محتويات: (إظهار/إخفاء) |
عذوبة وصية محبة الأعداء الكنيسة والجيش الروماني قبل قسطنطين الشهداء والالتحاق بالجيش الروماني |
القمص تادرس يعقوب ملطي
نادت المسيحية بالطاعة للسلطات والخضوع الدولة كما ركزت على السلام الداخلي والعفو عن المخطئين، وعدم استخدام السيف، فإن المؤمن يطبق هذه الوصايا قدر قامته الروحية، مشتهيًا أن يقدم الحب حتى للأعداء المقاومين. هذا وقد اختلف تطبيق هذه الوصايا حسب الظروف التي يعيش فيها المؤمنون وقامتهم الروحية. ويرى بعض الدارسين أن قبول الإمبراطور قسطنطين للإيمان تعتبر نقطة تحول في نظرة الكثيرين إلى هذه الوصايا. ويعتبر قبول قسطنطين الإيمان المسيحي نقطة تحول في نظرة المسيحيين لهذه الأمور.
فقد اتسمت عصور ما قبل قسطنطين بالآتي:
1. كانت الكنيسة في الشرق والغرب تحمل فكرًا انقضائيًا حيَّا، فالكل يترقب مجيء السيد المسيح الأخير بفرحٍ وبهجة قلبٍ، مما دفع المؤمنين إلى تنازلات كثيرة بفرحٍ من أجل المجد المنتظر، ولاجتذاب الوثنيين إلى الحياة الإيمانية الحيّة، مهما كانت التكلفة.
2. لم تكن الجيوش الرومانية في فترات كثيرة منشغلة بالدفاع عن الإمبراطورية الرومانية قدر ما كانت تكرس أغلب طاقاتها لتحطيم الإيمان المسيحي وإبادة المسيحيين أو إلزامهم بالعبادة الوثنية. وكما يقول Roland H. Bainton في بحثه "الكنيسة الأولى والحرب":
[خطر العبادة الوثنية في الخدمة العسكرية كان حقيقة واقعة.
تأليه الإمبراطور والتعبد له كان شائعًا في المعسكرات. وكان القادة يُدعون لتقديم الذبائح. على الأقل كان الأخصاء يدعون للاشتراك (مع الإمبراطور).
وضع العلامة أوريجينوس العبادة الوثنية مع اللصوصية كخطايا عامة كانت في الجيش(36).]
هناك حقيقة هامة وهي أنه منذ نيرون (54-68) إلى قسطنطين (306-337) كانت ممارسة الحياة المسيحية تُعتبر جريمة عقوبتها الموت. بالنسبة للمسيحي يستطيع الإنسان المدني الهروب بطريقة أسهل من الجندي المسيحي. إذ لم يكن ممكنًا للجندي أن يتخلف عن ممارسة العبادة الوثنية. لهذا فإن نسبة الشهداء الجند والقادة تُعتبر مرتفعة عنها بين العلمانيين بالنسبة لقلة تعداد العسكريين المسيحيين. أحيانًا يجد الجندي المسيحي مدعو لكي يشترك في قتل زملائه المسيحيين بالأمر(37). هذا ما دعي الأساقفة والكهنة ألا يشجعوا الشبان المسيحيين علي الالتحاق بالجيش.
يري Harnack أن الذين اعتمدوا كانوا يتحاشون الالتحاق بالجيش ما استطاعوا. لكن الذين قبلوا الإيمان وهم في الجيش تبعوا وصية الرسول: "الدعوة التي دُعي فيها كل واحد فليلبث فيها" (1كو20:7)(38).
3. كان ضمير المسيحيين يعذبهم لأن الجيش الروماني اتسم بالعنف واغتصاب الغير والتهور. هذا ولم يكن يُسمح للجنود أن يعيشوا في حياتهم الزوجية أو أن يتزوجوا لهذا كان أمامهم أحد اختيارين: أما العفة الإلزامية أو الزنا(39).
4. يرى البعض أن الكنيسة الأولى كانت تحث المؤمنين على عدم الاشتراك في الجيش، لأنها كانت ترفض الدخول في الحياة السياسية(40). فقد ركزت الكنيسة الأولى على انتساب المسيحيين للوطن السماوي، وأنهم غرباء ونزلاء على الأرض، لهذا لم يطلبوا وطنًا خاصًا بهم ولا جيشًا يحميهم.
* إن كنت تسجل نفسك كعضوٍ في شعب الله، فإن السماء هي مواطنك، والله هو مُشرعك. وما هي شرائعه؟... لا تقتل... حب قريبك كنفسك... من لطمك على خدك حوّل له الآخر(41).
جاء في الرسالة إلى ديوجنيتس (غالبًا في بدء القرن الثاني).
