|
محتويات: (إظهار/إخفاء) |
|
لماذا تأخر الحديث الثاني الأنوميون مثل زكريا ينقصهم الثقة في الله جنون من يدّعون معرفة الله الهوة عظيمة بين الله والإنسان التصرف الواجب تجاه الأنوميين |
بعد أيام قليلة من عظته الأولى ضد الأنوميين، تحدث ذهبي الفم ضد اليهود، وبعد ذلك التزم الصمت بسبب وجود الأسقف وبسبب الاحتفال بأعياد شهداء كثيرين، وهو يعود الآن لمواصلة حديثه ضد الأنوميين عن عدم إدراك الله.

1- لنعد مرة أخرى وندخل في حلبة القتال ضد الأنوميين الأشرار. وإن كانوا مغتاظين لأني أطلقت عليهم لقب أشرار فليغيروا مسلكهم وأنا بدوري سأغير لهجتي (الحادة)، وليتخلوا عن أفكارهم الوقحة وأنا سأضع جانبًا هذه التسمية الساخرة. مع ذلك إن لم يطمسوا هذه الأفكار بل استمروا في الاستهزاء بالإيمان وسببوا الخزي لأنفسهم بأعمالهم، فلماذا يغتاظون مني لأني اتهمتهم بالتهم التي يبرهنون على أنها فيهم بأعمالهم.
2- كما تتذكرون أنني منذ وقت قصير مضى قد نزلت إلى الحلبة لأتناقش معهم ولكن عقب ذلك مباشرة استولت على كل انتباهي الردود الجدلية ضد اليهود، إلا أنه لم يكن من الفطنة أن نهمل أعضاء جسدنا الذين كانوا مرضى. إن الحديث ضد الأنوميين هو مناسب في كل وقت، لكن حيث أن إخوتنا كانوا مرضى ويعانون من داء اليهودية، فإن لم ننتشلهم في الحال آخذين سبق التقدم، فإن اليهودية كانت ستلتهمهم بلهيبها، ولم يكن سيفيد على الإطلاق بعد ذلك نصحهم طالما أن خطية اشتراكهم في الصوم مع اليهود قد أفلحت بالفعل في تدميرهم.
3- بعد هذه الجهادات ضد اليهود وتلي ذلك مانع آخر وهو وجود آباء روحيين كثيرين وصلوا إلى هنا من أماكن مختلفة، ولم يكن من المناسب عند مجيء كل هؤلاء الآباء ليجتمعوا هنا كأنهار في هذا البحر الروحي أن أمتد بحديثي (ضد الأنوميين). وبعد ذلك عقب رحيل هؤلاء الآباء مباشرة حان تذكار الشهداء، فلم يكن من اللائق أن نقصّر في مدح مثل هؤلاء الأبطال. وأنا إن كنت أذكر وأعدد هذه الأحداث فهذا لكي لا تعزوا أي تردد أو تقصير من جانبنا يعوقنا عن مواصلة كفاحنا ضد الأنوميين.
4- لذلك فحيث أننا الآن قد انتهينا من مواجهة اليهود، وبعد رحيل الآباء إلى بلادهم، وبعد أن جنينا فائدة عظيمة من مدح الشهداء، فهوذا قد حان الوقت لنضع نهاية لهذا الانتظار الطويل الذي فيه دفنتم اشتياقكم إلى سماعنا، لأنني أعلم حسنًا أن الرغبة التي تحدوكم لسماع مثل هذا الحديث ليست بأقل من الاشتياق الذي يعتمل فيّ للنطق به. والسبب في هذا أن مدينتنا قد أحبت المسيح منذ البدء (أع 11: 26)، وقد نلتم كميراث آبائي ثمين الغيرة الحارة التي لا تدعكم أبدًا تفرطون في العقائد المسيحية.
5- هل هناك حاجة إلى برهان على ذلك؟ منذ أيام آبائنا انحدر قوم من اليهودية وعكروا نقاوة التعاليم التي أعطاها الرسل مريدين من الإخوة أن يحفظوا الختان وناموس موسى (أع 15: 1-12)، فلم يطق سكان مدينتنا آنذاك أن يسكتوا تجاه هذه البدعة، وكمثل كلاب حراسة شجاعة -في رؤيتها للذئاب تهجم وتفتك بكل القطيع- اندفعوا لملاقاة هؤلاء الناس ولم يتوقفوا عن مطاردتهم وإبعادهم عن كل المواضع، وبعملهم هذا جعلوا الرسل يضعون قرارات ويرسلوا رسالة إلى كل المسكونة يحمونهم من أي هجوم يرصده المبتدعون للمؤمنين، ويحمونهم من كل من يأتي على شاكلتهم فيما بعد.

![]() |
6- كيف إذًا أبدأ أحاديثي ضد هؤلاء الأنوميين إلا باتهامهم بأنهم أشرار؟ فكل شيء يفعلونه وكل فضولهم السخيف يهدف إلى نزع الإيمان من قلب كل من يسمع لهم. وأي تهمة بالفجور وعدم التقوى أكثر خطورة من هذه؟ عندما يعلن الله أمرًا ما ينبغي أن نقبل كلماته بإيمان، ولا ينبغي لنا أن نتعجرف ونشغل أنفسنا بعمل تقصي فيما قاله.
7- إن رغب أحد من الأنوميين في أن يدعونني بأنني الشخص غير المؤمن فلن اغتاظ من هذا. لماذا؟ لأني بأعمالي سأبين لهم أن هذه التسمية لا تنطبق عليّ. اجعله يدعوني بأني كافر، بل دعه أيضًا يدعوني جاهل لأجل المسيح، وأنا سأستمتع بهذه التسميات التي يطلقونها عليّ كما لو كنت استمتع بإكليل الانتصار. لماذا؟ لأني سأشارك بولس في هذا الاتهام لأنه قال: "نحن جهال من أجل المسيح" (1كو 4: 10). إن هذا الجهل لهو أكثر فطنة من أي حكمة (عالمية). إن هذا الجهل لأجل المسيح يفلح في اكتشاف ما لا يمكن لحكمة العالم أن تكتشفه. إن هذا الجهل يطرد الظلمة عن العالم ويستعيد نور المعرفة.
