س 1668: كيف يمدح داود نفسه فيقول: أن شفتيه بلا غش (مز 17: 1)، وأنه إنسان كامل (مز 7: 8، 26: 1، 2، 41: 12، 64: 1) لم يرتفع قلبه (مز 131: 1)، بل ويطلب من الله أن يمتحنه ويجربه (مز 26: 2، 139: 23).. أليس هذا نوعًا من الكبرياء..؟ وما الفرق بين صلاة داود (مز 26: 3-8)، وصلاة الفريسي (لو 18: 9 - 14).. ألم يفتخر داود بأنه يسلك بالحق ولم يدخل مع المنافقين وأنه قـد أبغض الأثمة والأشرار، مثله مثل الفريسي الذي تفاخر بأعماله؟
هل مدح داود نفسه وتفاخر بكماله؟ - هل ادَّعى داود أنه بلا خطيَّة؟ - هل طلبْ داود من الله أن يجرّبه ويمتحنه ينُم عن كبرياء قلبه؟ - هل صلاة داود تشبه صلاة الفريسي؟
التجأ داود أثناء الضيقات لإلهه قائلًا:
† " اِسْمَعْ يا رب لِلْحَقِّ. أَنْصِتْ إِلَى صُرَاخِي. أَصْغِ إِلَى صَلاَتِي مِنْ شَفَتَيْنِ بِلاَ غِشٍّ" (مز 17: 1).
وفي "الترجمة القبطي": " استمع يا الله لحقي واصغِ إلى طلبتي. وانصت إلى صلاتي من شفتين بلا غش".
† " اقْضِ لِي يا رب كَحَقِّي وَمِثْلَ كَمَالِي الَّذِي فِيَّ" (مز 7: 8).
† " أَمَّا أَنَا فَبِكَمَالِي دَعَمْتَنِي وَأَقَمْتَنِي قُدَّامَكَ إِلَى الأَبَدِ" (مز 41: 12).
† " لِيَرْمُوا الْكَامِلَ فِي الْمُخْتَفَى بَغْتَةً. يَرْمُونَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ" (مز 64: 4).
† " يا رب لَمْ يَرْتَفِعْ قَلْبِي وَلَمْ تَسْتَعْلِ عَيْنَايَ وَلَمْ أَسْلُكْ فِي الْعَظَائِمِ وَلاَ فِي عَجَائِبَ فَوْقِي" (مز 131: 1).
والذي يُلقي نظرة على هذه الآيات يلاحظ الآتي:
1ـ هذه صرخات من قلب إنسان متألم يستعطف المراحم الإلهيَّة ملتمسًا إقرار العدالة. تأمل المفردات التي استخدمها داود النبي: " اِسْمَعْ يَا رَبُّ... أَنْصِتْ إِلَى صُرَاخِي... أَصْغِ إِلَى صَلاَتِي... اقْضِ لِي يَا رَبُّ... يرموا المسكين... لَمْ يَرْتَفِعْ قَلْبِي وَلَمْ تَسْتَعْلِ عَيْنَايَ... إلخ "، فداود النبي يلتمس من القاضي العادل أن يبرئ ساحته من الاتهامات الكاذبة التي أُلصقت به، فهيَ صرخات صادرة من أعماق قلب بار مستقيم بعيد عن الغش يتوسل ويستغيث ويصرخ، لا تنُم عن أي نوع من التفاخر والاعتداد بالذات، فالمتكبر المنتفخ لا يستغيث ولا يتوسل ولا يصرخ.
2- أ- صلى داود المزمور (17) عندما أحاط شاول وجنوده به في برية معون وكان داود يفرُّ في الذهاب من أمام شاول الملك ورجاله الذين أحاطوا بداود ورجاله، فصرخ داود لإلهه: " اِسْمَعْ يَا رَبُّ... أَنْصِتْ... أَصْغِ"، وعندما قال " أَصْغِ إِلَى صَلاَتِي مِنْ شَفَتَيْنِ بِلاَ غِشٍّ" (مز 17: 1)، لم يقصد أن يبرّر نفسه أمام الله، ولكن قصد أن يبرّر نفسه من التهم الكاذبة التي وُجهت له، وقول داود النبي هنا يشبه قول يوحنا الحبيب: " أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ إِنْ لَمْ تَلُمْنَا قُلُوبُنَا فَلَنَا ثِقَةٌ مِنْ نَحْوِ اللهِ. وَمَهْمَا سَأَلْنَا نَنَالُ مِنْهُ لأَنَّنَا نَحْفَظُ وَصَايَاهُ وَنَعْمَلُ الأَعْمَالَ الْمَرْضِيَّةَ أَمَامَــهُ" (1يو 3: 21، 22)، وتمتع داود بقلب نقي إلى حد بعيد، حتى أن الله شهد له قائـلًا: " وَجَدْتُ دَاوُدَ بْنَ يَسَّى رَجُلًا حَسَبَ قَلْبِي" (أع 13: 22)، وقال الله لسليمان الملك: " إِنْ سَلَكْتَ أَمَامِي كَمَا سَلَكَ دَاوُدُ أَبُوكَ بِسَلاَمَةِ قَلْبٍ وَاسْتِقَامَةٍ... فَإِنِّي أُقِيمُ كُرْسِيَّ مُلْكِكَ عَلَى إِسْرَائِيلَ إِلَى الأَبَدِ" (1مل 9: 4، 5).
