St-Takla.org  >   books  >   helmy-elkommos  >   biblical-criticism  >   new-testament
 

مكتبة الكتب المسيحية | كتب قبطية | المكتبة القبطية الأرثوذكسية

كتاب النقد الكتابي: مدارس النقد والتشكيك والرد عليها (العهد الجديد من الكتاب المقدس) - أ. حلمي القمص يعقوب

115- هل صوَّب النسَّاخ ما قد احتسبوه خطأ، أو ما رأوه أنه أسلوب غير ملائم، معتمدين على رأيهم الفردي وفهمهم الضيق، حتى تراكمت الأخطاء على مدار نحو 1400 عام، فلا تجد نسختين متطابقتين، وبذلك وصل النص للمطبعة مثقَّلًا بمختلف ألوان التبديل والتحريف؟

 

س115 : هل صوَّب النسَّاخ ما قد احتسبوه خطأ، أو ما رأوه أنه أسلوب غير ملائم، معتمدين على رأيهم الفردي وفهمهم الضيق، حتى تراكمت الأخطاء على مدار نحو 1400 عام، فلا تجد نسختين متطابقتين، وبذلك وصل النص للمطبعة مثقَّلًا بمختلف ألوان التبديل والتحريف؟

 يقول "لواء أحمد عبد الوهاب" : "نصوص العهد الجديد:

ــ إن نص العهد الجديد قد نُسِخ ثم نُسِخ طوال قرون كثيرة بيد نسَّاخ صلاحهم للعمل متفاوت. وما من واحد منهم معصوم من مختلف الأخطاء.

ـــ إن ما أدخله النسَّاخ من التبديل على مرّ القرون تراكم بعضـه على بعضه الآخَر، فكان النص الذي وصل آخر الآمر إلى عهد الطباعة مثقَّلًا بمختلف ألوان التبديل التي ظهرت في عدد كبير من القراءات.

ــ كان الآباء، لسوء طالعنا، يستشهدون في أغلب الأحيان عن ظهر قلبهم (من الذاكرة) ومن غير أن يراعوا الدقة مراعاة كبيرة، فلا يمكننا والحالة هذه الوثوق التام فيما ينقلون إلينا.

ــ لا يرجى في حال من الأحوال الوصول إلى الأصل نفسه"(843).

 وجاء في مقدمة "الطبعة اليسوعية للكتاب المقدَّس" أيضًا: "يضاف إلى ذلك أن بعض النُسَّاخ حاولوا أحيانًا، عن حسن نية، أن يصوّبوا ما جاء في مثالهم وبدا لهم أنه يحتوي أخطاء واضحة أو قلة دقة في التعبير اللاهوتي. وهكذا أدخلوا إلى النص قراءات جديدة تكاد أن تكون كلها خطأ"(844).

 ويقول "علاء أبو بكر" ضمن س290 :

 " 6ــ والنقطة السادسة والحاسمة أنه بين كل هذه المخطوطات اليدوية لا توجد مخطوطة واحدة (!!) تتفق مع الأخرى، ويقول القس شورر عن هذا (صفحة 104) إن هذه المخطوطات تحتوي أكثر من (50000) اختلاف (انحراف وحياد عن الأصل)، ويذكر البعض الآخر (150000)، ويحدّدهـا بولشر من (50000 إلى 100000)، بل أن عدد الأخطاء التي تحتويها المخطوطات اليدوية أنه لا توجد صفحة واحدة من صفحات الأناجيل المختلفة لا يحتوي "نصها الأصلي" على العديد من الاختلافات (ص 39).

  وفي بحث لاهوتي نشرته صحيفة Tagesanzeiger لمدينة زيورخ السويسرية بتاريخ 18/2/1972م ذكر فيه وجود ربع مليون اختلاف.

 إلاَّ أن الموسوعة الواقعية Realenzyklopadie تذكر أكثر من ذلك فتقرر أن كل جملة تحتويها المخطوطات اليدوية تشير إلى تغييرات متعددة...

 وكذلك يذكر كل من نستل ودوبشوتس فـي كتابيهما "اختلافات مربكة في النصوص" (ص 42)، ويؤكده أيضًا في موسوعة الكتاب المقدَّس (الجزء الرابع ص 4993).