8- ما هو الجهل لأجل المسيح؟ إنه الجهل الذي نُظهره عندما نلجم أفكارنا والهذيان اللحوح ونحرر أذهاننا ونحفظها خالية من المعرفة الدنسة لكي نستطيع أن نقدم ذهنًا نظيفًا ومهيأ لسماع كلمات الله وقبول تعاليم المسيح بالتأكيد عند يفصح الله ويعلن عن شيء ما لا مجال فيه لفضولنا فينبغي أن نقبله بإيمان. عندما يكشف الله عن مثل هذه الإعلانات فإن النفس الوقحة والمتهورة يكون لها من الفضول ما يجعلها تبحث عن علل وتطلب تفسير وتوضيح لكي تتقصى كيف يمكن لإعلانات الله أن تكون حقيقة، وأنا أيضًا سأحاول أن أبرهن على هذا من الكتب المقدسة نفسها.
9- كان يوجد إنسان عجيب وعظيم يُدعى زكريا، وقد نال نعمة رئاسة الكهنوت، وقد أوكل إليه أمر قيادة الناس في الصلاة. وقد أتى هذا الرجل زكريا إلى قدس الأقداس حيث المذبح الداخلي الذي لم يكن مُصرح لأحد من الناس غيره بالدخول إليه. انظر كم أن هذا الإنسان معادل في أهميته لكل الناس (جميعًا). وهو عندما كان يقدم الصلوات عن كل الشعب وعندما كان يصنع كفارة الرب عن عبيده كان يعمل كوسيط بين الله والناس. هذا الرجل زكريا نظر ملاكًا واقفًا داخل الهيكل، وقد جعله هذا المنظر يضطرب جدًا، لكن الملاك قال له: "لا تخف يا زكريا لأن طلبتك قد سُمعت وامرأتك ستلد لك أبنًا" (لو 1: 13).
10- من أين أتت هذه النتيجة المنطقية؟ لقد اعتاد زكريا أن يصلي لأجل الناس طالبًا لهم الرحمة عن خطاياهم وسائلًا الغفران لرفقائه في العبودية، والملاك (لذلك) قال له: "لا نخف يا زكريا لأن طلبتك قد سُمعت" وكإثبات على أن صلاة زكريا قد سُمعت فإن الملاك قد وعده بابن يولد له ويُدعى يوحنا. وهذا أمر كان معقولًا جدًا. إذ أن زكريا اعتاد أن يصلي لأجل الناس لغفران خطاياهم، فإنه مزمع أن يلد ابنًا سيهتف قائلًا: "هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم" (يو 1: 29). لذلك كان من المعقول جدًا أن الملاك قال له "إن طلبتك قد سُمعت وسيولد لك ابن".
11- ماذا فعل زكريا؟ لأن هذا الأمر موضوع بحثنا والذي هو بالتحديد أمر لا يُغتفر أن يكون المرء هكذا فضوليًا حتى يسأل كيف يمكن أن تكون إعلانات الله حقيقية، مع أن واجبنا يقتضي أن نقبل بإيمان (كل) ما يقوله الله. إن زكريا إذ نظر إلى كبر سنه وشعره الأبيض وجسده الذي فقد قوته وإلى عقم زوجته لذلك رفض أن يقبل بإيمان ما أعلنه له الملاك أنه مزمع أن يتم.
12- لقد سأل كيف يمكن أن يكون هذا حقيقيًا وقال كيف أعلم هذا؟ لقد تساءل كيف سيتم هذا؟ انظر فهأنذا قد صرت شيخًا وأبيّض شعري وامرأتي متقدمة في أيامها وعاقر وأنا عدمت حيوية الشباب ولم تعد طبيعتي قادرة على إنجاب بنين. فكيف يمكن أن يُعقل ما وعدتني به؟
ألا يعتقد البعض أنه كان جديرًا بالعفو عندما تقصى هكذا تسلسل الأسباب (المانعة للإنجاب) ولكونه يبدي كلمات معقولة؟
13- لكن الله لم يعتبر أن زكريا جديرًا بالمسامحة، وهذا كان شيئًا منطقيًا جدًا، لأنه عندما يتكلم الله لا يوجد هناك داعٍ لأن يضع الإنسان اعتبارًا للمنطق أو يتعلل بالنتائج المترتبة عليه أو بالقانون الحتمي للطبيعة أو بأي شيء من هذا القبيل إذ أن مفعول الكلمة الإلهية أقوى من كل هذا ولا شيء يستطيع أن يعيق مسارها.
ماذا تفعل يا إنسان؟ الله وعدك فهل ترفض وعده وتتعلل بكبر سنك؟ هل شيخوختك ستصير أقوى من وعد الله؟ هل يمكن للطبيعة أن تكون أقوى من خالقها؟
14- ألا تعلم أي أعمال جبارة (يمكن أن) تتمها كلمات الله؟ إن كلمته تقيم السموات وصنعت الكون وخلقت الملائكة وأنت تتشكك فيها فيما يختص بولادة طفل؟
لهذا السبب فإن الملاك غضب من زكريا ولم يغفر له بالأكثر لكونه كاهن. إن زكريا قد تعرض لعقوبة أعظم بسبب كهنوته. لأن الإنسان الذي له مركز (روحي) أسمى ينبغي له أن يفوق الآخرين بإيمانه في قبول إعلانات الله.