* لا وطن ولا لغة ولا عادات تميز المسيحيين عن سائر البشر، فهم لا يقطنون مدنًا خاصة بهم، ولا ينفردون بلهجة معينة...
يقيم كل منهم في وطنه، إنما كغريب مُضاف...
إنهم في الجسد، ولكنهم لا يعيشون في الجسد...
يصرفون العمر على الأرض، إلا أنهم من مواطني السماء...
الجميع يضطهدونهم، ويتنكرون لهم، ويحكمون عليهم، أما هم فبموتهم يربحون الحياة...
يمتثلون للشرائع القائمة، إلا أن نمط حياتهم يسمو كمالًا على الشرائع(42).
الرسالة إلى ديوجنيتس
أخيرًا يتساءل بعض الدارسين: هل امتناع المسيحيين عن الالتحاق بالجيش كان بسبب كراهيتهم للرومان الذين كانوا أحيانًا يلقون بهم أمام الوحوش المفترسة الجائعة؟ الإجابة: مستحيل! فقد كتب القديس لوقا الإنجيل مُوجهًا إلى الرومان يحمل لغة الحب نحوهم. هذا وقد لجأ بولس الرسول إلى قيصر (أع 30:26). وفي القرن الثاني قال العلامة ترتليان في دفاعه عن الكنيسة: "العالم يضطهد الكنيسة، والكنيسة تحب العالم وتخدمه".
هذا يكشف عن روح الكنيسة والمسيحيين تجاه الدولة حتى في لحظات الاضطهاد.
يذكر الأب ميليتو أسقف ساردس أن الدولة الرومانية والمسيحية هما عمل مشترك من الله لنفع البشرية(43). ويرى العلامة أوريجينوس مدير مدرسة الإسكندرية أن في سلام الدولة الرومانية عون إلهي لانتشار الإنجيل(44)(45).
القديس إكلمينضس الروماني (القرن الأول)
يقتبس القديس إكليمنضس الروماني في كتاباته نظام القيادة العسكرية في الجيش الروماني، ليس فقط كأسلوب مجاز لكنه كمن يؤيد ويقبل.
لنذكر النظام، والطاعة، والخضوع الذي يظهر في فرق حكومتنا عندما يقدمون الأوامر. ليس عمل كل واحد أن يقود ألفًا أو مائة أو خمسين أو أي عدد آخر، بل كل واحد يحمل أوامر الإمبراطور والحكام حسب درجته.
الذين عليهم مسئوليات عظمى لا يقدرون أن يتمموا ذلك بدون من هو أقل منهم أو العكس. هكذا يمثلون معًا كلًا متكاملًا، بهذا تتحقق الفائدة(46).
الشهيد يوستين (حوالي 150م)
يرى البعض أن رفض بعض الآباء الاشتراك في الحرب هو بسبب طقس الجيش بضرورة إنكار المسيح وتقديم ذبائح قبل وبعد المعركة.
* نحن الذين كنا قبلًا نقتل بعضنا بعضًا ليس فقط نرفض أن نثير حربًا على أعدائنا، وإنما لكي نتجنب الكذب والخداع على الذين يسألوننا أن نذهب بكامل حريتنا للموت معترفين بالمسيح(47).
الشهيد يوستين
أثيناغوراس (القرن الثاني)
يقول أثيناغوراس مدير مدرسة الإسكندرية أن المسيحي لا يقدر أن يرى إنسانًا يُقتل ولو بعدلٍ(48). وفي دفاعه عن المسيحيين الذي قدمه للإمبراطور وابنه كتب:
* إننا نصلي لأجل مملكتك لكي يعبر النجاح من الأب إلى الابن كما هو لائق جدًا، ويزداد نفوذك ويمتد فيخضع كل واحدٍ لك. مثل هذا التقدم يفيدنا نحن أيضًا حيث نقدر أن نقود حياة هادئة وسالمة، ونفعل بإرادتنا كل ما نؤمر به(49).
لقد تعلمنا ألا نرد اللطمة بلطمة، ولا نأخذ إلى المحكمة من يسلبوننا ويغتصبون ما لنا. ماذا بالأكثر إن ضربونا بمهانة على رأسنا، فقد تعلمنا أن نقدم الجانب الآخر أيضًا، وأن نقدم ثوبنا لمن يأخذ رداءنا(50).
أثيناغوراس
في أيام ماركوس أوريليوس (161-180) نسمع عن الكتيبة الثانية عشرة(51) ومعجزة سقوط الأمطار وكما يقول ترتليان(52) ويوسايبوس(53) أن الكتيبة الرومانية في معركتها ضد الألمان والـ Sormatians قد عانت من الظمأ الشديد، وقد طلبت الفرق المسيحية التي كانت في المعركة من الله مطرًا يسند الجيش الروماني أعطاه فرصة للنصرة. هذا يعني وجود عدد كافِ من المسيحيين في الكتيبة، ووجودهم لم يسبب عثرة، بل كان سندًا الجيش في المعركة.
