ج: لم يخرج الإلحاد من بيئة مسيحية متدينة تدينًا حقيقيًا، إنما نبت من بيئة تدعو نفسها بأنها مسيحية، وهي ليست كذلك، لأنها متغربة عن مبادئ الإنجيل السامية، والبيئة التي أفرزت لنا الإلحاد تتسم من ناحية بتفشي الظلم والطغيان للرؤساء والحكام، وتتسم من ناحية أخرى بضعف الكنيسة وسلبيتها، فالحكام يطغون ويظلمون، ورجال الدين يداهنون ويبرّرون، والنتيجة الثورة، فإن لم تكن متاحة بالخارج فبداخل النفس، الثورة ليس ضد الحكام الجائرين فقط، بل وضد رجال الدين المداهنين، بل ضد الدين ذاته وضد الله ذاته، وهكذا يسقط الأفراد تباعًا في الإلحاد بهدف التمرد على الظلم والطغيان، بهدف التخلص من الكبت النفسي الذي تعرضوا له، بهدف السعي نحو الحرية المفقودة.
لقد عاملت كل من الكنيسة الكاثوليكية والبروتستانتية الملحدين بقسوة، مما دفع بهم للعناد والتمسك بآرائهم الإلحادية، ففي سنة 1670م قال الكاردينال " ليو بولدد " للملحدين بأن زمن التسامح قد ولى وفات، وكم من جرائم اقترفتها محاكم التفتيش ضد الإنسانية، وهي تعتقد أنها تفعل الصواب دائمًا، فلو عذَّبت إنسانًا مبتدعًا أو ملحدًا حتى الموت، فهو يستحق هذا، ولو عذَّبت إنسانًا وكان بريئًا إلى الموت، فهو يفدي الإيمان الصحيح، وسيصل إلى الملكوت السمائي، ولنذكر ثلاثة أمثلة فقط من فرنسا وإنجلترا وإيطاليا:
وهو أحد النبلاء في أورليانز بفرنسا وكان حسن الصورة جدًا، مهووسًا بطهارة جسده ورونقه، حتى أنه كان يلبس كل يوم قميصًا جديدًا ناصع البياض، وقبل إعدامه بعامين صرحت عائلته أنه مُختل عقليًا بسبب بعض الخلافات المالية، لكن تماسك أفكاره في النبذة التي ألفها "ذروة الصفاء الوحي عند المسيحيين" لا يتفق مع هذا الإدعاء، فقط كانت تنتابه بعض النوبات، وعندما سجن بسبب هذه النبذة حاول الانتحار، وكان " فاليه " في هذه النبذة قد أنكر وجود الله، وهاجم الكاثوليكية والبروتستانتية والإلحاد، وفضل المذهب الليبرتاني الداعي للتحرُّر الديني (هذا المذهب ينكر الوحي الإلهي ولا ينكر وجود الله) وقد هاجم فاليه الأديان لأنها تبث الهلع والفزع في النفس البشرية، ولم يقتنع بأن السيد المسيح هو النموذج الإنساني الكامل، ورغم أن فاليه كانت معرفته بالكتاب المقدَّس سطحية، فأنه تم تنفيذ حكم الإعدام فيه سنة 1574م، وأُحرق جسده مع تلك النبذة، ولم تنجو سوى نسخة واحدة منها مع السجل الذي حوى التحقيقات معه، ويقول عنه " د. رمسيس عوض": "والغريب فان فاليه الفرنسي الذي أُعدم بتهمة الإلحاد لم يكن ملحدًا حقيقيًا فهو رغم إنكاره للدين يعتقد أنه لا يمكن لأي إنسان عاقل أن يشك في وجود الله" (1).