15- وكيف عُوقب زكريا؟ "ها أنت تكون صامتًا ولا تقدر أن تتكلم" (لو 1: 20)، بمعنى أن لسانك الذي استخدمته في الإفصاح عن كلماتك المتشككة سيتحمل هو ذاته عقوبة عدم إيمانك.
"ها أنت تكون صامتًا ولا تقدر أن تتكلم إلى اليوم الذي يكون فيه هذا" (لو 1: 20).
انظر إلى صلاح الله وتحننه باتجاه البشر إذ يقول له: هوذا أنت لا تثق بي لذلك نلت عقوبتك الآن، وعندما تختبر صدقي في وعودي من خلال الأحداث حينئذ سيتوقف غضبي، وعندما تعترف أنك بحق جوزيت سأخلصك من العقوبة.
16- ليسمع الأنوميين كيف أن الله اغتاظ عندما كان هدفًا لاستفهام فضولي. إن زكريا عوقب لكونه لم يؤمن بولادة إنسان مائت، وأنت يا من تسعى للنفاذ إلى السر المكتوم لولادة ذات رتبة فائقة (ولادة الابن من الآب)، قل لي كيف ستنجو من العقوبة؟ إن زكريا لم ينكر تمامًا هذه الإمكانية لكنه كان فقط يريد أن يعرف كيف سيتم هذا الأمر وبالرغم من ذلك نال عقوبة. لكن أي دفاع سيكون لك عندما تؤكد بوقاحة إنك لا تعرف ما لا يستطيع أي إنسان أن يراه أو يدركه؟ أي عقوبة ستجتذبها لنفسك؟
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.

17- لكن لندع مناقشة الولادة الإلهية تنتظر الوقت المناسب لها، ولنتتبع طريقنا إلى الموضوع السابق الذي تركناه غير منتهي منذ فترة قريبة ولنحاول أن ننزع من الجذور هذه القوة المدمرة لأنه كامن فيها أساس كل الشرور والمصدر الذي تنشأ منه كل تعاليم الأنوميين. ما هو أصل كل هذه الشرور؟ صدقوني أن رعشة مقدسة تجتاحني عندما أزمع أن أتحدث عن هذا الموضوع. إني ارتعب إذ اجعل لساني ينطق بمثل هذا الفكر الذي يرعى في أذهان الأنوميين. ما هو إذًا أصل هذه الشرور؟ إنه كامن في تجاسر الإنسان -والذي هو مجرد كائن مخلوق- على قول: إني أعرف الله تمامًا مثلما يعرف لله نفسه.
18- هل هذا الأمر يحتاج إلى نقض؟ هل عليّ أن أُثبت خطأه؟ أليس مجرد منطوق الكلام كافٍ بإثبات كفر الأنوميين؟ نحن نجد في هذا الكلمات حمق واضح وجنون لا يُغتفر ونوع جديد من عدم التقوى والكفر. لم يجرؤ أحد أبدًا أن يدع مثل هذا الفكر يدخل ذهنه أو ينطقه بلسانه. يا لك من بائس وفقير أيها الأنومي، فحتى مع كونك مجرد إنسان (ضعيف) فهل أنت لك الفضول (الوقح) حتى تزج نفسك فيما يختص بجوهر الله؟
19- ما أنت إلا إنسان ومجرد الأسماء التي نطلقها على الإنسان كافية أن تبرهن كم أن جنونك زائد عن الحد. إن الإنسان هو تراب ورماد (تك 18: 27)، لحم ودم (مت 16: 17)، عشب وزهر العشب (مز 103: 15)، دخان (مز 102: 11)، باطل وفاني، وأي شيء أضعف وغير ذات قيمة أكثر من هذه الأشياء، وليس لك أن تعتقد ما أقوله هو بمثابة اتهام (أي تحقير) للطبيعة (البشرية). فلست أنا الذي يقول هذا، لكن الأنبياء هم الذين عبّروا بهذه الطريقة عن وضاعة الإنسان. وهم في ذلك لم يسعوا للحط من شأن الطبيعة البشرية، بل إنهم أرادوا أن يوقفوا غرور وكبرياء الإنسان الأحمق. ولم يكن هدفهم تحقير طبيعتنا بقدر ما كانوا يهدفون إلى الحد من حمق أولئك المصابين بالكبرياء.
20- ولو أن الأنبياء استخدموا عبارات وكلمات صعبة (في وصفهم لتفاهة الإنسان)، فنحن لا نزال نجد بعض الناس يتفوقون على الشيطان نفسه بكبريائهم. إن لم يكن الأنبياء قد قالوا شيئًا من هذه الأوصاف فإلى أي مدى من الجنون كان سيندفع إليه هؤلاء الأنوميين؟ أخبرني من فضلك! فهؤلاء الناس لديهم الدواء في متناول أيديهم ليشفوا أنفسهم ولا يزالوا متورمين بقروح ردية. أي كبرياء سيصيرون إليه بوقاحتهم وجنونهم إن لم يكن الأنبياء قد استخدموا الكثير من هذه العبارات القوية ليصفوا بها الطبيعة البشرية؟
21- استمع على الأقل لما يقوله رئيس الآباء عن نفسه: "أنا تراب ورماد" (تك 18: 27). إنه كان يتحدث مع الله ومع هذا فإن دالته في الاقتراب إلى الله والتحدث معه بحرية لم تثر فيه أي كبرياء. وبالحق قد كانت هذه الحرية ذاتها هي التي حفظته وحثته على التحدث باتضاع. وهؤلاء الناس، الذين لا يساوون ولا حتى ظل أب الآباء يعتقدون أنهم أعظم من الأنبياء، فهم بهذا يبرهنون على أنهم وصلوا إلى أقصى حدود الجنون.
