محتويات: (إظهار/إخفاء) |
أولًا: بالنسبة للشريعة
الموسوية ثانيًا: بالنسبة لوصية العهد الجديد ثالثًا: المفهوم الروحي لوصية العهد الجديد المسيح الحازم رابعًا: اهتمام العهد الجديد بالحياة الداخلية خامسًا: الالتحاق بالخدمة العسكرية سادسًا: الحكم على الأبرياء سابعًا: حدود التأديب في العهد الجديد ماذا يُقصد بالخد الأيمن والآخر؟ من أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضًا من سخرك ميلًا واحدًا فاذهب معه اثنين (آخرين) |
إن كان المؤمن في العهد القديم احتاج إلى من يمسك بيده ليسلك كطفلٍ صغيرٍ لا يتحرك دون التزام بشرائع تفصيلية، فإنه في العهد الجديد قد أُعطيت له إمكانيات جديدة ليسلك في نضوج روحي. لهذا جاءت شريعة العهد الجديد ترفعه إلى السماويات، فيحيا بروح الحب والاحتمال والصفح عن المخطئين، ملتزمًا أن يقدم الخد الآخر لمن يلطمه، ويسير الميل الثاني لمن يطلب منه الميل الأول... يسلك هكذا بروح الحب مع الحكمة والاتزان، قدر ما تهبه النعمة، ناميًا فيما يبدو مستحيلًا ليمارس حياة فائقة.
الآن ما هو موقف الإنسان المسيحي بالنسبة لما ورد في العهد القديم كشريعة إلهية مقدمة للمبتدئين في الإيمان، أعطتهم حق الدفاع عن النفس بشرط ألا يتعدى الدفاع حدود ما أصابه من ضرر، أو ما يتعرض له فعلًا من إصابة بالضرر، ودفاعه عن بلده بكون الحرب ضد الوثنية حربًا مقدسة تحفظ الشعب والأجيال الجديدة من الفساد الروحي والأخلاقي؟ وما هو موقفه من وصية العهد الجديد التي تطالب بمحبة الأعداء؟ فقد جاءت الوصية في العهد الجديد تكمل المؤمن لكي يرتفع إلى الحب الكامل والنضوج الروحي وتذوق الحياة السماوية.
يرى المسيحي أن ما ورد في الشريعة الموسوية قد كمل في شريعة العهد الجديد. وبهذا فإن كل مقاومة ضد الأعداء والأشرار المقاومين للحق، إنما تشير إلى مقاومة المسيحي لعدو الخير إبليس وللخطية. فإن المسيحي يحب حتى مقاوميه، متطلعًا أن له عدو واحد هو إبليس. يكره المؤمن الشر، لكنه يحب الشرير كإنسانٍ يمكن أن يرجع ويتوب، وهو لا ييأس من توبة إنسانٍ قط ما دام لا يزال قد بقي فيه ولو نفس واحد.
في دفاع العلامة أوريجينوس في القرن الثاني ضد صلسس Celsus الذي هاجم المسيحية كما اليهودية أيضًا أوضح نظرة المسيحيين للشريعة اليهودية خاصة فيما يخص الحروب، إذ يقول:
* .. لو لم تكن هذه الحروب الجسدية (أي ضد الشعوب) ترمز إلى الحروب الروحية لست أظن أنه كان يمكن للرسل أن يسمحوا لأتباع المسيح أن يقرأوا الأسفار التاريخية اليهودية في كنائسهم...
هكذا إذ كان الرسول مدركًا أن الحروب الجسدية (أي ضد الشعوب) لم تعد بعد تُثار بواسطتنا، إنما محاربتنا هي فقط في معارك النفس ضد الأعداء الروحيين يعطي الأوامر لجنود المسيح كقائد عسكري إذ يقول: "البسوا سلاح الله الكامل لكي تقدروا أن تثبتوا ضد مكايد إبليس" (أف11:6)(15).
يرى العلامة أوريجينوس في هذه الحروب إشارة أيضًا إلى الحرب ضد الجهل الروحي:
* .. قد أتينا إلى التجاوب مع وصايا يسوع فنضرب سيوف الصراع العقلية والجهل أدوات للحرث، ونحول أسنان الرماح الحديدية التي استخدمناها لنحارب بها. فإننا لا نعود نحمل السيف ضد أية دولة، ولم نتعلم الحرب بعد... صرنا أبناء سلام خلال يسوع قائدنا(16).
