1- لقد رأيتم الأحد الماضي المحاورة التي دارت بين المسيح والشيطان والتي خرج فيها المسيح منتصرًا (إنجيل التجربة). هل رأيتم العاقبة المجيدة التي تحققها التوبة بينما الشيطان يتلوى من الضربة التي ارتدّت عليه وقد استولى عليه الخوف والرعب؟ ما الذي يزعجك يا شيطان في مدح التوبة؟ ما الذي يحزنك - لماذا تقشعر؟
(ويرد الشيطان قائلًا) آه! وأسفاه - لدي أسباب كثيرة تحزنني بل وتجعلني أتلوى غيظًا. إن التوبة قد استولت على أرواح غالية كانت لدي في حوزتي.
من هم؟
إنهم الزانية والعشار والمضطهد والمجدف.
هذا حق، فإن التوبة قد استولت على آنية مختارة عديدة من الشيطان، وهذا الانتصار قد قوّض مملكته وأفضى إليه بضربة قاضية.
يا أحبائي الأعزاء، لقد لاحظتم هذا بسهولة بدأً من الأحداث التي عشناها في الأمس القريب، ولكن لماذا لا نستفيد بكل خبرات هذا الدرس؟ لماذا لا نسلّم أنفسنا كل يوم للكنيسة لنصنع فيها توبة؟ أيًا كنت، خاطئًا أو بارًا، سارع بالذهاب إلى الكنيسة لأنها ميناء خلاص، فالخاطئ يقرّ فيها بخطاياه والبار في حضنها يثابر في الطريق المستقيم للبر.

هل أنت خاطئ؟ لا تستسلم لليأس بل سارع للتوبة، وإن اقترفت خطية قل لله: يا إلهي لقد أخطأت إليك. أي تعب سيكلفك هذا الاعتراف، كم من الوقت ستستغرقه لتقول قد أخطأت؟ أي ضغط أو تضييق تتضمنه هذه الكلمات؟ ما الصعوبة في أن تنطق بضع كلمات: لقد أخطأت؟ واحذروا فإنه إن لم تقروا بخطاياكم بأنفسكم، فإن الشيطان سيتكفل بإشهارها. إذًا فمن الأفضل التقدم والاعتراف بخطأكم لتنالوا المغفرة، عالمين أن لكم في الشيطان مشتك لا يستطيع أن يصمت.
يا من أخطأت أسرع بالذهاب إلى الكنيسة وقل لله: لقد أخطأت. هذا هو الجهد الوحيد المطلوب منك. ألم تقل الكتب المقدسة، حاسب نفسك لكي تتبرر؟ (إش 43: 26)"اعترف بخطاياك فتُمحى". إنني أكرر: إن هذا لا يتطلب أي مشقة أو تعب أو مال ولا أي شيء شبيه بهذا، ودون إغفال لخطورة خطأك قل فقط: لقد أخطأت.
من الممكن بالتأكيد الاعتراض: لماذا أنال الغفران بمجرد أن أعترف؟ إن الكتاب المقدس يقدم لنا الإجابة من خلال مثالين: المثال الأول لشخص لم يعترف بخطئه فيدان، والمثال الآخر لشخص يقر بها وينال عنها في الحال الحل والغفران.

كان قايين يغير جدًا من أخيه هابيل حتى إنه قام وقتله بعد أن استدرجه إلى الحقل. فسأله الله حينئذ: أين أخوك هابيل؟(تك 4: 9). لقد سأله الله وهو عالم تمامًا بما فعله قايين مريدًا بذلك أن يستحثه على التوبة، لأن نفس صيغة السؤال: أين هابيل أخوك، تبرهن على أن الله كان على علم بما تم.
فماذا كان رد قايين؟
لا أعلم. أحارس أنا لأخي؟ (تك 4: 9).
بالتأكيد أنت لست حارس لأخيك، لكن لماذا قتلته؟ لم تكن مكلفًا بالسهر عليه وحراسته. لكن لماذا قتلته؟ إذًا فأنت تعرف جيدًا جريمتك! ويجب أن تتحمل بالكامل مسئولية قتله. فماذا قال الله له حينئذ؟ صوت دم أخيك صارخ إليّ من الأرض (تك 4: 10).