22- قل لي، هل أنت تزج بنفسك فيما يختص بالله، الذي ليس له بداية، غير المتغير وغير الجسدي وغير الفاسد والكائن في كل مكان، والذي هو متعالي فوق سائر الأشياء والذي هو فوق الخليقة كلها؟ اسمع ما يقوله الأنبياء عن الله لترتعب خوفًا: "الناظر إلى الأرض فلترتعد" (مز 104: 32)، إذًا فهو يكفيه نظرة واحدة ليزعزع هذه الأرض الممتدة والشاسعة، "يمس الجبال فتدخن" (مز 104: 32)، "المزعزع الأرض من أسسها فتتزلزل أعمدتها" (أي 9: 6)، "يهدد البحر وينشفه" (إش 51: 10)، "القائل للجة انشفي" (إش 44: 27)، "البحر رآه فهرب. الأردن رجع إلى خلف. الجبال قفزت مثل الكباش والآكام مثل حملان الغنم" (مز 114: 3-4).
إن كل الخليقة ترتعب وتهتز وتخاف، والأنوميين هم فقط الذين ينظرون باستهزاء ولا ينتبهون لخلاصهم ويحتقرونه، لأنني لن أقول أنهم يحتقرون ويستهزأون برب كل هذه الأشياء.
23- لقد كنا في المرة السابقة ندعوهم للتعقل بمثال القوات العلوية من ملائكة ورؤساء ملائكة وشاروبيم وسيرافيم، ومثالنا اليوم هو من الخليقة الجامدة ومع ذلك فإنهم لم يتأثروا بعد. ألا ترى السماء، كم هي جميلة ومرصعة بأفلاك النجوم السيارة؟ كم من الوقت مضى عليها؟ هوذا هي قائمة منذ أكثر من خمسة آلاف سنة، وهذا الزمن الطويل جدًا لم يصيبها بالشيخوخة، تمامًا مثل جسد يانع في كامل صحته وحافظًا لبريقه وزهرة شبابه الأولى كما هي. هكذا أيضًا السماء حفظت جمالها الذي أُعطي لها منذ البدء، وهذا الجمال لم يفسده أبدًا طول الزمن. إن هذه الأجرام السماوية العظيمة والجميلة واللامعة والقائمة منذ وقت طويل مضى قد صنعها الله بنفس السهولة التي بها يقيم الإنسان خيمة له.
24- هذا هو الله الذي تزجون أنفسكم فيما يختص به والذي تحدّوه ليكون في متناول قواكم وإدراكاتكم العقلية. وهذا ما عبّر عنه إشعياء بقوله: "الذي ينشر السموات كسرادق ويبسطها كخيمة للسكن" (إش 40: 22). هل ترغب أن تتوجه وتنظر إلى الأرض؟ إنه هو أيضًا الذي أوجدها كما لو كانت لا شيء. إن إشعياء عندما تحدث عن السموات قال: "الذي ينشر السموات كسرادق ويبسطها كخيمة للسكن" (إش 40: 22) وقال عن الأرض "إنه هو الذي يدرك كرة الأرض كما لو كانت لا شيء" [(إش 40: 22) بحسب النص]، مع أن الأرض بهذه العظمة والاتساع.
25- تأمل كم عظيمة هي سلاسل الجبال، وكم أن الشعوب عديدة، وكم أن الأشجار طويلة ولا تُعد من الكثرة، وكم أن حجم المباني ضخم، وكم أنواع الحيوانات ذوات الأربع، والحيوانات المفترسة والزواحف بكل أنواعها مما تحمله الأرض على ظهرها. وبالرغم من أن هذه الأرض بهذه العظمة والاتساع فإن الله قد صنعها بالسهولة التي لم يجد معها النبي وسيلة مناسبة تعبّر عنها، لذلك قال إن الله قد صنع الأرض كما لو كانت لا شيء. وبالرغم من ضخامة وجمال الخليقة المرئية، إلا أنها ليست كافية لتعطينا فكرة وافية عن قوة الخالق. إنها أقل كثيرًا من أن تعطي فكرة عن عظمة وملء قوة من صنع كل هذه الأشياء. لذلك فإن الأنبياء اكتشفوا طريقة أخرى بها ومن خلال القوة والجبروت الذي أُعطي لهذه الخلائق ربما بمكنها أن تكشف لنا وتوضح بطريقة أفضل قوة الله، فماذا كانت هذه الطريقة؟
26- إنهم ليس فقط يضعوا أمامنا عظمة الكون المخلوق، بل أيضًا يحدثوننا عن الطريقة التي بها خُلقت. لقد فعلوا هذا لكي من خلال عظمة ما خُلق والسهولة التي بها خلقها الله، يمكننا بقدر ما تسمح به قوتنا (العقلية) أن نأخذ فكرة كافية عن قوة الله. لذلك ينبغي لك ليس فقط أن تفحص عظمة ما قد خُلق، بل أيضًا تتطلع إلى السهولة التي بها خلق الله هذه الأشياء.
27- وهذا يتضح لنا ليس فقط فيما يختص بالأرض، بل أيضًا فيما يختص بطبيعة الإنسان. فالكتاب في أحد المواضع يقول: "إنه هو الذي يدرك دائرة الأرض ومن يقطنونها مثل الجندب" (إش 40: 22)، وفي موضع آخر يقول: "هوذا الأمم كنقطة من دلو أمامه" (إش 40: 15). أرجوك لا تعبر بساطة على هذه النصوص بل اقرأ وتمعن جيدًا فيما قيل.