يقرر الشهيد يوستين في القرن الثاني أن الإسرائيليين امتلكوا كنعان حسب إرادة الله، وأن الله ذبح الآشوريين في أيام حزقيا(17). كما برر كثير من الآباء الحروب في القديم بكونها رموزًا للحروب الروحية ضد الخطية وإبليس(18).
مع نهاية القرن الأول وبداية الثاني يقول العلامة ترتليان:
*.. بخصوص ممارسة الشريعة القديمة ينتقم (المؤمن) بالسيف، ويأخذ عينًا بعين، ويرد الضرر بضرٍر. أما في ممارسة الشريعة الجديدة فيركز على السمو ويحول السيوف المتعطشة لسفك الدم والرماح لكي تُستخدم في السلام، ويحول الأعمال الحربية الانتقامية ضد الثائرين والأعداء إلى أدوات للحرث، أدوات للسلام ولزراعة الأرض(19).
ينتزع المسيحي الحقيقي من قاموس فكره وقلبه كلمة "مستحيل"، فهو يؤمن بالإمكانيات الجديدة المعطاة له ليحيا على مستوى فائق. حقًا يضع المؤمن أمامه مثالًا عظيمًا سماويًا، مجاهدًا لكي يرتفع قدر ما يتجاوب مع نعمة الله، قائلًا مع الرسول بولس: "إذ أنا أنسى ما هو وراء وأمتد إلى ما هو قدام، أسعى نحو الغرض لأجل جعالة دعوة الله العليا في المسيح يسوع" (في 13:3،14). فإن البداية الطريق ضيق للغاية وطويل لكن فيه عذوبة الحب والاحتمال.
يميز القديس أمبروسيوس بين شريعة العهد القديم وشريعة العهد الجديد:
* يدعو الناموس إلى الانتقام المعادل للضرر، أما الإنجيل فيأمرنا أن نرد العداوة بالحب، والكراهية بالإرادة الصالحة، والصلاة من أجل اللاعنين. إنه يأمرنا أن نعين الذين يضطهدوننا(20).
يرى البعض إنه يجب إدراك الأعماق الروحية لوصية العهد الجديد، فلا تُطبق بطريقة حرفية جافة، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. فإن كانت الوصية تطالبنا بالتنازلات، فإنه يجب تقديمها بروح الحب مع الحكمة. وهم في هذا يقدمون الأمثلة التالية:
طوَّب السيد المسيح صانعي السلام، قائلًا: "طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يدعون" (مت9:5)، وفي نفس الوقت مدح قائد المائة في كفرناحوم (مت5:8-13) دون أن يطالبه بترك الخدمة العسكرية التي فيها يلتزم باستخدام العنف طاعة للقانون أو للدولة أو الإمبراطور.
رفض السيد المسيح حماية خاصة به أثناء آلامه (يو36:18)، إذ رفض دفاع تلميذه بطرس عنه وقت القبض عليه قائلًا له: "رد سيفك إلى مكانه، لأن كل الذين يأخذون السيف بالسيف يهلكون. أتظن إني لا أستطيع الآن أن أطلب إلى أبي فيقدم لي أكثر من اثني عشر جيشًا من الملائكة؟!" (مت52:26-53)، وفي نفس الوقت سأل أن يُرد لقيصر ما هو لقيصر (مت21:22)، وهو الطاعة والدفاع عنه وعن الدولة. يري البعض أن بقوله أعطِ لقيصر ما لقيصر ولله ما لله يؤكد رفضه العبادة الوثنية وعبادة الإمبراطور، لكنه يطلب الطاعة للسلطات، ليس فقط في الأمور المدنية ولكن في خدمة الإمبراطور العسكرية، لأن خدمة الجيش بالنسبة للرومان هي أول حقوق قيصر(21).
دعانا إلى تحويل الخد الآخر لمن يلطمنا (مت38:5-39)، ومع ذلك لم يرد خده الآخر لعبد رئيس الكهنة الذي ضربه (يو23:18).
لم يكن لدى القديس بطرس أية تحفظ عندما عمّد قائد المائة كرنيليوس (أع10).