لقد وبخه على جريمته وعرّفه في الحال بالحكم الذي أوقعه عليه، وهذا الحكم ليس بقدر جريمته أكثر مما هو بسبب وقاحته. لأن الله يوبخ الوقاحة بصرامة وشدة أكثر بكثير من الخطية ذاتها. وبالتأكيد فإن قايين لم يتب لكي يحصل على الغفران إذ أنه لم يعترف بخطيته من تلقاء ذاته، ونطق بالكلمات التالية: إن عقوبتي أكثر من أن تُحتمل (تك 4: 13) أي بمعنى أنني اقترفت خطية ثقيلة جدًا ولم أعد بعد مستحقًا لأن أحيا.
أما بالنسبة للحكم الإلهي: ستكون في الأرض في رعبة وآهات مستمرة (تك 4: 12) فهذه الكلمات قد عرّفته أهوال عقوبته، وكأن الله يقول له: لن انتزع حياتك منك وبذلك أتجنب سقوط الحق في النسيان ولكنك ستجسد شريعتي التي ستصير معلومة من الآن فصاعدًا هكذا لكل البشر، لكي يوّلد شرّك هذه الحكمة.
إن قايين كشريعة عقاب إلهي متجسدة وحية كان تائهًا كتمثال متنقل لا يخرج عن صمته إلا ليصرخ بصوت أكثر حدة مما لصوت البوق وكأنه يقول: لا يفعل أحد ما فعلت حتى لا يقاسي ما أقاسيه.
وهذه العقوبة قد صارت لوقاحته فقط، وقد دين لأنه تظاهر بجهله لخطية كان يدركها تمامًا ولو اعترف بها في الحال لكانت قد مُحيت في وقتها.

2- لكي ندعمِّ هذه الحقيقة، فلنفحص الآن حالة خاطئ نال الغفران عن خطيته بالاعتراف. أريد الآن أن أتكلم عن داود النبي والملك، وسأركز كلامي بالأولى على صفته كنبي، لأن مملكته كانت منحصرة في فلسطين، بينما امتدت نبوته إلى أقصى الأرض، وإن اقتضى قلب مملكة وزوالها قليل من الوقت، فإن كلمات النبوة لخالدة. إنه سيكون شيء مؤسف جدًا، أن يُهمل نقل كلمات داود النبي إلى الأجيال الآتية، فإن نُحرم منها فهذا أصعب بكثير مما لو حرمتنا الشمس ضياءها.
لقد وقع النبي في خطية الزنا والقتل، فالكتاب يقول: فرأى من على السطح امرأة تستحم، وكانت المرأة جميلة المنظر جدًا (2صم 11: 2)، فاشتهاها وبعد وقت قليل أطلق العنان لغرائزه الملّحة عليه، وهكذا سقط النبي في الزنا مثل حجر ثمين سقط في الحمأة. أضف على هذا أنه لم يتنبه بكونه أخطأ، لأنه كان مأخوذًا بشهوته. إن ما يحدث للنفس والجسد مثل ما يحدث للمركبة وقائدها. فعندما يكون قائد المركبة مخمورًا، فالمركبة تُسلّم لجري جنوني، وإن كانت النفس عمياء، حينئذ ينحدر الجسد إلى الوحل. إنه يكفي لقائد المركبة أن يستقيم لكي تأخذ المركبة الوضع المناسب، ولكن بمجرد أن يتغافل عنها فلن يبلغ بعد ذلك إلى التحكم في اللجام، وهذا يتبعه كارثة محققة.
نفس الشيء يحدث للإنسان، طالما ظلت النفس متيقظة وساهرة فإن الجسد يحتفظ بطهارته. إنه يكفي أن تترنح النفس في أي دوار لكي يسقط الجسد في وحل الملذات. ولكن لنعد لداود فإنه ارتكب الزنا ولم يدرك أنه أخطأ ولم يوبخه إنسان لفعلته هذه في عمره المتقدم. تعلموا من هذا الأمر، فلو كنتم طائشين فليست الشيبة هي التي تحفظكم من التجارب، وبالمثل لو كانت فضيلتكم ثابتة فليس لكم أن تخافوا من حمية الشبوبية. ليس السن هو الفيصل إنما سداد حكمتكم ولنا في دانيال خير مثال.
