برزت العقيدة الخاصة بالقديسة مريم وتطورت خلال صراع الكنيسة ضد الهرطقات، وكان ذلك لتأكيد حقيقتين تخصّان السيد المسيح:
أ. أن يسوع المسيح قد وُلِد ميلادًا حقيقيًا من القديسة مريم، فلم يكن يسوع خيالًا بل حمل جسدًا حقيقيًا مولودًا من أم حقيقية.
ب. أن يسوع المسيح المولود من القديسة مريم هو ابن الله الأبدي الذي بلا بداية.
أما أهم الهرطقات التي أثارها العاجزون عن قبول نعمة الله فيهم بخصوص شخص المولود منها فهي: الغنوصية والمانية والأريوسية والنسطورية.
تقوم أغلب النظم الغنوصية على الفصل ما بين الله الخالق والكائن الإلهي السامي. ففي نظر البعض أن العالم المادي هو شرّ جاء نتيجة سقوط الحكمة (صوفيا). ويقسم الغنوصيون البشر إلى طبقتين أو ثلاث طبقات، وهم:
أ. الروحيون، يتمتَّعون بإشراقة من الجوهر الإلهي الروحي، وسيعودون إلى أصلهم، أي إلى الكائن الإلهي السامي، وذلك بواسطة المعرفة (الغنوصية) وممارسة طقوسها.
ب. الجسدانيون أو الماديون، وهم منهمكون في العالم المادي ومصيرهم الهلاك الأبدي.
ج. يضيف البعض طبقة ثالثة متوسطة، وهي جماعة المسيحيين غير الغنوصيين، هؤلاء يبلغون حالة وسطى، خاصة بالله الخالق، وذلك خلال إيمانهم وأعمالهم الصالحة.
أما عن المسيح، ففي نظرهم جاء عن الإله السامي، يُقَدِّم الغنوصية أي (المعرفة)، وهو كائن إلهي لم يأخذ جسدًا بشريًا حقيقيًا ولا مات[59]. لهذا لم يقبلوا تجسد المُخَلِّص ولا ولادته من امرأة.
إحدى الأشكال الغنوصية تُدعَى Docetism، وهي هرطقة هددت كيان الكنيسة الأولى، أخذت اسمها عن كلمة dokein اليونانية التي تعني (يبدو) أو (يظهر هكذا). إذ نادت بأن يسوع لم يصر إنسانًا حقيقيًا، بل بدا هكذا كأنه يحمل جسدًا. إنه عَبَرَ في العذراء دون أن يأخذ من جسدها شيئًا.
يقول القديس إيرينيؤس: إن ساتيرنانيوس (حوالي عام 120 م.) قد أعلن بأن المُخَلِّص لم يُولَد، ولا تجسد ولم يكن له شكل... إذ يرى أن الزواج وإنجاب الأطفال هما من عمل الشيطان[60].
وعلَّم أيضًا فالنتينوس في القرن الثاني بأن السيد المسيح قد اتَّحد بالإنسان يسوع، [الذي وُلِد خلال مريم[61] وليس من مريم، عبر فيها كما من قناة.]
وعلَّم مرقيون بأن يسوع لم تكن له نفس بشرية، ولا جسد أرضي. إنه لم يولد من مريم، بل ظهر فجأة في اليهودية في تجسد خيالي، كشخصٍ كامل النمو، مستعد للبدء في الخدمة حالًا[62].
أما إبيليس Appeles فقد قبل أن يكون للسيد المسيح جسدًا حقيقيًا، لكنه جسد سماوي، نزل إلى هذا العالم من السماء، وليس من مريم.
وقد حذَّر آباء الكنيسة مثل القديسين أغناطيوس أسقف أنطاكية ويوستين وإيرينيؤس والعلامة ترتليان والعلامة أوريجينوس المسيحيين من هذه التعاليم، كما واجهوا الهراطقة مؤكدين حقيقة أمومة القديسة مريم بقصد تأكيد سرّ التجسد أي تأكيد حقيقة ناسوتية المسيح.
