إذ عرفنا مفاهيم القديس يوحنا للكتاب المقدس وعبرنا إلى منهجه الدراسي في التفسير، بقيَ لنا أن نتساءل: كيف قدم هذا الفهم الإنجيلي لشعبه؟
1. إذ تعرف على الكتاب المقدس كمصدر حياة وينبوع قوة للدخول في الحياة الإنجيلية الفاضلة، وفيض تعزيات وسط هموم الحياة وضيقات المؤمن وتجاربه... لهذا وضع في كل خدمته أن يدخل بشعبه إلى "الكتاب المقدس" ليجعل منهم شعبًا كتابيًا biblical أو إنجيليًا. فقد حدثهم كثيرًا عن الكتاب المقدس وفاعليته في حياة الكنيسة وحياة كل عضو منها، بل قدم أغلب عظاته سلسلات تفسيرية لبعض أسفار الكتاب المقدس بصورة تكاد تكون منظمة. وفي تفسيره للكتاب استخدم نصوص الكتاب لتفسر بعضها البعض مع تعليقات بسيطة عملية من الواقع الذي يعيشون فيه... وبهذا مزج واقعهم بالروح الإنجيلية.
أما مقالاته ورسائله فقد حوت الكثير من نصوص الكتاب المقدس مفسَّرة، كما شملت في داخلها شخصيات وأحداثًا من الكتاب هي مشاعل تنير البحث الذي يكتب فيه.
2. في تفسيره للكتاب المقدس لا يسعى لمجرد حفظهم الكثير من نصوصه أو تعرفهم على تفسير أكبر قدر منها، بل بالأحرى كان يشتاق إلى دخولهم العملي في "الحياة الإنجيلية".
ففي السنة الثانية من رسامته كاهنًا على إنطاكية وقف بين شعبه يذكرهم أنه لم يقدر أن يشرح لهم طوال هذه الفترة مائة سطر من الكتاب المقدس، معللًا ذلك إلى تقديمه لهم بالقدر الذي يلزمهم ممارسته عمليًا(50).
مرة أخرى يقول(51) "أن أفضل طريقة للتعليم هي إلا نَمل من تكرار نفس النصيحة حتى نراها مطبقة علميًا". كما يقول(52) "اعتدت إلا أقيس مقالاتي بكثرة الكلام بل بحرارة المستمعين إليَّ".
لقد حدد لنا هدفه في تفسير الكتاب المقدس بكل وضوح بقوله(53) "لم تعط لنا الكتب المقدسة لكي تكون مكتوبة في كتب بل منقوشة في قلوبنا".
ومن كثرة تكراره لبعض النصوص الكتابية والأمثلة كان البعض يكمل النص عند بداية نطقه به أو يظهرون علامات معرفتهم لما يقوله... فكان يقول لهم(54) "مثابرتكم على العظات تجعلكم معلِّمين، لكن لا تجروا ففي وسطكم مستجدون. انتظروا العرج!".
3. لم يكن التفسير هدفًا في ذاته، إنما غايته الدخول بسامعيه إلى حضرة الله وتهذيبهم والتحدث معهم في مشاكلهم اليومية، لهذا كثيرًا ما كان يهمل الأجزاء الصعبة في الكتاب المقدس، ونادرًا ما تعرض لملاحظات تفسيرية... فقد كان مفسرًا واعظًا كل ما يهمه استخراج المعاني الروحية وتقديمها في صورة نافعة للتعليم والتهذيب، من أجل التمتع بخبرة حياة القداسة التي بها يكْمل رجل الله في كل عمل صالح.
4. كان يؤمن أن "مسيحيًا بغير معرفة الكتب المقدسة -العهدين- كعامل بغير أدوات"... مهتمًا بشرح العهد القديم في صورة جادة، بكون دراسته أفضل السبل للرقي في الحياة المسيحية.