لم يطلب القديس يوحنا المعمدان من المتقدمين إليه بالتوبة أن يتركوا الخدمة العسكرية (لو14:3)، ولا فعل بولس الرسول ذلك عندما اهتدى قادة الإيمان في فيلبي (أع27:16- 34).
في سفر الرؤيا يظهر السيد المسح في مجيئه الأخير كقائدٍ منتصرٍ (رؤ21:3؛ 5:5؛ 2:6)، يخرج من فمه سيف ذي حدين (16:1؛ 12:2؛15:19). كمحارب لأرض العدالة يقود جيوش السماء ويغلب الوحش وملوك الأرض (11:19-21).
قبل أن يملك السيد المسيح (أبديًا) تحدث معركة جوج وماجوج وتكون النصرة للقديسين (7:20-10). حقًا إنها تحتل مركزًا خاصًا في الفكر المسيحي.
مدح الرسول بولس رجال الحرب الأتقياء كرجال إيمان مثل جدعون وباراق وشمشون ويفتاح (عب32:11-34)، ولجأ هو نفسه إلى قيصر مدافعًا عن نفسه كرجلٍ روماني (أع25).
من حق الحكام والقضاة تأديب المجرمين حسب القانون كما جاء في 1بط13:2-17 ويعلن القديس بولس أن الحكام موضوعين لمعاقبة المجرمين ومدح الصالحين ...يمكن للحكام أن يكون مسيحيين، لأنه كما يقول العلامة ترتليان أن المسيحيين ليسوا "براهمة حكماء عراه جاءوا من الهند سكان غابات أو مستبعدين عن الحياة اليومية(22)".
إن كان السيد المسيح قد جاء إلى العالم ليفتح قلب المؤمن بالحب مع الرحمة واللطف أمام جميع الناس، لكننا لن نتجاهل دوره الحازم. كما سبق فرأينا أنه وبخ العبد الذي لطمه أثناء محاكمته، مدافعًا عن نفسه. وأيضًا صنع سوطًا وطرد باعة الحمام والصيارفة، ليطهر الدار الخارجية من الهيكل الذي جعلوه بيت تجارة ومغارة لصوص (مر13:11-17)، ووبخ قادة اليهود الدينيين مثل الكتبة والفريسيين والصدوقيين والناموسيين علانية.
مع عدم تجاهل الواقع الذي يعيش فيه المؤمن ركز العهد الجديد على الإنسان الداخلي، أو الحياة الداخلية، مؤمنًا بقدرتها على التغيير بالنسبة للمؤمن والمجتمع. فقد أعلن السيد المسيح لتلاميذه: "ها ملكوت الله داخلكم" (لو 21:17) ، والمسيحي قادر أن يمنح سلامًا (مت13:10)، لأن سلام الله يحفظ قلبه (في7:4). ويظهر السيد المسيح الغالب في شكل حمل (رؤ5) كمثال للغلبة بروح الوداعة الداخلية. وكما يقول العلامة أوريجينوس: [مادام قد أُمر (المؤمن) أن يكون مسالمًا حتى مع الذين يبغضون السلام، فإنه يعجز عن استخدام السيف ضد أي شخص(23).]
* .. ما لم تحرر أولًا نفسك من كل دنس الخطية حتى تمنع تدبيرك الداخلي من إثارة الخلافات والصراعات لن تقدر أن تقدم علاجًا للآخرين.
في مجال السلام ابدأ بنفسك حتى عندما تؤسس السلام هناك يمكنك أن تقدمه للآخرين؛ فإنه كيف يمكنك أن تطهر قلوب الآخرين ما لم تفعل هذا بالنسبة لك أولًا؟!(24)
* .. السلام الذي ينزع إغراءات الأهواء ويعطي هدوءً لمتاعب الروح أكثر عذوبة من ذاك الذي ينتج عن إحباط غزو البرابرة. إنه لأمر عظيم أن تقاوم العدو داخلك عن ذاك العدو البعيد عنك(25).
لا يليق بالمؤمن أن يواجه الشر بالشر (مت39:5-41؛ رو17:12، 19-21؛ 1بط9:3؛ 1تس15:5)، بل يغلب الشر بالخير (رو21:12).