 7ــ لا تشير المخطوطات اليدوية للكتاب المقدَّس والتي يُطلَق عليها "النصوص الأصلية" فقط إلى عدد لا يُحصى من الاختلافات ولكن أيضًا إلى ظهور العديد من الأخطاء بمرور الزمن وعلى الأخص أخطاء النقل (وأخطاء الرؤية والسمع والكثير من الأخطاء الأخرى). الأمر الذي يفوق في أهميته ما سبق"(845).

St-Takla.org                     Divider of Saint TaklaHaymanot's website فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

 ج : 1ـــ نعم ما ذكره "لواء أحمد عبد الوهاب" تحت عنوان ما قاله آباء الكنيسة في كتابهم المقدَّس جاء بالنص في مقدمة الطبعة اليسوعية للكتاب المقدَّس - العهد الجديد - طبعة دار المشرق - بيروت سنة 1991م ص 12، 13، وهذه المقدمة ليست نصًا من النصوص المقدَّسة، إنما هيَ آراء سجلها الذين قاموا بطباعة هذه الترجمة، وأشاروا في بدايتها أنها مستوحاة من مقدمة الترجمة الفرنسية المسكونية للكتاب المقدَّس، وبالتالي فهيَ ليست لزامًا علينا أن نأخذ بها، فلا تؤخذ حجة علينا، بل هيَ تنسحب على كتَّابها. ونحن لا ننفي وجود اختلافات في النساخة مهما كانت أمانة النسَّاخ وصدق نواياهم، بسبب الضعفات البشرية. ونحن ندرك تمامًا أنه كان هناك تراكمات مع تكرار النساخة، فالنسخة التي تُنسخ تقع بها بعض الاختلافات عن النسخة المنقول منها، بالإضافة للاختلافات التي حملتها النسخة المنقول منها عند نساختها، وهكذا تتراكم الاختلافات، ومما ساعد على هذا أنه في القرون الأولى التي عانى فيها المسيحيون من اضطهادات مُرة لم تكن هناك فرص متاحة لمقارنة المخطوطات معًا، وقال "نورمان جيسلر": "العديد من هذه النسخ المنسوخة كانت تُنسخ على عجل بسبب تعرّض النُسَّاخ لخطر الاضطهاد إذا ما اعتقلوا. وهكذا ظهرت نسخ بغير حرفية نسخية"(846).

 ولكن بعد أن تمتّع المسيحيون بحرية العبادة على يد الإمبراطور قسطنطين لم يكن هناك حاجة لإخفاء الأسفار المقدَّسة أو التعجُّل في نساختها، وبذلك حدثت مقارنات سواء عن قصد أو بدون قصد، وعُرفت جميع مواضع الاختلافات، وتقاربت المخطوطات جدًا، ولا سيما أن الغالبية العظمى من هذه الاختلافات هيَ اختلافات هامشية، ولا واحدة منها تؤثر في أقل عقيدة مسيحية، ولذلك لا يجب المغالاة في أهمية هذه الاختلافات، فقد أمكن ضبطها إلى حد كبير جدًا، وصار هناك نُسَّاخ متخصصون ذو مهارة فائقة فقاموا بهذا العمل المقدَّس خير قيام، وصوَّبوا الأخطاء النحوية، ودرسوا الاختلافات وضبطوهــا، ونشكر الله أن 90 % من بين أيدينا من مخطوطات الآن يرجع لتلك الفترة، فترة النص الموحّد منذ القرن الرابع، وما بعده. إذًا الأمر لم يكن كما صوَّره بعض النُقَّاد، بأن الناسخ كان يملك الحرية لدرجة تغيير النصوص كما شاء، دون التقيُّد بقواعد النساخة، والحفاظ على الأمانة العلمية، فهذا الأمر لم يحدث على الإطلاق إلاَّ في خيال النُقَّاد، ولو كان لكل ناسخ الحرية في تغيير النص لوقفنا الآن أمام تناقضات جوهرية حقيقية صارخة في المخطوطات، ولرأينا الشيء ونقيضه، فمثلًا تارة تخبرنا بعض المخطوطات بأن ولادة المسيح ولادة معجزية بدون زرع بشر، وتارة تخبرنا مخطوطات أخرى بأن المسيح وُلِد ولادة عادية... هل يجد أحد مثل هذا التناقض؟! كلاَّ... تخبرنا جميع المخطوطات عن الإيمان المسيحي بأن السيد المسيح صنع المعجزات، وصُلب، ومات، ودُفن، وقام، وصعد للسماء، وأنه سيأتي ثانية ليدين الأحياء والأموات، ويأخذ الأمناء للملكوت، ويعاقب الخطاة الأثمة بالنار الأبدية، وهوذا المخطوطات بالآلاف وفي متناول يد الباحثين، فهل يجد أي باحث في أية مخطوطة ما يخالـف أي عقيدة مما ذكرنا..؟! كلاَّ، وألف كلاَّ... فلماذا يسوّد هؤلاء النُقَّاد الصورة، ويصوّرون المخطوطات كأنها منبع الفساد والضلال؟!