28- احسب عدد الأمم من سوريين وكيليكيين وكبادوكيين وبيثنيين ومن يسكنون عند البحر الأسود وفي تراكي ومكدونية في كل بلاد اليونان والجزر وفي إيطاليا والذين يسكنون بعيدًا عن المناطق المأهولة التي نعلمها والذين في الجزر البريطانية وفي السامرة والهند وبلاد فارس وحتى الأمم والقبائل العديدة التي لا نعرفها. كل هذه الأمم (مجتمعة) يقول عنها الكتاب أنها مثل نقطة من دلو أمامه. أخبرني أنت عن حيز عظمتك في هذه النقطة يا من تزج بنفسك فيما يختص بجوهر الله والذي هو كل الأمم أمامه مثل نقطة من دلو؟
29- ولماذا نتحدث فقط عن السموات والأرض والبحر وطبيعة الإنسان؟ فلنصعد في حديثنا فوق السموات ونأتي إلى الملائكة. بالتأكيد أنت تعلم أن ملاك واحد يعادل في قيمته كل هذا العلام المرئي، بل هو أكثر قيمة منه، لأنه إن كان العالم لا يستحق إنسانًا بارًا كما يقول بولس: "... وهم لم يكن العالم مستحقًا لهم" (عب 11: 38)، فبالتأكيد العالم كله أقل قيمة من ملاك واحد، لأن الملائكة أعظم جدًا من الناس الأبرار.
30- إلا أنه لا يزال في السموات ربوات لا تُعد من الملائكة وألوف ألوف من رؤساء الملائكة والعروش والسيادات ويوجد جنود لا تُحد من الكثرة في القوات السماوية تفوق الحصر. لقد صنع الله كل هذه القوات بالسهولة التي لا يمكن للكلام أن يجيد التعبير عنها. إن مجرد مشيئة الله ذاتها كافية لصنعها كلها. إن كان مجرد المشيئة -لصنع شيء ما- بالنسبة لنا أمرًا لا يتعبنا، فإنه ولا حتى خلق أعداد هائلة جدًا من مثل هذه القوات العظيمة يمكن أن يتعب الله. إن النبي أعلن هذا عندما قال: "كل ما شاء الرب صنع في السموات وعلى الأرض" (مز 135: 6). هل ترى أنه ليس فقط صنع كل الأشياء على الأرض، بل أيضًا صنع القوات في السموات، مجرد مشيئة الله ذاتها كافية لصنعها؟
31- قل لي، عندما تسمع هذا ألا تبكي على نفسك؟ ألا تدفن نفسك في التراب لأنك دفعت نفسك لمثل هذه الدرجة من الجنون بكونك تنشغل وتسعى حثيثًا لأن تزج نفسك فيما يختص (بجوهر) الله؟ إنك تعامله كشيء عديم القيمة، بينما هو الوحيد الذي عليك أن تعظمه وتعبده. إن بولس الرجل الذي كان ممتلئًا حكمة وافرة عندما نظر إلى سمو الله الذي لا يُقارن وإلى الطبيعة البشرية التافهة، امتلأ غيظًا من أولئك الذين يزجون بأنفسهم فيما يختص بالطريقة التي بها يسوس العالم، وكان ساخطًا جدًا حنى أنه قال: من أنت أيها الإنسان الذي تجاوب الله؟" (رو 9: 20)، من أنت؟ تأمل أولًا في طبيعتك، لا يمكن لأي أحد أبدًا أن يجد اسم يمكن أن يعبّر عن تفاهتك وعدمك.

32- لكنك ستقول: أنا إنسان ولي امتياز بالحرية.
لكن هذا الامتياز لم يُعط لك لكي تسيء استخدام حريتك وتناقضها. إنها لك لكي تستخدمها لإطاعة من أعطاك هذا الامتياز. إن الله لم يعطك هذا الامتياز لكي تهينه به. لقد أعطاك الحرية لكي تمجده، لكن الإنسان الفضولي والذي يزج بنفسه فيما يختص بجوهر الله فإنه يهينه. في الواقع إن كان تمجيده يكون بقبول وعوده دون فحصها، فعلى العكس عندما يبدأ الإنسان في فحص وسبر غور ليس فقط كلماته (ووعوده)، بل أيضًا فحص جوهر قائلها ذاته، فهذه إهانة له.
33- لكي تعرف أن قبول كلمات الله بدون فحص معادل لتمجيده، فاسمع بولس الذي قال بخصوص إبراهيم وطاعته وإيمانه اللذان أظهرهما في كل شيء قاله الله: "لم يعتبر جسده مماتًا... ولا مماتية مستودع سارة. ولا بعدم إيمان ارتاب في وعد الله بل تقوى بالإيمان" (رو 4: 19-20). ما يقوله بولس أن طبيعة جسد إبراهيم وسنه كانا يدفعانه إلى اليأس (من جهة الإنجاب) لكن إيمانه كان يمسك له برجاء النجاح (في تحقيق هذا الأمر). "بل تقوى بالإيمان معطيًا مجدًا لله وتيقن أن ما وعد به هو قادر أن يفعله أيضًا" (رو 4: 20-21).
هل ترى (معي) أن الإنسان الذي يتيقن تمامًا بما سيعلنه الله، يمجده؟ لذلك فإن الإنسان الذي يؤمن بالله يمجده ومن يرفض أن يؤمن به يرد الإهانة التي وجهها إلى الله على رأسه: "من أنت أيها الإنسان الذي تجاوب الله" (رو 9: 20).
34- أراد بولس بعد ذلك أن يُظهر الهوة العظيمة التي تفصل بين الله والإنسان. وهو بالحق لم يُظهر إلى أي مدى يلزم أن يكون عظم هذه الهوة، لكن من المثال الذي أعطاه يمكننا أن ندرك أن الهوة لم تزل عظيمة جدًا. فماذا قال بولس؟ "ألعل الجبلة تقول لجابلها لماذا صنعتني هكذا. أم ليس للخزاف سلطان على الطين أن يصنع من كتلة واحدة إناء للكرامة وآخر للهوان" (رو 9: 20-21).
35- ماذا تقصد يا بولس؟ هل أنا خاضع لله بنفس طريقة خضوع الطين للخزاف؟
يجيب بولس: نعم، لأن الهوة بين الله والإنسان في عظمة الهوة بين الخزاف والطين، بل ليست في عظمتها فقط، بل أعظم منها جدًا، لأن الخزاف والطين من نفس المادة ذاتها، تمامًا كما قال أيوب: "وأنا لست أتكلم عن أولئك الذين يسكنون في بيوت من طين، لأننا نحن أيضًا مصنوعين من الطين" (أي 4: 19).
