقدمة للعهد الجديد ص 237.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/114.html
تقصير الرابط:
tak.la/2kqsk7m