 

2ـــ الاختلافات التي وقعت في المخطوطات يمكن تقسيمها إلى أربعة أنواع:

أولًا : اختلافات في الهجاء وأخطاء ليس لها معنى.

ثانيًا : اختلافات ثانوية لا تؤثر في المعنى.

ثالثًا : اختلافات تؤثر في معنى النص وغير قابلة للتطبيق.

رابعًا : اختلافات تؤثر في معنى النص وقابلة للتطبيق.

 

St-Takla.org Image: The Holy Bible book cover, with golden edges. صورة في موقع الأنبا تكلا: غلاف الكتاب المقدس، مع حواف ذهبية.

St-Takla.org Image: The Holy Bible book cover, with golden edges.

صورة في موقع الأنبا تكلا: غلاف الكتاب المقدس، مع حواف ذهبية.

أولًا: اختلافات في الهجاء وأخطاء ليس لها معنى:

ومن أمثلة ذلك:

 (1) قد يأتي في الاسم حرف متكرر، فمثلًا اسم يوحنا في اليونانية "يؤانس" يمكن أن يُكتَب بنون واحدة "Ιωανες" ويمكن أن يُكتَب بتكرار النون "Ιωαννες" والكلمتان يعبران عن نفس الاسم، ومع ذلك لا يعد هذا خلافًا، ومثله زيادة حرف للاسم، فمثلا اسم "أسا" جاء في بعض المخطوطات بزيادة فاء "أساف"، وفي الحقيقة أن الشخص واحد.

(2) (VU) في اليونانية يشبه أداة تعريف النكرة في الإنجليزية سواء "a" أو "an"، ويمكن أن توضع في نهاية كلمات معينة عندما تقع هذه الكلمات قبل كلمة تبدأ بحرف متحرك، وأحيانًا يغفلها الناسخ، وهيَ لا تغير في معنى الكلمة.

 

ثانيًا : اختلافات ثانوية لا تؤثر في المعنى:

ومن أمثلة هذه الاختلافات:

(1) تستخدم في اليونانية أداة التعريف لأسماء الأعلام، فإن أغفلها الناسخ عن سهو أو قصد، فأنها لا تؤثر في المعنى، فالاسم سيظل واضحًا ومحددًا بدون أي لبث.

(2) حوَت المخطوطات الكنسيّة أجزاء من الأناجيل، وكثيرًا ما تستخدم الأناجيل الضمائر عوضًا عن الأسماء، فمثلا خلال (89) آية متوالية في إنجيل مرقس (مر 6 : 31 - 8 : 26) لم يُذكر فيها اسم يسوع لا بِاسمه "يسوع" ولا بلقبــه مثــل "الرب" أو "المعلم"، إنما أُشِير إليه بالضمير "هو"، فعند نساخة جزء من الأناجيل في هذه المخطوطات الكنسية كان الناسخ يستعيض عـن الضمائر بالأسماء، فمثلًا لو كان في الإنجيل: "وبينما كان يعلّم" يضيف الناسخ لمخطـوط القراءة الكنسيـة اسم يسوع، فيكتب "وبينما كان يسوع يعلم"، وهذا بلا شك يعتبر خلافًا بين المخطوطات، ولكن لا يؤثر في المعنى على الإطلاق.