ب - عندما قال داود " مِنْ شَفَتَيْنِ بِلاَ غِشٍّ" لم يقصد أنه إنسان معصوم من الخطأ، بل قال هذا لأنه يدرك مدى خطورة خطايا الشفتين، حتى قيل أن خطايا اللسان تعادل جميع خطايا بقية أعضاء الإنسان، وإن كان المجنون يمكن تقييده وشل حركته فإن اللسان لا يمكن ضبطه: " هُوَ عُضْوٌ صَغِيرٌ وَيَفْتَخِرُ مُتَعَظِّمًا. هُوَذَا نَارٌ قَلِيلَةٌ أَيَّ وُقُودٍ تُحْرِقُ. فَاللِّسَانُ نَارٌ عَالَمُ الإِثْمِ. هكَذَا جُعِلَ فِي أَعْضَائِنَا اللِّسَانُ الَّذِي يُدَنِّسُ الْجِسْمَ كُلَّهُ وَيُضْرِمُ دَائِرَةَ الْكَوْنِ وَيُضْرَمُ مِنْ جَهَنَّمَ" (يع 3: 5، 6).. لقد قصد داود أن يقول يا رب أنت تعلم أنني أتكلم بالصدق بدون كذبٍ ولا غشٍ ولا التواءٍ، فأنا أعلم يا رب أنك ترذل الشفاه الغاشة: " يَقْطَعُ الرَّبُّ جَمِيعَ الشِّفَاهِ الْمَلِقَةِ وَاللِّسَانَ الْمُتَكَلِّمَ بِالْعَظَائِــمِ" (مـز 12: 3).. " تُهْلِكُ الْمُتَكَلِّمِينَ بِالْكَذِبِ. رَجُلُ الدِّمَاءِ وَالْغِشِّ يَكْرَهُهُ الرَّبُّ" (مز 5: 6).
جـ- يقول "د. مراد أمين موسى": " ليس أشق على الإنسان من أن يتحمل الظلم من الذين أحسن إليهم، لقد أنقذ داود الأمة من تعيير جليات، وبقوة الرب صرعه أمام عيونهم، ولكنهم الآن يسيرون وراء شاول في عداوة مرة له. لذلك يطلب من الله أن يقف بجانب الحق ويدافع عنه.
" أَنْصِتْ إِلَى صُرَاخِي ". الصراخ تعبير عن شعوره العميق بالخطر المُحدق به، وعجزه عن خلاص نفسه وثقته الكاملة في قدرة الله على الخلاص. جميل أن يسمع له الله ويسرع إلى خلاصه: " هذَا الْمِسْكِينُ صَرَخَ وَالرَّبُّ اسْتَمَعَهُ وَمِنْ كُلِّ ضِيقَاتِهِ خَلَّصَهُ " (مز 34: 6). وهذه المزامير ليست فقط اختبارات داود أو المؤمنين المضطهدين مثله، ولكن هيَ رمز لربنا يسوع المسيح في رفضه، الذي اختبر كل أنواع المرارة والعداء والخيانة من الذين زرع أرضهم خيرًا وشفى كل أمراضهم. ويجدر بنا أن نصغى بانتباه كلي، ليس إلى صوت داود فحسب، بل إلى صوت ابن داود، رب داود وإلهه الذي أختبر الآلام كلها واجتاز الضيقات جميعًا. " أَصْغِ إِلَى صَلاَتِي مِنْ شَفَتَيْنِ بِلاَ غِشٍّ " تأمل هذه الفقرة الأخيرة، فهل سمعت أحدًا ينطق بمثل هذه الصلاة؟" (175).
د - يقول "القمص تادرس يعقوب": " يكشف لنا هذا المزمور عما حلَّ بداود النبي، أنه كمن أُلقي في أتون نار ملتهب، لكنه عوض أن يهلك خرج منه ليس فقط دون أن يلحق به ضرر وإنما خرج ينعم بالاحتماء تحت ظل جناحي الـرب ويعاين بهاء وجهه الإلهي!..
طبق القديس جيروم كل ما ورد في هذا المزمور (17) على السيد المسيح وبعض الآباء الآخرين مثل القديس أُغسطينوس حسبوا أن كل ما جاء في المزمور يخص السيد المسيح وشعبه. إذ يقول القديس أُغسطينوس: {يجدر بنا أن ننسب هذا المزمور لشخص ربنا المتحد مع الكنيسة التي هيَ جسده}..
يطلب المُرَتِّل من الله أن يستمع إليه، ويصغى، وينصت، مكررًا ثلاث مرات في هذا العدد (مز 17: 1) طالبًا من القاضي أن ينصفه. هذا التكرار لا يُقدَم منه باطلًا وإنما دليل اللجاجة وعدم اللجوء إلى آخر غيره. كان داود بارًا بلا عيب، يتبع الحق والعدل من جانبه، بريئًا من الأخطاء المُتهم بها، غير أن السمات الواردة هنا {عدلي (بري) بشفتين بلا غش} تنطبق على السيد المسيح أولًا وقبل كل شيء، إذ هو البار الكامل، وشفتاه بلا غشٍ (1بط 2: 22)، يشفع ببره عن شعبه ويستمع الآب على الدوام إلى شفاعته...
لا يمكننا فهم الدفاع بالبر هنا كتعبير ساذج عن البر الذاتي، فهو ليس مجرد تأكيد من جانب الإنسان العابد على خلوه من الخطيَّة، إنما هيَ محاولة لتبرير الإنسان من اتهامات معينة باطلة... صاحب الشفتين الغير غاشتين يحمل إخلاصًا داخليًا وصدقًا في تصرفاته الظاهرة... إذ يلجأ المُرَتِّل إلى الله يجد في الحضرة الإلهيَّة راحته، فيطلب منه أن يتسلم بنفسه قضيته ويعلن أحكامه فيها علانية، لأنها أحكام عادلة ومستقيمة" (176).
3ــ صَلَّى داود قائــلًا: " اقْضِ لِي يا رب كَحَقِّي وَمِثْلَ كَمَالِي الَّذِي فِيَّ" (مز 7: 8):
أ - سبق الحديث عن هذه الآية، فيُرجى الرجوع إلى س 1650.
ب - لم يدَّعِي داود البر الذاتي والكمال المُطلق، لكنه تشبث ببراءته من التهم الموجهة إليه، وهو يعلن هنا عن ثقته الكاملة في العدالة الإلهيَّة التي ستنصفه، فهو ينظر للقضاء الإلهي هنا على أنه طوق نجاة له، ويقول " لزلي مكاو": " وفي العدد الثامن يرينا كأنما محكمة السماء قد انعقدت والمحاكمة العامة قد ابتدأت. يطلب المُرنّم أولًا حكمًا من الله مقبولًا على نفسه علــى أساس استقامته (ع 8) وهذا (موقف أيوب المستمر)، ثم يسأل دينونة حق على الأشرار أي الذين يطلبون هلاكه على أساس أن مثل هذا التقرير النهائي، الحق للحياة، يجعل كل عمل شرير يكشف كأنه يُولّد دينونته الخاصة" (177).
