1- هل تذكرون نقطة بداية حديثنا الأخير والكلام الذي عنده توقفنا والمواضيع التي شرحتها في عظتي الأولى؟
من المؤكد أنكم نسيتم خلاصة حديثي الأخير، ولكني لن ألومكم، إنه يكفيني أن أتذكرها (أنا)، فكل واحد منكم له زوجة وينبغي أن ينشغل بأطفاله ويبّت في مشاكله العائلية، والبعض منكم عسكريين، والبعض الآخر حرفيين، وعليكم أن تواجهوا متطلبات حياتكم اليومية، أما أنا فقد كرّست كل ذهني وكل اهتماماتي وكل وقتي للتعاليم التي أعطيكم إياها، فليس لكم أن تلوموا أنفسكم، بل على العكس فأنا أغبط مثابرتكم إذ أنكم لم تتغيبوا عن المجيء للكنيسة طيلة أيام الآحاد بالرغم من مشاغلكم.
إن أعظم مفاخر مدينتنا المتزايدة النشاط ذات الضواحي الجميلة وأسطح منازلها المذهبة هو شعبها الممتلئ حيوية. لأن قيمة الشجرة ليس في كثرة أوراقها بل في كثرة ثمارها.
إننا نملك لغة التخاطب التي بها نتميز عن الحيوانات البكماء، ونحن بطبيعتنا نتبادل الكلام والأحاديث، وكل من يرفض التكلم يهبط إلى درجة أقل من تلك الحيوانات، لأنه يجهل أساس كرامته ولا يعلم من أين تأتي إذ قال النبي "إنسان في كرامة ولا يفهم يشبه البهيمة البكماء" [(مز 48: 13) بحسب السبعينية]. إنه شيء لا يُستساغ أن الإنسان المتحلي بالعقل لا يحب الكلام، فأي عذر سيكون له حينئذ؟ وأيضًا فأنا أكّن لكم تقديرًا عظيمًا جدًا لأنكم أظهرتم اهتمامًا حماسيًا للتعاليم التي فضلتموها على كل شيء آخر سواها.

ولكن لنعد لموضوعنا، فأنا سأتابع شرحي لأني ألزمت نفسي بهذه المتابعة من أجلكم، لأن هذا دين عليّ أن أوفيه بمنتهى الرضى، لأن وفاءه لا يفقرني بل على العكس يغنيني. إن المديونين في المعتاد يهربون ممن استدانوا منهم لكي يتحاشوا وفاء ما عليهم، ولكني سأذهب لملاقاتهم لأفي ما عليّ، وأنا أجد لذّة في التصرف هكذا.
في الأمور الدنيوية إن أعدت مالًا قد اقترضته، فأنت تفتقر، ولكن ليس الحال هكذا في المجال الروحي ولنأخذ مثالًا:
افترض أنني مدين بالمال لشخص ما، فإن رددت له هذا المال الذي لا يمكن أن يخصني وإياه بآن واحد، فإنه لم يعد جزءًا من مالي وإنما صار بالكلية لمن اقترضت منه، أما في الأمور الروحية فإن أعددت لكم تعليمًا فأنا أنتفع به أكثر منكم، وأنا لن أفتقر إلا إذا حجبت هذا التعليم لنفسي ورفضت أن أنقله لكم، ولكن غناي كله يكمن في قدرتي على أن أنقله لكم وأشارككم ثماره بدلًا من أن أستمتع به بأنانية بمفردي.
إذًا فأنا عن طيب خاطر سأتكفل برد ما يجب عليّ أن أوفيه لكم. لقد حدثتكم عن التوبة، وأخبرتكم عن طرق عديدة ومتنوعة للتوبة لكي يسهل خلاصكم. فلو كان الله قد قدم لنا طريقًا واحدًا للتوبة لصرنا مجربين بتأجيل سعينا بعلة أننا لا نستطيع طرق هذا الطريق بالذات، حينئذ لا نستطيع أن ننال الخلاص. ومن أجل أن يتحاشى الله هذا، فإنه قدم لنا، ليس طريق واحد أو اثنان أو حتى ثلاثة طرق، بل قدم لنا طرقًا عديدة ومتنوعة جدًا عن بعضها البعض لكي تستطيعوا أن تصنعوا طريق صعودكم إلى السماء، ثم إنني أضفت القول أن التوبة ممكنة دون احتياج لبذل جهود كثيرة من جانبكم.
