ج: وُلِد " بول هينريش ديتريش هولباخ" Holbach في عام 1723م في أسرة كاثوليكية من أصل ألماني، وكان جده ثريًا، ودرس " بول " العلوم وتعلَّم اللغة الإنجليزية، وأستقر المقام به في باريس فأصبح من رعايا فرنسا، وتزوج من أسرة من خبراء المال، وسماه المحيطون به بالبارون لأنه كان يملك ضيعة ضخمة، وفي داره كان هناك صالونه الأدبي الذي أُشتهر به جدًا، حتى أن أحد الظرفاء دعاه " مقهى أوروبا " فهو لم يكن صالونًا للأدب فقط، إنما كانت تقام فيه ولائم العشاء كل يوم أحد وكل يوم خميس، حيث يستضيف نحو أثنى عشر شخصًا هم في الغالب من الذين يهاجمون المسيحية، وعندما يكون الجو لطيفًا يتمشون على ضفاف نهر السين ويتناولون عشاؤهم من الأسماك، وبلغ " صالون هولباخ " من الشهرة، أن الأجانب الذين كانوا يزورون باريس، كانوا يسعون للحصول على دعاوي للحضور، وفي هذا الصالون كان الكلام مباحًا في كل شيء وضد كل شيء، الألوهية، والخلود، والموت والحياة، والإلحاد... إلخ. وكان عدد الحاضرين يرتفع أحيانًا إلى سبعة عشر شخصًا يفتخرون بإلحادهم.
وكانت زوجة هولباخ تعيش لزوجها فقط، فمتى فرغت من الترحيب بضيوف زوجها، وتقديم ما لذ وطاب، تجلس في ركن منعزل وتنصرف في شغل الأبرة، دون أن تشارك في المناقشات، وماتت هذه الزوجة الوفية في ريعان شبابها، وظل زوجها الذي وُصف بالبساطة والوداعة والكرم يعاني من اليأس، وبعد سنتين تزوج من أخت زوجته التي لم تقل في الإخلاص عن زوجته الأولى.
وكان البارون ينظر نظرة عداء شديدة للكنيسة، فقال أنها تسيطر على التعليم وتسد الطريق أمام المعارف العلمية، وكتب هذا في مقالتين في دائرة المعارف وهما "آباء الكنيسة" و"الحكومة الدينية". وفي سنة 1761 م. كتب "هولباخ" "المسيحية في خطر " ونسبه إلى " بولانجيه " الذي مات من سنوات، ومُنع هذا الكتاب من التداول، حتى أنه عندما ضُبط أحد الباعة المتجولين وهو يبيع الكتاب حُوكم، وحُكم عليه بالتجديف في المراكب الشراعية لمدة خمس سنوات. كما حُكم على غلام آخر أشترى الكتاب ليعيد بيعه، بنفس الحكم السابق لمدة تسع سنوات، وجاء في الكتاب العبارة التي استخدمت كثيرًا فيما بعد وهي " الدين أفيون الشعوب".
وفي سنة 1766م كتب " هولباخ " الأدب المعادي للكنيسة " قائمة القديسين" و"الوقفة المقدَّسة" و"آباء الكنيسة بغير قناع" و"القساوسة الدينية وتحطيم الجحيم " وهاجم الكنيسة بعنف، كما هاجم تحالف الملوك مع الكنيسة والذي وصفه بالشر الأساسي في فرنسا، وفي سنة 1767م أصدر "هولباخ" كتاب "اللاهوت السهل الحمل" سخر فيه كل السخرية من المبادئ اللاهوتية، وأجمل القول بأن اللاهوت هو رغبة الكنيسة في التسلط على الشعب، وفي سنة 1768م نشر " هولباخ " كتاب " العدوى المقدَّسة أو التاريخ الطبيعي للخرافة " وإدعى أنه مجرد ترجمة من كتاب جان ترتشارد الإنجليزي.
وفي سنة 1770م أصدر " هولباخ " أقوى كتبه ضد المسيحية وهو " فضح أسرار المسيحية ومنهج الطبيعة " حيث طُبع في مجلدين باسم مستعار وهو مسيو ميرابو Mirabaud وطُبع في أمستردام بهولندا، وكان ميرابو يشغل منصف سكرتير الأكاديمية الفرنسية من قبل ومات منذ عشر سنوات، ووصل الكتاب مُهرَّبًا من هولندا إلى فرنسا، حيث تهافت الناس على شرائه. مما دعى الملك لويس الخامس للتدخل، فأمر النائب العام باتخاذ الإجراءات اللازمة حيال هذه الكتب، فشجب النائب العام سبع كتب منها كتاب " منهج الطبيعة " لأنها تدعو الشعب للتمرد على الديانة والحكومة، وتم اعتقال مؤلفي هذه الكتب، ورغم أن كثيرين كانوا يعلمون أن هولباخ هو مؤلف كتاب " نهج الطبيعة " إلاَّ أنهم لم يرشدوا عنه، فلم يُعتقل، وقالوا عن كتاب " منهج الطبيعة " أنه أشمل وأكمل وأصرح عرض للمادية والإلحاد في تاريخ الفلسفة بأسره. أما " فريدريك الأكبر " الذي كان يخطب ود الفلاسفة، فقد أنقلب عليهم بسبب كتاب " منهج الطبيعة " الذي يهاجم فيه " هولباخ " رجال الدين والملوك، ويحقر من الملوك، وينال من الإله.
