كبداية نفضّل أن يكون عنوان الكتاب "ضد مهاجمي فضيلة البتولية" ويبدو أنهم فئة من المستبيحين في زواجهم. وكتاب ثمين كهذا لابد له من مقدمة وسيكون خط سيري هو تسجيل مقدمة الكتاب كما وردت في النص المترجم، يعقبها رأي المترجم مع بعض أقوال للقديس يوحنا ذهبي الفم تؤكد احترامه الكامل والإنجيلي لشريعة الزواج، وأضفنا إليها مقتطفات من كتاب "الله والإنسان والكون" لمؤلفه د. هاني مينا استكمالًا للفائدة وتوضيحًا للصورة الكلية للبتولية والزواج، وأرجو ملاحظة أنني سأكتب الكلمات اليونانية بأحرف إنجليزية.

كانت العزوبية عند اليونانيين والرومان موضع استنكار، باستثناء حالات خاصة كانت مطلوبة لمغزى ديني أو طقسي. والبحث عن المثال النسكي الذي يظهر كرغبة في الكمال الأدبي الأخلاقي والروحي يبدو واضحًا عند أورپيد في شخصية هيبوليتس حيث يظهر التعقل sofroceny (= اعتدال الأهواء) لها معنى العفة، ولكن هذا المثال غريب عن المجتمع الأثيني في القرن الخامس قبل الميلاد وتبرره أساسًا الاتجاهات الدينية المستوحاة من عبادة Trézéne.
والفلسفة الرواقية أيضًا، إن كانت تكشف عن محاولة جادة للروحانية حيث يسود عدم التألم (40)abathia عن طريق التعقل sofroceny وهذا يتطلب تدريبًا شخصيًا يكون فيه التعفف enkratia(41)= continence واسطة لتأكيد سيطرة العقل على الحواس أكثر من مجرد مثال للكمال الأدبي الأخلاقي، أي أن التعفف هو خطوة في الطريق نحو الفضيلة، فهي إذن حالة مؤقتة يجب تجاوزها، بينما البتولية المكرسة في المسيحية هي حالة محددة واضحة. وفي كتابه "عن البتولية" يؤكد ذهبي الفم إعجاب الأمم وتكريمهم لها ولكنهم يعتبرونها عسرة المنال بالنسبة للطبيعة البشرية(42). أما العهد القديم فهو شديد التروَّ والحذر بالنسبة للبتولية. فسفر التكوين يكاد يجعل الزواج واجبًا، ونفس الشيء بالنسبة للكهنة، وأن الذُرّية هي بركة من السماء(43) وفي القرن الأول قبل المسيح بدأت تظهر فكرة سمو العزوبية على الزيجة في بعض طوائف اليهود التي كانت تمارس البتولية وتعيش في مجتمعات شركة مثل الثيرابيوتا ومتوحدي بحيرة مريوط، كما شرحها فيلو السكندري. وهذه بدورها تبدو موازية للتعاليم الفلسفية التي تعطي للنسك قيمة أخلاقية حقيقية.

لكن العهد الجديد هو الذي فتح عصرًا جديدًا للبتولية. السيد المسيح كمثال أشار إلى القادرين على العفة والبتولية بقوله: "يوجد خصيان خصوا أنفسهم لأجل ملكوت السموات" (مت 19: 12). وبولس أيضًا تسامى بامتيازات البتولية التي تهيئ للإنسان التصاقًا بالرب بدون تشتت(44)، وهو الذي مدح العفة وإن كان يرى في الزواج رمزًا لوحدة المسيح مع الكنيسة، إلا أنه رمز غير كامل.
وعندما وقفت الجماعة المسيحية في كورنثوس حائرة فيما يختص بحياة البتولية، كتبت إلى بولس تطلب مشورته في هذا الصدد، فأجاب مفضلًا هذا القصد، وصاغ جوابه هكذا: ليس عندي أمر من الرب، لكني أعطي رأيًا (1كو 7: 25). لكنه عبّر عن هذه الأمنية "أريد أن يكون جميع الناس كما أنا" (1كو 7: 7)، أي الحياة بالبتولية.
وأقوال القديس بولس، إذا وضعت في سياقها، تهدف إلى إظهار أن الزواج جيد، أما البتولية فهي حالة أسمى. بهذا المفهوم كانت تُفسر الرسالة إلى كورنثوس ويُعلّق عليها، وكانت محك الإيمان المستقيم حينئذ ومهمة رجال الكنيسة في هذا الوقت هي الموائمة بين التقييم الصحيح للزواج وسمو البتولية في وقت واحد. كليمندس السكندري (في مقالته stromata) يدافع عن الزواج ويثني على البتولية. كبريانوس يستشهد بالقديس بولس دون أن يدين الزواج، وبالمثل أوريجانوس. وميثوديوس في الفصل الثالث من مقالته "الوليمة" هي شرح مطول على الإصحاح السابع من الرسالة الأولى لكورنثوس، وكاسيان يرجع إلى القديس بولس في دفاعه عن الزيجة.
هذه الشروحات كلها تختلف بعضها عن بعض في درجة الموائمة بين البتولية والزيجة. وفي هذه الأثناء ظهر التشدد الواضح على امتيازات الحياة النسكية وممارستها بين كثير من المسيحيين دون الإنقاص من قدر الزواج الذي رأوا فيه وضعًا لا يليق بالتلمذة الحقانية للمسيح وعزموا على الحياة البتولية.
![]() |
ومنذ نهاية القرن الأول بدأ ظهور النساك والعذارى، أشخاص متعبدون لله عاشوا متبتلين وصاروا نماذج في وسط عائلاتهم أو في أماكن منعزلة من أجل بناء مجتمعات مسيحية. فالقديس كليمندس الروماني في رسالته إلى كورنثوس (38: 2) يلّمح إلى الذين يعيشون بالعفة (البتولية)، وكتاب الديداخي (تعاليم الرسل) سنة 100-150م، يشير إلى النساك الذين في سوريا وفلسطين مكرسين من أجل نشر الإنجيل، وإغناطيوس الأنطاكي (حوالي سنة 160م) يتكلم عن جماعة العذارى (إلى سميرنا 13: 1)، ويوستين الشهيد (حوالي سنة 150م) في دفاعه الأول (14: 29) يصف طهارة العادات المسيحية، وحوالي سنة 180م يشهد أثيناغوراس عن وجود رجال ونساء عند المسيحيين يتعففون عن الزيجة طيلة حياتهم، والراعي لهرماس يشيد بذكرى العذارى، ثم "رسائل عن البتولية" المنسوبة إلى كليمندس الروماني، مع أنها من مدونات القرن الثالث أو نهاية القرن الثاني، وموجهة إلى مسيحيي فلسطين وسوريا، إلا أنها تذكر أيضًا أشخاصًا مكرسين لله يعيشون في مجتمعات مسيحية حياة أكثر حرارة من سائر المؤمنين.