حتى عام 170 لم تكن هناك مشكلة بالنسبة للمسيحيين، فإن الدولة الرومانية لم تكن دولة عسكرية بالمفهوم الحديث. كان الجيش يمثل نسبة صغيرة بالنسبة للتعداد، لهذا لم تكن هناك حاجة لإلزام مسيحي علي الالتحاق بالجيش الروماني. يري Edward A. Ryan أنه لم تكن هناك مشكلة بالنسبة للمسيحيين في بدء نشأة الكنيسة بخصوص الالتحاق بالخدمة العسكرية. كان الرومان يتطلعون إليهم كطائفة يهودية، فانتفعوا بالاستثناء الذي لليهود الخاص بالإعفاء من الخدمة العسكرية(26).
من جانب آخر عندما قام اليهود بتمردٍ خطيرٍ ما بين عامي 66،70 وقام فاسبسيان وتيطس بمقاومته، كان المسيحيون قد عبروا الأردن إلى Pella، ولم يدخلوا في مقاومة مسلحة للدفاع عن أورشليم، أولًا: لتدربهم علي الولاء للحاكم، فقد أكد الرسل ضرورة الطاعة للحكام (1بط13:2الخ؛ 2بط17:2؛ رو1:13-7). ثانيًا: لأنه سبق فأعلن لهم السيد عما سيحدث وطالبهم بالهروب.
عالج القديس أغسطينوس (354-430م) مشكلة القاضي المسيحي الذي يحكم على متهمٍ فيعاني من العنف، وهو لا يدري أنه مظلوم وأن الشهود كذبة قد أحكموا الاتهام ضده ظلمًا. فإنه مادام القاضي لم يهمل، وقد بذل كل الجهد لإدراك الحقيقة ولم تكن لديه نية شريرة ضد المتهم، فإنه لا يُلام علي ذلك لأن ما فعله هو ضرورة. لهذا يجب أن يصرخ دومًا لله: "خلصني من ضروراتي" (مز17:25)(27).
يلتزم الحكام بتأديب الأشرار والمجرمين، وكما يقول الرسول بولس: "لتخضع كل نفس للسلاطين الفائق، لأنه ليس سلطان إلا من الله، والسلاطين الكائنة هي مرتبة من الله. حتى إن من يقاوم السلطان يقاوم ترتيب الله، والمقاومون سيأخذون لأنفسهم دينونة. فإن الحكام ليسوا خوفًا للأعمال الصالحة بل للشريرة. أفتريد أن لا تخاف السلطان؟! افعل الصلاح فيكون لكي مدح منه.لأنه خادم الله للصلاح. ولكن إن فعلت الشر فخفْ. لأنه لا يحمل السيف عبثًا إذ هو خادم الله منتقم للغضب من الذي يفعل الشر. لذلك يلزم أن يُخضع له، ليس بسبب الغضب فقط، بل أيضًا بسبب الضمير" (رو 1:13-5).
واضح أن العهد الجديد أعطى للحاكم أو المسئولين حق تأديب الأشرار حتى إلى استخدام السيف. وقد ترك للمشرعين أن يضعوا حدود العقوبة أو التأديب حسب ظروف العصر أو الدولة أو مرتكب الشر أو ملابسات القضية.
أما من جانب الساقط تحت العقوبة أو التأديب فإنه إذ يخضع للحكم العادل يلزمه ألا يخاف من غضب الناس بل من ضميره، فيكون التأديب لمراجعته لنفسه وبنيانه في كل جوانب حياته.
هذا عن تأديب الجماعة للأشرار، أما بالنسبة لتأديب الأبناء فيقول الرسول بولس: "أي ابن لا يؤدبه أبوه؟!" (عب 7:12). أما حدود هذا التأديب فهو تقديم صورة حب الله الحاني الحازم لأولاده: "لأن الذي يحبه الرب يؤدبه ويجلد كل ابن يقبله" (عب 6:12). لم يقدم لنا العهد الجديد شرائع تفصيلية، لكنه يقدم مبدأ أساسيًا، وهو التعامل مع الأبناء كظل لتعامل الله معنا، مثل إعلان الحب الفائق مع الحزم لبنياننا، وتقديم الحرية الإنسانية، وتقدير شخصية الإنسان مهما صغر سنه ولو كان رضيعًا الخ.