2- أيكنهد:
وهو طالب اسكتلندي أعدمته إنجلترا في نهاية القرن السابع عشر بسبب إلحاده، والأمر العجيب أن أيكنهد وهو على حبل المشنقة ألقى خطابًا أعلن فيه عداءه الشديد للدين المسيحي، وهذا يوضح لنا كم كان هذا الشخص معبأ بأفكار فاسدة لم يجرؤ من قبل أن يفصح عنها، لأن القوانين في تلك العصور كانت تبيح إعدام الملحدين، فكان الملحد يحتفظ بأفكاره لنفسه ويحاول أن يذيعها سرًا، وطالما أن مثل هذه الأفكار الإلحادية لم تخرج للنور، لذلك فلن تجد من يناقشها ويحللها ويرد عليها، ولن يجد الملحد من يحبه ويستوعبه ويرفع عن كاهله معاناته وقلقه.
3- جيوردانو برونو (1548 - 1600م):
وهو إيطالي، وفي الخامسة عشر من عمره ألتحق بأحد الأديرة، وعندما شك في بعض الحقائق الإيمانية وعُرف عنه ذلك فرَّ هاربًا من الدير، وتجوَّل في دول أوربا، ثم تلقى دعوة من شاب إيطالي أرستقراطي يُدعى " مورسينيجو " ليتولى تدريسه، ثم أكتشف مورسينيجو مدى ضلال أستاذه فشكاه لمحكمة التفتيش في البندقية لأنه يعتبر يسوع المسيح دجالًا وساحرًا لجأ إلى الحيل لخداع الناس، وأنه ينكر عقيدة الثالوث، وأن الروح تنتقل من جسد إلى جسد، وأن السحر أمر جيد لا غبار عليه، ويسخر من المقدَّسات المسيحية، ويعتقد أننا لسنا الوحيدين في هذا الكون اللانهائي، بل أن هناك عدد لانهائي من العوالم الأخرى، والله لا يكف عن خلق المزيد منها، ويعتقد بتناسخ الأرواح، وأن الروح القدس الذي كان يرف على وجه المياه هو روح العالم، وقام " مورسينيجو " بحبس أستاذه " جيوردانو " في إحدى غرف القصر إلى أن تم تسليمه للسلطات الكنسية في البندقية سنة 1592م، وجثا " جيوردانو " على ركبتيه، مقدمًا اعترافه واعتذاره قائلًا " إني أطلب بكل اتضاع من الله ومن قداستكم مغفرة الأخطاء التي ارتكبتها... إنني أتوسل إليكم أن توقعوا أقصى عقوبة عليَّ حتى لا أدنس رداء الكهنوت الذي أرتديته، وإن شاء الله وشاءت قداستكم إظهار الرحمة نحوي والسماح لي بأن أعيش فإني أقطع على نفسي عهدًا بإصلاح حياتي إصلاحًا كبيرًا" (2) وعفت محكمة التفتيش عنه، إلاَّ أنه رجع لأفكاره بعد ثمان سنوات، فأمهلوه ثمانين يومًا، ولكنه ضيَّع الفرصة وأخذ يتلاعب برئيس الكرادلة، فنزعوا عنه رداء الكهنوت وسلموه للسلطة المدنية مع توصية بتجنب سفك دمه، ومنحته السلطات المدنية فرصة نهائية أسبوعين، ولكنه ظل متشبثًا بآرائه وأفكاره، وأخيرًا اُقتيد إلى المحرقة.
وإن كان كل هذا قد حدث في العصور الوسطى المظلمة، فإن البعض مازال يكن البغضة للملحدين في العصر الحديث، وستجد المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في أقسام المقالات والكتب الأخرى. سأل " روبرت شرمان " الرئيس الأسبق " بوش الأب " عما إذا كان الملحدون يُعتبرون وطنيّين أو حتى مواطنين، فأجابه الرئيس بوش: "لا. لا أعلم كيف نعتبر الملحدين وطنيين أو حتى مواطنين. نحن أمة واحدة تحت راية الله" (3) والحقيقة أن تعبير الرئيس الأمريكي " نحن أمة واحدة تحت راية الله " ينطبق على جماعة المؤمنين في الكنيسة. أما في الدولة فالجميع سواسية مؤمنين وغير مؤمنين ويقول أحد الملحدين أنه لا يوجد أمل لأي ملحد أن يرشح نفسه في انتخابات مجلس النواب أو مجلس الشيوخ، ولا يوجد أمل على الإطلاق أن يرشح أحد نفسه لرئاسة أمريكا، وربما هذا القول حق وصحيح إذ كيف يقود إنسان ملحد مجتمع مؤمن وبينهما هذه الهوة السحيقة؟!