بالإضافة إلى هذا، التماس الهدوء في هذا العصر بالذات نتيجة الاضطهادات التي يذهب ضحيتها المسيحيون. هذا البحث عن الهدوء يكون مصحوبًا عادة بالتقشف والنسك مثلما حدث مع السيد المسيح لما اعتزل في البرية. غير أن هذه الاضطهادات تضع مشاكل أكثر إلحاحًا وتحديًا للمسيحيين إذ أنها هيأت لهم وسيلة الشهادة للمسيح، مشاركة للشهداء في عذاباتهم واستشهادهم. فالبتولية لم تكن سوى إعداد للاستشهاد. وعندما توقفت الاضطهادات تحولت هذه الشهادة إلى سعي للمطابقة مع حياة القداسة التي للمسيح، فتحولت البتولية حينئذ إلى شرط حتمي للكمال الأخلاقي.
أعمال أدبية متنوعة تخصصت في إظهار قيمة البتولية التي كانت تهدف إلى احتلال موقع هام على الصعيد الاجتماعي الديني. ولم يكن القصد منها هو أمثلة فريدة ولكن حركة فائقة جعلت المؤرخين يقولون أنه منذ القرن الثاني احتلت البتولية كرامة في الأوساط الاجتماعية حيثما وجدت جماعة مسيحية، مؤسسة على اقتناع إيماني راسخ تغذيه غيرة المعمدين حديثًا الذين يشكلون قلب الجماعة. والتطرف أمر لا يمكن تجنبه خاصة في التيار النسكي. فتحت تأثير كلمات بولس الرسول نشأ في القرن الأول في الأوساط اليهودية المتنصرة اتجاه إلى تعلية البتولية على حساب الزيجة. فالغنوسية قدمت الأساس العقيدي بالحط من قيمة الجسد والمادة، وكان تأثيره خدّاعًا ومستمرًا، ولهذا وضعت التعفف enkratia التزامًا حتميًا على كل المؤمنين.
واستمر ظهور هذا الاتجاه في الأوساط اليهودية المسيحية (مثل أناشيد سليمان، أحد أسفار الأبوكريفا(*)، وأعمال كلمنتين وأتباعه) وعند تاتيان ثم الغنوسيين (مثل ساتورنيل، ماركيان، ﭬالنتين).
لذلك فإن التيار المسيحي التقليدي الذي يستند على بولس الرسول ورسالته إلى كورنثوس لم يفارق فلسطين وسوريا الشرقية. هذا أيضًا الحال مع إغناطيوس الإنطاكي، ثاؤفيلس الإنطاكي (بالنسبة لليونانيين)، وكليمندس السكندري (بالنسبة لمصر).
نتيجة لهذا التطرف وقع كثيرون في خطأ الخصي مثل أوريجانوس الذي خصى نفسه خشية فقدان العفة. وحالات متكررة من هذا النوع جعلت مجمع نيقية سنة 325م يحظر على الخصيان دخول الكهنوت. فكان واجب الكنيسة في القرون الأولى هو السهر على التفسير الصحيح لكلمات بولس الرسول بهذا الصدد والتحذير من الانحرافات العقيدية والبدع، وهذا استلزم الوقوف ضد البدع والهرطقات والانحرافات بالعديد من التفاسير والميامر.
وفي مجمع غانغرا 340م حُكم بحرمان كل من يتعرض (بالتداول والنشر) لهذه الهرطقات (القانون الأول) ويوحنا فم الذهب يفند هذه البدع ويدحضها بشدة في مقالته هذه عن البتولية.

مقالة القديس يوحنا ذهبي الفم تقع وسط حركة نسك هائلة كانت تجتاح القرن الرابع. بهذه الخلفية يتضح المناخ الذي يحيط بهذه المقالة.
وفي إنطاكية على وجه خاص كانت الحالة الأدبية للمجتمع والمفاسد من كل نوع تدل على أن الضمير يمر بأزمة أخلاقية تدفع كثير من الشباب المتلهفين على الكمال فتيانًا وفتيات، نحو البرية والحياة التأملية. ويبدو يوحنا متحمسًا للأمثلة التقوية حتى أنه في مقالته "ضد الذين يهاجمون الحياة الرهبانية" وهو معاصر في كتابته لمقاله عن "البتولية" يستنكر حياة المدينة إلى حد الثورة لدرجة أنه لا يرى مفرًا أمام مشكلات شباب عصره إن كانوا يريدون حفظ طهارتهم سوى تربيتهم وتعليمهم في الأديرة. فالنسك الذي كان يُمارس وقتئذ في صورة عزلة anakhoritos كان في منتهى العنف وهدفه إضعاف الجسد بالإماتات غير العادية لتأكيد الانفصال التام عن العالم حتى لا يوجد شيء يعوق الصلاة.
وفي الأديرة حيث كانت الحياة النسكية أقل صرامة (مقارنة بالمتوحدين الذين يعيشون في عزلة) ومع هذا فلا إعفاء أو تساهل إلا بحسب قدرات كل شخص، ولكن التقشف يستلزم قدرات عالية من الاحتمال. وعند الجميع كانت البتولية إلزامية، تكريس كامل لله حتى أن الناسك إذا تزوج يرتكب زنى.
ومن جهة النسك داخل المدن فهو يهيئ للرجال والنساء العفيفين إمكانية البقاء في العالم مع نذر البتولية لأجل خدمة رفقائه ومؤازرتهم بالمعونة والمشورة الأدبية والروحية. وفي القرن الرابع كان يعيش كثيرون وسط أسرهم، وآخرون في جماعات، والعذارى في شبه أديرة، والنساك في جماعات نسكية تُسمى askyteria.
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.

بوحنا ذهبي الفم، وقد أحسنت أمه إنثوسا تربيته في بيئة تتسم بالتقوى الممتازة، إلا أن استعداده الشخصي للنسك كان قليلًا، وانجذابه نحو الأرضيات يظهر من كتابه De Compunctione ف 1: 6 حيث يحكي في كلمات لا تخلو من مرح عن مخاوفه التي جازها ساعة اعتزاله قريبًا من المتوحدين يشاركهم نظام الطعام وقيود المعيشة... "... وسألت بنوع من القلق كيف يمكن للإنسان أن يؤّمن لنفسه القوت الضروري ونفقات الخبز اليومي، وسألت كيف لا اضطر لاستخدام نفس الزيت لإعداد المصباح وللطعام، وألا تقل كمية البقول الصغيرة المعتاد عليها وألا يوضع عليّ عمل شاق مثل الفلاحة أو حمل الحطب أو نقل المياه".