العلامة ترتليان (160- 220 تقريبًا)
حدد العلامة ترتليان الثلاث خطايا الخطيرة وهي عبادة الأوثان والزنا والقتل دفاعًا عن النفس(54).
* لقد بدأنا بالأمس وها نحن قد ملأنا العالم وكل ما يتعلق بكم: المدن، وشقق المنازل، والحصون، والبلاد، والأسواق، والمعسكرات ذاتها، وقبائلكم، ومجالس مدنكم، والقصر الملكي، ومجلس الشيوخ، وأسواق الحوار، الشيء الوحيد الذي تركناه لكم هو المعابد. يمكننا أن نحصي جيوشكم. يوجد عدد كبير من المسيحيين في ولاية واحدة. أي نوع من الحرب نشترك فيها نحن الذين نخضع بإرادتنا للسيف... فإنه بحسب تعليمنا يُسمح بالأكثر أن نُقتل عن أن تقتل؟!(55)
إننا نعيش في العالم نشاركهم أسواق الحوار والسوق والحمامات والمتاجر والصانع والفنادق وأيام السوق وكل أنشطة تجارية. إننا لسنا أقل منكم: نبحر في البحر، نخدم في الجيش، نفلح الأرض، نشتري ونبيع(56).
نحن نصلي بغير انقطاع من أجل كل الأباطرة، من أجل امتداد حياتهم، ومن أجل إمبراطورية آمنة، وحماية للقصر الإمبراطوري، وجيوش شجاعة، ومجلس شيوخ ملوكي، ووطنية صادقة، وعالم مملوء سلامًا، ومن أجل كل ما يشتهيه الإمبراطور كإنسان وكقيصر(57).
بالرغم من ذكر ترتليان لحضور المسيحيين في الجيش وأن الكنيسة تصلي من أجل جيوش الأباطرة لكي تكون شجاعة، لكنه لم يستطع أن يقدم تصالحًا بين هذه الظاهرة والدعوة الإنجيلية للسلام.
* كيف يفعل المسيحي ذلك؟ حقًا كيف يمكنه أن يخدم في الجيش حتى في وقت السلام بدون السيف الذي انتزعه يسوع المسيح؟ حتى إن كان الجنود قد جاءوا إلى يوحنا وأخذوا مشورة ماذا يجب أن يفعلوا، حتى إن كان قائد المائة صار مؤمنًا، فإن الرب بطلبه أن يرُد بطرس سيفه إلى غمده يليق بكل جندي أن يتخلى عن سلاحه فيما بعد. أنه لا يسمح لنا أن نرتدي أي شكل يرمز لعملٍ خاطئٍ(58).
قبل معالجة موضوع الإكليل العسكري أظن يلزمنا أولًا أن نسأل إن كانت الخدمة العسكرية تناسب المسيحيين ككل...
هل يمكن لابن السلام الذي يجب ألا يذهب إلى المحكمة أن يشترك في معركة؟
هل يمكن لإنسان لا ينتقم لنفسه عن الأخطاء الموجهة ضده أن يشترك في السلاسل والسجون والتعذيبات وممارسة العقوبات؟...
لهذا فإن ما أن يقبل الإنسان الإيمان حتى يلتزم بترك الخدمة فورًا كما يفعل كثيرون(59)...
يقول أيضًا أنه بانتزاع السيف عن بطرس: [لعن أعمال السيف فيما بعد(60).]
يبدو لترتليان أنه يمكن أن يُسمح بالبقاء في الجيش بشرط ألا يعمل ما يضاد الإيمان، مثل حراسة المعابد الوثنية والدفاع عنها.
في أيام ترتليان وُجد مسيحيون ملتحقون بالجيش، وكما يقول أنهم كانوا يبررون سلوكهم هذا بأنهم كانوا يتمثلون بيشوع(61). لقد رفض ترتليان اشتراك المسيحي في خدمة الجيش حتى في أيام السلم، إذ يقول: "كيف يشترك المسيحي في الحرب، كيف يمكنه أن يخدم حتى في السلام؟(62)" وذلك لأن الجيش ارتبط بالعبادة الوثنية.