ج: نظر " هولباخ " للدين على أنه وليد خيال الإنسان وجهله، فالجهل يجعل الإنسان يفسر الأمور المجهولة عن طريق الدين، والجهل يقود الإنسان للإيمان بالآلهة، فسبب إيمان الإنسان بالله هو عدم فهمه للطبيعة والمادة التي هي في حركة دائمة، أما العلم والاستنارة فأنهما يقضيان على الدين، وقال " هولباخ " أن الإنسان اعتقد بإله غاضب دائمًا، ولذلك فهو يسعى لتهدئة غضبه بالتدين، وقال " هولباخ " أن المستفيد الأول هم الحكام ورجال الدين، فالحكام يقنعون الناس بأن سلطتهم من الله، ورجال الدين كوّنوا ثراواتهم من التجارة بالدين ولذلك فإن العالم سيكون أفضل كثيرًا بدون رجال الدين والملوك وقال " هولباخ": "أن الدين أصبح في يومنا الراهن فنًا جعل الناس سكارى بالحماس، بهدف صرف انتباههم عن الشرور التي يلحقها بها حكامهم على هذه الأرض وجعلهم يقبلون التعاسة في هذا العالم على رجاء الحياة السعيدة في العالم الآخر" (1)، وستجد المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في أقسام المقالات والكتب الأخرى. كما قال " هولباخ": "أن الإنسان الذي يسمح لنفسه أن يؤمن بالدين، سوف يكون على أهبة الاستعداد للإيمان بأي شيء يقول به الدين" (2).
واستنكر " هولباخ " لفظة الجلالة " الله " حتى لو أُطلقت خطأ على الطبيعة، فلم يوافق على " وحدة الوجود " أي أن الله كل شيء، وكل شيء هو الله، وقال أن لفظتي " الله" و"يخلق " ينبغي أن تختفيان تمامًا من لغة الذين يريدون أن يتحدثوا بلغة مفهومة، فهاتان اللفظتان أبتدعهما الجهل، و"أن صديق الجنس البشري لا يمكن أن يكون صديقًا للإله الذي كان في كل الأوقات سوطًا مُسلطًا على الأرض " ومن أجل تصلف "هولباخ" هذا أطلق عليه المعاصرون له " العدو الشخصي لله سبحانه وتعالى".
ويرى " هولباخ " أن الدين يقود الإنسان للخزعبلات، فيقول "أنه عندما حلت المجاعة بباريس عام (1725م) وبدأت مقدمات الثورة تظهر في الأفق، قام الناس بإحضار التابوت الصغير الذي يضم رفات القديسة جنفياف راعية باريس، التي يعبدها الباريسيون، وأخذوا يطوفون في شوارع باريس حتى يقضوا على الكارثة التي نزلت بهم" (3).
وقال " هولباخ " أن بناء الفضيلة والأخلاق على المعتقدات الدينية عمل فيه مجازفة ومخاطرة، لأن الفضيلة والأخلاق تصير وهمية مثل الدين الذي قامت عليه، ولذلك فالذي يكتشف زيف الدين فإنه سيكتشف زيف الأخلاق التي بنيت على الدين، وحتى لو ساعد الدين على اقتناء الأخلاق، فهذا لا يتوازن مع الضرر الذي يُلحقه الدين بالإنسان، ورد " هولباخ " على الذين ربطوا بين الإلحاد والانحلال الخُلقي، وقال أن الإلحاد لن يغير طبيعة الإنسان من طيب إلى شرير أو من شرير إلى طيب، فالإنسان وما جُبل عليه، وهاجم فكرة توارث الخطية وقال أنها فكرة سخيفة، فالإنسان شرير ليس لأنه وُلِد هكذا، بل لأنهم صيَّروه شريرًا، والإلحاد لا يصلح أن يكون عقيدة، وبالتالي فلن تنجم من ورائه أية أخطار سياسية، أما الإنسان الذي يكبح جماحه بسبب عقيدة الجحيم فهو إنسان جبان، وأكثر من هذا أن " هولباخ " ربط بين الإلحاد والفضائل الاجتماعية، وقال أن الإلحاد يشجع على اقتناء هذه الفضائل، وأن العقل والذكاء هما أسمى فضيلة تصل بالإنسان للسعادة.