 

 ثالثًا: اختلافات تؤثر في معنى النص وغير قابلة للتطبيق:

وهيَ اختلافات موجودة في مخطوطة أو أكثر ولكن من المستبعد أن تكون أُخذت هكذا من الأصل، ومن أمثلة ذلك:

(1) تعبير "إنجيل الله" الذي جاء في رسالة تسالونيكي الأولى: " كُنَّا نَكْرِزُ لَكُمْ بِإِنْجِيلِ اللهِ" (1تس 2 : 9)، هكذا وردت في جميع المخطوطات تقريبًا، ولكنها وُجِدت في مخطوطة ترجع للعصور الوسطى: "إنجيل المسيح"، فهذا اختلاف له معنى، ولكن غير قابل للتطبيق، بمعنى أنه من المستبعد جدًا أن يكون ورد هكذا (إنجيل المسيح) في النسخة الأصلية الأم، لأن جميع المخطوطات التي وردت قبــل هـذه المخطوطة جاء فيها تعبير "إنجيل الله".

(2) جاء في إنجيل متى سؤال الفريسيين للتلاميذ: "لِمَاذَا يَأْكُلُ مُعَلِّمُكُمْ مَعَ الْعَشَّارِينَ وَالْخُطَاةِ؟" (مت 9 : 11)، وهكذا جاء في الغالبية العظمى من المخطوطات، ولكن قليل من المخطوطات أضيف إليها كلمة "ويشرب"، فجاء النص: "لمــاذا يأكل ويشرب معلمكم... "، فغالبًا ناسخ هذه المخطوطات القليلة قد تأثر بما جـاء في إنجيلي مرقس، ولوقا، حيــث يقول النص: "مَا بَالُهُ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ مَعَ الْعَشَّارِينَ وَالْخُطَاةِ؟"(مر 2 : 16)، و "لِمَاذَا تَأْكُلُونَ وَتَشْرَبُونَ مَعَ عَشَّارِينَ وَخُطَاةٍ" (لو 5 : 30)، ومن الطبيعي أن الطعام مرتبط بالشراب، ولذلك أضاف الناسخ "ويشرب"، وهذه المشكلة النصية توضح أمرين:

أولًا: أن النُسَّاخ أحيانًا كانوا يحاولون التوفيق بين روايات الأناجيل، حتى لو لم يكن هناك تعارض بينها، بمعنى أن متى ذكر الأكل فقط، وذكر كل من مرقس ولوقا الأكل والشرب، فلا يوجد ثمة تعارض بينهما لأن متى لم ينفي أنه كان يشرب.

 ثانيًا: كان من الأسهل كثيرًا إضافة كلمة لغرض التوضيح أو غيره، ولكن لم يجرؤ أحد من النسَّاخ على حذف كلمة عن عمد.

 

 رابعًا: اختلافات تؤثر في معنى النص وقابلة للتطبيق:

وهذا النوع نادر الحدوث، فهو لا يتعدى نحو 1 % فقط من الاختلافات النصية، وهنا نجد أن الاختلاف يغيّر في معنى النص بدرجة ما، وهذا التغيير لا يعتبر كبير الأهمية، ولكن إذا أثر في فهمنا للمقطع عندئذٍ يكون له معنى ومغزى، ومن أمثلة هذا النوع من الاختلافات:

 (1) جاء تعبير "لَنَا سَلاَمٌ"Σχομεν: " فَإِذْ قَدْ تَبَرَّرْنَا بِالإِيمَانِ لَنَا سَلاَمٌ مَعَ اللهِ بِرَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ" (رو 5 : 1)، بينما جاء في مخطوطات أخرى التعبير "ليكن لنا سلام "Σχωμον والفارق هنا تغيُّر حرف O إلى W، وهما الاثنان من الأصوات المتشابهة، وغالبًا كانتا تنطقان بنفس الطريقة، واختلف رأي العلماء في هذه المشكلة النصية، مع أن كليهما لا يعارض تعاليم الكتاب المقدَّس، فإذا قــال بولس الرسول: "لَنَا سَلاَمٌ" أي في الصيغة الدلالية فأنه يتحدث عن مقامهم ووضعهـم مع الله الآب، ولو قال بولس الرسول: "ليكن لنا سلام" في صيغة الطلب فأنه يحثهم على التمسك بحقائق الإيمان.