36- إن كان الإنسان يبدو أعظم وأكثر جمالًا من الطين، فهذا الفرق لا يُعزى إلى اختلاف في الطبيعة بينهما، بل يُعزى إلى مهارة الصانع، وإن كنت في شك من هذا دع توابيت الموتى ووعاء رماد جثث الموتى المحروقة يقنعونك. اذهب لرؤية مقابر أجدادك لتتيقن أن الأمر هو هكذا، وإذًا فلا يوجد فرق بين الخزاف والطين.
37- لكن الفرق بين جوهر الله وجوهر الإنسان هو من العظمة بحيث أنه لا توجد كلمات تستطيع أن تعبّر عنه أو حتى يمكن للعقل أن يقدره. لذلك كما أن الطين خاضع ليديّ الخزّاف أيًا كانت الطريقة التي بها يشكله أو يحوله، هكذا ينبغي لك أن تصمت وتسكت مثل الخزف عندما يريد الله أن يتمم أحد مقاصده (بك). إن بولس لم يقل ما قاله بقصد تدمير حريتنا - حاشا! أو بتدمير مقدرتنا على الاختيار، بل هو تكلم هكذا لكي يلجم أكثر وأكثر عجرفة ألسنتنا.
38- إن شئت، فلنفحص هذه النقطة. عن أي معرفة أراد أن يدركها أولئك الذين ألجم بولس ألسنتهم بهذه الطريقة الشديدة؟ تُرى هل كانوا يفحصون عن جوهر الله؟ إطلاقًا! فلم يوجد بينهم من يجرؤ على هذا، بل كانت لهم تساؤلات أكثر بساطة من هذا، إذ كانوا يسعون لمعرفة طرق الله في تدبير العالم مثل: لماذا يعاقب إنسان، بينما آخر يجد رحمة؟ لماذا يفلت إنسان من العقوبة بينما آخر مُحمّل بالبلايا؟ لماذا ينال إنسان مغفرة بينما لا ينالها آخر؟ مثل هذه الأمور هي التي كانوا يسعون لمعرفتها. كيف نتيقن من هذا؟ من الكلمات السابقة (ذاتها) فقد قال بولس: "فإذًا هو يرحم من يشاء ويقسي من يشاء. فستقول لي لماذا يلوم بعد لأن من يقاوم مشيئته؟" (رو 9: 18-19). ثم يمضي بولس بعد ذلك قائلًا: "بل من أنت أيها الإنسان الذي تجاوب الله" (رو 9: 20).
39- لذلك فهؤلاء الناس الذين كانوا يسعون إلى النفاذ إلى مقاصد الله ألزمهم بولس بالسكوت، وهكذا لم يسمح لهم بولس بهذا وأنت أتدّعي معرفتك الجوهر الطوباوي الذي يسوس الكون؟ ألا تعتقد انك تستحق أن تُصعق عشرة آلاف مرة؟ كيف مثل هذا الادّعاء لا يصير هو كمال الجنون؟ اسمع النبي أو بالأحرى الله يتحدث بفمه ويقول: "إن كنت أنا أبًا فأين كرامتي وإن كنت سيدًا فأين هيبتي؟" (ملا 1: 6). إن الذي يهاب لا يفحص بل يعبد، ولا يسعى للفحص بدافع التطفل بل يبارك ويمجد.
40- لنتعلم هذا من فضائل السماويين ومن الطوباوي بولس، وهو إذ يوبخ الآخرين على ادّعاءاتهم، فهو غير مصاب بهذا الداء، واسمع ما يقوله لأهل فيلبي أنه يعرف فقط جزئيًا، ومثلما كتب لأهل كورنثوس وقال: "إننا نعلم بعض العلم" (1كو 13: 9)، وأنه لم يعرف بعد كل شيء. وهوذا هو يكتب لأهل فيلبي قائلًا: "أنا لست أحسب نفسي أني قد أدركت (كل شيء)" (في 3: 13). هل يوجد وضوح أكثر من هذه الكلمة؟ إن صرخة بولس -لهي مدوية أعلى من صوت البوق- عندما يُعلّم العالم كله أن يقنع ويكتفي بقدر المعرفة التي مُنحت له، وليس لأحد أن يظن أنه أدرك المعرفة والفهم التام في هذا العالم.
41- قل لي يا بولس ماذا تقصد؟ هل لك المسيح متكلم فيك (انظر 2كو 13: 3) وتقول: "أنا لست أحسب أني قد أدركت (كل شيء)" (في 3: 13).
فيجيب بولس: إن كنت قلت هذا فهو حق، لأن المسيح المتكلم فيّ هو الذي علمني هذا.
لذلك فمثلما قال بولس: "أنا لست أحسب أني قد أدركت (كل شيء)"، فهؤلاء الناس، إن كانوا لم يُحرموا تمامًا من معونة الروح القدس وإن كانوا لم يطردوا من نفوسهم كل تأثير صادر عنه، فلن يذهبوا إلى تخيل أنهم يملكون الفهم والمعرفة الكاملة.
42- لكن ربما يعترض أحد ويقول: ومن أين لنا أن نعرف إن كان بولس يتكلم هنا عن الإيمان والمعرفة والعقائد؟ ربما هو يتكلم عن السلوك وطريقة المعيشة. ألا يمكن أن يعني: أنني اعتبر نفسي غير كامل في سلوكي وطريقة معيشتي.