كذلك تهذيبه العقلي والخلقي رغم طابعه المسيحي، إلا أنه مماثل للطبقة البرجوازية الوثنية في إنطاكية، فحيويته وتطلعاته تجعل منه بالطبيعة إنسانًا معجبًا بالعالم المحيط به مفتونًا بمسراته كأي شاب تبهره ملذات المدينة التي تقدمها عن سعة كحلبات السباق والملاعب والمسارح كما قال "إغراءات العالم وأحلام الشباب سمّرت قلبي في الأرضيات" (على الكهنوت 1: 3)، والمسرات أحيانًا تكون خطرة على ذوي النفوس الحساسة، فغانية فينيقية كانت تظهر على مسارح المدينة بصخب هائل أثارت العائلات وفتنت كثيرًا من الشباب (راجع تفسيره على إنجيل متى عظة 67: 3)، فكيف يسلك يوحنا في شبابه؟
لا نظن أنه هجر مسراته هذه مرة واحدة كأوغسطينوس لو كان هناك ما يربطه بحياة المدينة. إلا أنه بعد معموديته سنة 396م وكان بالغ السن وبتأثير أسقفه ملاتيوس وخلفه فلابيانوس اعتزل صخب المدينة وتفرغ لدراسة الكتب المقدسة برفقة صديقه باسيليوس. وكل من ملاتيوس وفلابيانوس وديودورس كان مسئولًا عن مناسك askyterion وجميعهم كانوا معتدلين في النسك الذي كانوا ينادون به، وكانوا ضد الإفراط في التقشف. لذلك أمكن ليوحنا أن يمارس حياة شبيهة بالرهبان وهو بعد مازال قريبًا من أمه، ويشارك في الاجتماعات التي كان يرأسها ديودورس. ووجوده قريبًا من أمه لم يعوق نشاطاته بل جعل يمارس نحوها نوعًا من الالتزام الأدبي دون مبالغة، ووافقته هي على ذلك حتى أن صديقه باسيليوس لما دخل السلك الرهباني وضغط عليه للحاق به، رفض بعد توسلات أمه.
ربما كان يبدو له أن البقاء في العالم لخدمة الله أنفع، حيث كتب مرة عن سيرة أحد الشبان الذين كانوا يشتاقون لحياة الوحدة، فنصحه بسكنى المدينة والإنكباب على دراسة الكتب الإلهية، وبذلك يقدم خدمة فائقة لبني جنسه من الشباب.
وبغتة بعد وفاة أمه غادر المدينة معتزلًا في الجبال، وهو قرار يبدو غريبًا بالنسبة إليه. ولكن بالليديوس الذي أرّخ لحياته يقول إنها نهاية طبيعية لأزمة ضمير، لأن خبرة النسك في العالم كانت بالنسبة إليه ناقصة وقليلة الأمانة أمام الله، إلا أنها أهلّته لخدمة الله والتعرف على احتياجات العالم.
ولأن حياة يوحنا من النوع الممتلئ حرارة، فما وافقته حياة النسك العلماني في المدينة ولا أشبعت نفسه الحارة بالروح. فما من شك أنه امتلأ رغبة في التجرد التام متمثلًا بالقديسين الذين سكنوا البراري والذين استشهد بهم في كتابه "عن البتولية".
وعلى كل حال، فقد تجمعت هذه العناصر كلها لتشهد على تضحيته بالذات وحبه لله: انتسابه لوسط راق، شاب بدون هموم تحت رعاية أم واعية، تربية وتعليم عالٍ، رهافة بنيته التي ضحى بها في شجاعة.
وتحت إرشاد راهب شيخ سوري عاش يوحنا أربع سنوات حياة مجمعية، وفي سنة (378-379م) توحد في مغارة في جبل سليبوس. وكانت حياته هذه في الوحدة قاسية عنيفة حتى أنها حطمت صحته، لأنه كرّس الجزء الأكبر من أيامه ولياليه للدراسة والتأمل في أسفار العهدين القديم والجديد. ولما تزايدت عليه العلة قرر في النهاية وقف هذا الأسلوب من الحياة وعاد ثانية إلى إنطاكية في نهاية سنة 380م حيث سيم شماسًا في ربيع سنة 381م. ومن خلال مسئولياته كشماس كتب الجزء الأكبر من كتابته النسكية.

نعلم أن يوحنا ألقى عظاته التسع عشر على الرسالة الأولى لكورنثوس سنة 392م، وضمّنها الكثير من الأفكار الواردة في مقالته هنا، وإليها يعيد السامع ليستزيد من أفكاره عن البتولية.
وبلا شك كان هو مشغولًا بموضوع البتولية طيلة السنتين أو الثلاثة الأولى عقب عودته إلى إنطاكية ورسامته شماسًا هناك. لذلك لا نشك أن أعماله النسكية كُتبت بين سنة 380-382م.

في عرضه للزيجة كاتحاد نموذجي مثمر وبتولي بآن واحد كائن بين المسيح والكنيسة، أعطى الرسول كرامة للزيجة لم تتقلدها أبدًا من قبل. فالغيرة التي أظهرتها الأجيال المسيحية الأولى تجاه النسك والبتولية كانت أحيانًا على حساب التقليل من قيمة الزواج. فإن كانت هذه المقالة "عن البتولية" تعرض تفسيرًا لآيات بولس بنوع من التحيز ضد الزواج، فوجهة النظر في ذلك الرغبة الملّحة لتبرير هذا الموقف، فرسائل بولس -كما يذكر ذهبي الفم - موجهة إلى جماعات لها اهتمامات المجتمع الوثني وتطالب بإجابات على مشاكلها، ومشكوك في مدى قبولها من هذه المجتمعات بدون التضحية بشيء. لذلك لم يقدم الرسول التعليم المتعلق بسمو البتولية بنفس القوة التي يستحقها. ولكن في القرن الرابع، تقدمت النعمة في فعاليتها داخل النفوس، فاستلزم هذا الموقف تعمقًا في الديانة الطاهرة. ولأن النفوس ألفت هذا الموضوع، لذا أصبح سهلًا عليها أن تتعلم سمو التقشف.
بهذه النظرة يتيسر على الكثيرين فهم الروح التي أملت على ذهبي الفم امتداح البتولية وانتقاد الزيجة.
أولًا- البتولية: من البداية يذكر ذهبي الفم أنها نشأت من صليب المسيح المولود من عذراء(45) وينتهي المقال برؤية جموع البتوليين الذين يستقبلهم المسيح على عتبة الحياة الأبدية باعتبارهم أبرارًا. هذا الإطراء للبتولية المقدسة يتناوله ذهبي الفم مرارًا على مدى مقالته مؤكدًا اقتناعه أن البتولية وحدها تجعلنا شركاء الجسد، وبها نوال الحياة الملائكية والتمتع بألفة الله. وفي العظة 19 على رسالة كورنثوس الأولى والتي ألقاها ذهبي الفم سنة 392م يعلّم عن ضرورة العفة [العفة ضرورية دائمًا، ويلزم أن تبقى ماثلة أمام عيوننا باستمرار لئلا نُحرم من رؤية الرب.]