هل أخطأتم؟ اذهبوا إلى الكنيسة واعترفوا فتُمحى خطاياكم، ولقد أوردت لكم مثال داود الذي يكفّر عن خطيته بهذه الطريقة. ثم عرضت عليكم طريق ثانٍ ممكن، ألا وهو الندم على خطيتكم. أي تعب تتكبدونه إن فعلتم هذا؟ إن إتمام هذا الأمر لا يتطلب حرمانكم من أموالكم أو الجري لمسافات غير محدودة ولا بأي شيء شبيه بهذا، بل فقط أن تبكوا على خطيتكم، وهذا ما حرص الكتاب المقدس على أن يظهره لنا في ما يختص بموضوع آخاب. فإن الله قد تراجع عن حكمه لأن آخاب قد بكى خطيته وأدركه بسببها غمًا شديدًا. وأيضًا فإن الله قال لإيليا: هل رأيت كيف تواضع آخاب أمامي؟ لأنه تواضع أمامي، فلن أجلب الشر في أيامه (1مل 21: 29)... ثم تابعت كلامي بعد ذلك عن الطريق الثالث للتوبة وعضدت كلامي مستعينًا بمثل الفريسي والعشار في الكتاب المقدس، فإنه لأجل تفاخر الفريسي وتكبره قد ابتعد عنه البر، بينما تواضع العشار جعله يغادر الهيكل مبررًا دون أن يظهر لنا أنه بذل مجهود يُذكر وهكذا جمع ثمار توبته.

لنتابع ما عددناه ولنتقدم الآن إلى الطريق الرابع المُقدم لنا... أود أن أحدثكم عن الصدقة ملكة الفضائل، التي ترتفع بالبشر بسرعة حتى إلى السماء حيث تترافع بدالة لصالحهم.
إن الصدقة شيء نبيل، لذلك فإن سليمان يهتف قائلًا: كثير من الناس دُعوا رجال إحسان، أما الرجل الأمين (المتصدق) فمن يجده (أم 20: 6).
إن الصدقة ذات إمكانيات لا نهائية، وأجنحتها تخترق الهواء وتذهب أبعد من القمر وتقتحم أشعة الشمس لتصل إلى القباب السمائية. إنها لا تكتفي بهذا، بل هناك تتخطى الملائكة ورؤساء الملائكة، بل كل القوات السمائية (قاطبة) لتصل أمام عرش الله. والكتاب المقدس يُعلنا ذلك "يا كرنيليوس إن صلواتك وصدقاتك صعدت تذكارًا أمام الله" (أع 10: 4). إن الكلمات "صعدت تذكارًا أمام الله" تعني أنه حتى ولو أخطأتم كثيرًا، فالصدقة تترافع لصالحكم بحيث أنكم لا تعودوا تخافون شيئًا.
لا يوجد في القوات العلوية من يعترضها. إنها تطلب أن يوفى ما علينا من دين، بل إنها هي التي اقتنت هذا الشرف الفائق الإدراك من فم الرب "بما أنكم فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الصاغر فبي فعلتم" (مت 25: 40).
وهكذا أيًا كانت خطايانا، نستطيع أن نلاشيها بالصدقة.

![]() |
2- أنتم بدون شك قرأتم في الإنجيل مثل العشر عذارى. هل أدركتم إن الجاهلات لكونهن لم يمارسن الصدقة بالرغم من بتوليتهن قد رُفضن من الدخول للعرس؟
يقول لنا الكتاب: خمس كن جاهلات وخمس حكيمات. كان للعذارى الحكيمات زيت في مصابيحهن، والجاهلات لم يكن لديهن زيت حتى أن مصابيحهن لم تتأخر في الانطفاء، لذلك ذهبن لرفيقاتهن الأكثر حكمة وقلن لهن: أعطيننا من زيتكن فإن مصابيحنا تنطفئ (مت 25: 8).
إنني أحمرّ خجلًا وأريد أن أبكي عندما أمرّ بأولئك العذارى الجاهلات. إنني أخجل من مجرد ذكر اسمهن: فبعد أن عشن هكذا حياة فاضلة، وثابرن للنهاية على حفظ بتوليتهن، وبعد أن ارتفعن بجسدهن حتى إلى السماء منافسات في ذلك القوات السمائية، وتحملن لهيب الشهوات الحارقة، ودسن بأقدامهن شهوات الحب (الجسدي)... هؤلاء العذارى التي يستحققن كل تقدير إلا أن يكن جاهلات، تعثرن عثرة صغيرة، بعد أن تخطين عقبات عظيمة.