إن بولس قد أوضح تمامًا أن الأمر ليس هكذا عندما قال: "قد جاهدت الجهاد الحسن، أكملت السعي حفظت الإيمان. وأخيرًا قد وضع لي إكليل البر" (2تي 4: 7-8). إن الإنسان الذي فاز في السباق وكان ذاهبًا لنوال الجائزة لن يقول أبدًا: "أنا لست أحسب نفسي أني قد أدركت" (في 3: 13) إن كان هو يتحدث عن السلوك.
إن كان السلوك هو ما يتحدث عنه، إذًا فلا يوجد من يرى ويفهم بوضوح أي الأشياء ينبغي أن تُفعل وأي الأشياء يلزم تحاشيها. لكن كل هذه الأشياء معروفة للكل حتى للبرابرة والفرس ولكل الجنس البشري.
43- ولكي أوضح ما أريد قوله سأضع هذه الكلمات المقتبسة في سياقها بالنص. إن بولس قال: "انظروا (احذروا) الكلاب، انظروا (احذرا) فعلة الشر" (في 3: 2)، وبعد أن تحدث مطولًا عمن كانوا يُدخلون تعاليم يهودية لا تناسب غير اليهود مضى قائلًا: "لكن ما كان لي ربحًا فهذا قد حسبته من أجل المسيح خسارة. بل إني أحسب كل شيء أيضًا خسارة من أجل فضل معرفة المسيح يسوع ربي الذي من أجله خسرت كل الأشياء وأنا أحسبها نفاية لكي أربح المسيح وأُوجد فيه وليس لي بري الذي من الناموس، بل الذي بإيمان المسيح، الذي من الله بالإيمان" (في 3: 7-9)، ثم يخبرنا أي نوع من الإيمان هو يقصد. إنه يقصد إيمان "لأعرفه وقوة قيامته وشركة آلامه" (في 3: 10).
44- ما هي قوة قيامته؟ إن بولس يخبرنا أن الله أظهر لنا نوعًا جديدًا من القيامة. لقد قام كثيرون من الموتى في عدة مناسبات قبل قيامة المسيح، لكن لم يقم أحد قط مثل المسيح، لأن كل الذين قاموا من قبل عادوا إلى الموت ثانية، وحتى لو كانوا قد تحرروا من طغيان الموت إلى حين لكنهم خضعوا له مرة ثانية، لكن عندما قام جسد الرب فإنه لم يمت ثانية بل صعد إلى السماء وأباد طغيان العدو. والمسيح أقام معه العالم كله وهو الآن جالس على العرش الإلهي.
45- وإذ تأمل بولس كل هذه العجائب، لذلك بيّن أنه لن توجد قوة عقلية قادرة على وصف مثل هذه العجائب العظيمة والعديدة، بل الإيمان فقط هو الذي يستطيع تعليمها وجعلها واضحة. لهذا السبب قال إن الإيمان هو "لأعرف قوة قيامته". إن كان الإدراك العقلي لا يمكنه أن يصف القيامة لأن هذا أمر فائق على الطبيعة البشرية والمسار الطبيعي للأحداث. فأي قوة إدراك ستصير قادرة علي تفسير قيامته خصوصًا أنها مختلفة تمامًا عن القيامات الأخرى؟ لا يوجد غير الإيمان وحده الذي نحتاجه إن كنا مزمعين أن نؤمن أن الجسد المائت قام وذهب إلى حياة خالدة لا نهاية لها.
46- وفى موضع آخر يعبّر بولس عن نفس الفكرة وذلك بقوله: "إن المسيح بعدما أُقيم من الأموات لا يموت أيضًا. لا يسود علية الموت بعد" (رو 6: 9). إنه قال هذا ليصف المعجزة المزدوجة: قيامة المسيح والطريقة التي قام بها. لهذا السبب قال: "بالإيمان لأعرف قوة قيامته" (فى 3: 10-11). إن كان الإدراك العقلي لا يمكنه أن يكتشف قيامته، فلا يوجد أدنى إمكانية لاكتشاف ولادته الإلهية.
47- وهو بحديثه عن هذا الأمر وأيضًا عن صليب المسيح وآلامه، فإنه قد نسب معرفتهما أيضًا لقوة الإيمان. ثم بعد أن فرغ من هذه المسألة برمتها مضى قائلًا: "أيها الإخوة أنا لست أحسب نفسي أني قد أدركت(132)" (في 3: 13). إنه لم يقل: "أنا لست أحسب نفسي أني قد عرفت" بل قال "أنا لست أحسب نفسي أني قد أدركت". إنه لا يشهد بجهله التام أو معرفته الكاملة. إن الكلمات: "أنا لست أحسب أني قد أدركت" هي كلمات إنسان يُظهر أنه وصل إلى نقطة معينة في رحلته وأنه يواصلها وسيتقدم فيها أكثر، لكنه لم يصل بعد إلى النهاية.
48- إنه يعطي هذا التشجيع لآخرين أيضًا عندما يقول: "فليفتكر هذا جميع الكاملين منا وإن افتكرتم شيئًا بخلافه فالله سيعلن لكم هذا أيضًا" (في 3: 15). إنه لم يقل أنه بعملية الإدراك والفهم ستتعلمون هذا، بل الله سيعلنها. ألا ترى أنه لا يتحدث عن السلوك وطريقة المعيشة، بل عن العقائد والإيمان؟ لأن السلوك وطريقة المعيشة لا تحتاج إلى إعلان بل العقائد والمعرفة تحتاج لإعلان. وفي نص آخر يجعل نفس النقطة واضحة عندما قال: "إن كان أحد يظن أنه يعرف شيئًا فإنه لم يعرف شيئًا بعد كما ينبغي" (1كو 8: 2). إنه لم يقل فقط: "إنه لم يعرف" بل قال: "أنه لم يعرف شيئًا بعد كما يجب أن يعرف" لأن له معرفة لكن ليست هي معرفة كاملة ودقيقة.