أهداف المقالة: أكثر بكثير من مجرد تدريب أخلاقي كما يبدو من روح المقالة. على المستوى العملي أهدافها محددة بما فيه الكفاية، لأنها موجهة دون شك إلى العذارى والبتوليين بالدرجة الأولى، فهو لا يرمي بالتالي إلى ازدياد الدعوة للبتولية، لأن البراري غاصة بالرهبان والمتوحدين، كما أن العذارى في إنطاكية كثيرات. ولكن الهدف الأساسي دفاعي، لأن الحال اقتضى ضرورة تذكير المبتدعين والمسيحيين النمامين أسرى التعصبات القديمة بشروط البتولية المسيحية وامتيازاتها العالية.
ثم أيضًا للبتوليين أنفسهم، رجالًا ونساءً، هناك احتياج لتذكرتهم بالتزامات البتولية المنذورة للمسيح حيث يكمن الخطر في التحول التدريجي إلى العادة والاسترخاء عن النظام الأخلاقي وضياع الهدف الذي هو المعنى الحقيقي لنذرهم. فإن كان البتول سعيدًا بازدهار بتوليته، إلا أنه يخشى أن التزاماتها قد تبدو غير متوازنة خاصة عند النفس غير المدربة جيدًا؛ للدرجة التي تجعلها ترزح تحت نير الضعف البشري وتستسلم بالنهاية له.
وفي الفصل 26 يعبّر ذهبي الفم عن عدم ثقته في الذين أظهروا حماسًا زائدًا في حياة البتولية دون أن يكون لديهم سند من الخبرة أو البصيرة. وعلى سبيل المثال مشكلة المعيشة المزدوجة cohabitation أو الزيجة الروحية أو الاتحاد السري(46)، التي كانت موضوع فضائح تردد صداها في الأعمال الأدبية المعاصرة.
ومن جهة أخرى حسنًا صنع ذهبي الفم حينما حذّر قارئيه أنه ليست كل بتولية مرضية أمام الله. فممارسة النسك خارجًا عن الكنيسة خطأ روحي وغلطة خطيرة لا تقل عن الزنى. فبتولية الهراطقة هي إهانة لله، والهدف الذي يسعى إليه الهراطقة مزيف يجعل أعمالهم كلها شريرة، لذلك ينتظرهم عذاب أبدي في السماء. هذا الإنذار وهذه التحفظات كتُبت بفطنة يرجع أصلها إلى مشاكل التوجيه والدعوة التي تستلزم سهرًا من نوع معين في عصر بلغ فيه التصوف والروحانية مستوى عالي من الحرارة.
هذه الاعتبارات توضح الصفة الصحيحة للعديد من التصورات، ويوحنا هنا يوجه الكلام ليس كلاهوتي بل كواعظ ومرشد. ومع هذا مازالت المقالة أكثر من مجرد تحذير، وعلى المستوى الإيديولوجي هي إقرار إيماني حار في تكريمه للبتولية
تعريف البتولية: ماذا نفهم من كلمة "بتولية"؟ هذه الكلمة التي نأخذها اليوم بمعنى النزاهة الطبيعية، وهي ترجمة رديئة لكلمة parthenia التي تفيد روح العذراوية باتساع أكثر وتحديد أشمل، أي بتولية مع عفة بآن واحد. وأيضًا ذهبي الفم يعرّف البارثينيا من وجهة نظر ثلاثية: نزاهة الجسد، عفة النفس، تكريس للمسيح. فإذا اقتصرت على النزاهة الجسدية، فستصير غير كافية لخلاص من يمارسها(47)، ثم يعود فيعّرفها بأنها "قداسة الجسد والروح"(48). وإذا اقتصرت البتولية على نزاهة الجسد فلا تختلف عن عملية الخصي، لأن كبت الشهوة بواسطة الاعتزال الجسدي لا يمنح روح البتولية للإنسان المسيحي الذي واجبه أن يتسامى على الشهوة، لا أن يتخلص منها أو يطفئها. إرادة البتول وطاقته الأخلاقية لازمة للامتناع الإرادي عن كل ما يسبب عدم طهارته ولو بطريقة عارضة. والنية الشريرة حتى إن لم تكمل قصدها حقيقة فهي مسبّة للنفس، ومجرد الرغبة غير الطاهرة إذا رضي بها البتول تعتبر خطية عظيمة أكثر من مباشرة الفعل الجسدي. وفي الفصل 6: 1 يتحدث ذهبي الفم عن السهر الداخلي للبتول، فالحكم عليه لا يكون من منظره الخارجي المتواضع ولا دموعه ولا ملابسه الخشنة ولا إماتاته مهما كانت، بل على ميوله وعواطفه العميقة الجوانية، هذا هو القلب الذي ينبغي أن يُسبر غوره. البتول الذي تخلص من هموم الزمان الحاضر ينبغي أن يجحد ما يجتذبه نحو الأرضيات. هذه هي الطهارة الأدبية الأخلاقية التي تتُرجم بالسلوك الكمالي (الفاضل)، هدفها من البداية إلى النهاية الطهارة الروحية.
النسك عند الوثني له غاية بشرية هي سيطرة العقل على الحواس والمشاعر، وعند الهرطوقي هي عمل كبرياء روحي يُسلّم بعده للروح الشرير، أما البتولية فأصلها نابع من الإيمان بالمسيح. وفي مقالة أخرى لذهبي الفم بقول إن الإيمان هو الجذر الذي يمد النسك بعصارة الحياة. وفي هذه المقالة "عن البتولية" نرى الفصول 12-14 ليست سوى شرح لهذه الحقيقة. فالبتول يستطيع أن يؤسس مبدأ العفة من حبه للمسيح ومن رغبته في التشبه به. وبالإضافة إلى تهليله بالحياة التي اختارها ففرحه الحقيقي كائن في خدمته المتواضعة لله. البتولية هي حب لله مُستلهم من المسيح ومقدم له.
هل هي فضيلة؟ أم هي هبة من الله؟
ذهبي الفم حريص (في تعبيراته) في الحديث عن النعمة. فالجهاد والمكافأة في حياة البتولية هي أمور مقدمة من الله. لكن الله أيضًا ترك لنا حرية الاختيار بنوع أن روح البتولية تستلزم عمل النعمة الإلهية الغزير في النفس مع جهادنا الشخصي. والصعود إلى علو هذه الفضيلة يستلزم النعمة أولًا التي أعطاها الله لجميع المسيحيين بالمعمودية. وجهدنا الأساسي يتركز في إجادة الانتفاع بالعطية التي أنعم بها علينا، لأن معونة الله الفائقة لا تقمع الإرادة الحرة، وعمل الإرادة الصالحة يفترض المسؤولية الصريحة للإنسان في اختياره.