لقد كان دانيال يعطي رأيًا حكيمًا جدًا وهو ابن اثني عشرة سنة! وبينما كان الشيخان المتقدمان في العمر يحيكان مكيدة الزنا (لسوسنة العفيفة) فإن شيبتهما لم تسعفهما بأي شيء، وبالمقابل فإن شباب دانيال لم يقف عقبة أمامه. وأيضًا فإن ضبط النفس مرتبط بالأولى بمؤهلاتكم الروحية أكثر مما هو بعمركم ومثال داود يشهد بذلك - فبينما هو متقدم في السن سقط في الزنا واقترف جريمة قتل تحت إلحاح الفكر ولم يدرك حتى إنه أخطأ، وكان القائد الذي هو هنا الذهن مأخوذًا بالشهوة. فماذا فعل الله؟
أرسل الله ناثان النبي إلى داود النبي والملك. نبي ذهب لنجدة نبي آخر- تمامًا كما يتبادل الأطباء العناية الواحد بالآخر عند مرضه. نحن نجد أنفسنا أمام حالة مشابهة، نبي أخطأ وأحد نظرائه يقدم له الدواء.
ذهب ناثان النبي لداود ولم يهجم عليه بسيل من التوبيخات من عند عتبة الباب كأن يقول: ملعون أنت وخارج على الشريعة وزاني ومجرم. ماذا فعلت بالكرامة التي منحها الله إياك؟ لقد دست وصاياه تحت قدميك!
لا لم يقل ناثان شيئًا مثل هذا على الإطلاق لئلا يولّد فيه مقاومة. نعم فإن التوبيخ علانية غالبًا ما يؤدي إلى وقاحة وسلاطة من هو مجرم، لذلك لجأ ناثان النبي إلى أن يسرد مثلًا عن العدل فقال له:
يا سيد لديّ قضية أطرحها عليك (لتعطي فيها حكمًا): كان رجلان في مدينة، أحدهما كان غنيًا والآخر فقيرًا. وكان للغني غنم وبقر كثير جدًا، وأما الفقير فلم يكن له شيء إلا نعجة واحدة (وقد اقتناها وكبرت معه)، تأكل من قصعته وتشرب من كأسه وتنام في حضنه، فجاء ضيف إلى الرجل الغني، فعفا أن يأخذ من غنمه وأخذ نعجة الرجل الفقير وذبحها وهيأ للرجل الذي جاء إليه (2صم 12: 1-4).
هل رأيتم بأي رقة قد صاغ ناثان النبي قصته وكيف استطاع أن يخفي يد السيف في قفاز من حرير؟ والملك إذ قد اقتنع أن هذا يختص بأحد رعاياه لم يتأخر في إعطاء حكمه وصاح: حي هو الرب إنه يُقتل الرجل الفاعل ذلك ويرد النعجة بأربعة أضعاف لأنه فعل هذا الأمر ولأنه لم يشفق (2صم 12: 5-6)، ولم يتردد ناثان النبي بالضرب بالسيف وهو ساخن وبدون لف أو دوران كشف السيف وقال: أنت هو الرجل.
فأجاب داود: لقد أخطأت للرب.
إن داود لم يعترض. كان من الممكن أن يقول: من أنت - من أنت حتى تلومني هكذا؟ من الذي أرسلك حتى تتكلم معي بجرأة عظيمة؟ أي جسارة حملتك على التصرف هكذا؟
إنه لم يفعل شيئًا من هذا القبيل، بل على العكس فقد اعترف وأقرّ بخطيته قائلًا: لقد أخطأت أمام الرب. وللحال أجابه ناثان بقوله: والرب قد نقل عنك خطيتك. لقد حكمت على نفسك فلذلك أيضًا لن توقع عليك أي عقوبة أخرى.