جـ - طلب داود المحاكمة أمام الله لأنه متأكد أن ضميره صالح ولا يضمر الشر لأحد، فيقول "الأب متى المسكين": " وهو يتحدّى ليكون القرار حسب برَّه وحسب أصالة نفسه، لا كونه يدَّعي البر أو الكمال ولكنه يحمل ضميرًا خاليًا من أي مساس بالله أو تجاه البشر، الأمور التي رفعوها ضده بالخيانة. أنظر (1صم 26: 23): " وَالرَّبُّ يَرُدُّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ بِرَّهُ وَأَمَانَتَهُ لأَنَّهُ قَدْ دَفَعَكَ الرَّبُّ الْيَوْمَ لِيَدِي وَلَمْ أَشَأْ أَنْ أَمُدَّ يَدِي إِلَى مَسِيحِ الرَّبِّ ".. (178).
د - تلخص "الموسوعة الكنسية" تفسير هذه الآية في الآتي:
1) داود المظلوم يترجى عدل الله ليخلصه من مقاوميه، فيعلن أن الله سيدين كل شعوب الأرض في يوم الدينونة، وهو لا يخاف من يوم الدينونة، لأنه وصل إلى درجة حب عالية لله، كما يقول الكتاب: " الْمَحَبَّةُ الْكَامِلَةُ تَطْرَحُ الْخَوْفَ إِلَى خَارِجٍ" (1يو 4: 18).
2) أن داود كمظلوم ينتظر حقه الذي سلبه الظالمون ليعوضه الله عنه، كنعمة مجانية، لأنه ليس في ذاته قوة، بل هيَ نعمة الله.
3) عندما يقول داود " مِثْلَ كَمَالِي " يقصد الكمال النسبي، الذي وصل إليه كبشر ضعيف أي بحسب طاعتي لوصاياك نجني وكافئني ليتعزى قلبي.
4) وداود يترجى، ليس فقط الخلاص الأرضي من أعدائه ومقاوميه، بل المكافأة الأبدية، حيث الأمجاد السماوية" (179).
4ــ قال داود: " أَمَّا أَنَا فَبِكَمَالِي دَعَمْتَنِي وَأَقَمْتَنِي قُدَّامَكَ إِلَى الأَبَدِ" (مز 41: 12)، وهنا كشف داود عن مصدر الكمال في حياته وهو الله، ويشكر داود الله على عطيته إذ أعطاه أن يسلك في طريق الكمال بالرغم من الظروف القاسية التي مرَّ بها من اضطهاد مرير من شاول الملك، أو طمع ابنه أبشالوم في عرش إسرائيل، وفي نفس المزمور الذي تحدث فيه داود عن كماله لم ينكر خطاياه، بل التمس من الله شفاء جراحات نفسه: " أَنَا قُلْتُ يا رب ارْحَمْنِي. اشْفِ نَفْسِي لأَنِّي قَدْ أَخْطَأْتُ إِلَيْكَ" (مز 41: 4). وأيضًا حملت هذه الآية بُعدًا نبويًا لأنها تشير للسيد المسيح الذي قـال: " مَنْ مِنْكُمْ يُبَكِّتُنِي عَلَى خَطِيَّةٍ" (يو 8: 46)، كما أن (مز 41: 10 - 13) به إشارة إلى قيامة السيد المسيح (راجع د. مراد أمين موسى - شرح سفر المزامير ص 333، 334).
ويقول "القس وليم مارش": " هنا ادعاء المُرنّم ببيان ما هو عليه من فضيلة وكمال ولا نستطيع ملامته على ما ذهب إليه، لاسيما بعدما قاسى منهم بما قاساه من خيانة واغتياب وانقلاب صديق، وآلام جسدية من مرضه، وآلام روحية من يأسه منهم وقنوطه من سوء أخلاقهم وأفعالهم. إن تعزيته العظمى أن يجد الله يقيمه وأن يتأكد أنه لن يبقى مدوسًا تحت أقدامهم بل سيعود إلى مكانته وإلى سالف مجده وهكذا يُفشِل كل محاولة الأعداء" (180).
5ــ قال داود النبي: " لِيَرْمُوا الْكَامِلَ فِي الْمُخْتَفَى" (مز 64: 4)، فإن الأشرار قد تألقوا وكمنوا في الخفاء وفي الظلام كالوحوش المفترسة للانقضاض عليــه، ولذلك صــرخ داود لإلهه في نفس المزمور: " اِسْتَمِعْ يَا اَللهُ صَوْتِي فِي شَكْوَايَ. مِنْ خَوْفِ الْعَدُوِّ احْفَظْ حَيَاتِي. اسْتُرْنِي مِنْ مُؤَامَرَةِ الأَشْرَارِ مِنْ جُمْهُورِ فَاعِلِي الإِثْمِ" (مز 64: 1، 2)، وقال سليمان الحكيم: " أَهْلُ الدِّمَاءِ يُبْغِضُونَ الْكَامِلَ أَمَّا الْمُسْتَقِيمُونَ فَيَسْأَلُونَ عَنْ نَفْسِهِ" (أم 29: 10)، فهؤلاء المبغضون ربما ظهروا في مظهر الأصدقاء، ولكنهم خشوا مواجهة داود لذلك كانوا يغتابونه " بَغْتَةً يَرْمُونَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ".