في أيام سبتميوس سويرس Septimuis Severus (193- 211م) تزايدت الأعمال الحكومية المدنية باستمرار وكان يمارسها أشخاص عسكريون. لهذا كان يمكن أن يلتحق الإنسان بالجيش دون أن يشترك في معركة، أو حتى يمارس واجب الشرطة (تأديب المجرمين). جاء في "التقليد الرسولي" المنسوب للقديس هيبوليتس الروماني [الجندي في الرتب الدنيا لا يقتل أحدًا. إن صدر له أمر بذلك لا يطيع، ولا يُقسم. إن كان لا يريد أن يذعن لهذا الاتجاه، فلينسحب (من الكنيسة). إن كان أحد يمارس سلطان السيف أو سلطانًا مدنيًا، ويلبس الأرجوان، فليمتنع عن هذه الوظيفة أو ينسحب. الموعوظ أو العضو بين المؤمنين الذي يريد أن يلتحق بالجيش فلينسحب، لأنه أظهر استحقاقًا باللَّه(63).]
القديس إيريناؤس أسقف ليون Lyons (القرن الثاني)
يشير القديس إيريناؤس إلى النبوة الخاصة بتحويل السيوف إلى محاريث للزراعة، بأنها تحققت في المسيحيين الذين لا يعرفون كيف يحاربون، بل عندما يُضربون يحولون الخد الآخر(64).
القديس اكليمنضس السكندري (150-215م تقريبًا)
مثل سابقه العلامة أثيناغوراس يؤمن القديس اكليمنضس السكندري أن الحروب موحى بها من الشياطين(65) (الآلهة الوثنية). وقد أشار أكثر من مرة إلى أن المسيحيين "جنس سلام". ففي دفاعه عن التزام الرجال والنساء بقانون واحد للسلوك واجه اعتراضًا بأن النساء على خلاف الرجال لا يتدربن على الحرب. أما هو فتمسك بالمساواة، رافضًا التدريب العسكري حتى بالنسبة للرجال(66). كما يقول:
لقد تدربنا على السلام لا على الحرب. تحتاج الحرب إلى إعداد عظيم، أما السلام والحب فهما أختان هادئتان لا تحتاجان إلى أسلحة ولا إلى مصاريف باهظة."(67).
يستخدم كثير من الشعوب الموسيقى العسكرية لإثارة الحرب، أما المسيحيون فيستخدمون كلمة الله كأداة للسلام(68)".
يقدم تشبيهًا بين جيش المسيح الذي لا يُسفك فيه دم والجيوش الزمنية.
إن كان البوق المرتفع الصوت يرعد الجنود للحرب، أما يجمع المسيح جنوده الذين للسلام من أقاصي الأرض وذلك بعزف أغنية السلام؟!
إنه المسيح بالحق يا إنسان الذي يجمع جيشًا غير دموي وذلك بواسطة دمه وكلمته، وقد عهد لهذا الجيش ملكوت السموات.
بوق المسيح هو إنجيله. إنه ينفخ به ونحن نسمعه.
ليتنا نرتدي سلاح السلام وصدرية الكمال، ونرفع درع الإيمان، ونلبس خوذة الخلاص. ونمسك سيف الروح الذي هو كلمة الله (أف 6: 14 –17 ؛ تس8:5).
بهذا النظام يرتبنا الرسول في معركة السلام. إذ نتسلح بأسلحة مثل هذه لا تُقاوم لنأخذ موقفًا مضادًا للشرير.(69)
ما دام في عهده وُجد جنود مسيحيون في الجيش فإن مثل هذه العبارات وان كانت تحثنا على السلام، لكننا نلتمس فيها قبول الدفاع عن الوطن والطاعة في الجيش. لهذا لم يتردد القديس اكليمنضس في مدح موسى كقائد عسكري(70). وبالإشارة إلى ما ورد في (إنجيل لوقا 14:3) قال أن السيد المسيح "على فم يوحنا أمر الجند أن يقتنعوا بأجورهم ولم يطلب منهم شيئًا أكثر"(71).
وعندما تحدث عن دعوة كل البشرية للإيمان لم يستثنِ منهم رجال الجيش بل قال:
إن كنت مزارعًا، نقول، لتحرث الأرض ولتتعرف على إله المزارعين، وان كنت تحب الإبحار تذكر أن تدعو علي الدوام القائد السماوي، وإن كنت في الجيش وقد أمسكت بك معرفة الله فلتطع القائد (المسيح) الذي يقدم إشارات البرّ(72).
هكذا يقول القديس اكليمنضس السكندري أنه إذا قبل جندي الإيمان وهو في الجيش فليبقَ في موقعه لكنه يجب أن يخضع للقائد الإلهي.
مينيكيوس فيلكس Minucius Felix
مع نهاية القرن الثاني قال المدافع مينيكيوس فيلكس الذي كان وثنيًا وقبل المسيحية إن المسيحيين لا يقدرون أن يحتملوا أن يسمعوا أو يروا إنسانًا مقتولًا(73).