يقول القديس أغسطينوس(28):
[لا يعني ما سبق ذكره أننا نتنحى عن توقيع التأديب، كوسيلة للتهذيب، وذلك كما تمليه المحبة نفسها، على أن توقيع التأديب لا يمنع من كون الإنسان مستعدًا لاحتمال أضرارٍ أكثر ممن يؤدبه. ولكن لا يستطيع الإنسان ذلك ما لم يكن قد تغلب على الكراهية التي تدفع إلى الانتقام، وهذه الغلبة لا تكون إلا بالمحبة الشديدة. فنحن لا نخاف أن يكره الأب ابنه الصغير عندما يؤدبه كي لا يخطئ مرة أخرى.
إن كمال المحبة يظهر لنا في الله الآب نفسه الذي نقتدي به، عندما قال فيما بعد ذلك: "أحبوا أعداءكم... أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم" (مت 44:5). ومع هذا فقد قيل عنه بالرسول: "لأن الذي يحبه الرب يؤدبه ويجلد كل ابن يقبله" (عب 6:12). يقول الرب أيضًا: "وأما ذلك العبد الذي يعلم إرادة سيده ولا يستعد ولا يفعل بحسب إرادته فيُضرب كثيرًا. ولكن الذي لا يعلم ويفعل ما يستحق ضربات يُضرب قليلًا" (أنظر لو 47:12، 48). لذلك فمن أُعطي له سلطان التأديب، فليُؤدب بحسب النظام الطبيعي، بنفس الإرادة الصالحة التي للأب نحو ابنه الصغير الذي لا يمكن أن يكرهه.
وإنه لمن الخطأ أن يترك الخاطئ بدون تأديب، فمن يؤدب بمحبة لا يقصد جعل الخاطئ بائسًا، بل يرغب في إسعاده بالتأديب، ولكن على المؤدب أن يكون مستعدًا لاحتمال شرورًا أكثر من الشخص الذي يؤدبه، سواء أكان في سلطانه أن يمنعه من ذلك أو ليس في سلطانه ذلك.
استخدم بعض الآباء القديسين أحيانًا عقوبة الموت في الحكم على البشر، ومع ذلك فهم يعرفون جيدًا أن الموت (الذي يفصل الروح عن الجسد) ليس بعقابٍ، ولكن لأن كثيرين يشعرون بخوف من الموت، لذلك أُستخدمت عقوبة الموت لتخويف الخطاة. والحقيقة أن الموت لا يضر من يؤدَب به، إنما الذي يجلب الضرر هي تلك الخطية التي تتزايد ببقاء الخطاة أحياء في الجسد.
إن استخدام الآباء للسلطان الإلهي في الحكم بالموت على الخطاة لم يكن بتهور بل كان بحكمةٍ. فحكم إيليا النبي بالموت على كثيرين من الخطاة سواء بالقتل أو بطلبه نارًا من السماء لإبادتهم (أنظر 1 مل 40:18، 2 مل 10:1)، هذا الحكم إنما حدث بروح المحبة لخير البشرية ونفع المؤمنين.
لذلك عندما طلب التلاميذ من السيد المسيح نفس الطلب، أن تنزل نار من السماء على أهل السامرة الذين لم يقبلوا السيد المسيح متمثلين بإيليا النبي، لم ينقد الرب ما صنع النبي، بل انتهر جهل التلاميذ، موبخًا معرفتهم البدائية برسالة المسيح الخلاصية، موضحًا لهم أنهم بذلك لا يرغبون في التهذيب بمحبة، بل يرغبون في الانتقام بكراهية (لو 52:9-56). وبعد ما علمهم الرب عن محبة القريب كالنفس، وبعد ما حل الروح القدس عليهم في يوم الخمسين، لم يعودوا بعد يطلبون مثل هذه الأمور الانتقامية، بل أصبحت هذه الطلبات نادرة جدًا في العهد الجديد (حنانيا وسفيرة) إذا ما قورنت بالعهد القديم. إن العلاقة بين الله والإنسان في العهد القديم، كالعلاقة بين السيد والعبد، تقوم على الخوف. أما في العهد الجديد، فلم نصبح بعد عبيدًا بل أبناء، إذ تحررت نفوسنا من عبودية الخوف بالمحبة الإلهية.]