6ــ صَلَّى داود قائلًا: " يا رب، لَمْ يَرْتَفِعْ قَلْبِي وَلَمْ تَسْتَعْلِ عَيْنَايَ وَلَمْ أَسْلُكْ فِي الْعَظَائِمِ وَلاَ فِي عَجَائِبَ فَوْقِي" وهنا داود يبرئ نفسه من الكبرياء ومن المغالاة في تقدير ومدح الذات مع بخس حق الآخرين، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. بل أن هذه الآية أوضحت مدى تواضع داود النبي، ويقول "القس وليم مارش": " يبدأ كلامه بكل تواضع وانكسار أمام الرب فيقول: أنه لم يحاول قط أن يرفع قلبه بالتعظيم والكبرياء، كما أنه لم يشمخ بأنفه وعينيه إلى فوق، بل لم يتعظم بشيء في سلوكه كما أنه لا ينظر إلى تلك الأشياء غير العادية، بل نجده يضع نفسه في مستوى واطئ حقير ويُسكِت تلك الأصوات الصارخة في داخله. وهو يهدئ نفسه كما تهدئ الأم ولدها الفطيم أي بكل حكمة ودراية (راجع حب 3: 8). وهو ولد فطيم قد أنهى زمان رضاعته ويكتفي فقط بحنان الأم وعطفها ويرى أن يبقى بين ذراعيها، فهذا أعظم ما تطلبه نفسه، وهكذا فإن الإنسان المؤمن يشعر أن الله وحده يستطيع تهدئة خاطره ومنحه تلك الطمأنينة وذلك السلام الذي يناله بكل تأكيد، وبعدئذ فإن النفس تهدأ وتسكن مطمئنة لأن رضا الرب وحده هو الذي يعطي العون الكامل والقوة الكافية" (181).
ونختتم هذه الجزئية بقول "أبونا باخوميوس آڤا مينا": " تشترك هذه الآيات جميعها في أن داود يذكر أمام الله أنه بلا غش وكامل، وهو الأمر الذي يشير للوهلة الأولى أن داود يتفاخر أمام الله بكماله، وبهذا يكون قد سقط في خطيَّة البر الذاتي، ولكن من يتعمق في الأمر يدرك أن هذا الأمر غير وارد على الإطلاق وغير مقبول...
تأمل في أقواله لشاول: " وَرَاءَ مَنْ خَرَجَ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ. وَرَاءَ مَنْ أَنْتَ مُطَارِدٌ وَرَاءَ كَلْبٍ مَيْــتٍ وَرَاءَ بُرْغُـوثٍ وَاحِدٍ" (1صم 24: 14)، وأيضًا: " وَالآنَ لاَ يَسْقُطْ دَمِي إِلَى الأَرْضِ أَمَامَ وَجْهِ الرَّبِّ، لأَنَّ مَلِكَ إِسْرَائِيلَ قَدْ خَرَجَ لِيُفَتِّشَ عَلَى بُرْغُوثٍ وَاحِدٍ. كَمَا يُتْبَعُ الْحَجَلُ فِي الْجِبَالِ" (1صم 26: 20)، ورغم أن داود في هذين الموقفين كان يستطيع أن يتفاخر أمام شاول الملك، على أنه أفضل منه وقد عفى عنه مرتين ولم ينتقم منه، إلاَّ أنه تكلم معـه باتضاع شديد، وهذا يكشف لنا عن شخصية داود وقلبه المليء بالحب والذي لم يعرف يومًا البر الذاتي والكبرياء، حتى أن الله شهد له (أع 13: 22).. كما ظهر اتضاع داود عندما سبَّهُ شمعي بن جيرا ورشقه بالحجارة، فاستشاط أبيشاي ابن صروية غضبًا وأراد أن يعبر إليه ويقطع رأسه، ولكن داود منعه قائلًا: " مَالِي وَلَكُمْ يَا بَنِي صَرُويَةَ. دَعُوهُ يَسُبَّ لأَنَّ الرَّبَّ قَالَ لَهُ سُبَّ دَاوُدَ" (2صم 16: 10)، فقد كان داود يدرك أنه يوفي العقوبة الزمنية الواقعة عليه.
أما عن الآيات فتعكس مشاعر داود، إذ اتهمونه باطلًا وظلمًا أنه قد انضم إلى صفوف الفلسطينيين، وأنه عبد آلهة أخرى، فأخذ يتضرع إلى الله الذي يعلم براءته وهو الوحيد الذي يستطيع أن ينقذه، وهو الذي شهد له بسلامة واستقامة قلبه (1مل 9: 4)، ولعلنا نرى بعض الأبرار في العهدين يحدثون الله عن كمالهم وبرهم بنفس المعنى:
† قال أيوب البار: " لَنْ تَتَكَلَّمَ شَفَتَايَ إِثْمًا وَلاَ يَلْفِظَ لِسَانِي بِغِشٍّ... تَمَسَّكْتُ بِبِرِّي وَلاَ أَرْخِيهِ. قَلْبِـي لاَ يُعَيِّرُ يَوْمًا مِنْ أَيَّامِي" (أي 27: 4، 6).
† قال حزقيا الملك: " آهِ يا رب اذْكُرْ كَيْفَ سِرْتُ أَمَامَكَ بِالأَمَانَةِ وَبِقَلْبٍ سَلِيمٍ وَفَعَلْتُ الْحَسَنَ فِي عَيْنَيْكَ " (إش 38: 3) واستجاب الله لصلاته ودموعه وأضاف إلى عمره خمسة عشر عامًا أخرى (إش 58: 5) ولم يعتبر الله أن كلام حزقيا هذا كلام كبرياء أو ينمّ عن بر ذاتي.