والتطرق إلى العهد القديم، أمر له خطورته في ذلك الحين، فكما شرح القديس بنفسه في كتابه الرابع من مقال الكهنوت(55) حين تعرض للكاهن وهو يتأهب لحرب متعددة الجوانب والجبهات، فقد قال "الذي يشهر سيفه بغير خبره يجرح نفسه بسيفه فيصير أضحوكة بين أصدقائه كما بين أعدائه". ولكي أُوضح قولي هذا أذكر مثال أولئك الذين يتقبلون تعاليم مارفيون وفالنتينوس الغريبة، فإن جميع المرضى بتعاليم أمثال هذين المبتدعين يُسقطون الشريعة التي سلمها الله لموسى من قائمة الكتب المقدسة. أما اليهود فيقدسون هذه الشريعة (تقديسًا حرفيًا)، حتى بعد أن جاء الزمن الذي أُبطلت فيه، ولا يزالون يتمسكون بكل ما جاء فيها مخالفين إرادة الله. أما كنيسة الله فتنتهج مسلكًا وسطًا لتجنب المتطرفين، فلا هي تخضع تحت نير الناموس ولا هي تحتقره أو تنقص من قدره، بل توصى به برغم انقضاء عهده بكونه نافعًا...
حري بالذي يناضل العدوين(56) أن يسلك الطريق الوسط، فإن انتقد اليهود لتمسكهم بالناموس القديم يسقط في خطأ جسيم إذ يعطي فرصة للهراطقة الذين يرغبون في تمزيق الناموس، وإن سعى في حماسه إلى إفهام الهراطقة ممجدًا الناموس بإفراط ومتحدثًا عنه بإعجاب بكونه مفيدًا في الوقت الحاضر يعطي فرصة لليهود".
5. نعود إلى منهجه في تقديم الكتاب المقدس لشعبه لنجد قديسنا قد امتاز بالبساطة في التفسير، في مشاعر رقيقة قادرة على جذب السامعين، وستجد المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في أقسام المقالات والكتب الأخرى. إذا ما شرح نصًا وضع نفسه موضع الكاتب، يشعر بأحاسيسه ويعظ أو يكتب من واقع تاريخه.
6. جاءت كتاباته وعظاته التفسيرية في القسطنطينية أقل قوة من تلك التي قدمها في إنطاكية، ولعل ذلك يرجع إلى قلة الوقت اللازم للتحضير بسبب مشغولياته الرعوية والمشاكل الكثيرة التي شغلته.
7. إن كان الذهبي الفم قد استخدم "المنهج الحرفي" الإنطاكي في التفسير، كما أعلن عن وضوح الكتب المقدسة، فإن هذا لا يعني سطحيته في فهمه للكتاب المقدس أو تفسيره إياه... فدراسة الكتاب -في رأيه- تحتاج إلى مهارة خاصة واستعداد روحي معين يلتزم بها المعلم والعلماني حتى يقدر كل منهما أن يدخل إلى "المعنى الحقيقي" للنص، ويتعرف عليه، ويعيش به.
في هذا يقول(57): "إن كان أحد يعمل في منجم بغير خبرة في هذا الفن، فإنه يخلط بين الأشياء (المعدن النفيس والتراب) بغير هدف، ولا يستخرج ذهبًا، بل يضيع عمله هباءً، بل ويكون مهلكًا. هكذا الذين لا يفهمون الكتاب المقدس، ولا يطلبون خصوصياته وقوانينه، بل يسيرون في كل نقطة من محتوياته بإهمال، بطريقة واحدة (في غير حكمة)، يمزجون الذهب مع التراب، ولا يكتشفون الكنز المخفي داخله...
يليق بنا أن نصل إلى المعاني الحقيقية خلال التنقيب والتنقية!"
يقول أيضًا(58): "من يريد أن يتعلم الأعمال العسكرية يلزمه أن يعرف قوانينها، ومن أراد الإبحار أو التجارة أو أي شيء آخر يلزمه أن يتعلم أسس الفن. أما في هذا الأمر (دراسة الكتاب المقدس) فلا يريدون أن يفعلوا شيئًا من هذا، إنه "علم" يحتاج إلى اهتمام يقظ...".