إنك تملك نفس عظيمة لاعترافك بخطئك في الحال، وقد نلت الغفران في نفس الوقت. لقد حكمت على نفسك وها أنا أعتقك من هذا الحكم.
لقد كان داود خير مثال لحقيقة الكتاب القائلة: حاسب نفسك لكي تتبرر (إش 43: 26) [بحسب السبعينية]. أي صعوبة في أن تبادر بالاعتراف بخطيتك؟

![]() |
3- ولكن نحن نستطيع أن نسلك طريقًا آخر لكي نحصل على غفران خطايانا ألا وهو طريق الندم. هل ارتكبتم خطية؟ اندموا من عمق قلوبكم فتنالوا الحِل والغفران. هل يوجد أي تعب في السلوك هكذا؟ إنني لا أريد شيئًا أكثر من هذا. لست أحثكم على عبور البحار، ولا الذهاب للميناء، ولا السفر ولا أن تغامروا في طريق مجهول، ولا أريدكم أن تتجردوا من أموالكم، ولا حتى أن تتحدوّا العاصفة، ولكن فقط أن تندموا على خطيتكم.
ربما يوجد من يعترض قائلًا: كيف أمحو خطيتي ببكائي عليها؟ وهذا السؤال مردود عليه في الكتاب المقدس.
كان يوجد ملك يحب العدل سابقًا اسمه آخاب، إلا أنه مؤخرًا صار خاضعًا في حكمه بالكلية للتأثير الفاسد لزوجته إيزابيل. اشتهى آخاب الملك كرم رجل إسرائيلي يُدعى نابوت، وأرسل إليه هذا العرض: أعطني كرمك فيكون لي فأعطيك عوضه كرمًا أحسن منه أو أعطيتك ثمنه فضة. (1مل 21: 3)، فأجاب نابوت: حاشا لي من قبل الرب أن أعطيك ميراث آبائي (1مل 21: 3).
إن آخاب لا يزال يشتهي الكرم، إلا أنه استبعد كل تفكير في اللجوء للقوة لإجباره، حتى سقط مريضًا ذات يوم بسبب حسرته على هذا الكرم. فأتت إليه إيزابيل تلك المرأة الفاسدة والفاجرة والشريرة، أتت إليه وهو على السرير وقالت له: لماذا روحك مكتئبة ولا تأكل خبزًا؟ (1مل 21: 5) - قم كُل وسأتعهد بكل الترتيبات من أجل أن تمتلك كرم نابوت اليزرعيلي. وفي الحال كتبت رسالة باسم الملك إلى الشيوخ والأشراف تقول فيها: نادوا بصوم وأجلسوا رجلين من بني بليعال تجاه نابوت ليشهدوا قائلين: قد جدفت على الله والملك (1مل 21: 8-10).
أي إثم كان يختفي وراء يوم الصوم هذا الذي نادى به الرجال ليرتكبوا جريمة قتل! لأن نابوت قد رُجم حتى مات. ولما علمت إيزابيل بخبر القتل قالت للملك آخاب: قم رث نابوت لأنه قد مات. وكان آخاب مغتمًا جدًا، إلا أنه قام وذهب وامتلك الكرم. فأرسل الله له حينئذ إيليا النبي وقال له اذهب وقل لآخاب: لقد قتلت وورثت، لهذا فإنه في المكان الذي لحست فيه الكلاب دم نابوت، تلحس الكلاب دمك أنت أيضًا. وهكذا الله في غضبه أصدر الحكم بمعاقبة آخاب.
لاحظوا حسنًا أين أرسل الله إيليا. لقد أرسله له في كرم نابوت وهكذا صارت العقوبة في نفس موضع ارتكاب جريمة القتل، ولدى رؤية آخاب لإيليا صاح قائلًا: إذًا قد وجدتني يا عدوي! - أي بمعنى: ستوبخني لأنني أخطأت! لقد وجدت فرصة لتلومني، لقد وجدتني إذًا يا عدوي!