كتب القديس أغناطيوس إلى أهل تراليا: [سدّوا آذانكم عندما يُحَدِّثكم أحد من هؤلاء الذين يأخذون جنبًا من يسوع المسيح، الذي هو من نسل داود ابن مريم، الذي ولد ميلادًا حقيقيًا[63].]
مؤسس هذه البدعة هو ماني أو مانس أو مانخيوس من القرن الثالث، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. النظام الماني في أصله هو وليد التقاليد الغنوصية القادمة من شرق بلاد فارس، والتي تقوم على افتراض وجود صراع بين النور والظلمة، وبين الله والمادة. أما هدف ممارسة الدين عندهم، فهو إدراك عناصر النور التي اِغتصبها الشيطان من عالم النور وسجنها في ذهن الإنسان، وأن يسوع وبوذا والأنبياء وماني إنما جاءوا لهذا العمل. ظهور آدم كان غايته استعادة النور المسجون. أما يسوع فغايته استعادة "النور المتلألئ"، فقد خلص آدم برؤيا[64] منيرة. والممارسات الدينية عندهم هي الامتناع عن أكل اللحم والزهد في الحياة الجنسية وهي وسائل لتحقيق استمرار تحرر هذا النور تدريجيًا.
إذن لا نعجب إن رأينا أتباع ماني ظنّوا أن يسوع المسيح ليس ابنًا لمريم بأي حال من الأحوال.
لهذا قام القديس الكسندروس بابا الإسكندرية يُدافِع عن حقيقة ناسوتية السيد المسيح، وبالتالي عن أمومة القديسة مريم الحقيقية له، مقاومًا الغنوصيين وأتباع ماني. وقام القديس أثناسيوس بنفس الأمر، إذ يقول: [كان جسد الرب جسدًا حقيقيًا... مثل جسدنا، لأن مريم هي أختنا[65].]
كما يقول القدّيس أمبروسيوس: [قدمت العذراء شيئًا من عندياتها، أي من جسدها، ولم تعطه شيئًا -جسدًا- غريبًا عنها بل من جسدها، قدَّمته بطريقة غير عادية (بدون زواج) لكن العمل (إعطاء الجسد للابن) كان عاديًا، قدَّمت للثمرة جسدها[66].]
أما اتباع أريوس، فعلى خلاف الغنوصيين والمانيين، أنكروا أن يسوع ابن مريم هو ابن الله غير المخلوق، الواحد مع الآب في الجوهر الإلهي. أنكروا لاهوت السيد المسيح وبالتالي أنكروا أمومة القديسة مريم لله.
لهذا فإن آباء الإسكندرية مثل القديسين الكسندروس وأثناسيوس في مواجهتهم للأريوسية لقَّبوا القديسة مريم "الثيؤطوكوس" والدة الإله. ففي الخطاب الدوري الذي وجَّهه القديس الكسندروس للأساقفة حوالي عام 319 م.، حيث أعلن حرمان أريوس، استخدم لقب "ثيؤطوكوس" بطريقة يُفهَم منها أن هذا اللقب كان مستخدمًا بطريقة لا تحتمل المناقشة، إذ كتب هكذا: "إننا نعرف القيامة من الأموات، فإن البكر هو يسوع المسيح الذي حمل جسدًا حقيقيًا وليس شكليًا، مولودًا من مريم الثيؤطوكوس والدة الله"[67]. هكذا يُسَجِّل لنا قلمه لقب "الثيؤطوكوس" بطريقة طبيعية، تاركًا هذا الانطباع أن هذا اللقب كان دارجًا مستقرًا ولم يكن موضع نقاش في أيامه[68].