 (2) في رسالة تسالونيكي الأولى يصــف بولس الرسول نفسه وزملائه بأنهم "مُتَرَفِّقِينَ" Σπιοι "بَلْ كُنَّا مُتَرَفِّقِيــنَ فِي وَسَطِكُمْ كَمَا تُرَبِّي الْمُرْضِعَةُ أَوْلاَدَهَا" (1تس 2 : 7)، بينما وجدت في مخطوطات أخرى "أطفال صغار" νΣπιοι، وذلك بإضافة حرف "V" في بداية الكلمة.

(3) أكثر الاختلافات شيوعًا في استخدام ضمير المتكلم وضمير المخاطب، مثلما جاء في رسالة يوحنا الأولى "فَرَحُكُمْ" بضمير المخاطب: "وَنَكْتُبُ إِلَيْكُمْ هذَا لِكَيْ يَكُونَ فَرَحُكُمْ كَامِلًا" (1يو 1 : 4)، بينما جاءت في بعض المخطوطات "فرحنا"، وسواء كان فرح يوحنا أو فرحهم هم فأنه من الواضح أن كتابة هذه الرسالة بعثت الفرح في النفوس المُحبة للمسيح.

 وأكثر هذه الاختلافات من هذه النوعية هو ما جاء في نهاية إنجيل مرقس (مر 16 : 9 - 20)، في بعض المخطوطات دون الأخرى، ويُرجئ هذا الموضوع لحين دراستنا لإنجيل مرقس إن شاءت نعمة الله وعشنا.

 

 3ــ عودة لذات السؤال:

والآن نعود لذات السؤال: هل أخطاء النُسَّاخ المتراكمة على مدار الزمن أبعدتنا عن الأصل؟

 يحق هذا القول لو كان كل ما كان متوفر لدينا من مخطوطات، هو مخطوطة واحدة لا غير، وعندما تُبلى تحل محلها مخطوطة أخرى لا غير، وهكذا كل مخطوطة تُسلِّم الأخرى، وبالتالي تكون جميع الأخطاء تراكمت من مخطوطة إلى مخطوطة إلى مخطوطة، والمخطوطة الأخيرة حملت جميع أخطاء النُسَّاخ في كل زمان ومكان... وهذا بالطبع ضرب من الخيال المريض الذي يشوّه كلمة الله، لأن الواقع يعلّمنا أنه كان هناك أجيال وأجيال من المخطوطات، التي يتزايد عددها بتقدم الزمان، حتى ما تم اكتشافه فقط من مخطوطات العهد الجديد باللغة اليونانية واللغات الأخرى فاق الخمسة والعشرين ألف مخطوطة. وعندما كان النُسَّاخ ينسخون مثلًا سبعة أو عشرة نسخ من مخطوطة، فمن المعروف إذا أخطأ ناسخ منهم في موضع معين، فليس شرطًا أن بقية النُسَّاخ سواء في هذه المخطوطات أو المخطوطات الأخرى يكونوا قد أخطأوا في ذات الموضع، وبناء على هذا بمقارنة المخطوطات والدراسات الدقيقة يمكن الوصول للقراءة الأصلية، وهذا ما سنتعرض له في السؤال التالي عن القراءات المختلفة أو المتنوعة.

 ويعطي "دكتور إدوار ج. يونج" مثلًا يوضح هذه الحقيقة، فيقول: "مما لا شبهة فيه أن الكتاب في وضعه الحالي، على صورة مثيرة، ومن نواحٍ متعددة، آية في الدقة، ويماثل فيما نعتقد المخطوطات الأصلية..!! إذا كتبتَ إلى رئيس الجمهورية خطابًا وجاءك رد، ومن فرط سرورك أمليت هذا الرد على مجموعة من الناس لتكتبه، ربما يغفل واحد حرفًا أو نقطة، أو كلمة، ولا يمكن أن يُقال أن هذه الصور من الإغفال أو السهو، قد غيرت الرد أو أفسدته أو أصبح من الصعب مماثلته تمامًا للأصل، إذ أن مراجعة المجموعة كلها يستخرج الصورة الصحيحة والسليمة والتي لا شبهة فيها... ومما لاشك فيه أن الكتاب المقدَّس إذا كان قد حدث شيء من السهو أو الإغفال أو الخطأ عند النسخ وهو كتاب كبير ضخم، فإن مراجعة المخطوطات المتعددة، تصحح ما يمكن أن تتعرض له في أية مخطوطة"(847).