وأيضًا الهرطوقي الذي كيّف سلوكه حسب اقتناع مسبق أن الزواج أمر مرذول، فقد خصى النفس كما يقطع الخصي في الجسد، فليس له إذن استحقاق ولا مكافأة، حيث لا يوجد من يظن أن الخصيان يُكافئون بسبب عدم زواجهم، فالأمر يتعلق بغيرتنا وسهرنا على حفظ هذه النعمة والمشاركة في ازدهارها وإثمارها فينا. وجهادنا الشخصي -حتى يكون كافيًا- ينبغي أن تصحبه معونة من فوق. فإن لم يحرس الرب البيت فباطلًا يسهر الحراس. ونحن نتأهل لهذه المعونة الدائمة من الله بالصلوات والأصوام والأسهار والانسحاق. وهكذا بالوداعة الإلهية والجهاد الساهر نبلغ "العشرة" مع الله ونجاور الملائكة أو نتشبه بأبوينا الأولين في الفردوس.

قوة هذه الفضيلة وهدفها هو أنها تدنينا وتقربنا إلى الله. ومثل الوحدة والرهبنة، تصنع ممن يعيشها شخصًا متدينًا في العالم، شخصًا له ارتباط بعالم آخر غير هذا العالم. إذ هي تكمل في النفس عملًا إعجازيًا، توقظ النفس من سكرتها وتجعلها في أفضل حالات اللياقة للصلاة. وبالانفصال عن الجسدانيات تسكب في حواسنا نوع من العبير الإلهي (فصل 63: 2) حيث تُقارن البتولية برائحة عطرة تفيح في الهواء شذى عبيرها. وهي فضيلة مسيحية بالدرجة الأولى، خميرة كل الفضائل، تهيئ الإنسان للفلسفة الحقيقية أي العلم والحكمة الذي بحسب المسيح. وكانت أيضًا موضوع اهتمام المسيح شخصيًا، وذهبي الفم يميل إلى مزجها بالمسيحية فلها موضع مختار في خطة الفداء الإلهي. الله أبدع آدم على صورته وخلق البتولية أول كل شيء رمزًا للخلود في الفردوس. ولما طُرد آدم من موطنه الإلهي بالسقوط جرّ وراءه الجنس البشري. ومن ثم غرق في الفساد ولم يقدر على الحفاظ على العفة. ثم بدأت البشرية ترتقي خطوة، خطوة من الانحلال إلى تعدد الزوجات، ومن التعدد إلى الزيجة الواحدة وفي النهاية. ومحبة الإنسان للإنسان والمعمودية أعادتا الإنسان إلى حالة آدم قبل السقوط وهيأت له استعادة القداسة الأولى بالبتولية وبذلك صار عضوًا في جسد المسيح السري.
فالذين يمارسون البتولية يشابهون الملائكة بل يسمون عنهم لأن الملائكة لا يتعرضون لإغراءات العالم، بينما الإنسان له امتياز الغلبة على الطبيعة المتمردة العاصية. لذلك فالفردوس العتيد سيكون أسمى من الضائع. والبتول له هذا الامتياز العجيب، رغم أنه رهين الجسد، إلا أنه مخطوب للمسيح ويحق له أن يقبل في هذا الدهر رب السموات نفسه، ويقتني طبيعة روحانية تمامًا ويملك عدم التألم abathia التي تهب النفس نقاوة السموات. وبهذا يتحقق على الأرض شروط الحياة في الجنة.
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.

البتولية والزواج كلاهما طريقان، ما يصلح للواحد لا يصلح للآخر، ولا فضل كبير في اعتقادي للإنسان في اختياره البتولية المسيحية، لأن اختيار الإنسان البتولية هو استجابة لنعمة واختيار إلهيين، وقد ذكرت السيدة العذراء في أكثر من ظهور على مدى التاريخ القريب والبعيد أن الله هو الذي يختار المكرسين مثل اختياره لسبط لاوي وهارون للكهنوت، لذلك فإن موقف الإنسان هو مجرد استجابة لسبق الاختيار ولعمل النعمة المجاني في الإنسان الذي يقبل هذا الطريق. ثم إن الله ليس إجحافًا بالآخرين أو بنوع من التفضيل والتمييز قد أعطى نعمة البتولية للبعض، بل أنه بسبق معرفته رأى أن أفضل طريق من الممكن أن يخلص البعض هو طريق البتولية وبغيره لن يخلصون! إذ أنها الوسيلة المتاحة أمامهم للخلاص ونوال المكانة السماوية التي يتمناها الله لهم، فمنحهم إياها... وغير هذا فالزواج مكرم، وأول معجزة صنعها الرب يسوع كانت في عرس قانا الجليل، وقديسنا المغبوط يوحنا ذهبي الفم لا يغفل كل هذا، وإن كان الانطباع الأولي لقراءة المقالة يظهر تحامله على الزواج، فهذا ناتج عن ظروف عصره التي ألقينا عليها الأضواء، وهو في فصل 8 يقول إنه إجحاف بالبتولية أن تُظهر استخفاف بالزيجة، وفصل 9 يقول إن مدح البتولية لا يعني تحريم الزواج أو استهجانه، وفصل 10 يقول إن الذي يحط من قيمة الزواج يعيب البتولية...
فضلًا عن هذا أليست النفوس المتبتلة هي وليدة الزواج المكرم وكلاهما طريقان يؤديان إلى ملكوت السموات، كلٍ بحسب متاجرته الحسنة بوزناته!!!
ولكي نعطي صورة إجمالية عن تعاليم القديس يوحنا ذهبي الفم سنورد له بعض الأقوال التي تتكلم عن الزواج وكرامته لنكمل صورة المقالة ونشرح هدفه حتى لا يتعثر القارئ ونعطي صورة متزنة لتعاليم هذا القديس، هي في واقعها المبادئ الإنجيلية الحقيقية للبتولية. والأقوال الآتية للقديس يوحنا فم الذهب مقتبسة من كتاب "الله والإنسان والكون المادي" تأليف د. هاني مينا، وقد جاء ص86: "عندما يتحد الزوج والزوجة في الزواج لا يظهر أنه بعد كشيء أرضي، بل كصورة الله نفسه"
ص89 "بالتأكيد لو كان الزواج مدانًا، لما كان القديس بولس يدعو المسيح والكنيسة عريسًا وعروسًا"
ص91 "الامتناع عن المعاشرات الجنسية في الزواج على اعتبار أنه شر أو أمرًا يقلل العفة هو إدانة لله الذي شرّع هذه الأمور.
ص104"كيف يصيران جسدًا واحدًا؟ كأن قطعة من أنقى جزء من الذهب تمتزج بذهب آخر، هكذا بالحقيقة تتقبل المرأة أغنى جزء من الرجل لتلتحم به كما في بهجة، فيحدث انتعاش وتدليل وتقوم بالمشاركة معه لإنجاب كائن بشري. هكذا يكون الطفل جسرًا خلاله يصير الثلاثة واحدًا. أنا أعرف أن البعض يخجلون مما أقوله، وذلك بسبب نجاستهم ودنسهم... لماذا نخجل مما هو مكرم... إنكم تدينون الله الذي سنّ هذه الأمور".