† قال بولس الرسول: " فَإِنِّي وَإِنِ افْتَخَرْتُ شَيْئًا أَكْثَرَ بِسُلْطَانِنَا الَّذِي أَعْطَانَا إِيَّاهُ الرَّبُّ لِبُنْيَانِكُمْ لاَ لِهَدْمِكُمْ لاَ أُخْجَلُ" (2كو 10: 8).. "أَقُولُ أَيْضًا لاَ يَظُنَّ أَحَدٌ أَنِّي غَبِيٌّ وَإِلاَّ فَاقْبَلُونِي وَلَوْ كَغَبِيٍّ لأَفْتَخِرَ أَنَا أَيْضًا قَلِيلًا... أَهُمْ خُدَّامُ الْمَسِيحِ. أَقُولُ كَمُخْتَلِّ الْعَقْلِ فَأَنَا أَفْضَلُ" (2كو 11: 16، 23) وكان بولس إناءً مختارًا حمل اسم المسيح أمام أمم وملوك كشهادة السيد المسيح له (أع 9: 15) فهو لم يقصد قط الافتخار والكبرياء الذاتي، إنما كان يدافع عن إرساليته التي كلفه بها الرب نفسه، وهو قال: " وَأَمَّا مَنِ افْتَخَرَ فَلْيَفْتَخِرْ بِالرَّبِّ لأَنَّهُ لَيْسَ مَنْ مَدَحَ نَفْسَهُ هُوَ الْمُزَكَّى بَلْ مَــنْ يَمْدَحُهُ الرَّبُّ" (2كو 10: 17، 18) {من أبحاث النقد الكتابي}.
لم يدَّعي داود أنه إنسان معصوم من الخطيَّة، بل أفاض في الحديث عن خطاياه في عدة مواضع في المزامير، ولاسيما في المزمور (51) مزمور التوبة:
† " أَعْتَرِفُ لَكَ بِخَطِيَّتِي وَلاَ أَكْتُمُ إِثْمِي" (مز 32: 5).
† " لأَنَّنِي أُخْبِرُ بِإِثْمِي وَأَغْتَمُّ مِنْ خَطِيَّتِي" (مز 38: 18).
† " اغْسِلْنِي كَثِيرًا مِنْ إِثْمِي وَمِنْ خَطِيَّتِي طَهِّرْنِي. لأَنِّي عَارِفٌ بِمَعَاصِيَّ وَخَطِيَّتِي أَمَامِي دَائِمًا. إِلَيْكَ وَحْدَكَ أَخْطَأْتُ وَالشَّرَّ قُدَّامَ عَيْنَيْكَ صَنَعْتُ... هأَنَذَا بِالإِثْمِ صُوِّرْتُ وَبِالْخَطِيَّةِ حَبِلَتْ بِي أُمِّي" (مز 51: 2 - 5).
† " وَلاَ تَدْخُلْ فِي الْمُحَاكَمَةِ مَـعَ عَبْدِكَ فَإِنَّهُ لَنْ يَتَبَرَّرَ قُدَّامَكَ حَيٌّ" (مز 143: 2).. إلخ.
1ــ قال داود النبي: " اِقْضِ لِي يا رب لأَنِّي بِكَمَالِي سَلَكْتُ. وَعَلَى الرَّبِّ تَوَكَّلْتُ بِلاَ تَقَلْقُل. جَرِّبْنِي يا رب وَامْتَحِنِّي. صَفِّ كُلْيَتَيَّ وَقَلْبِي" (مز 26: 1، 2).
وفي "الترجمة القبطي": " أحكم لي يا رب فإني بنقاوتي سلكت. وعلى الرب توكلت فلا أضعف. ابلني يا رب وجربني. أحمِ قلبي وكليتي".
ومن خلال هذه العبارات نقول:
أ - شعور داود النبي " لأَنِّي بِكَمَالِي سَلَكْتُ" هـو نفـس شعـور المُرنّم: " إِنْ رَاعَيْتُ إِثْمًا فِي قَلْبِي لاَ يَسْتَمِعُ لِيَ الرَّبُّ" (مز 66: 18). إذًا في دفاع داود عن كماله لا يمثل الحالة الوحيدة الفريدة في الكتاب المقدَّس، وعندما قال داود: " اِقْضِ لِي يا رب " فهو يطلب حكم الله العادل لا حكم إنسان، وهذا ما تطلع إليه بولس الرسول أيضًا: " وَأَمَّا أَنَا فَأَقَلُّ شَيْءٍ عِنْدِي أَنْ يُحْكَمَ فِيَّ مِنْكُمْ أَوْ مِنْ يَوْمِ بَشَرٍ... وَلكِنَّ الَّذِي يَحْكُمُ فِيَّ هُـوَ الرَّبُّ" (1كو 4: 3، 4). لقد بدأ داود المزمور بقوله " لأَنِّي بِكَمَالِي سَلَكْتُ" وفي الآية قبل الأخيرة قال: " فَبِكَمَالِي أَسْلُكُ. افْدِنِي وَارْحَمْنِي" (مز 26: 11). إنها صرخة داود للعدل الإلهي لكيما يحكم له ويبرئه من الاتهامات الباطلة التي وُجهت إليه مثل ادعاء البعض بأن داود يطمع في المُلك ويسعى في الخلاص من شاول. لقد تحمل داود الأذى كثيرًا من شاول الملك ولم يعامله بحسب شره، وبالرغم من أنه تمكَّن منه مرتين إلاَّ أنه لم يمد يده عليه، وعندما يقابل إنسان في العهد القديم الشر بالخير... ألاَّ يعد هذا كمالًا؟!!، وفي هذا داود لم يتفاخر بكماله، بل جعل اتكاله الأساسي علــى الله " عَلَى الرَّبِّ تَوَكَّلْتُ".
ب - هناك صفات للصلاة المقبولة، ومن هذه الصفات أن يكون صاحبها سالكًا بالكمال وعاملًا بالحق، كما قال داود: " يا رب مَنْ يَنْزِلُ فِي مَسْكَنِكَ. مَنْ يَسْكُنُ فِي جَبَلِ قُدْسِكَ. السَّالِكُ بِالْكَمَالِ وَالْعَامِلُ الْحَقَّ وَالْمُتَكَلِّمُ بِالصِّدْقِ فِي قَلْبِهِ" (مز 15: 1 - 2)... " مَنْ يَصْعَدُ إِلَى جَبَلِ الرَّبِّ وَمَنْ يَقُومُ فِي مَوْضِعِ قُدْسِهِ. اَلطَّاهِرُ الْيَدَيْنِ وَالنَّقِيُّ الْقَلْبِ الَّذِي لَمْ يَحْمِلْ نَفْسَهُ إِلَى الْبَاطِلِ وَلاَ حَلـَفَ كَذِبًا" (مز 24: 3، 4) فقول داود " لأَنِّي بِكَمَالِي سَلَكْتُ" فهذا حال كل إنسان يطلب أن يكون مقبولًا لدى الله.