يتحدث العلامة أوريجينوس عن عٌرفٍ سائدٍ يشير إلى استخدام التأديب منذ زمنٍ بعيدٍ. [في كنيسة المسيح، جَرَى العٌرفٌ على استبعاد الممارسين لخطايا واضحة عن الصلاة المشتركة(29).]
يلزم أن يكون التأديب أكثر صرامة وحزمًا طبقًا لمسئولية المؤمن في الكنيسة ودوره دون استثناء. وكما يقول العلامة أوريجينوس:
[كل الخطاة في الكنيسة... مستحقون للعقاب. لكن عقابهم يختلف تبعًا للمرتبة التي يشغلونها...
يستأهل الموعوظ رحمة أكثر من المؤمن.
وللشماس الحق في العفو أكثر مما للكاهن.
أما ما يتبع ذلك، فلستم في حاجة لأخبركم عنه... إني أخاف دينونة الله. وأضع أمام مخيلتي صورة لما سيحدث فيها... أضع في اعتباري القول: إن كان الحمل أثقل مما يمكنك تحمله فلا ترفعه. فماذا أنتفع إن كنت أتوَّج عند منبر المعلم في مكان الشرف ...إذا كنت عاجزًا عن إنجاز العمل الذي يستلزمه وضعي (كمعلمٍ)؟ سيكون عقابي، حينئذ أكثر ألمًا، في وقت يٌعاملني فيه كل الناس باحترام، على أساس إني صالح، في حين أكون أنا خاطئًا(30).]
يقول العلامة أوريجينوس أنه يلزمنا ألا نتسرع بالتأديب العلني:
[(الله) لا يُريدك، إذا ما رأيت خطيئة أخيك أن تندفع مٌسرعًا إلى مكان عام، وأن تصيح بغير تمييز، مفشيًا سره. فإن مثل هذا التصرف لا يصدر عن من يقصد التصحيح، بل بالأحرى من يهدف إلى التشهير. لهذا يقول: "عاتبه بينك وبينه وحدكما" (مت15:18). فعندما يرى من أخطأ أن سره قد حٌفظ، يكون في وسعه أيضًا إصلاح موقفه في خجل. لكنه إذا رأى أنه قد شُهِّر به، فسيتعمد حالًا إلى الإنكار في عدم حياء. بهذا ليس فقط تفشل في تصحيح الخطأ، بل وينتهي بك الأمر إلى مضاعفته. فعليك إذًا أن تتعلم هذا النظام اللائق من الأناجيل(31).]
لا تمتنع الكنيسة عن ممارسة التأديب خشية التشهير بها وكما يقول العلامة أوريجينوس:
[يتحمل الأنبياء والمعلمون ممن يقاومونهم ما يحتمله الأطباء من المرضى غير الراغبين في تقبل العلاج الطبي القاسي. مثل هؤلاء المرضى غير المنضبطين يقدِمون إما على الهروب من أطبائهم، أو يوجهون إليهم الإيذاء والإهانة، ويتعاملون معهم كما لو كانوا أعداء لهم(32).]
يقول القديس أغسطينوس(33):
[إن وجه الإنسان يعبر عن شخصه. ويقول الرسول: "إن كان أحدهم يستعبدكم. إن كان أحد يأكلكم. إن كان أحد يرتفع. إن كان أحد يضربكم على وجوهكم" مفسرًا الضرب على الوجه بأنه إهانة واحتقار، إذ يكمل قائلًا: "على سبيل الهوان" (2 كو 20:11، 21).
والرسول يذكر ذلك مبينًا أنه إن كان عليهم أن يحتملوا من أحبهم حتى رغب في أن يُنفق لأجلهم (أنظر 2 كو 15:12).
احتمل الرسول بولس اللطم على الخد الأيمن ثم الأيسر. فقد احتمل ما احتمله التلاميذ من تعيير بسبب اسم المسيح الذي دعي عليهم (أي احتمل اللطم على الخد الأيمن). بعد ذلك قدم الخد الأيسر مضحيًا بأمجاده العالمية (جنسيته الرومانية - أنظر أع 37:16). فعندما أعلن عن جنسيته الرومانية لم يكن يقصد بذلك الافتخار أو الانتقام ممن أساءوا إليه. بل بالعكس كان بولس يعلن عن رومانيته لتتهيأ له فرصة للحديث عن المسيح معلنًا بذلك محبته لخلاص نفوس هؤلاء الذين أكرموه لأجل رومانيته وأهانوه لأجل مسيحيته.