وفي الجدال مع الأريوسية، ركَّز القديس أثناسيوس على هذه الحقيقة أن السيد المسيح مولود من الآب، حمل هيئته الجسدية من الأرض غير المفلَّحة[69] دائمة البتولية[70]، الثيؤطوكوس[71]. كما سجَّل القدّيس أمبروسيوس أسقف ميلان لحنًا لعيد الميلاد علَّمه لشعبه لسند إيمانهم في المسيح يسوع، بكونه الله الحقيقي لمواجهة الأريوسية: [تعال يا مُخَلِّص العالم! اظهر ميلادك من البتول! ليُعجَب العالم كله من ميلادٍ كهذا يليق بالله!]
وقف القديس كيرلس السكندري في بازيليكا (باسم والدة الإله) عام 431 م.، يتحدَّث أمام آباء مجمع أفسس، قائلًا: [السلام لمريم والدة الإله، كنز العالم كله الملوكي، المصباح غير المطفي، إكليل البتولية، صولجان الأرثوذكسية، الهيكل غير المُدرَك، مسكن غير المحدود. السلام لكِ، يا من حملتِ غير المُحوى في أحشائك البتولية المقدسة[72].]
في الحقيقة الصراع الذي قام بين القديس كيرلس السكندري ونسطور لم يقم أساسًا حول لقب القديسة مريم "الثيؤطوكوس"، بل حول شخص السيد المسيح نفسه، وإننا نستطيع أن نُلَخِّص الظروف التي دفعت القديس كيرلس ليدخل هذا النزاع هكذا[73].
في العاشر من شهر أبريل عام 428 م. رُسِم نسطور الكاهن بإنطاكية وتلميذ ثيؤدور أسقفًا على القسطنطينية. وقد اِعتاد أن يستخدم لقب خريسطوكوس "والدة المسيح" للقديسة مريم وليس "ثيؤطوكوس"، لكن ملامح المعركة وضحت تمامًا عندما قام أحد كهنته يُسَمَّى أنسطاسيوس الذي جاء به من أنطاكية يعظ أمامه في ديسمبر عام 428 م. قائلًا: [ليته لا يسمي أحد مريم "ثيؤطوكوس"، لأن مريم لم تكن إلاَّ امرأة، ومن المستحيل يُولد الله من امرأة[74].]
أكد نسطور نفسه هذا التعليم علانية، مُقَدِّمًا في عظاته تمييزًا بين الإنسان يسوع المولود من مريم، وابن الله الذي سكن فيه. في رأيه يوجد شخصان في المسيح: ابن مريم وابن الله، اتحدا معًا اتحادًا معنويًا وليس أقنوميًا. فالمسيح لا يُسَمَّى "الله" بل حامل الله "ثيؤبورون"، على نفس المستوى الذي يُدعَى إليه القديسون بالنعمة الإلهية التي تُوهَب لهم، هكذا فإن مريم لم تكن أمًا لله بل للإنسان يسوع، الذي سكن فيه الله الرأس.
انتقد نسطور وأتباعه المجوس، لأنهم سجدوا أمام الطفل يسوع، ونادوا بأن اللاهوت قد اِنفصل عن الناسوت في لحظة الصلب.
بلغ ذلك إلى مسامع القديس كيرلس بابا الإسكندرية، فانتهز فرصة كتابة الرسالة الفصحية السنوية عام 429 م. ليكتب دون أي تلميح إلى شخص نسطور، مؤكدًا التعليم الخاص بالتجسد في عبارات واضحة وبسيطة، موضحًا اتحاد ناسوت السيد المسيح الحقيقي الحقاني الكامل بلاهوته في الشخص الإلهي الواحد.
وبعد أربعة أشهر كتب رسالة أخرى إلى الرهبان في ذات الشأن، بلغت هذه الرسائل مسامع نسطور، فأثارت غضبه جدًا، وطلب من شخص يسمى Photius أن يجيب عليها[75].
أرسل القديس كيرلس إلى نسطور رسالتين يوضح فيهما طبيعة السيد المسيح كابن الله المتجسد، شخص واحد، مُعلِنًا أنه من حق القديسة مريم أن تُدعَى "ثيؤطوكوس".