أما نظرة " هولباخ " للمادة، فإنه كان يرى أن الطبيعة هي كل شيء، وهي الخالقة لكل شيء فالنظام والتناسق الرائعان في الكون لا يرجعان لوجود الله، بل للطبيعة التي تعمل بطريقة ميكانيكية، وهي التي تدفع بالإنسان للإقلاع عن الشرور، وهي التي تهب السعادة للإنسان، وأن الطبيعة لا تعمل بمحض الصدفة، ولا تعرف الفوضى إنما تعمل طبقًا لقوانين ثابتة وقوامس لا تتغير، والمادة ليست شيئًا خاملًا، إنما هي في حركة دائبة، وقال " هولباخ": "أن الطبيعة تدفع الناس إلى التغلب على الشرور والانتصار عليها عن طريق إدراك القوانين التي تسير الطبيعة بمقتضاها، في حين أن الدين يحول بينهم وبين السعي لتحقيق هذا الهدف لأنه يجعلهم يتطلعون إلى السماء ويشخصون بعيونهم إليها ويركزون أبصارهم عليها" (4).
وفي سنة 1704م عندما أصدر " صامويل كلارك " كتابه " مبحث عن وجود الله وصفاته " ونسب لله الصفات الإلهية مثل الخلود وعدم المحدودية واللانهائية، قال " هولباخ " أن جميع الصفات التي نسبها كلارك لله مثل الخلود واللانهائية غير قابلة للفهم، بل هي تنطبق على المادة والطبيعة بصورة أوضح. لقد كاد " هولباخ " يصوّر الطبيعة كأنها الله، مع أنه رفض فكر الذين يعتقدون أن الطبيعة هي الله، أي الذين يؤمنون بوحدة الوجود، وفي فقرة ختامية بكتابه " منهج الطبيعة " أخذ يناجي الطبيعة قائلًا " أيتها الطبيعة، يا سيدة كل الكائنات!! أن بناتك الفاتنات الجديرات بالتوقير والعبادة - الفضيلة والعقل والحقيقة - يبقين إلى الأبد معبوداتنا الوحيدات: أن إليكِ تتجه كل تسابيح الجنس البشري وينصب عليك ثناؤه، وإليكِ يقدم كل ولائه وإجلاله" (موقع بالنت) ورأى " هولباخ " في العوامل الطبيعية من رياح وعواصف وزوابع وبراكين، وأيضًا في الحروب والطاعون والمرض، كلها أمور ضرورية لمسيرة الطبيعة الأدبية، مثلها مثل حرارة الشمس.
ورأى " هولباخ " أن " الروح " ما هي إلاَّ مجرد تنظيم الجسم ونشاطه، ولا يمكن أن يكون لها كيان مستقل عن الجسد، وأن القول بأن الروح بعد الموت وفناء الجسم تحس وتفكر وتنعم وتعاني، مثل الزعم أن الساعة التي تتهشم إلى ألف قطعة تستمر دقاتها ساعة بعد ساعة تعلن مرور الوقت، فقد أنكر " هولباخ " طبيعة الروح والخلود والحياة الأبدية.
ويقول "رأفت شوقي": "يقول هولباخ أن الإيمان بوجود حياة أخرى لا يعدو أن يكون سرابًا خادعًا من شأنه أن يصرف أنظار الناس عما هو أهم منها، وهو المجتمع في الوقت الحالي... ويعزي هولباخ نشأة الدين إلى الخوف الذي يشعر به الإنسان البدائي نحو المجهول... فالدين في الأصل يرجع إلى الإيمان بوجود إله غاضب وأنه بالإمكان تهدئة غضبه، والكهنة يقيمون حقوقهم ومعابدهم ومحرابهم وثروتهم ومعتقداتهم الجامدة على أساس هذه الفكرة الصبيانية المضحكة... إن الدين أصبح في يومنا الراهن فنًا جعل الناس سكارى بالحماس بهدف صرف انتباههم عن الشرور التي يلحقها بهم حكامهم على هذه الأرض، وجعلهم يقبلون التعاسة في هذا العالم على رجاء الحياة السعيدة في العالم الآخر، ويرى هذا الفيلسوف المُلحد أن هذه النظرة تسئ إساءة بالغة إلى مبادئ الأخلاق لأن الإنسان الذي يكشف زيف الإحساس الديني الذي تبنى عليه الأخلاق يفترض أن مثل هذه الأخلاق لابد أن تكون زائفة زيف الدين نفسه... إن صديق الإنسان الحقيقي هو من يحطم فكرة وجود الله... إن الطبيعة هي كل شيء والخالقة لكل شيء" (5).
وقد أخذت الماركسية من الفكر المادي للفلاسفة الفرنسيين مثل فكر هولباخ في القرن الثامن عشر، وبنت عليها فلسفتها الإلحادية. أما الرد على هولباخ فنرجئه إلى الكتاب القادم عندما نتحدث عن ثمار الإلحاد والرد عليها.
_____
(1) أورده د. رمسيس عوض - الإلحاد في الغرب ص 136
(2) المرجع السابق ص 137
(3) أورده د. رمسيس عوض - الإلحاد في الغرب ص 137
(4) أورده د. رمسيس عوض - الإلحاد في الغرب ص 137
(5) الإلحاد... نشأته وتطوُّره ج 1 ص 78 - 81
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/atheism/holbach.html
تقصير الرابط:
tak.la/vakv8s5