لقد كان يحث شعبه على الدوام أن يتفهموا الكتاب لا في رخاوة أو إهمال ولا في سطحية وإنما بالبحث والتنقيب المستمرين... فهو كنز مخفي لا يجده غير الباحثين عنه باجتهاد.
له في ذلك قول جميل(59): "الله لا يريدنا أن نصغي إلى كلمات الكتب المقدسة وعباراتها بإهمال بل في انتباه شديد. لهذا السبب كثيرًا ما يصدر الطوباوي داود مزاميره بالعنوان "للفهم(60)" كما يقول(61): اكشف عن عينيَّ فأرى عجائب من شريعتك. ومن بعده يعلن لنا ابنه أنه يلزمنا أن "نطلب الحكمة كالفضة، ونتاجر بها أكثر من الذهب(62)"، وينصح الرب اليهود قائلًا "فتشوا الكتب..." ولكي يحثنا على البحث دعاها "الكنز المخفي(63)".
قيلت هذه الكلمات لنا لكي لا نطلب كلمات الكتب المقدسة بإهمال أو بطريقة عشوائية، بل بدقة عظيمة. فإن من يصغي إليها دون أن يطلب المعنى الحقيقي... بل المعنى الحرفي، يسقط في أمور لا تليق بالله، أما إذا عرف المعنى الخفي فسيتحرر من كل عدم لياقة".
ولكن، كيف ندخل إلى المعنى الحقيقي لنصوص الكتاب المقدس؟
إن كان قد دعا دراسة الكتاب المقدس فإن له أسسه وخصائصه وقوانينه فإن هذه الأمور تحمل اتجاهين متلازمين ومكملين أحدهما للآخر:
أ. الجانب الأول هو الحكمة والتمييز، كيف أفسر النص؟ هل بالمعنى الحرفي البحت، أم الرمزي وحده، أو كليهما معًا؟
ب. الجانب الآخر، هو الجهاد الروحي... فكلمة الله هي روح وحياة، لا يتفهمها إلا السالك بالروح...
يقول القديس يوحنا(64) "بالروح القدس يتمتع المؤمنون بمهارة النظر إلى المعاني المخزونة في الداخل".
الروح القدس الذي أوحى بالكلمة هو وحده الذي يفتح مخازنها أمام النفس لكي تنهل منها، فتشبع وتفيض دسمًا.
والروح مستعد أن يعطي بسخاء... ويعطي الجميع إن تقدمنا إليه نطلب عمله فينا بانسحاق قلب في اتضاع، مع جهاد مستمر في الصلاة(65): "لا نقدر أن نكشف معاني الكتب الإلهية ونحن مهملون أو نائمون. يحتاج الأمر إلى بحث دائم وصلاة حارة حتى نقدر أن نجد لنا طريقًا بسيطًا في أسرار الأقوال الإلهية".
"لنتنقى... وهكذا نصغي للأقوال الإلهية،
لننصت إلى ما يُتلى علينا بقلبٍ منسحقٍ".
8. في تفسيره للكتاب المقدس يرى في كل كلمة وردت في الكتاب المقدس نفعًا يلزم للمؤمن أن يبحث عنه.
"في الكتب المقدسة، لن نتردد تاركين مثقال ذرة أو نقطة، إنما يلزمنا أن نبحث كل شيء، فإن الروح القدس قد نطق بالكل، وليس شيء من المكتوب جاء بغير فائدة(66)".
هذا الاهتمام أصبغ على تفسيره مسحة جمالية وعملية عذبة، لكن تدقيقه في كل كلمة يجره أحيانًا إلى أسئلة وتفاسير غريبة. ففي خلقة أبوينا مثلًا نجده لا يعبر على نعاس آدم بل يتساءل: لماذا أرسل الله سباتًا على آدم في لحظة خلقة حواء؟ فيجيب "لكي لا يتألم فيكْره فيما بعد من خرجت منه(67)".
9. أخيرًا من أهم ملامح تفسيره (ومقالاته أيضًا) ارتباطه ببعض شخصيات من الكتاب المقدس، بل تعلقه بهم خاصة معلمنا بولس الرسول وأيوب البار.