ص26 "النسل ليس هدف الزواج ولكنه ثمرة الحب والشركة. ولذلك لا تطلق الكنيسة المرأة العاقر ولا الرجل الذي لا ينجب"
ومما هو جدير بالذكر أنه توجد في ثنايا هذا المقال فقرات في صالح الزواج، وعلينا أن نختم أقواله سنقتبس ما قاله عن البتولية ومصاعبها حيث يتكلم في العظة الثالثة عن التوبة وفيها يتكلم من وجهة نظره ليس كناسك بل كراعي يعرف خبايا النفوس فيتكلم عن البتولية بحرص ويعدد مصاعبها وأخطارها غير مشجعًا أحد على الاندفاع إليها:
[ليس لكم أن تعتقدوا أني تعمدت أن أضّخم من عظم البتولية، فأحد دلائل عظمتها أن لا أحد من أجدادنا استطاع أن يحفظها، وإن ما كان يظهر لآبائنا وللأنبياء مخيف ومرعب، صار لنا اليوم محقق وسهل بنعمة غير عادية.
لقد سمعت معارضي البتولية يصفونها بأنها مكلّفة ومطالبها كثيرة لذلك يحتقرونها حتى الموت ويدّعون أنها تسدي للعذارى في الوقت الحاضر فائدة تافهة للغاية.
ومع ذلك فإن البتولية تتضمن العديد من المصاعب، لهذا لم يستطع أيًا من أجدادنا أن يعزم على أن يحياها. وهكذا فإن نوح الذي كان بارًا وشهد الله نفسه ببره كان متزوجًا، وبالمثل إبراهيم وإسحق وارثا الوعد الإلهي تزوجا، والعفيف يوسف الذي رفض الزنا تزوج أيضًا.
لقد كان من العسير على الأبرار المثابرة في البتولية وهذا ما جعل قوة هذه الفضيلة غير معروفة إلا عندما أزهرت البتولية.
وإن كان لم يستطع إنسان في السابق أن يتزين بها فهذا مرده لصعوبة قمع الجسد آنذاك، وأحب أيضًا بالوصف الذي سأسرده أن تخشوا هذه الفضيلة جدًا، فالبتولية تفترض صراعًا كل يوم ولا تحتمل أي هدنة، وهذا النوع من الجهاد لهو أصعب جدًا من الجهاد مع البربر، لأنه في تلك الحروب -بفضل المعاهدات- من الممكن عقد هدنة يحترمها الطرفان طبقًا لقواعد تكتيكية.
في مقابل ذلك نجد أن البتولية رهان وتحدً، لذلك فالجهاد فيها والحرب بلا هوادة والعدو المهاجم هو الشيطان، ذاك الذي لا يتمهل ولا يعرف الاحترام لأي اتفاقية، بل على العكس يكمن بالمرصاد ليفاجئ العذراء (أو المتبتل) في لحظة تراخيها لكي يوجه لها ضربة قاضية.
ليس من هدنة على الإطلاق للعذراء، بل هي مجبرة أن تكون في وطيس المعركة بصفة دائمة، والعدو لا يمنحها أي فرصة للاسترخاء لا بالنهار ولا بالليل ولا بالفجر أو منتصف النهار وهو يحاربها بلا هوادة ولا يكف عن أن يزين لها اللذة ويلّح عليها بالزواج لينهي هذا الصراع لصالحه وذلك بقضائه على بتوليتها فيزرع فيها الشهوة، وهو لا يسعى إلا لتبديد يقظتها لكي ينفث فيها شره، وفي كل لحظة يستزيد من سعير اللهب الحارق للحب (الجسداني).
ها أنتم ترون الجهود المطلوبة بصفة مستمرة للحفاظ على مثل هذه الفضيلة العظيمة...](49)
وفي الختام جيد لنا أن ننهي هذه المقدمة باقتباس من الكتاب السابق ذكره: "الله والإنسان والكون المادي" - فصل العفة الذي ورد ص96-103:
[لذلك يُفهم إكليل البتولية (كإكليل الزواج) على أنه إكليل شهادة واستشهاد عن رغبات الإنسان الشخصية الخيرة والجيدة، لحساب الملكوت السماوي. فهو ليس تخليًا عن متع شريرة حقيرة من أجل الخير، لأن هذا ضرورة حتمية لكل المؤمنين، أي الجهاد ضد الذات والشر المعبّر عنه: بالشهوات الجسدية وأعمال الجسد والأعضاء الأرضية والعالم الشرير... إلخ. ولكن البتول يقدم لله "أجود الحملان التي بلا عيب" ذبيحة حب مرضية. لذلك فالفكر الغنوسي الذي ينجس الجنس لا يقدم لله "حملان بلا عيب" بل تكون تقدمته نجسة وغير مقبولة. يقدم الراهب أو الراهبة لله نذرًا ثلاثيًا: البتولية (وتسميتها هنا العفة خطأ في التعبير لأنه يوحي بأن الزواج ليس عفة)، والطاعة والفقر الاختياري. وهذه ثلاث ذبائح أو حملان بلا عيب: الطاقة الجنسية (الحاجة إلى الجنس)، والحاجة إلى الامتلاك الضروري، والحاجة إلى التقدير. وهذه الحاجات الإنسانية وما تحمله من متعة جسمية أو نفسية، كلها من خلقة الله في الإنسان لنموه وصالح الإنسانية. فالامتلاك الضروري هدفه الحصول على ضروريات الحياة من طعام وملبس ومسكن ووسائل للاتصالات والثقافة والفن والرياضة... إلخ.، وذلك لأن الإنسان لا يستطيع استعمال أي شيء إلا لو امتلكه أولًا: بالاقتناء بالعمل أو كهدية أو بالسرقة! أما الطمع وحب المال فهو الانحراف في هذا الدافع الإنساني وليس الدافع نفسه. وأما الحاجة إلى التقدير، فهدفها شعور الإنسان بأنه نافع للحياة والمجتمع. ولذلك لا نحسب التقديم على وظيفة عليا أو طلب الترقي الوظيفي على أنه شهوة تعظم بل هو مكافأة الأمانة في العمل والحياة عمومًا. وهدف التقدير والترقي النهائي هو استعمال المسئولية الجديدة لتحسين حياة المجتمع، بأن يقوده أكثر الناس قدرة على العطاء والبذل والتدبير الحكيم...