وبينما كان إيليا يتابع توبيخاته لآخاب الذي كان مدركًا تمامًا لخطيته، لذلك قال له: إنك لن تكف عن تعنيفي. حسنًا تستطيع الآن أن تأخذ راحتك في توبيخي. لأن آخاب كان يعلم أنه قد أخطأ ولدى سماعه الحكم الصادر ضده اكتأب واغتم لهذه الكلمات وبكى على خطيته، فإذ قد ندم على خطيته التي ارتكبها فإن الرب قد رجع عن قراره.
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.

ولكن قبل كل شيء فإن الله قد شرح لإيليا أسباب رجوعه عن قراره لكي لا يهتز إيمانه وليجنبه العذابات التي جازها يونان عندما جاز ظروفًا مشابهة.
فقد قال الله ليونان: اذهب إلى المدينة التي يعيش فيها اثنتي عشرة ربوة من الرجال غير الأطفال والنساء وناد بصوتٍ عال: بعد ثلاثة أيام تنقلب المدينة. لم يشأ يونان الذهاب لأنه كان يعرف جيدًا المراحم الإلهية. فماذا فعل حينئذ؟
لقد بادر بالهرب، لقد بادر بالهرب متعللًا بهذا الكلام: سأنقل رسالة وأنت يا رب رؤوف ورحيم وسترجع عن قرارك، وبالتالي سأظهر أنا كنبي كذاب!
لقد بادر بالهرب ومع ذلك فإن البحر الذي فكر يونان أن يهرب عن طريقه، هذا البحر سيقذف به للأرض ويحفظه سالمًا كعبد يسهر على سلامة رفيقه في العبودية!
والكتاب يقول إن يونان في محاولته للهرب نزل للبحر ووجد سفينة ذاهبة إلى ترشيش ودفع الأجرة وصعد للسفينة.
إلى أين تهرب يا يونان؟ هل عزمت على السفر لبلد آخر؟ ولكن الأرض كلها للرب وهكذا بالمثل كل الناس للرب! أمفتكر بالهروب في البحر؟ ألا تعلم أن البحر للرب ومن غير الرب صنعه؟ أتهرب في السموات؟ ألم تتعلم هذه الحقيقة من فم داود "إذ أرى السموات عمل أصابعك" (مز 8: 3)، بالرغم من كل هذا، فإن يونان جازف وهرب، ولكنه هروب وهمي، لأنه بالحق يستحيل الهروب من الله... لذلك بمجرد أن لفظه البحر حتى بادر بالذهاب إلى نينوى وأعلن الرسالة الإلهية المكلف بها: بعد ثلاثة أيام تنقلب المدينة.
إن يونان نفسه يوضح لنا دافع هربه - فالله سيتراجع بسبب عظم مراحمه عن حكمه الشديد الذي أصدره على نينوى وبالتالي كان يونان حتمًا سيُعتبر كنبي كاذب.
وما أن أبلغ يونان رسالته في عُجالة حتى غادر المدينة وانتظر مترقبًا ما سيحدث للمدينة، ومرت الأيام الثلاث دون أن ينفذ الله تهديده قط. وهذا الأمر جعل يونان يفكر مجددًا فيما قاله في البداية: يا رب أليس هذا كلامي إذ كنت بعد في أرضي، لذلك بادرت بالهرب إلى ترشيش لأني علمت أنك إله رؤوف ورحيم (يون 4: 1-2؛... إلخ.)
لقد أعلن الله أسباب تساهله من نحو آخاب لكي لا يقاسي إيليا عذابات يونان، لذلك قال له: هل رأيت كيف أتضع آخاب أمامي، لأنه أتضع فلن أجلب الشر في أيامه (1مل 21: 29). وهكذا صار الرب نصير العبد أمام رفيقه العبد، الله يرثي لإنسان ويشفق عليه أمام أحد نظرائه! وكأنه يقول له: لا تتوهم إنني سامحته بكل بساطة، بل لكونه غيَّر سلوكه لذلك غيَّرت أنا قرارات غضبي وألغيت حكمي فلا تتهم نفسك أنك نبي كاذب لأنك لم تتوقف قط عن قول الحق، فإن لو لم يكن قد غير سلوكه ما كنت قد اضطررت لأن أتراجع عن حكمي وحيث أنه قد أتضع لذلك انتهى غضبي "من أجل أنه قد أتضع أمامي لا أجلب الشر في أيامه" (1مل 21: 29). ها أنتم ترون كيف أنكم تستطيعون محو آثامكم بالندم عليها.