وبالمثل أيضًا عندما ضُرب بأمر رئيس الكهنة فقد رد عليه بمحبة، رغم ما يبدو من إجابته أنه كان غاضبًا، إذ قال: "سيضربك الله أيها الحائط المبيض". فرده هذا يبدو شتيمة، أما حقيقة أمره فهو نبوة. فالحائط المبيض هو الرياء أو التظاهر في مظهر الكهنوت، كما لو كانت هناك قذارة مخبأة في غلاف أبيض. فالرسول احتفظ بالتواضع بصورة عجيبة. فعندما قيل له "أتشتم رئيس كهنة الله؟" أجاب "لم أكن أعرف أيها الاخوة أنه رئيس كهنة لأنه مكتوب رئيس شعبك لا تقل فيه سوءً" (أع 5:23). فإجابته هذه تظهر مدى الهدوء الذي كان يتحدث به، فيما حسب أنه يتكلم بغضب فقد أجاب بسرعة ولطف، الأمر الذي لا يحدث من شخصٍ غاضبٍ أو معتذرٍ (بسبب الشتيمة)... فكأنه قال إنني أعرف رئيس كهنة آخر - المسيح - الذي أحتمل أنا من أجله أتعابًا كهذه، هذا الذي لا يجوز شتمه، وأنتم قد شتمتموه، لأنه لا يوجد في نفسي شيء سوى اسمه الذي تكرهونه.
لهذا يلزم للشخص ألا يفتخر بكرامته الزمنية، بل يعد قلبه لاحتمال كل الأشياء حتى يستطيع أن يرتل بفرحٍ مع النبي قائلًا: "قلبي مستعد يا الله. قلبي مستعد" (مز 8:56).
كثيرون تعلموا كيف يقدمون الخد الآخر (أي أن يهانوا في أمجادهم الزمنية) ولكنهم لم يتعلموا كيف يحبون ضاربيهم.
والمسيح رب المجد، واضع الوصية ومنفذها الأول، عندما لُطم على خده بواسطة خادم رئيس الكهنة رد قائلًا: "إن كنت قد تكلمت رديًا فاشهد على الرديء، وإن حسنًا فلماذا تضربني؟!" (يو 23:18). فهو لم يقدم الآخر، لكن كان قلبه مستعدًا لخلاص الجميع، لا بضرب خده الآخر فقط من ذلك العبد، بل وبصلب جسده كله.
يقول القديس أغسطينوس(34):
[ينبغي أن تُفهم هذه الوصية على أنها تهتم بتهيئة القلب داخليًا في كل ما تملك. فما قيل عن الثوب والرداء لا يقصد به المعنى المحدود لهما بل يُقصد بهما كل ما نمتلكه في هذه الحياة.
إن كان هذا أمر الضروريات فكم بالأكثر ينبغي لنا أن نزدري بالكماليات؟!
ليتنا نحتقر كل تلك الأشياء التي نحسبها ملكًا لنا ويخاصمنا اخوتنا بسببها... ليتنا ننقل ملكيتها إليهم.
قلنا أن هذه الوصية تنطبق على جميع ممتلكاتنا... ولكن هل يعتبر العبيد من الممتلكات التي نقتنيها وبذلك تطبق الوصية عليهم؟
على المسيحي ألا يمتلك عبدًا بالطريقة التي يمتلك بها حصانًا أو منقولات ذهبية أو فضية، حتى لو كان ثمن هذه الممتلكات أغلى من ثمن العبد.
فإن كان المسيحي كسيد للعبد قد هذبه وأدبه بطريقة تقوده إلى خوف الله أفضل من معاملة السيد الذي يرغب في أخذه منه، فلا أظن أن أحدًا يتجاسر مزدريًا بالعبد، تاركًا إياه للسيد الآخر كما يترك الثوب. إذًا ينبغي للسيد أن يحب أخاه العبد كنفسه.
يجب أن نلاحظ بعناية أن كل ثوب tunic هو رداء garment، وليس كل رداء ثوبًا. فمن ثم كلمة "رداء" أعم من كلمة "ثوب". لذلك أظن أنه عندما قال الرب: "ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء" كان بقصد أن من يرغب في أخذ الثوب ينبغي أن نترك له الملابس الأخرى.]