وقد أعطانا الله حافزًا هامًا ومكافأة ليحثنا على تتميم هذه الحاجات الإنسانية كلها، وذلك هو "المتعة" المصاحبة لتميم أي من هذه الدوافع، مثل متعة الأكل ومتعة المعاشرة الزوجية ومتعة الامتلاك الضروري ومتعة التقدير... فبدون هذه المتعة ما كان الإنسان سيأكل أو يتزوج أو ينجب أو يوافق على تحمل المسئوليات الصعبة...
وقد نتسائل: لماذا هذا الحديث الطويل عن المتعة والهدف في الدوافع الإنسانية وعنوان هذا الجزء هو العفة في البتولية؟!
الإجابة هي: بدون احترامنا وإدراكنا لمعنى المتعة وأهمية الحاجات الإنسانية الخيّرة في الإنسان، يتوه جمال النسك والبتولية والرهبنة. أو قد يظن البعض أن هذه الأنشطة المسيحية هي والغنوسية شيء واحد!! أو إذا تصورنا أن جمال النسك والبتولية والرهبنة هو فقط في التخلي عن أمور باطلة حقيرة، تتشوه عندنا صورة الزواج الطاهر، ونظن أن المسيحي في كماله هو الراهب والراهبة فقط، ويصبح عموم شعب الكنيسة (أي القسم الأكبر من جسد المسيح) هم "أهل العالم" وضعاف المؤمنين ومسيحيين من الدرجة الثانية، لأنهم ليسوا بقادرين على كمال النسك، لأنهم لا يزالون مستعبدين للحاجات الإنسانية الضرورية. وتصبح بالتالي أنشطة المسيحي كلها شهوات جسدية شريرة حقيرة ويضيع جمال خليقة الله في الإنسان.
فكما رأينا، فإن المتزوج والبتول كلاهما يحارب حربًا واحدة ضد الشر والأنانية. ولكن البتول (الراهب والراهبة) يحارب حربًا أخرى لا يحاربها المتزوج، وهي الحرب ضد "سرقة الذبيحة" (المتعة) التي قد وهبها لله ذبيحة حب في نذر الرهبنة.
فالراهب قد يستعمل كل "التكتيكات الحربية والروحية" لكي لا يسقط في تجربة السعي وراء التمتع الجسمي أو النفسي، وذلك ليس لأن هذا التمتع في حد ذاته شر بالنسبة للمسيحي عمومًا، ولكن لأن الراهب قد وهب نذر حاجته الإنسانية كما رأينا، بكل ما تحمله من متع طيبة وخيّرة، هدية حب لله لرسالة هامة كما سنرى، فهو (أو هي) إن شعر برغبة في التمتع في الأكل أو بشوق للزواج أو الامتلاك أو التقدير (وهو غير مناسب مع الطاعة الكاملة التي لا تترجى أي تقدير أو تدليل للأنا) يشعر هنا بتجربة صعبة للغاية، وهي الرغبة في استعادة أو سرقة ما قد سبق وقدمه لله كحمل بلا عيب.
من هذا المنظار المسيحي المتوازن يمكننا تقدير نسك الرهبان بدون احتقار الحياة المسيحية الطبيعية في الزواج والوظيفة والملكية. ويمكننا أيضًا إدراك جمال وعظمة نذر الرهبنة وقوته بالمقارنة بإباحية العالم، بدون أن نظن أن في الرهبنة تزمتًا أو في الزواج ضعفًا إنسانيًا وروحيًا كما علّمت الغنوسية. فالراهب لا يقف ندًا للمسيحي المتزوج (كما يحاول الكثيرون رسم هذه الصورة بسؤال: أيهما أعظم البتولية أم الزواج). ولكن الرهبنة رسالة خاصة غير عادية: فكما قلنا الإباحي الشرير يظن أن الإنسان يحيا بالخبز وحدة وبمتعة الجنس وبالملكية الأنانية وحدها وبشهوة تعظم المعيشة وحدها وبدون تحمل المسئولية الملتزمة، التي يجب أن تصاحب المتعة لتعطيها معناها الإنساني الأصيل.
أما الرهبنة فتقف في ثورة صامتة وتحد قوي أمام انحراف الإباحية لتُشهّر به وتدينه بأن تتنازل حتى عن التمتع الخيّر (كذبيحة حب) وتحيا الحياة بأهداف الدوافع الإنسانية فقط. بذلك تثبت الرهبنة بيقين قوي أن الإنسان لا يحيا بالمتعة وحدها، بل على العكس يمكنه بنعمة الله أن يحيا أهداف الحياة وحدها وبتخلٍ كامل عن كل التمتع الخيّر، وذلك لتحارب شر الإباحية. الرهبنة بذلك لا تقف في مواجهة المسيحي المتزوج، بل في مواجهة الإباحي الماجن. ولماذا هذه الرسالة؟ لماذا لا يحيا الكل في الزواج والحياة العادية؟ هؤلاء الرهبان والبتوليون هم مثل العلماء المتخصصون في الحرب الروحية، تقدمهم الكنيسة ذبائح مُسبّحة ونماذج لإدانة التطرف الإباحي. لأن النموذج المسيحي المتزوج يحيا الهدف والمتعة معًا، وقد يخطئ العالم الإباحي في تقييمه. أما الراهب الحقيقي فهو صوت صارخ في برية العالم الإباحي: "تعالوا وانظروا، يمكنكم أن تحيوا باعتدال إنساني فيه المصالحة بين أهداف الحياة ومتعها، مثل كل مسيحي. وإن لم تصدقوا من يحيون هكذا، فهأنذا أحيا بأهداف الحياة وحدها كإثبات لخطأكم".
ليس الراهب هنا متزمتًا غنوسيًا يتنكر لخير الحاجات الطبيعية ومتعها، بل مُحارب مُضحٍ قد قدم خيرة حملانه مدافعًا عن الحق والفضيلة وقد اختار التسامي بدوافعه ليكرز بالملكوت.
والآن يمكننا أن نسلّط نور على تعاليم بولس الرسول في رسالته إلى أهل كورنثوس، الإصحاح السابع عن البتولية. وكما قلت فلم يدعُ بولس الرسول إلى بتولية الغنوسية، بل دعا البتوليين ليكونوا مثله "كما أنا" أي في تبتل لأجل الكرازة بملكوت الله وليس لإعلاء التبتل على الزواج، ولا العزوبية ولا للبراءة الجنسية في حد ذاتها كفضيلة. ويوضح بولس الرسول أنه لو اضطر المسيحي لأجل التفرغ أن يصبح مثل بولس الرسول، فهذه هي البتولية المطلوبة.