 وجاء في "دائرة المعارف الكتابية": "الخاتمة: إن الاختلافات الموجودة بين المخطوطات العديدة تعتبر من الناحية العلمية تافهة ولا تأثير لها على المضمون إطلاقًا، وبذلك يمكن أن نقول مع سير "فردريك كينيون" Sir Fredrick Kenyon أن ما بين أيدينا هو النص السليم لكلمة الله الحقيقية"(848).

 

 4ــ يوحنا جوتنبرج Johannes Gutenberg (1398 - 1468م) وعصر الطباعة:

أول من فكّر في الطباعة الصينيون، إذ نقشوا أشكالًا مختلفة على الخشب، وكانوا يطلونها بالألوان ويطبعونها على الورق، حتى أنه تم اكتشاف كتاب مطبوع في الصين يرجع تاريخه إلى سنة 868م، ثم قام المخترع الصيني "بي تشينج" في منتصف القرن الحادي عشر باختراع حروف للطباعة، وكل حرف يمثل رمز من رموز اللغة الصينية، واستخدمها في الطباعة، ولكن فكرته هذه لم تجد تشجيعًا ولا رواجًا، ولم تصل إلى أوربا، وفي سنة 1234م نجح الإنسان في كوريا في الدخول إلى عالم الطباعة بطريقة بدائية، إلى أن وُلِد جوهان جوتنبرج سنة 1398م في مدينة "ماينتس" بألمانيا، وفكر كثيرًا فـي تطوير الطباعة، وكان هدفه طبع الكتاب المقدَّس بطريقة أسرع وأدق وبتكلفة أقل، فابتدع الحروف المستقلة المصقولة، التي توضع بجوار بعضها البعض مكوّنة كلمات النص الذي يريد طباعته صفحة صفحة، ويشد الحروف ويربطها فتكون الصفحة كتلة واحدة، يغمسها في زيت الكتان الممتزج بهباب المداخن (الكربون)، ثم يضع فوقها الصفحة ويضغطها فتتم الطباعة، ونجح "جوهان جوتنبرج" في طباعة الكتاب المقدَّس باللغة اللاتينية (الفولجاتا)، فطبع (45) نسخة على جلود العجول، و (135) نسخة على الورق دفعة واحدة، واستغرق هذا العمل نحو خمس سنوات، فاكتملت طباعة الكتاب المقدَّس لأول مرة في تاريخ البشرية في ألمانيا سنة 1456م، وما زال باقيًا من هذه الطبعة (47) نسخة للآن.

 والحقيقة أن "جوهان جوتنبرج" كان سابقًا لعصره حتى أنه أنشأ شركة "الأفكار الجديدة" مع ثلاثة آخرين، مات أحدهم، واختلف الباقون، فأمضى جوهان جزءًا كبيرًا من حياته بين المحامين والمحاكم، يبحث عن العدل والحق، وعندما وجد "جوهان ويتنبرج" نفسه صفر اليدين اقترض مبلغ كبير من محاميه "بوهافوست" حتى يتمكّن من طباعة الكتاب المقدَّس، وعندما ظهر نجاح فكرته وقبيل أن ينتهي العمل طالبه المحامي بأمواله التي اقترضها، وكان هدفه من وراء هذا الاستيلاء على المطبعة والكتاب المطبوع كليهما معًا، وهكذا ظلت حياة جوهان في صراع، حتى انتهى به المطاف إلى أنه هجر مهنته نتيجة الملاحقات القضائية، ومات منكسرًا، وهو الذي يدين له العالم كله بالفضل والولاء، فبلايين الكتب التي طُبِعَت، وكل كتب التلاميذ والطلبة والعلماء وضع بذرة طباعتها جوهان جوتنبرج الذي قضى على أتعاب النساخة تمامًا، وإن كانت النساخة استمرت نحو مائة عام عقب اختراع الطباعة، لكنها في النهاية رفعت الراية البيضاء.

