س 1667 : من الذي ينذر الإنسان، ضميره أم كليتاه: " وَأَيْضًا بِاللَّيْلِ تُنْذِرُنِي كُلْيَتَايَ" (مز 16 : 7)..؟ وهل يوجد إنسان لن يفسد جسده بعد موته: " لأَنَّكَ لَنْ تَتْرُكَ نَفْسِي فِي الْهَاوِيَةِ. لَنْ تَدَعَ تَقِيَّكَ يَرَى فَسَادًا" (مز 16 : 10)؟!
ج: 1- قال داود النبي: " أُبَارِكُ الرَّبَّ الَّذِي نَصَحَنِي وَأَيْضًا بِاللَّيْلِ تُنْذِرُنِي كُلْيَتَايَ" (مز 16 :7).
وفي "الترجمة القبطي": " أبارك الرب الذي أفهمني أيضًا إلى الليل تؤدبني كليتاي". فالرب يعطي الإنسان الوصية والنصيحة، والإنسان يبارك الرب ويفحص قلبه في ضوء الوصية، ولاسيما في الليل حيث الهدوء والسكينة والتأمل، فيراجع الإنسان تصرفانه خلال النهار، ويندم على كل ما بدر منه من أخطاء، وقال داود أيضًا: " جَرَّبْتَ قَلْبِي. تَعَهَّدْتَهُ لَيْلًا. مَحَّصْتَنِي. لاَ تَجِدُ فِيَّ ذُمُومًا. لاَ يَتَعَدَّى فَمِي" (مز 17 : 3). والمقصود بقوله " بِاللَّيْلِ تُنْذِرُنِي كُلْيَتَايَ" أي أن قلبه يضربه على كل خطأ أرتكبه أثناء النهار، وكما تفحص الكُلى دم الإنسان قطرة قطرة وتُنقي الدم من السموم، هكذا توبة الإنسان تنقي النفس من سموم الخطيَّة القاتلة، حتى تتأهل لميراث الملكوت. وقديمًا كانوا يعبرون عن الضمير بالكُلى، فالأصل العبري للكلمة يحتمل المعنيين الكُلى والضمير، ولذلك جاءت الترجمة في "كتاب الحياة": " أبارك الرب ناصحي. في الليل أيضًا يرشدني ضميــري"، ويقول "القس وليم مارش": " إن الإنسان بدون نصيحة إلهه وبدون إرشاد روحه لا يستطيع الخلاص وإذا تُركنا لأنفسنا فأننا نختار الأردأ وليس الأفضل. وكانت الكُلى في ذلك الزمان تُحسب مركزًا للضمير في الإنسان. لقد نصحني الله أن أختار سبيل الحياة فإذا لم أفعل ذلك هلكت. وأما قوله " بِاللَّيْلِ تُنْذِرُنِي... " أي أنه بتأملاته الروحية التي قد يتأملها ليلًا وانصرافه لله يرى أخيرًا كيف يسير" (173).
ويقول "راهب من دير المحرق": " وكانت الكُلى في ذلك الزمان تُحسب مركزًا للضمير في الإنسان. فلقد نصحني الله أن أختار سبيل الحياة من خلال الضمير، فإذا لم أفعل ذلك سيكون دينونة عليَّ" (174).
2ــ الكُليتان المختفيتان في جسم الإنسان كناية عن مراكـز الشعور والإحساس والعواطف والمشاعر الداخلية، والأفكار الباطنية والأعمـال الخفية، وقال داود: " فَإِنَّ فَاحِصَ الْقُلُوبِ وَالْكُلَى اللهُ الْبَارُّ" (مز 7 : 9)، وطلب داود من الرب قائلًا: " جَرِّبْنِي يا رب وَامْتَحِنِّي. صَفِّ كُلْيَتَيَّ وَقَلْبِي" (مز 26 : 2)، وقال آساف المرنّم: " لأَنَّهُ تَمَرْمَرَ قَلْبِي وَانْتَخَسْتُ فِي كُلْيَتَيَّ" (مز 73 : 21)، وقال سليمان الحكيم: " يَا ابْنِي إِنْ كَانَ قَلْبُكَ حَكِيمًا يَفْرَحُ قَلْبِي أَنَا أَيْضًا. وَتَبْتَهِجُ كِلْيَتَايَ إِذَا تَكَلَّمَتْ شَفَتَاكَ بِالْمُسْتَقِيمَاتِ" (أم 23 : 15، 16)، ودعـا إرميا النبي إلهه: " فَيَارَبَّ الْجُنُودِ الْقَاضِيَ الْعَدْلَ فَاحِصَ الْكُلَى وَالْقَلْبِ.." (إر 11 : 20)، وقال الرب بلسان إرميا النبي: " أَنَا الرَّبُّ فَاحِصُ الْقَلْبِ مُخْتَبِرُ الْكُلَى لأُعْطِيَ كُلَّ وَاحِدٍ حَسَبَ طُرُقِهِ حَسَبَ ثَمَرِ أَعْمَالِهِ" (إر 17 : 10)، وفي سفر الرؤيا قال الرب يسوع: " فَسَتَعْرِفُ جَمِيعُ الْكَنَائِسِ أَنِّي أَنَا هُوَ الْفَاحِصُ الْكُلَى وَالْقُلُوبِ وَسَأُعْطِي كُلَّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ بِحَسَبِ أَعْمَالِهِ" (رؤ 2 : 23).