4- من الممكن أن تظهر التوبة بطريقة أخرى أيضًا وهأنذا أشرح لكم الوجه الثالث لها. إنني أذكر لكم طرق كثيرة ومختلفة لكي أقدم لكم ما يمكّنكم من الحصول على الخلاص بسهولة والطريق الثالث هو طريق التواضع.
برهن على تواضعك فتُعتق من حمل خطاياك، وهنا أيضًا يقدم لنا الكتاب مثالًا في مثل الفريسي والعشار الذي سأسرده الآن:
صعد الفريسي والعشار إلى الهيكل للصلاة، وبدأ الفريسي يعدد فضائله ويقول اللهم أنا أشكرك أني لست مثل باقي الناس الخاطفين الظالمين الزناة ولا مثل هذا العشار (لو 18: 11).
بائس أنت أيها الفريسي وتتجرأ فتعطي حكمًا على سائر الناس! لماذا تحاملت على جارك العشار؟ وهل أنت محتاج أيضًا لأن تدين هذا العشار. ألم يكفك اتهامك لكل الناس؟ لقد اتهمت كل الناس بلا استثناء بقولك: إنني لست مثل باقي الناس... ولا حتى مثل هذا العشار. فأنا أصوم مرتين في الأسبوع وأعشّر كل ما أملك. أي كبرياء تحويها هذه الكلمات! يا للتعاسة! من تكون أنت حتى تستهجن هذا العشار بعد أن ثلبت كل الناس؟ ألم يكفك اتهامك كل الناس حتى تكمله بإدانتك لجارك العشار أيضًا؟
أما بالنسبة للعشار فمن المؤكد أنه سمع هذه الكلمات. كان من الممكن أن يُفحمه بهذه الكلمات: من أنت حتى تجرؤ فتتكلم بهذا القدح بشأني؟ من أين لك أن تعرف حياتي (الخاصة)؟ إنك لم تسكن قط بالقرب من منزلي ولم تكن أبدًا من أحد أصدقائي. لماذا تُظهر مثل هذا التكبر؟ ثم من يستطيع أن يثبت صدق أفعالك الحسنة التي تدعيها؟ لماذا تمتدح نفسك هكذا، وما الذي يحثك على أن تمتدح نفسك بهذه الكيفية؟
لكن العشار لم يقل شيئًا من هذا، بل على العكس انحنى وقال: انحنى وقال: اللهم ارحمني أنا الخاطئ (لو 18: 13) وإذ قد برهن على تواضعه فقد نال التبرير.
إن الفريسي قد غادر الهيكل وهو محروم من الحل والغفران، بينما خرج العشار بقلب جديد متبرر، وهكذا فاقت الأقوال الأفعال! حقًا إن كان تباهي وكبرياء الواحد اقتاده إلى الملامة، فإن كلمات تواضع الآخر قد بررته، مع أننا لسنا أمام شخص نبيل استخدم هذه الكلمات فتُحسب له أتضاعًا، فالعشار لم يتصرف من منطلق التواضع بل من منطلق الحقيقة المجردة، لأنه قال إنه خاطئ وهو بالحق كان هكذا.
أخبروني: هل رأيتم من هو أسوأ من العشار؟ فهو ينتزع الربح على حساب تعاسات الآخرين ولا يتردد عن أخذ المبلغ الذي يفرضه بالقوة من ثمرة أتعاب الآخرين. إنه غير مستعد لأن يعير أي انتباه للمشاكل المترتبة عن تصرفه الظالم هذا، وكل ما يهمه فقط هو الحصول على الأرباح. إن العشار بالفعل هو خاطئ حقيقي - ثم ألا تٌخوَّل له سلطته الحق في استعمال العنف وارتكاب المخالفات بمنتهى الرغبة ليروي جشعه؟
أي منظر يثير الخزي أكثر من عشار جالس على قارعة الطريق يجمع ثمرة أتعاب الآخرين دون أن يكترث للسبل التي يستعملها لتنفيذ هذا، وهو دائمًا جاهز للاستيلاء باسم الجزية على مكسب لم يبذل فيه أي جهد، ومن ثمَّ فإن كان العشار الذي هو بالحق خاطئ، قد حصل على مكافأة مثل هذه بتواضعه، فكم ينبغي حينئذ أن يُكافأ البار حينما يتواضع؟ اعترفوا بخطئكم وتواضعوا فتتبرروا.