أما إذا أردنا تفسير كلام بولس الرسول في الإصحاح السابع من كورنثوس الأولى بأن الزواج ليس في مستوى قداسة البتولية، فكيف ولماذا اختار بولس الزواج كنموذج سر الحب العظيم (أف 5: 32) بين "المسيح والكنيسة"، ولماذا رد على الكورنثوسيين مؤكدًا أهمية العلاقات الزوجية، وعلى العبرانيين مؤكدًا كرامة الزواج وطهارة المضجع؟ وحتى عبارات "غير المتزوج يهتم فيما للرب كيف يرضي الرب، وأما المتزوج فيهتم في ما للعالم كيف يرضي امرأته" (1كو 7: 33)، لا تدل في سياق الحديث والتعليم العام أن الله يُسرّ أكثر ويرضى أكثر باهتمام غير المتزوج. بل ببولس الرسول يحاول فيها تأكيد رسالة كل من الزوجين نحو الآخر وأن هذا هو العمل الذي به يرضي المتزوج شريكه والرب. وذلك لكي لا يحاول الغنوسيين من أهل كورنثوس إقناع البقية بأن إرضاء الرب هو بالبتولية وحدها.
لقد سُئل قداسة البابا شنودة مرة: أيهما أعظم الزواج أم البتولية؟ فأجاب: إن كل جهاد الرهبان والبتوليين هو لكي يجدوا في النهاية مكانهم في أحضان إبراهيم وإسحق ويعقوب... ثلاث قديسين متزوجين!
وكان قداسته قد سُئل أيضًا في زيارته للندن في نوفمبر سنة 1990م في محاضرة لإكليروس الكنيسة الأنجليكانية عن التمتع الجسدي والرغبة الجنسية في الزواج. وقد أجاب بأن التمتع الجسدي مقبول مادام بحسب إرادة الله والناموس الطبيعي ووصية الكتاب مع ضبط النفس. أما الرغبة الجنسية في الزواج فعلّم بأنها حسنة. وقد ردد القديس أغسطينوس بأن بدون هذه الرغبة ما كان الإنسان سيُقبل على الزواج.
البتولية إذًا هي نوع من أنواع العفة، وليست هي هروبًا من مسئوليات الحياة، بل تكريسًا للجنس الإنساني، وشهادة حية ضد الإباحية (شهوات العالم الشرير) تدعو الإباحيين للتوبة والحياة باحترام أهداف الحياة والدوافع الإنسانية، في وحدة مع المتع التي أعطاها لنا الله كحوافز لتتميم إرادته، لخيرنا وخير القريب والكون كله. إنها استثمار عالي الربح لحساب ملكوت السموات. الزواج والبتولية هما إذًا طريقان رسميان لقلب العريس السماوي. يرتفع البتول أو المتزوج في المجد الأبدي بمقدار المحبة التي اختزنها لله والقريب والكون، وليس بالاسم ولا بنوع الرسالة في حد ذاتها.]
_____
(40) عدم التألم عند الرواقيين هي قمع الرغبات العنيفة. ولكن الكلمة في المفهوم المسيحي هي حالة الكمال فيها يبلغ الإنسان حياة مماثلة لأبوينا الأولين في الفردوس وتبدو في عدم الخضوع لانفعالات الشهوة.Clement of Alex. Strom.5: 4& 9: 6, 13.
(41) العفة =agnia chastity والتعفف enkratia يصعب تحديد معانيها بدقة. ولكن يمكن القول أن التعفف يتعلق بالوضع الخارجي بصفة عامة وهو الامتناع عن المسرات الجسدية، هو ضبط النفس (1كو 7: 9). أما العفة فهي التجرد الداخلي من هذه المسرات بالابتعاد عن الملذات الجسدية حتى لا تتعلق النفس بشيء آخر سوى الله. وبحسب الأخلاقيات المسيحية يمكن ممارسة العفة في الزواج، ولكن بدون تعفف أي ضبط النفس. أما كلمة hi barthenia بحصر المعنى فهي الطهارة الطبيعية، وهي تجمع العفة والبتولية متكاملتين بآن واحد.
(42) لمعرفة صعوبة ممارستها قديمًا، راجع عظات التوبة- العظة الثالثة "البتولية تقدم صعوبات جمّة حتى أنه لا أحد رضي اعتناقها، لأن نيرها يبدو عسير الاحتمال"، وأيضًا Quad regulavés عند اليونانيين يرى المرء فلاسفة استهانوا بغنى العالم وضبطوا أنفسهم من الغضب. ولكن أزهار البتولية ما كانت تساوي عندهم شيئًا إذ لم يكونوا يدركوا معناها. وعلى هذا الاعتبار مدحونا (نحن المتبتلين) على هذه الخطوة دائمًا وأعلنوا صراحة أن هذه الفضيلة تعلو على الطبيعة وغريبة عن البشر.
(43) في عظة 78: 1 على إنجيل متى يذكر يوحنا ذهبي الفم أن البتولية في العهد القديم لم تكن تمارس حتى بين قديسيه، وكذلك أيضًا في العظة على إنجيل 1: 5 ويقول في مقالته Quad Christus sitdeus... "البتولية لم تكن معروفة في الشريعة القديمة، ولا حتى هذا الاسم كان على شفاههم". وداود وحده هو الذي بدأ في إظهار عظمتها "داود من بعيد أدرك سموها حيث تقلدتها الشريعة الجديدة" راجع فقرة 12: 6 من هذه المقالة.
(44) (1كو 7: 35؛ 1كو 7: 1، 32-38). العفة (1كو 7: 8)، الزواج (أف 5: 22-26؛ 2كو 11: 2).
(*) إضافة من الموقع: يقصد كتاب أناشيد سليمان السريانية التي اكْتُشِفَت عام 1905 م.
(45) في عظة لهذا القديس قيلت يوم الجمعة العظيمة قال [بفضل الصليب صارت الطبيعة البشرية تضاهي الملائكة. بفضل الصليب استقرت البتولية على الأرض، لأنه منذ تجسد ابن الله مولودًا من عذراء عرف الإنسان ممارسة هذه الفضيلة.]
(46) من غير الواضح ما المقصود هنا ولكن قد يكون القصد أن يكون هناك زواج شرعي بين رجل وامرأة دون وجود علاقة زيجية وبعد أن يعلم كل من حولهم بتبتلهم، ينساق أحد الطرفين بدافع من الشهوة للتحلل من التبتل ويجرف معه الطرف الآخر، ومع الاحتفاظ بكل المظاهر الخارجية كما كان الأمر من قبل.
(47) "لا يكفي البتول أن يكون طاهرًا بجسده فقط، ولكن بالنفس أيضًا ليكون مستعدًا لقبول الختن الإلهي" (فصل 5: 1).
(48) "هل من أمر يستحق الإعجاب وجدير بالأكاليل أكثر من قهر الطبيعة؟! ولكن هذا لا يستحق الإعجاب حقًا إلا حينما يبدأ الإنسان أن يمارس حياة شبيهة بأنبياء الصحراء وقديسي البراري" (فصل 6: 1).
(49) التوبة لذهبي الفم - العظة الثالثة ص32-33.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-angelos-almaqary/john-chrysostom-virginity/introduction.html
تقصير الرابط:
tak.la/y4ffj4t