إن الجاهلات قلن للحكيمات أعطيننا من زيتكن فإن مصابيحنا تنطفئ، فأجابت الحكيمات لعله لا يكفينا وإياكن (مت 25: 8-9).
إن هذا الرد والتصرف لم يكن مرده إلى قسوة أو خبث ولكن لدقة الوضع، فالعريس أوشك على المجيء وهن ينتظرن بمصابيحهن، ومصابيح بعضهن بها زيت والأخريات لم يكن ثمة زيت في مصابيحهن.
إن النار ترمز هنا للبتولية، والزيت للصدقة، وكل شعلة إن لم تغتذ بكمية منتظمة من الزيت ستنطفئ تدريجيًا، وهكذا نفس الوضع بالنسبة للبتولية، فبدون الصدقة ستنتهي حتمًا بالتلاشي.
"أعطيننا من زيتكن" فأجابت الحكيمات إنه لا يكفي لنا ولكن. أعود وأكرر أن هذه الإجابة لم يكن مردها القسوة بل الخوف. إنهن إن فعلن هذا -إذ أن الكل يردن أن يدخلن- فإنهن بهذا يخاطرن بعدم دخول الكل وبقائهن خارج العرس.
"بل بالحري اذهبن للباعة وابتعن لكن"
من هم أولئك التجار الذين يبيعون الزيت؟ إنهم الفقراء الذين يجلسون أمام الكنيسة يستعطون الصدقة. كم مقدارها؟ إن تحديدها يرجع إليكم، وأنا من ناحيتي لن أحدد قدرًا معينًا لكي لا أربككم.
اشتري زيتًا بالقدر الذي في استطاعتك. هل تملك فلسًا؟ اشتر به السماء. ليست السماء هي التي تُمنح بفلس ولكن صلاح الله وجوده هو الذي يفعل هذا. ألا تملكون الفلس؟ أعطوا كأس ماء بارد "من سقى أحد أولئك الصغار كأس ماء بارد فقط باسم تلميذ فالحق أقول لكم إنه لا يضيع أجره" (مت 10: 42).
اصنعوا لكم كنوزًا لا تبلى:
تخيلوا نحن نستطيع أن نشتري السماء ونهمل فعل ذلك!
برغيف خبز تقدمونه، تحصلون في مقابله على الفردوس، قدموا ولو أشياء زهيدة القيمة فتحصلوا على كنوز، أعطوا عطايا مادية فانية تحصلون على الخالدة، أعطوا خيرات أرضية تنالون مقابلها خيرات سمائية.
إن وجدتم في السوق من يقدم لكم بضاعة كثيرة وبسعر رخيص، ألن تسارعوا لاقتنائها ولو تكلف الأمر أن تبيعوا كل ما تمتلكون في مزاد علني وتتخلوا مؤقتًا عن شراء أي شيء آخر في سبيل أن تغتنموا هذه الفرصة.
فإن كنتم تعرفون إظهار مثل هذه الفطنة فيما يختص بخيرات أرضية فانية، فلماذا تظهرون عدم اكتراث فيما يختص بالخالدات؟ أعطوا للفقير، وحتى لو التزمتم الصمت على أفعالكم فآلاف الأصوات ستترافع لصالحكم، وستظهر صدقاتكم كأحسن محامٍ لكم، فالصدقة تعمل لصالح خلاص نفوسكم. نحن من ناحية أخرى نستطيع أن نقيم مقارنة بين الآنية الممتلئة الموجودة عند أبواب الكنائس لغسل الأيادي، وبين الفقراء الجالسين خارج الكنيسة لكي يطهّروا نفوسكم بالتصدق عليهم. لقد غسلوا أيديكم بالماء وبنفس الطريقة اغسلوا نفوسكم بالصدقة. إن فقركم لن يفيدكم كحجة تتذرعون بها.

كانت توجد امرأة تحيا في فقر مدقع استضافت إيليا النبي ولم يمنعها فقرها من استضافته بفرح عظيم، وقد استقبلته بهدايا عديدة تمثّل تمثيلًا عمليًا ثمرة صدقتها.