يقول القديس أغسطينوس(35):
[بالتأكيد أن الرب لا يقصد كثيرًا تنفيذ هذه الوصية بالسير على الأقدام، بقدر ما يعني إعداد الذهن لتنفيذ الوصية. فتاريخ الكنيسة الذي يعتبر مرجعًا لمثل هذه الأمور لا يشير إلى تنفيذ هذه الوصية (حرفيًا) بواسطة القديسين أو الرب نفسه في وجوده بالجسد على الأرض، مع أنه تنازل وأخذ جسدًا معطيًا لنا مثالًا نقتفي إثر خطواته، لكننا نجدهم في الوقت نفسه، مستعدين لاحتمال كل ما يصيبهم من شرور بشجاعة.
لكن لماذا حدد الرب يسوع المسافة بميلين (آخرين)؟ هل قصد بذلك مجرد السير، أم أنه قصد تكميل الميل بميلين آخرين فيصبح العدد ثلاثة، هذا الرقم الذي يعني الكمال، حتى يتذكر من ينفذ هذه الوصية أنه يتمم البرّ الكامل في احتمال أتعاب الآخرين بلطف حتى إلى الميل الثالث؟
إن عرض رب المجد لهذه الوصايا الثلاثة في هذا الترتيب إنما يتدرج في الاحتمال من الأسهل إلى الأصعب.
المثال الأول: من يلطمك على خدك الأيمن... حول له الآخر.
المثال الثاني: من يأخذ ثوبك... أعطه الرداء.
المثال الثالث: من يسخرك ميلًا... سرّ معه اثنين (آخرين).
ففي الوصية الأولى، طلب تقديم الحد الثاني، عند اللطم على الخد الأيمن، أي الاستعداد لاحتمال ما يصيبنا مضافًا إليه شيء آخر أقل منه، لأنه إنما يقصد بالأيمن شيئًا أهم من الأيسر. فاحتمالنا اللطم على الخد الأيسر أي الإهانة في الأمور البسيطة يكون هينًا، مادمنا نستطيع احتمال الإهانة في أمور عزيزة علينا (أي اللطم على الخد الأيمن).
وفي الوصية الثانية الخاصة بطلب الثوب، أوصى الرب بإعطاء الرداء أيضًا، أي إعطاء ما يساويه أو أكثر منه قليلًا دون أن يبلغ إلى الضعف.
وفي الوصية الثالثة الخاصة بالميل، أوصى الرب بإضافة ميلين آخرين إلى الميل الأصلي، أي أمر بوجوب احتمال الضعف أيضًا...]
_____
(15) Against Celsus 15:1.
(16) Against Celsus, 5:33.
(17) Ibid., 1:38.
(18) Irenaeus: Against Heresies 4:24; Tertullin: Against Marcon 3:18:6; Origen: Hom. On Joshua 15:1.
(19) Against the Jews, 3:10.
(20) Discourse on Luke 5:73.
(21)Everett Ferguson, Scholer and Finney: Studies in Early Christianity, vol. 16, Christian Life: Ethics, Morality, and Discipline in the Early Church, p. 222.
(22) Apology 42:1.
(23) Comm. Ser. 102 in Matth.
(24) Discourse on Luke, 5:58.
(25) On Jacob 2;6:29.
(26) Everett Ferguson, Scholer and Finney: Studies in Early Christianity, vol. 16, Christian Life: Ethics, Morality, and Discipline in the Early Church, p. 217ff.
(27) St. Augustine: City of God, 19:6.
(28) الموعظة على الجبل لأغسطينوس، ترجمة: القمص تادرس يعقوب ملطي، ك 1، في 63.
(29) PG 13:1740.
(32) In Lev. Hom. 2:1.
(33) In Jer. Hom. 14:1.
(34) الموعظة على الجبل لأغسطينوس، ترجمة: القمص تادرس يعقوب ملطي، ك 1، في 58.
(35) الموعظة على الجبل لأغسطينوس، ترجمة: القمص تادرس يعقوب ملطي، ك 1، ف59، 60.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-tadros-malaty/faith-vs-allowance/new-testament.html
تقصير الرابط:
tak.la/yx56cfg