القديس كبريانوس (تنيح عام 258م)
تلميذ العلامة ترتليان ومن أهم الكتَّاب اللاهوتيين الغربيين في شمال غرب أفريقيا، يبدو أنه لم يعالج هذا الموضوع بطريقة واضحة مثل معلمه. إنه يؤمن بأن الله خلق الحديد لكي يُستخدم في فلاحة الأرض لا في قتل الناس في الحروب(74). يهاجم العالم الذي يرفض دفاع الإنسان عن نفسه بالقتل بينما يقبل ذلك في الدفاع عن الدولة، قائلًا: [عندما يقتل الأفراد شخصًا يُعتبر هذه جريمة؛ وعندما يتم القتل من أجل الدولة يُدعى فضيلة(75).]
إنه يرفض تمامًا أن تمتد اليد وتتلطخ بالدماء مهما كان السبب، إذ يصر [بعد قبول الإفخارستيا لا تُدنس اليد وبالسيف وسفك الدم(76).]
يبدو أنه يرى أن الحروب لا يمكن تجنبها(77)، ويقرر أن ضعف القوى العسكرية في أيامه داخل الإمبراطورية هو إحدى علامات العقوبة الإلهية(78). وهو يصلي لأجل نجاح جيوش الإمبراطورية في طرد الأعداء.
فقط عندما نذهب إلى اللَّه نتقبل المكافآت الموعود بها. لذلك فنحن دومًا نصلي أن يبقي الأعداء في موقف حرج...، وأن تُنتزع الكوارث أو تصير أقل حدة. نسكب تضرعاتنا نهارًا وليلًا ونطلب من الله ونسأله على الدوام لأجل الأمان والسلام(79).
يستخدم القديس كبريانوس الجند في المعارك مجازًا في الحديث عن الحرب الروحية:
إنه عمل الجندي الصالح أن يدافع عن المعسكر ضد الخونة وضد أعداء الإمبراطور، وأن يحفظ الأعلام التي في عهدته(80).
إن كان يُحسب الأمر مجيدًا للجندي أن يرجع إلى بيته في نصرة لحساب وطنه بعد أن يهزم العدو، كم بالأكثر تكون أكثر قوة ومجدًا نصرة الإنسان، عائدًا إلى الفردوس، هازمًا الشيطان؟!(81)
مثل هذه النصوص تجعلنا من الصعب أن نقبل أن القديس كبريانوس يتطلع إلى الحروب كعمل لا أخلاقي. إنما كغيره من الكتَّاب قبل الإمبراطور قسطنطين كان يدين سفك الدم.
يقرر العلامة أوريجبنوس بطريقة إيجابية: "الله في تشريعه الإلهي يحسب أن السماح بقتل إنسانٍ مهما كان السبب أمرًا غير لائق(82)".
طلب أمبروسيوس من صديقه العلامة أوريجينوس أن يفند كتاب صلسس الوثني (من القرن الثاني) ضد المسيحية، مستخدمًا كل وسيلة للهجوم عليها، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. أحد اتهاماته أنه لو سلك الكل مثل المسيحيين لترك الإمبراطور وحده وهجره الكل، وسقط في أيدي البرابرة الذين لا يعرفون القانون(83). ربما التقي صلسس ببعض المسيحيين الذين تركوا الخدمة العسكرية بعد قبولهم الإيمان المسيحي، أو بعضًا منهم لا يريدون الالتحاق بالخدمة العسكرية، لكن بالتأكيد كان مخطئًا، لأنه وُجد مسيحيون في الجيش الروماني. ففي فترة كتابته التي تحمل هجومًا وُجدت أول شهادة عن فرقة الرعد Thundering legion تحت قيادة مرقس أوريليوس عام 173م. منذ ذلك التاريخ وجدت دلائل علي تزايد المسيحيين في الرتب العسكرية(84).
في تفنيده لهذا الاتهام لم يطلب العلامة أوريجينوس من المسيحيين أن يلتحقوا بالجيش الروماني، بل أن يسندوا الإمبراطور كجيش المسيح الروحي ومقاومتهم لإبليس مثير الحروب.
يرى العلامة أوريجينوس أن الخدمة المسيحية المقدمة للإمبراطور هي في دائرة الروح وليست في مجالات الحرب والقتل... فإن كان الكهنة الوثنيون وحراس المعابد لا يدنسون أياديهم بالقتل فيعفون من المعارك الحربية، كم بالأولى يجب ترك المسيحيين يخدمون الإمبراطور لا بالاشتراك في المعارك المنظورة بل غير المنظورة، حتى يكون محفوظًا بالعون الإلهي. بهذا يتحول المسيحيون إلى جيش روحي قوي يسند الإمبراطور، رافضًا قتل الأعداء حتى إن صدرت لهم الأوامر بذلك.