ربما تتمنون أن تستضيفوا إيليا على غرار هذه المرأة، ولكن لماذا تطلبون إيليا؟ إنني سأقدم لكم رب إيليا نفسه، ذاك الذي لا تستقبلونه مثل استقبالكم إيليا نفسه، والمسيح، رب الكون وإيليا، يقول في أحد تعاليمه: بما أنكم فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الأصاغر فبي قد فعلتم (مت 25: 40). تخيلوا أن ملك قبل دعوة للغداء (عند أحد رعيته) ثم قال لعبيده: اظهروا امتنان وعرفان بالجميل لذلك الرجل لأنه استضافني عندما كنت في الفاقة، وأسدى لي خدمات كثيرة في أيام ضيقي. ألا تعتقدون معي أن كل واحد من عبيد الملك سيبذل كل جهده من أجل أن يقدم الإكرام لمن أوصى الملك بإكرامه جزاء المعروف الذي أسداه إلى الملك؟ كيف يتمنع (ويمتنع) العبيد عن فعل هذا الأمر؟ ألن يسارعوا لنوال حظوة الملك وعقد صداقات مع ذلك العبد؟
3- هل أدركتم قوة وقع كلمات الملك؟ فإن كان العرفان لملك أرضي نال كل هذا الرضى، ففكروا فيما يستطيع المسيح فعله في يوم الدينونة الأخير في محضر الملائكة وكل القوات السمائية، فهو سيقول: هذا الرجل استضافني على الأرض وأسدى لي إحسانات عديدة... لقد استضافني عندما كنت غريبًا... فكروا معي في الدالة التي ستكون له حينئذ في وسط الملائكة، والانشراح الذي ستظهره له القوات السمائية.
إن الصدقة يا إخوتي عمل نبيل لا يدانيه شيء، فلنتبناها في سلوكنا، لأنها كافية لمحو كل خطايانا وتبديد كل خصام، وحتى في حال صمتكم فهي تؤكد حضورها وتترافع لصالحكم، وبالرغم من التزامكم الصمت، فإن أصوات عديدة ترتفع لإظهار عرفانها بصنيعكم.
إن الصدقة تتدفق منها مكافآت جزيلة ومع ذلك نحن نتجاهلها! إعطوا كسرة خبز لو كان في استطاعتكم. ألا يوجد لديكم خبز؟ إعطوا فلسًا... ألا يوجد لديكم فلس واحد؟ إعطوا كأس ماء بارد... (هل) حتى الكأس لا يوجد لديكم؟ ساندوا وشاركوا قريبكم في بليته وأنتم ستُكافأون بنفس الطريقة، لأن الله سيكافئ نيتنا وليس عظيم إنجازنا.

لكننا خرجنا عن الموضوع وابتعدنا عن مثل العشر عذارى - لذلك فلنعد إلى لب الموضوع... أعطينا من زيتكن... هذا لا يكفي لنا ولكن، اذهبن بالحري إلى الباعة وابتعن لكن...! وفيما هن ذاهبات ليبتعن جاء العريس والمستعدات دخلن معه إلى العرس وأُغلق الباب، فجاءت الجاهلات وقرعن الباب قائلات: يا سيد، يا سيد افتح لنا، فسمعن من الداخل صوت العريس يقول لهن: ابعدن عني فإني لا أعرفكن.
ماذا كان الرد الذي سمعنه بعد الأتعاب الكثيرة المبذولة من جانبهن؟ إني لا أعرفكن.
كما سبق أن قلت فإنهن باطلًا حفظن جوهرة البتولية - تأملوا كيف تم رفضهن بعد أن اجتزن صعاب عظيمة كهذه. لقد تغلبن على شهواتهن وصارعن ضد القوات الشريرة واحتقرن خيرات العالم وغلبن أعظم الأهواء وأحرزن أكثر من انتصار. هؤلاء العذارى اللاتي ارتفعن من الأرض إلى السماء واللاتي نجحن في الحفاظ على ختم بتوليتهن سليمًا للنهاية، وارتدين الجمال والبهاء ونافسن الملائكة وتحررن من أثقال أجسادهن ومتطلبات الطبيعة وعشن للنهاية قامعات أجسادهن، وبالاختصار فإن اللواتي اقتنين هذه الجوهرة الفائقة، أي البتولية، قد سمعن هذه الكلمات القاسية: ابعدن عني، إني لا أعرفكن.