هل تريدون مثالًا للتواضع؟ انظروا بولس الرسول فهو خير من يجسد التواضع. بولس العّلامة والخطيب الممتلئ حيوية، الإناء المختار لله، ميناء السلام، الحصن والملجأ عند كل اضطراب، القادر بالرغم من قصره أن يدور حول الأرض كملاك ذي أجنحة!
انظروا كيف يقلل من قدر نفسه، وهذا الحكيم يعترف بجهله، وهذا الغني يصرح بفقره. إنني أعلن بالصدق أن هذا الإنسان متواضع - ذاك الذي واجه ربوات الشرور وأحرز الانتصارات العديدة ضد الشيطان، والذي لم يكف على الإطلاق عن التبشير بالحق... فماذا قال "ولكن بنعمة الله أنا ما أنا ونعمته المعطاة لي لم تكن باطلة بل أنا تعبت أكثر منهم جميعهم ولكن لا أنا بل نعمة الله التي معي" (1كو 15: 10)، وهو الذي كان عليه أن يتحمل التجارب القاسية للسجن والعذابات بكل نوع والذي رسائله قد ردَّت العالم للصواب وهو الذي قد دُعي بصوت سمائي. هذا الرجل بكل تواضع يؤكد: "لأني أصغر الرسل أنا الذي لست أهلًا لأن أًدعى رسولًا" (1كو 15: 9). لاحظوا عظمة تواضعه. هل نظرتم إلى أي مدى قد تواضع بأن اعتبر نفسه "الأصغر"؟
نحن قد وجدنا فيه قلبًا متضعًا ورأينا فيه إنسانًا قد أتضع بدون أي قيد أو شرط حتى إلى آخر درجات التواضع. هل أدركتم شخصية من بشأنه (قيل) هذا الكلام؟
إنه بولس المواطن السمائي عمود الكنيسة، بولس الذي جسده لم يكن إلا مجرد محطة على الأرض، بولس الملاك الأرضي، الرجل السمائي. إنني لن أملّ على الإطلاق من ذكر جمال صفاته، فإن شخصيته تغمر نفسي بنور أكثر لمعانًا من الأشعة الأولى لإشراق الشمس.
إن الشمس تبهر أعيننا ولكن بولس ينقلنا عبر الهواء حتى إلى القباب السمائية. حقًا إن النفس تتسامى فترتفع فوق النجوم، وهكذا قوة الفضيلة، إنها تمجد وترفع الإنسان وتصيره ملاكًا فترتفع روحه حتى إلى السموات. هذه هي الفضيلة التي يعلّمنا إياها بولس. فلنمارسها ونكون جديرين بأن ننشرها.
إننا قد ابتعدنا عن لب حديثنا. كان هدفنا أن نظهر أنه يوجد طريق ثالث يؤدي للتوبة وهو طريق التواضع. ولقد رأينا هذا العشار الذي لم يكن تواضعه عن جدارة، ومع ذلك فإنه ما أن اعترف بخطاياه بكل صراحة حتى تبرر دون أن يبذل أي تعب أو يضطر لعبور البحار، أو يتوه في مسالك عديدة، ودون أن يحتاج لعون أصدقائه، ولم يلزمه وقتًا طويلًا، بل نال التبرير بتواضعه، وهكذا صار أهلًا لملكوت السموات.
ونحن نستطيع أن نجعل أنفسنا مستحقين لهذا التبرير بنعمة وصلاح ربنا يسوع المسيح الذي له المجد والقوة إلى دهر الداهرين آمين.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-angelos-almaqary/john-chrysostom-repentance/ahab-jonah.html
تقصير الرابط:
tak.la/8f94qdt