جـ - طلب داود من الله: " جَرِّبْنِي يا رب وَامْتَحِنِّي. صَفِّ كُلْيَتَيَّ وَقَلْبِي" ليس اعتمادًا على بره الذاتي وكماله المُطلق، ولكن اعتمادًا على مراحم الله ولذلك قال: " عَلَى الرَّبِّ تَوَكَّلْتُ" وهذه هيَ نبرة داود في مزاميره مثلما قال: " الرَّبُّ رَاعِيَّ فَلاَ يُعْوِزُنِي شَيْءٌ" (مز 23: 1).. " اَلرَّبُّ نُورِي وَخَلاَصِي مِمَّنْ أَخَافُ" (مز 27: 1).. إلخ. وطلب من الله أن يطهره من كل أدنـاس الخطيَّة " صَفِّ كُلْيَتَيَّ وَقَلْبِي"، وأن لا يضمه مع مصاف الخطاة: " لاَ تَجْمَعْ مَعَ الْخُطَاةِ نَفْسِي وَلاَ مَعَ رِجَالِ الدِّمَاءِ حَيَاتِي" (مز 26: 9)، بل طلب من الله أن يرحمه ويفديه: " افْدِنِي وَارْحَمْنِي" (مز 26: 11).
د - عرف داود وأدرك عظمة التجارب التي تنقي النفس كما تنقي النار الذهب من الشوائب، ولهذا طلب من الله أن يجربه أكثر من مرة، ففي موضع آخر يقول: " جَرَّبْتَ قَلْبِي. تَعَهَّدْتَهُ لَيْلًا. مَحَّصْتَنِي. لاَ تَجِدُ فِيَّ ذُمُومًا. لاَ يَتَعَدَّى فَمِي" (مز 17: 3)، فعندما يجربه الله يدرك خطاياه وسهواتـه: " اَلسَّهَوَاتُ مَنْ يَشْعُرُ بِهَا" (مز 19: 12).
ويقول أبينا الحبيب "القمص بيشوي كامل": " أمتحنـي يا رب، ليس لكي تعرف أسراري لأن كل شيء مكشوف وعريان أمامك - ولكن لكي أعرف أنا ذاتي - أي أمتحني يا رب واكشف لي ذاتي".
نقِ كليتي وقلبي: داود النبي اكتشف أن هناك أخطاء في حياته لا يمكن التخلص منها إلاَّ بنار التجربة، كما يقول غريغوريوس الكبير: داود القديس الوديع عندما صار ملكًا أهمل في تأملاته وسقط في خطيَّة الزنا والقتل. لذلك عندما سمح الرب له بالتجارب والشدائد والضيقات، تنقت نفسه، قلبه وكليتيه، فكل نفس منا بها كثير من الضيقات وآلام الجسد لا يمكن أن تُنقى إلاَّ بالتجارب. أيوب قال بعد التجارب: سمعًا سمعت عن الرب أما الآن فقد نظرته عيناي، والتجارب زادت إبراهيم محبة وإيمانًا بالله... وبولس الرسول عندما رأى أهمية التجارب وأحس بكثرة البركات أثنائها قال: " لِذلِكَ أُسَرُّ بِالضَّعَفَاتِ وَالشَّتَائِمِ وَالضَّرُورَاتِ وَالاضْطِهَادَاتِ وَالضِّيقَاتِ.." (2كو 12: 10).. فالتجارب هيَ المدرسة الوحيدة التي عن طريقها تنقى القلوب والنفوس من شهواتها وكبريائها ومخاوفها واتكالها على ذاتها، وتتعلم نفوسنا الاتضاع والانسحاق والتسامح والاحتمال والصبر والشكر. لذلك فأولاد الله في التجارب يشكرون الله أكثر من أوقات الفرح" (182).
ه - يقول "الأب متى المسكين": " اِقْضِ لِي": ويقصد أصنع معي عدلًا واظهر إني في الحق وحقق كمالي بالتفريق بيني وبين الشرير. أنظر (مز 7: 8).. وأيضًا (مز 35: 24): "اقْضِ لِي حَسَبَ عَدْلِكَ يا رب إِلهِي فَلاَ يَشْمَتُوا بِي ". وأيضًا: (مز 43: 1): " اِقْضِ لِي يَا اَللهُ وَخَاصِمْ مُخَاصَمَتِي مَعَ أُمَّةٍ غَيْرِ رَاحِمَةٍ وَمِنْ إِنْسَانِ غِشٍّ وَظُلْمٍ نَجِّنِي"..
جَرِّبْنِي يا رب وَامْتَحِنِّي. صَفِّ كُلْيَتَيَّ وَقَلْبِي: الله سبـق وأن عرفه: (أنظر مز 17: 3).. ولذلك هو يقدم نفسه إلى تمحيص جديد. وهذه الصلاة تؤكد في الحال صفاء ضميره ورغبته الصادقة في أنه إذا كان فيه أي شر باقٍ ينبغي أن يتطهر منـه (مز 139: 23، 24).. هنا ثلاث كلمات اُستخدمت لتوضيح نقاء فحصه: جَرِّبْنِي، امْتَحِنِّي كما يمتحن الذهب أو الفضة لاختبار أمانته، صَفِّ كما يُصفى الذهب كما اختبر الله إبراهيم (تك 22: 1).
هكذا فإن القصد من فحص القلب لكي يعطي الله كل واحد حسب طريقه. أنظر (إر 17: 10): " أَنَا الرَّبُّ فَاحِصُ الْقَلْبِ مُخْتَبِرُ الْكُلَى لأُعْطِيَ كُلَّ وَاحِدٍ حَسَبَ طُرُقِهِ حَسَبَ ثَمَرِ أَعْمَالِهِ ".. كُلْيَتَيَّ وَقَلْبِي: الكُلية تعني قاعدة العواطف، أما القلب فيعني قاعدة الفكر والإرادة" (183).