ليس لكم أن تعتقدوا أني تعمدت أن أضّخم من عظم البتولية، فأحد دلائل عظمتها أن لا أحد من أجدادنا استطاع أن يحفظها، وإن ما كان يظهر لآبائنا وللأنبياء مخيف ومرعب، صار لنا اليوم محقق وسهل بنعمة غير عادية.
لقد سمعت معارضي البتولية يصفونها بأنها مكلّفة ومطالبها كثيرة لذلك يحتقرونها حتى الموت ويدّعون أنها تسدي للعذارى في الوقت الحاضر فائدة تافهة للغاية.
ومع ذلك فإن البتولية تتضمن العديد من المصاعب، لهذا لم يستطع أيًا من أجدادنا أن يعزم على أن يحياها. وهكذا فإن نوح الذي كان بارًا وشهد الله نفسه ببره كان متزوجًا، وبالمثل إبراهيم وإسحق وارثا الوعد الإلهي تزوجا، والعفيف يوسف الذي رفض الزنا تزوج أيضًا.
لقد كان من العسير على الأبرار المثابرة في البتولية وهذا ما جعل قوة هذه الفضيلة غير معروفة إلا عندما أزهرت البتولية.
وإن كان لم يستطع إنسان في السابق أن يتزين بها فهذا مرده لصعوبة قمع الجسد آنذاك، وأحب أيضًا بالوصف الذي سأسرده أن تخشوا هذه الفضيلة جدًا، فالبتولية تفترض صراعًا كل يوم ولا تحتمل أي هدنة، وهذا النوع من الجهاد لهو أصعب جدًا من الجهاد مع البربر، لأنه في تلك الحروب -بفضل المعاهدات- من الممكن عقد هدنة يحترمها الطرفان طبقًا لقواعد تكتيكية.
في مقابل ذلك نجد أن البتولية رهان وتحدً، لذلك فالجهاد فيها والحرب بلا هوادة والعدو المهاجم هو الشيطان، ذاك الذي لا يتمهل ولا يعرف الاحترام لأي اتفاقية، بل على العكس يكمن بالمرصاد ليفاجئ العذراء (أو المتبتل) في لحظة تراخيها لكي يوجه لها ضربة قاضية.
ليس من هدنة على الإطلاق للعذراء، بل هي مجبرة أن تكون في وطيس المعركة بصفة دائمة، والعدو لا يمنحها أي فرصة للاسترخاء لا بالنهار ولا بالليل ولا بالفجر أو منتصف النهار وهو يحاربها بلا هوادة ولا يكف عن أن يزين لها اللذة ويلّح عليها بالزواج لينهي هذا الصراع لصالحه وذلك بقضائه على بتوليتها فيزرع فيها الشهوة، وهو لا يسعى إلا لتبديد يقظتها لكي ينفث فيها شره، وفي كل لحظة يستزيد من سعير اللهب الحارق للحب (الجسداني).
ها أنتم ترون الجهود المطلوبة بصفة مستمرة للحفاظ على مثل هذه الفضيلة العظيمة، والجاهلات بعد أن جزن كل هذه الاختبارات الصعبة سمعن الصوت: ابعدن عني، إني لا أعرفكن.
أي شأن عظيم لفضيلة البتولية! ولكن يجب أن تلازمها الصدقة لكي تجعلها قادرة على تحدي كل خطر والارتفاع فوق المغريات.
إن العذارى الجاهلات لم يقرنّ البتولية بالصدقة ولذلك لم يدخلن مع العريس. إن المرء ليتضايق أمام هذا الوضع فبعد أن قاومن الملذات، لم يدركن احتقار الغنى...
أيتها العذارى، يا من تخلين عن ملذات الجسد، لماذا اشتهيتن خيرات العالم في اللحظة التي كنتن متقيدان فيها بصيبلكن؟ يا ليتكن تزوجتن فعلى الأقل، ما كنتن محل اتهام خطير كهذا، ولكانت شهوتكن شرعية، ولكن إذ قد اخترتن الخيرات التي قد ترفعتن عنها فإن شذى جرمكن يفيح.
كثيرًا ما تتحججن المتزوجات عن (غياب) فضيلة الصدقة لديهن بحجة أن لديهن أطفالًا، وإن طُلب منهن صدقة يُجبن قائلات: لديّ أطفال لذلك لا أستطيع أن أتصدق...