* يستمر صلسس حاثًا إيانا أن نساعد الإمبراطور بكل قوتنا، لكي نعمل معه ونقيم معه تعهدات، وأن نحارب لأجله وأن نخدم في جيشه إن طلب ذلك، إما كجنود أو قادة. يليق بنا أن نجيب على هذا بأنه حينما تكون الظروف مناسبة نمد الأباطرة بمعونة إلهية كما لو كانوا مرتدين سلاح الله (أف11:6). نفعل هذا في طاعة لصوت الرسول: "نصيحتي هي أول كل شيء أن تُقام صلوات وطلبات وابتهالات وتشكرات لأجل جميع الناس، خاصة لأجل الأباطرة وجميع الذين هم في منصب" (راجع 1تي1:2).
لتتأكد أن الإنسان الأكثر تقوى هو بالأكثر يساعد الأباطرة عمليًا، أكثر من فرق الجيش التي تخرج وتقتل الكثيرين من العدو ما أمكن على خط النار. هذه إجابتنا على الذين هم غرباء عن إيماننا الذين يسألوننا أن نحمل أسلحة ونقتل أُناسًا لأجل الصالح العام.
حتى في ديانتكم فإن الكهنة المرتبطون بتماثيل معينة وحراس المعابد المكرسة لمن تعتقدون أنهم آلهة يجب أن يحفظوا أياديهم اليمنى بغير دنس حتى يقدموا الذبيحة، هكذا لكي يقدموا التقدمات لكائنات تحسبونها آلهة يجب أن تكون أياديهم نظيفة من الدم والجريمة (فلا يشتركون في القتال). إن كان هذا منطق مقبول لديكم كم بالأكثر يليق بالمسيحيين أن يحاربوا ككهنة وعابدين لله بينما يحارب الآخرون كجنودٍ. مع حفظ المسيحيين أياديهم اليمنى طاهرة فإنهم يحاربون خلال صلواتهم لله لحساب المقاتلين في المعركة لسبب عادل ولحساب إمبراطور يحكم بالعدل حتى يتخلصوا من كل مقاومة وعداوة موجهة ضد العاملين بحق.
أضف إلى ذلك، بصلواتنا إذ نغلب كل الشياطين التي تثير الحروب، الذين ينتهكون الأقسام (العهود) ويسببون اضطرابًا للسلام، بهذا نعين الأباطرة أكثر من الذين يظنون أنهم محاربون...
إننا لا نخرج مع الإمبراطور حتى إن أصر، لكننا ندخل في معركة من أجله بإقامة جيش التقوى الخاص بطلباتنا لدى الله(85).
لو كان يُسمح للمجتمع المسيحي بالثورة، ولو كان المسيحيون يرجع أصلهم إلى اليهود الذين سُمح لهم بحمل السلاح للدفاع عن ممتلكاتهم وأن يقتلوا أعداءهم لما كان المشرع المسيحي لم يرد أن يجعل الدفاع عن النفس بالقتل ممنوعًا بطريقة مطلقة(86).
فإننا لا نعود نحمل السيف ضد أية دولة، ولا نتعلم الحرب بعد. عوض هذه التقاليد التي جعلتنا غرباء عن العهود (أف12:2) صرنا أبناء سلام بيسوع مؤسسنا(87).
في تعليقه على رفض السيد المسيح لقطع أذن عبد رئيس الكهنة أثناء القبض عليه (مت51:26) يقول العلامة أوريجينوس: [يجب أن نكون حذرين من أن نسحب السيف من غمده ببساطة لأننا في الجيش، أو لأجل الانتقام عن أضرار خاصة، أو تحت أية دعوى باطلة، لأن تعليم المسيح في الأناجيل يعتبر كل هذه الاستخدامات دنسًا... إن كان يجب علينا أن نكون أناس سلام تجاه محتقري السلام، يليق بنا ألا نستخدم السيف ضد أحدٍ(88).]
القديس ديونسيوس السكندري (القرن الثالث)
[الحب يجب حفظه بعمل الصلاح حتى لمن لا يريد أن يقبله(89).]
أرنوبيوس Arnobius (مات حوالي عام 330م)
أكد أنه بالنسبة لنا نحن المسيحيين [ليس من حقنا أن نرد الشر بالشرٍ، بل الأفضل أن نحتمل الضرر عن أن نسبب ضررًا لشخصٍ ما، وأن يُسفك دمنا عن أن نلطخ ضميرنا بدم غيرنا. العالم الجاحد مدين كثيرًا للمسيح ببركة تلطيف عنفه الهمجي وتوقف الأيادي المعادية عن سفك دم الأقرباء(90).]