وعلى كلٍ فإن الإنجيل لا يقر أبدًا القسوة في معاملة المُلحدين، ويجب أن ندين الرسائل الإلكترونية القاسية الموجهة ضد الملحدين مثل " أفضل ما هنالك هو أنك ستتعذب للأبد بتلك الذنوب التي تتجاهلها تمامًا. انتقام الله لن يريك رحمة" (4).. " يا عباد الشيطان التافهون... أرجوكم موتوا وأذهبوا للجحيم. أمل أن يصيبكم وباء مؤلم مثل سرطان القولون وتموتوا ببطء وألم، حتى تلاقوا إلهكم الشيطان... إذا كنتم لا تحبون هذا البلد والأسس التي بُنيت عليها، أخرجوا منها وأذهبوا للجحيم" (5) والحقيقة أن الإلحاد ظلمة، ولكن أيضًا البغضة والسخرية والشتيمة ظلمة، ولا يمكن أن الظلمة تطرد الظلمة، إنما شمعة الإيمان العامل بالمحبة هي التي تنير ظلمة الإلحاد.
لقد أفرز لنا ذلك الظلم وذاك الطغيان شخصيات غير سوية أتعبوا البشرية بأفكارهم وأفعالهم، من أمثال كارل ماركس، ولينين، وستالين، وهولباخ، وجورج هيجل، وشوبنهور، ونيتشه، وماوتسي تونج، وبرتراند راسل، وجان بول سارتر، وغيرهم مما سيكون محل دراستنا في الباب الثاني هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت، وإن كان الإلحاد هو وليد الظلم والطغيان، فأنه بعد ميلاده أندمج بأبويه وأرتبط بهما، وأُعجب بهما أيما إعجاب، حتى صارت صوُّر العذاب الأحمر سمة من سمات الإلحاد.
إن الإنسان المُلحد يحتاج بشدة إلى من يستمع إليه، ويصغى إلى صراخ يأسه، ويأخذ بعين الاعتبار لآرائه وانتقاداته، ولا يستخف بأفكاره، بل يحللها ويوضحها له، ويركز الأضواء على الصورة الحقيقية لإلهنا المحب الوديع المتواضع الذي تنازل إلى أن غسل أرجلنا، ويحترم حريتنا الشخصية إلى أنه مازال يلبث على باب قلوبنا يقرع، ولن يدخل إلاَّ إذا سمحنا نحن ودعوناه، فهو يحترم حريتنا الشخصية إلى أقصى درجة... الإنسان المُلحد يحتاج بشدة إلى الحوار الهادئ لكيما تتضح الحقائق أمامه صحيحة وليست مقلوبة (أمحو الذنب بالتعليم).. الإنسان المُلحد يحتاج بشدة إلى من يمد له يد المعونة في حب صادق لكيما ينتشله من الغرق الذي يصر عليه، يحتاج بشدة إلى من ينفذ إلى أعماقه ليكتشف أسباب إلحاده، فغالبًا ما يُسقط المُلحد مشكلاته النفسية والمادية على علاقاته مع الله... الإنسان المُلحد يحتاج حبًا صادقًا من القلب وصلاة نقية من القلب، فإن الأيدي المرفوعة والركب المنحنية ينقذانه من الهلاك الأبدي.
_____
(1) ملحدون محدثون ومعاصرون ص 17
(2) رأفت شوقي - الإلحاد... نشأته وتطوُّره ج 1 ص 57، 58
(3) ريتشارد دوكنز - وهم الإله ص 25
(4) ريتشارد دوكنز - وهم الإله ص 100
(5) المرجع السابق ص 100
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/atheism/injustice.html
تقصير الرابط:
tak.la/a4qfn6a