لقد أعطاكن الله أطفالًا وحصدتن ثمرة أحشائكن، فكان يجب أن يوقظ هذا فيكن ميلًا للسخاء العظيم، بدلًا من أن يكون الأولاد حجة لتحجر قلوبكن، فلا تتحولن عن رفض دعوة إلى العطاء بسخاء.
هل كل طموحكن متركز في أن تخلفن لأولادكن ثروة طائلة؟ ورثوهم بالأولى مثالكن في العطاء، فتعلن أصوات كثيرة عن صلاحكن عقب وفاتكن، وهكذا تتركن لأولادكن ذكر حسن جدير بالمدح والثناء.
لكن يا من أنتن عذارى ولا أولاد لكنْ ما فائدة جمعكن المال؟ ألم تنَذُرنَ نبذه من أجل الحياة الأبدية؟
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.

4- ولكن أنا مشتاق جدًا لأن أحدثكم عن طرق مختلفة تؤدي إلى التوبة وخصوصًا طريق الصدقة! وفي سياق حديثي أوضحت لكم حينئذ أن الصدقة خيرٌ فائق القيمة، وتعرضنا لموضوع البتولية الخطير، وقد وجدتم معي أن الصدقة منفذ ممتاز ومأمون للتوبة ووسيلة كفيلة بتخليصكم من ثقل خطاياكم.
سأحدثكم الآن عن طريق آخر مدخله سهل جدًا ويتيح لكم التحرر من الخطية ألا وهو طريق الصلاة.
صلّوا كل حين، صلّوا بلا انقطاع، تضرعوا بمثابرة إلى المراحم الإلهية، فالله لا يرفض ويرد من يثابر ويواظب على هذا، بل يمنحه مغفرة خطاياه ويستجيب صلواته.
هل استجاب الله صلواتك؟ استمر بالصلاة لكي تعبّر عن شكرك وامتنانك، وإن لم تُستجب صلاتك بعد فواظب على الصلاة لكي تُستجاب، ولكن لا تقل على الإطلاق: لقد صليت كثيرًا ولم أحصل على إستجابة... لأنه غالبًا ما يكون عدم الاستجابة لمنفعتك... نعم فإن الله يعرف إهمالكم وتوانيكم وهو متوقع أنه يوم أن تحصلوا على طلبكم، فلن تعودوا بعدئذ للصلاة إذ أن الحاجة هي التي تدفعكم للصلاة، والرب أيضًا يجعلكم دائمًا في هذا الوضع لكي تكثروا تضرعاتكم وتتكرسوا بالأولى للصلاة...
وإن كان وأنتم تشعرون باحتياج عظيم وتضغطكم الظروف تتصرفون برخاوة ولا تثابروا على الصلاة، فما الذي سيحدث إذًا حينما لا يكون هناك شيء على الإطلاق تقلقون أو تهتمون له؟
وهذا يفسر لكم لماذا يطلب الله منكم لخيركم ألا تقصّروا في صلاتكم، فصلّوا بلا انقطاع ولا تملوا.

يا أحبائي إن للصلاة قوة عظيمة جدًا فاجتهدوا أن تعطوا أنفسكم للصلاة كعمل معتاد، فالأناجيل المقدسة تعلّمنا أن الصلاة تغفر خطايانا، وسنرى كيف يكون هذا...
إن ملكوت الله يُشبّه برجل أغلق بابه ورقد في الفراش مع أسرته، ولكن في وقت متأخر جدًا أتى إليه شخص ما يطلب خبزًا وطرق الباب وقال: افتح لي فإني أحتاج خبزًا، فأجابه رب البيت في الحال: لا أستطيع أن أعطيك الآن، فنحن كلنا نيام. فواصل الرجل الطرق على الباب، وجاءه نفس الرد، ولكن هذا لم يمنع السائل من الإلحاح دون يأس حتى قام رب البيت وأعطاه ما يحتاج ليذهب عنه.
لذلك يجب علينا أن نصلّي دائمًا ولا ندع اليأس يتطرق إلينا كما يعلّمنا هذا المثل، لأنه حتى لو ظلت صلاتنا بغير استجابة في الوقت الحاضر، فيجب أن نلحّ ونثابر حتى نحصل على حكم لصالحنا.