انتقد روما لأنها حطمت تمامًا بعض الأمم وأخضعت أممًا أخرى لنيرها(91). في نفس الوقت دافع أرنوبيوس عن المسيحيين ضد الاتهام بأن مصائب كثيرة حلت بالدولة الرومانية بسبب وجود اتجاهات متباينة فيها. في دفاعه قال أنه خلال الـ 300 عامًا من وجود المسيحية: [وُجدت نصرات بلا حصر على الأعداء المهزومين، وقد اتسعت رقعة الإمبراطورية وأمم كثيرة لم يُسمع عنها من قبل خضعت لها(92).] هل يقصد أن المسيحيين ساهموا في الجيش في هذه الحروب أم ما قصده أوريجينوس أنهم كانوا يصلون من أجل الإمبراطورية؟! لم تشر كتاباته إلى ذلك.
لاكتانتيوس Lactantuis (حوالي 240-320م)
عاصر لاكتانتيوس إيمان قسطنطين بالمسيحية، لذا نجد كتاباته قبل تحول قسطنطين تختلف تمامًا عنها بعد التحول. ففي كتاباته الأولى يرفض لاكتانتيوس حق المسيحي في أن يدافع عن نفسه حتى بالنسبة لمن يصيبه بضررٍ وإلا فقد لقبه كبارٍ. يليق به أن يهرب ما استطاع من الأشرار كي لا يصيبه ضرر، لكن إن صارت هناك مواجهة فليس من حقه أن يرد الضرر بالضرر.
في تعليقه على نصيحة شيشرون أن الإنسان الصالح يلزمه ألا يضر أحدًا ما لم يُصب هو بالضرر يقول بأن الإنسان يفقد اللقب "صالح" أن فعل ذلك [فإنه ليس بشرٍ أقل أن يرد الإنسان الضرر عن أنه يُصاب به(93).]
تبع لاكتانتيوس أرنوبيوس في إدانته للحروب الدموية في تاريخ روما وفي معارضته للخدمة العسكرية والعقاب بالإعدام، فإن كان قاضيًا وحكم على مجرم بالإعدام يُحسب قاتلًا بالحكم الذي أصدره، حتى وإن كان لا ينفذ ذلك بنفسه.
عندما يمنع الله القتل، لم يأمرنا فقط أن نتجنب اللصوصية المسلحة الأمر الذي هو ضد القانون العام. إنما يمنعنا أيضًا مما يحسبه البشر أنه أمر أخلاقي. هكذا ليس من حق الإنسان البار أن يخدم في الجيش... وليس من حق البار أن يحكم على أحد بجريمة الإعدام. إنه لا يوجد فرق بين أن تقتل إنسانًا بسيفٍ أو بكلمة (نُطق القاضي بالإعدام)، ما دام القتل ذاته ممنوعًا. هكذا لا يوجد أية استثناء لهذا الأمر الإلهي. قتل كائن بشري يريد الله ألا يُعتدي عليه بالقتل، هو أمر خاطئ دائمًا(94).
حدث تحول في كتابات لاكتانتيوس بعد قيام قسطنطين. على الأقل خفف لاكتانتيوس من حدة النغمة بخصوص منع القتل في أثناء الحروب أو الحكم القضائي بالإعدام. ففي "الموجز في المؤسسات الإلهية Epitome of Divine Institutes" يميز بين الفضيلة والرذيلة قائلًا: [الشجاعة صالحة إن كنت تحارب من أجل بلدك، وتكون شريرة أن كنت ثائرًا ضدها. هكذا بالنسبة للعواطف إن استخدمتها لأهداف صالحة تصير فضائل، وإن كانت لأهداف شريرة تدعى رذائل(95).]
يظهر هذا التغيير في مدحه نصرة Licinius على الوثني مكسميانوس Maximinus عام 313، حاسبًا أن الله تدخل لمساندة ليسينيوس الذي ظهر له ملاك وعلمه الصلاة لله فطلب منه أن يحميه وأن يستلم الإمبراطورية واهبًا إياه النصرة والبركة(96). كما روى لنا لاكتانتيوس قصة حلم الملك قسطنطين إذ رأى في حلم أن تعليمات قد صدرت إليه أن يضع علامة المسيح على دروع الجند(97).
بنفس أسلوب رجال العهد القديم عبّر عن تسبيحه لله واهب الغلبة في الحروب. [لنحتفل بنصرة الله بفرحٍ شديدٍ. لنمجد نصرة الرب، لنسكب صلواتنا بفرح نهارًا وليلًا. لنصلِ أن يثبت السلام إلى الأبد الذي يمنحه لشعبه بعد عشرة سنوات(98).]