49- ولكي نتعلم أن هذا حقيقي، فدعنا لا نتكلم عن الأشياء التي فوق، بل إن رغبت فلنهبط بالمناقشة إلى الخليقة المرئية. هل ترى السماء؟ نحن نعلم إنها تحتفظ بشكل القبة وقد تعلمنا هذا ليس بالإدراك بل من الكتاب المقدس، وكونها تغطي الأرض كلها فهذا نعلمه أيضًا وذلك لأننا سمعناه بنفس الطريقة من الكتاب المقدس (تك 1: 6-9). لكننا لا نعلم مادة تكوين السماء. إن كان أحد متيقن أنه يعلم هذا ويكابر بإصرار أن له مثل هذه المعرفة، فليخبرك ما هي مادة تكوين السماء. هل هي بلورات متجمدة من الثلج؟ هل هي سحب صارت متكثفة؟ هل هي الهواء الذي صار أكثر سمكًا؟ لا أحد يستطيع أن يعطي إجابة قاطعة.
50- هل لازلتم تحتاجون بعد لبرهان على جنون أولئك الذين يقولون أنهم يعرفون الله؟ إنك لا تستطيع أن تخبر بطبيعة (مادة) السماء وأنت تراها كل يوم، فهل إذًا تدّعي إنك تعرف بالتمام جوهر الله الذي لا يمكنك أن تراه؟ من هو عادم العقل حتى أنه لا يتعرف (بسهولة) على منتهى جنون أولئك الذين يدّعون أنهم يعرفون هذه الأمور؟
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.

51- هذه هي مبرراتي لتشجيعكم على التحدث إلى الأنوميين برقة ولطف. حاولوا بكل قوتكم أن تعاملوهم كمعاملتكم لأُناس يعانون من مرض عقلي وفقدوا رشدهم. بالتأكيد إن هذا التعليم الذي لهم هو نتيجة لجنونهم ولعقل تورم بكبرياء فظيعة. إن جروحهم المتقيحة لا تحتمل لمس اليد أو أي احتكاك شديد بها، لذلك فإن الأطباء المهرة يطهرون مثل هذه القروح باسفنجة طرية.
52- حيث أن هؤلاء الأنوميين بهم جرح متقيح في نفوسهم، فدعنا نأخذ اسفنجة طرية ونبللها بماء نقي ورطب ونغسل القرحة بكل الكلمات التي كلمتكم بها ولنحاول بهذه الطريقة أن نوقف غرورهم الشديد ونزيل كل كبريائهم. حتى لو أهانوك وأساءوا إليك، حتى لو ضربوك أو بصقوا عليك، أيًا كانت الطريقة التي عاملوك بها يا أخي فلا تتوقف عن اهتمامك بتقويمهم. إن إهانات كثيرة مشابهة ينبغي أن تصيب الأطباء الذين يعالجون إنسانًا أصابه الجنون. بالرغم من كل شيء لا ينبغي لهؤلاء الأطباء أن يتوقفوا عن عملهم، لأنه لأجل هذه الإهانات ذاتها ينبغي على الأطباء أن يشفقوا ويتأسفوا على مرضاهم حيث أن هذه الإهانات ذاتها هي أعراض مرضهم.
53- إنني أتحدث بهذه الكلمات للأقوياء من بينكم، ولمن يمكنهم احتمال المعاملة الخشنة ولمن لا ينالهم أذى من مصاحبة هؤلاء الناس. إن كان الإنسان ضعيفًا نوعًا ما، فليهرب من مصاحبة الأنوميين وليبتعد عن تجمعاتهم لكي لا يكون دافع الصداقة هو نقطة بداية الكفر (إذ يأخذ العدوى منهم)، هذا ما فعله بولس، فهو نفسه قد اختلط بالمرضى وقال: "صرت لليهودي كيهودي وللذين بلا ناموس كأني بلا ناموس" (1كو 9: 20-21). لكنه اقتاد تلاميذه ومن هم غير أقوياء بعيدًا عن مثل هذه الاختلاطات وذلك عندما وعظهم وعلّمهم بهذه الكلمات: "المعاشرات الردية تفسد الأخلاق الجيدة" (1كو 15: 33)، وأيضًا بهذه الكلمات: "اخرجوا من وسطهم واعتزلوا يقول الرب" (2كو 6: 17).
54- عندما يزور الطبيب إنسانًا مريضًا، فإنه غالبًا ما يساعد المريض ونفسه. ولكن إن كان الإنسان (السليم) من النوع الأضعف، فإنه يؤذي نفسه والمريض بتعريض نفسه للتعامل مع المريض، ولن يستطيع إطلاقًا أن يساعد المريض وسيجلب لنفسه ضررًا عظيمًا من مرض الإنسان المريض. وهذا هو ما يحدث لمن يلتقي بمن هم مصابون بالتهاب في أعينهم إذ من يختلط بهم يأخذ العدوى منهم بسرعة!
إن من يختلط بهؤلاء الهراطقة يحدث لهم أيضًا نفس الشيء إن كانوا من النوع الأضعف (روحيًا) لأنهم سيجلبون على أنفسهم قسمًا كبيرًا من كفر الأنوميين.
55- لذلك من أجل أن نمنع عن أنفسنا مثل هذا الضرر العظيم فلنتحاشى أي خلطة بهم ونكتفي فقط بالصلاة ونتضرع إلى الله الرءوف -الذي يريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون (1تي 2: 4)- ليحررهم من هذا الغرور ومن شباك الشيطان ويقتادهم ثانية إلى النور الحقيقي الذي هو الله أبو ربنا يسوع المسيح في اتحاد مع روحه المحيي والقدوس جدًا، الذي له المجد والقوة الآن وإلى دهر الدهور آمين.
_____
(132) جاءت هذه الكلمة بمعنى "فهمت" في النص الإنجليزي، وبمعنى "عرفت كل شيء" في النص الفرنسي".
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/m4mdw9m