إن الكتاب المقدس يقدم لنا أيضًا العديد من الوسائل للتوبة... وقبل مجيء المسيح دعا إرميا النبي للتوبة بهذه الصيغة: "هل يسقطون ولا يقومون، أو يرتد أحد ولا يرجع؟" (إر 8: 4)، وقال أيضًا: "فقلت بعدما فعلت كل هذا ارجعي إليّ فلم ترجع" (إر 3: 7)، وهكذا بتقديم كل هذه الأدوية المختلفة لنتوب عن خطايانا، فإن الله يقطع كل الطرق على تكاسلنا، لأنه لو كان معروض علينا طريقًا واحدًا لكنا دائمًا نجد أسبابًا تبدو وجيهة بها نمتنع عن طريق التوبة الوحيد هذا.
هل أخطأتم؟ اذهبوا للكنيسة واعترفوا بخطاياكم، توبوا في كل مرة تقترفون فيها خطية، فالتوبة سلاح ينهزم أمامه الشيطان دائمًا. سارعوا إلى التوبة كمسارعتكم للقيام من الوقوع والتعثر في موضع عام. لا تفقدوا العزيمة على الإطلاق، وإن وقعتم مرة أخرى في نفس الخطأ توبوا مرة أخرى ولا تفتروا بل تشجعوا. وحتى لو سقطتم في الخطية في سن متقدم، سارعوا بالذهاب إلى الكنيسة وتوبوا، لأنه هناك في الكنيسة تجدون علاجًا لا مسائلة، تجدون غفرانًا لا عقوبة.
اعترفوا لله الذي أخطأتم إليه قائلين: "لك وحدك أخطأت والشر قدامك صنعت" [(مز 50: 6) بحسب السبعينية] فتغُفر لكم خطاياكم.

تستطيعون أيضًا أن تستفيدوا من طريق آخر ليس فيه أي مشقة، وأنا نفسي اعتبره سهلًا... يمكنكم الوصول إليه إذا ندمتم على خطاياكم. وهذا ما يعلّمنا بشأنه الإنجيل، فقد ذُكر فيه مثال بطرس أول الرسل وصديق المسيح والذي نال الإعلان الإلهي ليس من فم بشر بل من الآب نفسه كما تشهد بهذا كلمات الرب: طوباك يا سمعان بن يونا، إن لحمًا ودمًا لم يعلنا لك لكن أبي الذي في السموات (مت 16: 17).
عندما أحدثكم عن بطرس لا أستطيع أن أمنع نفسي من التأمل في هذه الصخرة المنيعة والعمود غير المتزعزع، هذا الرسول العظيم الذي كان أول الرسل، الذي كان من الأوائل في الدعوة وقبولها.
إن بطرس الرسول لم يقترف خطية هينة يوم أنكر الرب، بل إنها خطية لا تُبارى في شناعتها إذ قد أنكر سيده نفسه، وإني وإن كنت أذكر لكم خطية بطرس هذه فليس لكي أدين ذاك البار، ولكن لكي أعضد توبتكم بمثال بارز. فهو التلميذ الذي أنكر رب الأرض وحامي العالم ومخلّصه. وهو التلميذ الذي عندما -رأى الرب أن بعضًا من تلاميذه قد رجعوا إلى الوراء- فقال له الرب: أتريد أن تمضي أنت أيضًا؟ فأجابه سمعان بطرس: حتى لو اضطررت أن أموت معك لا أنكرك (مت 26: 35).
كيف يا بطرس؟ كيف تؤكد وتصر على عكس ما تنبأ به لك الرب؟ اعلموا أن نية بطرس وعمق مشاعر محبته للرب هي التي دفعته أن يقول هذا، ولكنه سقط عن ضعف. فما الذي حدث حينئذ؟
في الليلة التي أُسلم فيها المسيح كان بطرس واقفًا بالقرب من النار يصطلي فاقتربت منه الجارية وقالت له: وأنت أيضًا كنت مع يسوع الجليلي (مت 26: 69)، فأجاب بطرس لست أعرف هذا الرجل، وتكرر هذا ثانية وثالثة وتحققت النبوة الإلهية، فألقى المسيح على بطرس نظرة ذات مغزى ولم يوجه إليه أي كلمة ليلومه أو يزعجه في محضر اليهود ولكن نظرته عبّرت بوضوح عما يود أن يقوله له: هوذا ما سبق أن تنبأت لك به قد حدث!