وفي رسالته الثانية كتب هكذا:
[لسنا نقول بأن الكلمة صار جسدًا بالتحوُّل، فهو لم يتحوَّل إلى إنسانٍ كاملٍ بنفسٍ وجسدٍ، بل بالحري اتحد الكلمة أقنوميًا بطريقة غير موصوفة ولا مُدرَكة بالجسد الحيّ، بنفس عاقلة، وهكذا صار إنسانًا ودُعِي ابن الإنسان... كما أنه لم يُولَد أولًا من العذراء القديسة كإنسانٍ عاديٍ وبعد ذلك نزل عليه "الكلمة"، بل بالحري اتحد "الكلمة" بالجسد في الأحشاء ذاتها...
لهذا السبب دعا "الآباء القديسون" بثقة العذراء القديسة "ثيؤطوكوس"، لا بمعنى أن طبيعة الكلمة أو اللاهوت قد تقبَّل بدءًا جديدًا من العذراء القديسة، بل يُقَال إنه وُلِد منها حسب الجسد، مادامت نفسه العاقلة التي تحيي الجسد اتحد بها الكلمة أقنوميًا مولودًا منها.
هكذا أكتب إليك بدالة الحب التي لي في المسيح، متوسلًا إليك كأخٍ مُحَمِّلًا إياك المسئولية أمام السيد المسيح وملائكته المختارين أن تُفَكِّر وتعلِّم معنا هكذا، لحفظ سلام الكنائس ورباط الحب والمودة القائم بين كهنة الله[76].]
بعد هذا اِنعقد مجمع محلي بالإسكندرية بعث رسالة مجمعية إلى نسطور يوضح ذات التعاليم التي وردت برسائل القديس كيرلس، مُذيلة بما يُسمَّى "الاثني عشر بندًا أو الاثني عشر حرمانًا".
جاء في الحرمان الأول: [من لا يعترف بأن عمانوئيل هو الله حقًا، وبالتالي فإن القديسة العذراء هي "الثيؤطوكوس" إذ ولدت كلمة الله المتجسد حسب الجسد فليكن محرومًا.]
وفي الثاني والعشرين من شهر يونيو عام 431 م. انعقد المجمع المسكوني الثالث بأفسس تحت رئاسة البابا كيرلس، الذي جرَّد نسطور من الكهنوت وحرمه، كما قُرِأت الرسالة التي وجَّهها القديس كيرلس لنسطور، ووافق على الحرومات الاثنى عشر، وأدان المجمع رأى نسطور في شخص السيد المسيح، وثبت بكل وقارٍ لقب "الثيؤطوكوس".
_____
[59] Oxford Dict. of the Christian Church, p. 573.
[60] Against Hear. 1:24:2 PG 7:674-5.
[61] Origen: In Epis. Ad Galatus PG 14:1298.
[62] Origen: In Epis. Ad Titum. PG 13:1304.
[63] Ad Trallianos 9. 10 PG 5:681.
[64] Oxford Dict. Of Christian Church, P. 864.
[65] St. Athanasius: Epist, of Epictetus 7.
[66] St. Ambrose: De Incarnationis Dominicae Sacraments 104.
[67] Epist. and Alexandrum Constant 12. PG 18:568.
[68] J.B. Carol: Mariology vol. 2 P.120.
[69] Or. 2:7 PG 26:161B
[70] Or. 2:70 PG 26:292B
[71] Or. 3:14 PG 26:349C
[72] Schwartz: Acta conciliorum oecumenicorum 1.1.2 P. 102; Palmar: Mary in the Documents of the Church. P. 50.
[73] T.H. Bindly: The Oecumenical Docum. of the Faith. London. 1899. P. 99.
[74] Socrates: H.E. 7:32.
[75] W.P. Du Bose: The Ecumenical Councils, Edinburgh. 1897. Introduction1.
[76] Denzinger-Banwart: Enchiridion Symbolorum, definitionum, ed 24-25, by Umberg, Barcelona, 1948, P. 111a.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-tadros-malaty/mary-1-orthodox-faith/church.html
تقصير الرابط:
tak.la/z649naw