لقد عشق شخصية الرسول بولس وسجل لنا تفاسير كل رسائله. أحبه ككارز مملوء حبًا تجاه البشرية كلها. إذا ما تحدث عنه يصعب عليه العودة إلى موضوعه الأصلي.
"في تعليمي أُكثر الاستشهاد بنفس بولس المقدسة...(68)"
"ماذا يحدث لي؟ لنهرب سريعًا، فإن بولس يستولي على، ويبعد بي خارج الموضوع!
أنتم تعلمون أنني كثيرًا ما أطارد فكرة معينة، وإذا بي أسقط فجأة على بولس فيحتجزني بقوة عن كلامي، ولا اقدر أن اَنفصل عنه حتى النهاية(69)".
وفى أول عظة عن رسالة الرسول بولس إلى أهل رومية ابتدأ بعبارات الإعجاب بالرسول، قائلًا:
"إني أحرص على قراءة رسائل الطوباوي بولس مرتين أسبوعيًا، وغالبًا ثلاث دفعات أو أربع كل أسبوع عند الاحتفال بذكرى الشهداء والقديسين. أنعم بالبوق الروحي بسرور، انهض متقدًا بالرغبة في التعرف على الصوت العزيز عليَّ.
يخيل لي أني أهواه تمامًا، بل كأنه حاضر أمام بصيرتي.
أمسك به، وأتحدث معه.
لكنني أحزن متألمًا لأن كل الناس لا يعرفون هذا الرجل كما ينبغي...
إني أعرفه هكذا ليس بسبب استعداد خاص بي أو ذكاء حاد، إنما إن كنت أعرف عنه شيئًا فبسبب التصاقي الدائم مع هذا الرحل وميلي الشديد نحوه".
وختم عظاته على نفس الرسالة(70) بعبارات رائعة تكشف عن مدى ولعه بشخصية الرسول، نعود إليها في الحديث عن كتاباته إن شاء الرب وعشنا.
ولقد قال إنيانوس من Celeda في القرن الخامس أن القديس يوحنا لم يصف الرسول العظيم بولس، بل كان كمن يقيمه من الأموات ليجعل منه مثلًا حيًا للكمال المسيحي.
أما في الفترة الأخيرة من حياة القديس يوحنا، حيث دخل في لُجة التجارب، فقد وجد في أيوب البار صديقًا... تعلقت نفسه به كشريك معه في الآلام، متى كتب عنه نسيَت نفسه...
جاءت كتاباته الأخيرة لا تخلو من حديثه عنه. وفي إحدى رسائله لشماسته أولمبياس إذ بدأ يتحدث عنه ترك موضوع الرسالة تمامًا ليعود معتذرًا: "يبدو لي أن حبي للبطل قد جرفني بعيدًا عن الموضوع الماثل أمامي(71)".
هذه ملامح إنسان يعيش في الكتاب المقدس مع الآباء والأنبياء والرسل ويصادقهم في المسيح يسوع، ليحيا معهم كما هم في الرب.
_____
الحواشي والمراجع لهذه الصفحة هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت:
(50) Statues. Hom 16.
(51) De Dav. Et Saul PG 54: 677.
(52) Daem nom Gup. Mund PG 49: 246.
(53) In Joan, hom 32: 3.
(54) De Laz. PG 48: 1032.
(55) De Sacer. 4: 4.
(57) In Joan. Hom. 40: 1.
(58) In Hebr., hom 8: 10.
(59) In Joan., hom 15:1.
(60) مز 31 (32).
(61) مز 118 (119): 18.
(62) (أم 2: 4، 3: 14).
(63() مت 13: 44، أم 2: 4).
(64) In 1 cor, hom 7: 2.
(65) In Joan., hom 32: 3.
(66) Ibid. 36: 1.
(67) In Ps PG 55: 324.
(68) Non ad grant PG 50: 656.
(69) In Ego Don PG 56: 146.
(70) Hom 32.
(71) Ep. ad Olympias 2: 9.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-tadros-malaty/chrysostom/sermon.html
تقصير الرابط:
tak.la/pzjjj88