وأدرك بطرس ضعفه وانخرط في البكاء، وكانت دموعه السخينة أكثر من كونها مجرد دموع عادية، فقد كانت غزيرة وبمرارة عميقة، وكانت للرسول بمثابة معمودية ثانية، وببكائه من عمق قلبه محا خطيته، وبعد وقت قليل وجد نفسه يتسلّم مفاتيح السموات. إن كان بطرس بدموعه السخينة قد محا خطيته الثقيلة، فكيف لا تمحو أنتم خطاياكم بالبكاء بنفس الطريقة؟
إنني أعيد القول: إن كون بطرس قد أنكر سيده فهذه لم تكن هفوة بسيطة، بل كانت خطية ثقيلة جدًا، ومع ذلك فإن دموعه السخينة جلبت له الغفران عنها، فابكوا أنتم إذًا أيضًا، لكن لا تبكوا باستخفاف، بل لتكون دموعكم كدموع بطرس تعبّر عن خالص ندمكم، ولتكن نابعة من عمق أعماق قلبكم، لكي تتلامس دموعكم مع حنان الرب فيغفر لكم خطاياكم، أليس هو نفسه القائل: هل مسرة أُسر بموت الشرير، إلا برجوعه عن طرقه فيحيا.
إن الله يطلب منا أشياء قليلة بالمقارنة بالحزن الذي يلحق به من جراء خطايانا ومقارنة بالخيرات التي يعطينا إياها، وهو يتحين الفرصة المناسبة لكي يمنحنا كنز خلاصنا... قدموا له الدموع وهو سيمنحكم الغفران، قدموا له خالص توبتكم وهو سيهبكم غفران خطاياكم.

قدموا للرب مساهمتكم المتواضعة وهو سيبرركم بالكلية، وإن كانت بعض الأعمال لا تأتي إلا من الله، فبالمقابل فالأعمال الأخرى تنبع منا، فلنفعل إذًا ما في قدرتنا وهو بالتالي يفعل ما هو من جانبه، والرب قد أتحفنا بأمور عظيمة مثل الشمس والقمر والنجوم السيارة بانتظام وتوافق، والهواء العليل والأرض المنبسطة، ووضع حدودًا للبحر، وأعطانا الجبال والغابات والتلال والينابيع والبحيرات والأنهار وعمّرها بأنواع شتى من الزروع والزهور المدهشة. وأنتم منوط بكم في الوقت الحاضر أن تفعلوا كل ما في وسعكم حتى تستطيعوا أن تحصلوا على الغنى السمائي ولا تكونوا سلبيين، وليس لنا أن نكف عن العمل لخلاصنا، لأننا متأكدين من صلاح رب الكون ومن استعداده ليغفر لنا.
إن المكافأة المعروضة علينا عظيمة، فبالإضافة إلى ملكوت السموات هناك الفردوس حيث الخيرات التي لم ترها عين ولم تسمع بها أذن ولم تخطر على قلب إنسان، ما أعدّه الله للذين يحبونه (1كو 2: 9) أليس هذا سبب كافٍ لنشارك في (تحقيق) خلاصنا؟
سأقتبس لكم لأجل هذا الغرض كلمات بولس الرسول الذي قهر أعظم التجارب والمحن وأحرز الانتصارات على الشيطان، والذي في حياته سافر في كل الأرض وعبر البحار والأهوية كمن هو مرفوع بالأجنحة، وأخيرًا رُجم ونالته شدائد كثيرة لأجل اسم الله، وقد دُعي بصوت سماوي وهو قد قال: لقد قبلت نعمة من الله ولكني أعطيت نفسي للأتعاب وقدمت مشاركتي، ونعمته المعطاة لي لم تكن باطلة، بل أنا تعبت أكثر منهم جميعًا (1كو 15: 10).
إنه يريد أن يقول: إننا لم نجهل عظم النعمة التي حصلنا عليها. ولكنه من ناحيته لم يكن سلبيًا بل قدم مشاركته وساهم لما فيه خلاصه بكل أمانة.
وفي الختام فلنعلّم أيدينا عمل الصدقة، فهي وسيلة مقدمة لنا لخلاصنا ولنأسف على خطايانا ونندم من عمق القلب على آثامنا فنحصل بالمقابل على مكافأة عظيمة موعودة لنا، وعظمتها تتخطى كل مداركنا، إذ تُدعي الفردوس وملكوت السموات، ونستطيع كلنا أن ننالها بنعمة وصلاح ربنا يسوع المسيح الذي يملك مع الآب والروح القدس له المجد والقوة والكرامة الآن وكل أوان وإلى دهر الدهور آمين.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/5zx5nfv