تقدم لنا أعمال الشهداء حوارات لا حصر لها تمت بين الشهداء والولاة حيث رفض الشهداء الالتحاق بالجيش وقبول الختم الخاص بالجند. ففي Numidia عام 295 م قال Maximilian للـProconsul Dion:
"ليس من حقي أن أخدم في الجيش مادمت مسيحيًا".
"اقطع رأسي، سأخدم في جيش إلهي، وليس في أي جيش ينتمي لهذا العالم".
"إنني لن أخذ (الختم) فإنه لديّ ختم فعلًا، هو ختم المسيح إلهي".
"أنا مسيحي، لا أحمل قطعة رصاص حول عنقي الآن، إذ أقبل الختم المخلص لربي يسوع المسيح، ابن الله الحيّ. أنت لا تعرف عنه شيئًا، فهو تألم لأجل خلاصنا، وأسلم بواسطة الله لأجل خطايانا(99)".
واضح أن Maximilian يرفض الالتحاق بالجيش لسبب ديني فهو يعتقد مثل ترتليان أن ختم الجيش وختم المعمودية لا يتفقان معًا(100). ذلك لأن الالتحاق بالجيش كان مرتبطًا بالعبادة الوثنية، وأن الرفض لم يكن بسبب عدم الاشتراك في المعارك وذلك كما يظهر في حوار الشهيد(101) Juluis the Verteran.
_____
(36) الموعظة على الجبل لأغسطينوس، ترجمة: القمص تادرس يعقوب ملطي، ك 1، في 61.
(37) Everett Ferguson, Scholer and Finney: Studies in Early Christianity, vol. 16, Christian Life: Ethics, Morality, and Discipline in the Early Church, p. 200-201.
(38) Everett, p.227
(39) cf. A. Von Harnack: Militia Christi: The Christian Religion and the Military in the First Three Centuries, Philadelphia 1981.
(40) Everett, p. 227.
(41) Everett, p. 200.
(42) Protrepticus, 10.
(43) القمص تادرس يعقوب: الآباء الرسوليون 1995، ص182-183.
(44) Eusebius: H.E. 4:26:7.
(45) Against Celsus 2:30.
(46) Epistle, 1:37:1 – 4.
(47) Apology 1:39:2 – 3.
(48) Legatio, 35.
(49) Plea for the Christians, 37:2-3.
(50) Plea for the Christians, 1:4.
(51) Legio- 12 fulminate.
(52) Apology 5:6; To Scapula 4:6.
(53) Eccles. Hist. 5:5:1 –6.
(54) De Pudicitia, 12.
(55) Tertullian: Apology 37:4.
(56) Apology 42:2- 3.
(57) Apology, 30:4.
(58) Tertullian: Idolatry 19:1- 3.
(59) Tertullian: On the Crown, 11:1- 7.
(60) Tertullian: On Patience, 3.
(61)Idolatry,19.
(62) Idoltary, 19.
(63) St. Hippolytus of Rome: The Apostolic Tradition, canon 16.
(64) Adversus Haereses 4:34:4.
(65) Protrepticus “Exhortation to the Greeks,” 3:42:1.
(66) Stromata 4:8.
(67) Paedagogus, 1:12:99.
(68) Paedagogus, 2:4:42.
(69) Exhortation to the Greeks, 11:116-117.
(70) Misscellanies, 1:24:162.
(71) Stromata 6:14:112.
(72) Exhortation to the Greeks, 10:100:2.
(73) Octavius, 30:6.
(74) De Habitu Virginum, 11.
(75) St. Cyprian of Carthage: To Donates, 6.
(76) On the Goodness of Patience, 14.
(77) On Mortality, 2.
(78) To Demetrianus, 3, 17.
(79) To Demetrianus, 20.
(80) Epistle, 13:10.
(81) To Fortunatus, 13.
(82) Against Celsus 3:7
(83) Against Celsus, 8:68-69.
(84) Everett Ferguson: Studies in Early Christianity, vol. 16, p. 190.
(85) Against Celsus 8:73.
(86) Against Celsus 3:18.
(87) Against Celsus 5:33.
(88) Commentariorum Series, 102.
(89) De Patientia 15,16.
(90) Against the Pagans 1:6.
(91) Ibid. 2:1.
(92) Ibid. 1:14.
(93) Divine Institutes, 6:18:17; 6:18:25, 29-32.
(94) Divine Institutes, 6:20,15-17.
(95)Epitome 56:3-4.
(96) On the Death of the Persecutors, 46:1-7.
(97) Death of the Persecutors, 44:5:6.
(98) Death of the Persecutors, 52:4.
(99) The Acts of Maximilian 1-2.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-tadros-malaty/faith-vs-allowance/before-constantine.html
تقصير الرابط:
tak.la/7c5n6t7