وـ يقول "القمص تادرس يعقوب": " تصف الآيات (مز 26: 1-3) إنسانًا سلك بكمال، لذا يرى البعض أن لغة هذا المزمور تبدو غريبة وغير جذابة بالنسبة لكثير من المسيحيين، إذ يظنون أن ثقة المُرَتِّل هذه تقوم على اتكاله على الأنا والبر الذاتي وأعماله الصالحة الذاتية، ينتقدونه بسبب افتخاره، ويقارنوه بالفريسي المذكور في مثل الفريسي والعشار (لو 18: 9 إلخ).
يجدر بنا ملاحظة الآتي:
1ــ الكمال هنا يعني مجرد تبرئته من الاتهامات الموجهة إليه والسابق الإشارة إليها. كما يعني أيضًا أنه بصلاح قلبه وبنواياه الصادقة كان خاليًا من كل نية شريرة، إنما يسلك بنقاوة وبراءة... سلك داود بكمال بالرغم من كونه خاطئًا... يـرى البعــض أن طلبـة المُرَتِّل: " احكم لي " إنما تعني " دافع عني " المعنـى الفعلـي هو: " أحكم لكي تدافع عني ".. في الآية 11: " وأنا بدعتي سلكت، أنقذني وارحمني " لم يغب عن المُرَتِّل حاجته الملحة إلى الفداء، واعتماده على نعمة الله ورحمته. إن كان داود النبي يطلب من الله أن يفحص قلبه وكليتيه، هذا لا يعني نوعًا من الكبرياء، لأن ما يفعله داود من بر هو عطية إلهيَّة، إذ يقول: " على الرب توكلت فلا أضعف ".. وفي دفاع المُرَتِّل عن نفسه ربما قصد رفع العثرة عن الشعب حتى لا يهلكوا بسببه...
" احكم لي يا رب فإني بدعتي سلكت وعلى الرب توكلت فلا أضعف " لم يكن أمام داود النبي - وقد وجه إليه الأعداء اتهامات باطلة تمس إيمانه وحياته وتعثر شعبه فيه - إلاَّ أن يستغيث أمام محكمة العدل الإلهي، حيث يقوم بالفصل في الأمور الله نفسه فاحص القلوب والعالِم بكل الظروف الخفية والظاهرة، وها هو يقدم ضميره شاهدًا على نقاوة قلبه وإخلاصه...
" ابلني (أفحصني) يا رب وجربني. احم قلبي وكُليتي ": جاءت الكلمة المرادفة للفحص هنا بما يخص امتحان المعادن وفحصها بالنار (مز 12: 6، 17: 3)، فقد اشتاق المُرَتِّل أن يمتحنه الله مرة ومرات، إذ يعلم براءته فيما نُسب إليه باطلًا، طالبًا من الله أن يثبت ذلك بنفسه ويعلنه. فإن الفحص الإلهي إنما يزيده تزكية وبهاءً ومجدًا" (184).
2ــ قال داود النبي: " اخْتَبِرْنِي يَا اَللهُ وَاعْرِفْ قَلْبِي. امْتَحِنِّي وَاعْرِفْ أَفْكَارِي. وَانْظُرْ إِنْ كَانَ فِيَّ طَرِيقٌ بَاطِلٌ وَاهْدِنِي طَرِيقًا أَبَدِيًّا" (مز 139: 23، 24).
فواضح هدف داود من طلبه من الله أن يختبره ويمتحنه، حتى إن كان في حياته أمور باطلة ينزعها عنه ويهديه إلى طريق الملكوت الأبدي، وجاء في " التفسير التطبيقي": " طلب داود من الله أن يفحصه ويكشف أي خطية ويعلنها له، بل طلب امتحان أفكاره، وهذه جراحة استكشافية للخطيَّة. فكيف يمكننا أن ندرك وجود الخطية إلاَّ إذا كشفها لنا الله؟ وعندما يكشفها الله لنا، نستطيع أن نتوب فيغفر لنا" (185).
ويقول "القس وليم مارش": " وأخيرًا يعود المُرنّم إلى نفسه لكي يطلب من الله أن يفحصـه ويختبره ويرى هل فيه أمور ملتوية باطلة؟ (راجع ار 6: 16، وأيضًا أيوب 22: 15، ار 18: 15). وهل سلوكه أعوج غير صالح ولا مستقيم ويود أن يهتدي للطريق الأبدي الذي يسلك فيه على الدوام. لأن طريق الخطأ لا يوصل إلاَّ إلى الهلاك ومن الحكمة، إنما العودة منه بأول فرصة سانحة وبأسرع وقت ممكن" (186).
1ـ قال داود النبي " سَلَكْتُ بِحَقِّكَ" (مز 26: 3)، أي كنت ملتزمًا بإرادتك على قدر ضعفي، فكان لي سلوكي السلبي: " لَمْ أَجْلِسْ مَعَ أُنَاسِ السُّوءِ. وَمَعَ الْمَاكِرِينَ لاَ أَدْخُلُ. أَبْغَضْتُ جَمَاعَةَ الأَثَمَةِ وَمَعَ الأَشْرَارِ لاَ أَجْلِسُ" (مز 26: 4، 5)، وكان لي سلوكي الإيجابي إذ: " أَغْسِلُ يَدَيَّ فِي النَّقَاوَةِ فَأَطُوفُ بِمَذْبَحِكَ يَا رَبُّ. لأُسَمِّعَ بِصَوْتِ الْحَمْدِ وَأُحَدِّثَ بِجَمِيعِ عَجَائِبِكَ. يا رب أَحْبَبْتُ مَحَلَّ بَيْتِكَ وَمَوْضِعَ مَسْكَنِ مَجْدِكَ" (مز 26: 6 - 8)، فإنني أغسل يدي كما يغسل الكاهن يديه قبل تقديم الذبيحة (خر 17: 19، 20)، وعندما كان شيوخ مدينة يتبرأون من دم قتيل كانوا يغسلون أيديهم (تث 20: 6).