 

 5ــ طباعة الكتاب المقدَّس باللغة اليونانية:

بينما طُبِع الكتاب المقدَّس سنة 1456م باللغة اللاتينية، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. إلاَّ أن طباعته باللغة اليونانية تأخّر نحو خمسين عامًا عن هذا التاريخ، بسبب صعوبة إعداد الحروف اليونانية بالخط الصغير المتصل، وفي سنة 1502م بدأ الكاردينال "أكسيمنس ديرسيسنيدوس" Ximenes (1437 - 1517م) بالإعداد لهذا العمل... وضع العهد الجديد في عمودين بلغتين، هما اللاتينية واليونانية، وانتهى من طباعته سنة 1514م، وطبع العهد القديم في ثلاثة أعمدة بثلاث لغات، هيَ العبرية، واللاتينية (طبعة الفولجاتا) والسبعينية اليونانية، وإنتهى من طباعته سنة 1517م. وتمت الطباعة في بلدة "الكالا" Alcala أي "القلعة" والمعروفة بِاسم "كومبلوتم" Complutum، ولذلك دُعيت هذه الطبعة بالاسم اللاتيني "كومبلوتم"، ودُعيَ "الكتاب المقدَّس الكومبلوني متعدد اللغات"، شمل ستة مجلدات، العهد القديم في أربعة مجلدات، والعهد الجديد في مجلد واحد، والمجلد السادس شمل قواعد وقاموس عبري، وفي سنة 1520م وبعد موت "أكسيمنس" منح بابا روما موافقته على هذه الطبعة، وبعد سنتين في سنة 1522م تم تبادله واستعماله.

 وفي أثناء طباعة "أكسيمنس" الكتاب المقدَّس باللغة اليونانية، حث "فروبن" Froben، صاحب إحدى المطابع، العالِم "ويسيديريوس أرازمس" للإشراف على طبع العهد الجديد باللغة اليونانية، وفي يوليو 1515م، جمع "أرازمس" على عجل بعض المخطوطات اليونانية للعهد الجديد، ولم يكن أي من هذه المخطوطات يحتوي العهد الجديد بالكامل، والمخطوطة الوحيدة التي أُخذ منها سفر الرؤيا كان ينقصها الآيات الست الأخيرة بسبب التلف، مما جعله يقوم بترجمة هذه الآيات من اللاتينية لليونانية، ولأن الإعداد كان على عجل باعتراف "أرازمس" نفسه، ولذلك أدخل إلى متن النص بعض الحواشي، كما حملت الطبعة أخطاء مطبعية ليست بقليلة، ونُشِرت هذه الطبعة في مارس 1516م، فكانت أول طبعة تُطرح للبيع.

 وخلال الفترة من (1546 - 1551م) قام "روبرت أستين" Roberty Estienne (المُلقب باستفانوس) بعمل أربع طبعات للعهد الجديد، وفي الطبعة الثالثة أشار فيها للقراءات المختلفة في عدد من المخطوطات، وخلال الفترة (1565 - 1604م) قام "تيودور بيزا" تلميذ "جون كالفن" بنشر تسع طبعات للعهد الجديد باللغة اليونانية، وخلال الفترة من (1624 - 1678م) قام أخوان من عائلة الزفير Elzeveir بنشر سبع طبعات للعهد الجديد باليونانية بهدف الربح، ثم توالت بعد ذلك طباعة الكتاب المقدَّس بشتى لغات العالم، وسارت جنبًا مع جنب مع تحقيق النصوص وضبط القراءات.

_____

الحواشي والمراجع لهذه الصفحة هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت:

 (843) اختلافات في تراجم الكتاب المقدَّس ص 122.

(844) العهد الجديد - طبعة دار المشرق - بيروت سنة 1991م ص 13.

 (845) البهريز في الكلام اللي يغيظ جـ 4 ص 312، 313.

(846) أورده القمص عبد المسيح بسيط - مخطوطات العهد الجديد والنص الأصلي ص 39.

 (847) ترجمة القس إلياس مقار - أصالة الكتاب المقدَّس ص 68، 69.

 (848) دائرة المعارف الكتابية جـ 3 ص 296.


الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع

https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/115.html

تقصير الرابط:
tak.la/sxvsjj7