3ـ قال داود النبي: " لأَنَّكَ لَنْ تَتْرُكَ نَفْسِي فِي الْهَاوِيَةِ. لَنْ تَدَعَ تَقِيَّكَ يَرَى فَسَادًا" (مز 16 : 10) وفي "ترجمة كتاب الحياة": " لأنك لن تترك نفسي في هوة الأموات. ولن تدع وحيدك القدوس ينال منه الفساد"، وهذه نبوءة واضحة عن السيد المسيح الذي مات ودُفن في القبر ثلاثة أيام ولم يتعرض جسده للفساد ولم تتغير رائحة الجسد، وهذا ما أدركه بطرس الرسول، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. فأشار إلى هذه النبوءة بالتفصيل في أول عظة مسيحية قائلًا: " لأَنَّ دَاوُدَ يَقُولُ فِيهِ كُنْتُ أَرَى الرَّبَّ أَمَامِي فِي كُلِّ حِينٍ أَنَّهُ عَنْ يَمِينِي لِكَيْ لاَ أَتَزَعْزَعَ. لِذلِكَ سُرَّ قَلْبِي وَتَهَلَّلَ لِسَانِي حَتَّى جَسَدِي أَيْضًا سَيَسْكُنُ عَلَى رَجَاءٍ. لأَنَّكَ لَنْ تَتْرُكَ نَفْسِي فِي الْهَاوِيَةِ وَلاَ تَدَعَ قُدُّوسَكَ يَرَى فَسَادًا. عَرَّفْتَنِي سُبُلَ الْحَيَاةِ وَسَتَمْلأُنِي سُرُورًا مَعَ وَجْهِكَ. أَيُّهَا الرِّجَالُ الإِخْوَةُ يَسُوغُ أَنْ يُقَالَ لَكُمْ جِهَارًا عَنْ رَئِيسِ الآبَاءِ دَاوُدَ إِنَّهُ مَاتَ وَدُفِنَ وَقَبْرُهُ عِنْدَنَا حَتَّى هذَا الْيَوْمِ. فَإِذْ كَانَ نَبِيًّا وَعَلِمَ أَنَّ اللهَ حَلَفَ لَهُ بِقَسَمٍ أَنَّهُ مِنْ ثَمَرَةِ صُلْبِهِ يُقِيمُ الْمَسِيحَ حَسَبَ الْجَسَدِ لِيَجْلِسَ عَلَى كُرْسِيِّهِ. سَبَقَ فَرَأَى وَتَكَلَّمَ عَنْ قِيَامَةِ الْمَسِيحِ أَنَّهُ لَمْ تُتْرَكْ نَفْسُهُ فِي الْهَاوِيَةِ وَلاَ رَأَى جَسَدُهُ فَسَادًا" (أع 2 : 25 - 31). وأيضًا بولس الرسول أدرك أن هذه نبوءة عن السيد المسيح في موته، وهذا ما شرحه ليهود أنطاكية بيسيدية (أع 13 : 35 - 37).. لقد انطبقت هذه النبوءة على السيد المسيح: " الَّذِي أَبْطَلَ الْمَوْتَ وَأَنَارَ الْحَيَاةَ وَالْخُلُودَ بِوَاسِطَةِ الإِنْجِيلِ" (2تي 1 : 10)، وهو الذي قـال: " أَنَا حَيٌّ فَأَنْتُمْ سَتَحْيَوْنَ" (يو 14 : 19)، ولذلك فإن الغد دائمًا أفضل للمؤمن من الحاضر، لأنه وضع رجاءه في قيامة المسيح، التي هيَ عربون قيامتنا.
4ــ قال داود النبي: " لأَنَّكَ لَنْ تَتْرُكَ نَفْسِي فِي الْهَاوِيَةِ"، والهاوية ليست مكانًا، إنما هيَ حالة الروح بعد انطلاقها من الجسد، والأصـل العبــري للكلمة "شاؤول" أي المجهول أو السؤال، وإن كانت الهاوية تخص حالة الروح بعد مفارقة الجسد " لَنْ تَتْرُكَ نَفْسِي فِي الْهَاوِيَةِ"، فإن الموت يخص حالة الجسد بعد مفارقة الروح " وَلاَ تَدَعَ قُدُّوسَكَ يَرَى فَسَادًا"، ولذلك ارتبط ذكر الهاوية في الكتاب المقدَّس بالموت: " مِنْ يَدِ الْهَاوِيَةِ أَفْدِيهِمْ مِنَ الْمَوْتِ أُخَلِّصُهُمْ. أَيْنَ أَوْبَاؤُكَ يَامَوْتُ أَيْنَ شَوْكَتُكِ يَا هَاوِيَةُ" (هو 13 : 14) (راجع أيضًا 1كو 15: 55).. " لِي مَفَاتِيحُ الْهَاوِيَةِ وَالْمَوْتِ" (رؤ 1 : 18).. " وَسَلَّمَ الْمَوْتُ وَالْهَاوِيَةُ الأَمْوَاتَ الَّذِينَ فِيهِمَا وَدِينُوا كُلُّ وَاحِدٍ بِحَسَبِ أَعْمَالِهِ. وَطُرِحَ الْمَوْتُ وَالْهَاوِيَةُ فِي بُحَيْرَةِ النَّارِ" (رؤ 20 : 13، 14).
_____
(173) السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم جـ 6 ص 33.
(174) إعداد راهب من دير المحرق - سفر المزامير جـ 1 ص 194.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/1667.html
تقصير الرابط:
tak.la/mpb77sx