ويقول "د. مراد أمين موسى": "هنا (مز 26: 4 - 8) نرى الوجه الآخر للكمال. رأينا في القسم الأول (مز 26: 1 - 3) الوجه الأول، وهو تجنب الشر في الحياة، أي السلوك في النور، والسلوك بالتدقيق في الحياة الشخصية، وطلب فحص الرب. لكن الوجه الثاني لا يقل أهمية، وهو الانفصال عن الأشرار، وكما كانت رحمة الرب هيَ الأساس الوحيد للوجه الأول، فهيَ بذاتها الأساس الوحيد للوجه الثاني. وجميل أن نرى داود يتغنى برحمة الرب، وأنها أمام عينيه دائمًا ليوضح أنها القاعدة الوحيدة لوجهي الكمال...
وينبر الكتاب المقدَّس بعهديه القديم والجديد على ضرورة الامتناع عن الشركة والمعاشرة مع الأشرار، واستطاع أهل العالم أن يميزوا هذا الأمر فقالوا: أن الطيور على أشكالها تقع، وقالوا أيضًا: أخبرني من هم رفقاؤك أخبرك من أنت" (187).
2ــ شتان بين صلاة داود هنا وصلاة الفريسي:
صلاة داود (مز 26: 3 - 8) |
صلاة الفريسي (لو 18: 9 - 14) |
أـ داود يعتمد على المراحـم الإلهيَّة: " لأَنَّ رَحْمَتَكَ أَمَامَ عَيْنِي" (ع3). |
تفاخر الفريسي ببره الذاتي: " وَقَالَ لِقَوْمٍ وَاثِقِينَ بِأَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ أَبْرَارٌ وَيَحْتَقِرُونَ الآخَرِيـنَ هذَا الْمَثَلَ" (ع 9). |
ب - اتبع داود مشورة المزمور الأول ففصل نفسه من زمرة الأشرار ولم يحتقر أحدًا: " لَمْ أَجْلِسْ مَعَ أُنَاسِ السُّوءِ وَمَعَ الْمَاكِرِينَ لاَ أَدْخُلُ. أَبْغَضْتُ جَمَاعَةَ الأَثَمَةِ وَمَعَ الأَشْـرَارِ لاَ أَجْلِسُ" (ع 4، 5). |
قارن الفريسي نفسه بالآخرين مترفعًا عليهم ومحتقرًا إياهم: " أَنِّي لَسْتُ مِثْلَ بَاقِي النَّاسِ الْخَاطِفِينَ الظَّالِمِينَ الزُّنَاةِ، وَلاَ مِثْلَ هذَا الْعَشَّارِ" (ع 11). |
جـ- لجأ داود لله ليبرره: " لاَ تَجْمَعْ مَعَ الْخُطَاةِ نَفْسِي" (ع 9). |
لجأ الفريسي إلى أعماله معتقدًا أنها تبرّره: " أَصُومُ مَرَّتَيْنِ فِي الأُسْبُوعِ وَأُعَشِّرُ كُلَّ مَا أَقْتَنِيهِ" (ع 12). |
د - لجأ داود إلى التوبــة والذبيحة: " أَغْسِلُ يَدَيَّ فِي النَّقَاوَةِ فَأَطُوفُ بِمَذْبَحِكَ يَا رَبُّ" (ع 6). |
الفريسي لا يعرف للتوبة ولا للذبيحة طريقًا. |
هـ- أعلن داود عن محبته لبيـت الرب: " يا رب أَحْبَبْتُ مَحَلَّ بَيْتِكَ وَمَوْضِعَ مَسْكَنِ مَجْدِكَ" (ع 8). |
حصر الفريسي محبته في ذاته: " اَللّهُمَّ أَنَا أَشْكُرُكَ أَنِّي لَسْتُ مِثْلَ بَاقِي النَّاسِ" (ع 11). |
و- هدف داود تمجيـد اسم الله: " لأُسَمِّعَ بِصَوْتِ الْحَمْدِ وَأُحَدِّثَ بِجَمِيعِ عَجَائِبِكَ" (ع 7). |
هدف الفريسي تمجيد ذاته. |
ز- شعر داود بحاجته الشديدة للفداء: " أَمَّا أَنَا فَبِكَمَالِي أَسْلُكُ افْدِنِـي وَارحَمْنِي" (ع 11). |
رأى الفريسي كفايته في أعماله. |
3ــ يقول "الراهب القس أوغريس السرياني" أن داود كان يُصلِّي: " يا رب، من أجل إني لم أجلس مع الخطاة فلا تهلك نفسي معهم، ولا تحكم عليَّ يا رب بالهلاك مع سافكي الدماء والذين في أيديهم السيئات ويطلبون الرشوة ويرتكبون الخطايا والجرائم والظلم. لا تجمعني يا الله معهم هناك في الدينونة، ما دمتُ لم أجتمع هنا معهم في ظلمهم وإثمهم. إنني يا رب أسلك بكمالك وألتمس مراحمك حتى تتقدَّس نفسي في برك ووعودك الإلهيَّة" (188).
جاء في "التفسير التطبيقي": " لم يدَّعِ داود أنه بلا خطية، فهذا أمر مستحيل لأي كائن بشري، ولكنه كان باستمرار في شركة مع الله، مبرئًا سجله عندما يخطئ، وذلك فالتماس المغفرة. وهو يتوسل إلى الله ليبرئ اسمه من الاتهامات الكاذبة التي يتهمه بها أعداؤه" (189).
_____
(175) شرح سفر المزامير ص 105، 106.
(176) تفسير المزامير جـ 2 ص 265 - 268.
(177) مركز المطبوعات المسيحية - تفسير الكتاب المقدَّس جـ 3 ص 87.
(178) المزامير - دراسة وشرح وتفسير جـ 2 ص 66.
(179) الموسوعة الكنسية لتفسير العهد القديم جـ 10 ص 84.
(180) السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم جـ 6 ص 118، 119.
(181) السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم جـ 6 ص 412.
(182) المزامير 21-30 ص 54، 55.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/1668.html
تقصير الرابط:
tak.la/hbc5ggk