St-Takla.org  >   books  >   fr-angelos-almaqary  >   bible-history-edersheim-1
 

مكتبة الكتب المسيحية | كتب قبطية | المكتبة القبطية الأرثوذكسية

كتاب تاريخ العهد القديم للعلامة ألفريد إدرشيم: الجزء الأول: عالم ما قبل الطوفان وتاريخ رؤساء الآباء الأولين - القمص أنجيلوس المقاري

19- الفصل التاسع عشر: حياة يوسف المبكرة - بيع إخوته له كعبد - يوسف في بيت فوطيفار - يوسف في السجن (تك37-39)

 

الفصل التاسع عشر

حياة يوسف المبكرة - بيع إخوته له كعبد - يوسف في بيت فوطيفار - يوسف في السجن (تك37-39)

 

من أجل فهم صحيح لما سيلي، من الضروري أن نضع في اعتبارنا أن ما يمكن أن يُدعى التاريخ الشخصي لرؤساء الآباء توقف مع يعقوب، أو بالأحرى التاريخ الآن يلتحم بتاريخ بني إسرائيل، تاريخ العائلة والأسباط. إن قصد الله مع رؤساء الآباء كأفراد قد تحقق، عندما يعقوب صار أبًا لاثني عشر كانوا بدورهم أجداد للشعب المختار.

في ضوء هذا لا يوجد سوى استثناء وحيد، عندما ظهر الرب ليعقوب عند ذهابه إلى مصر ليعطيه الضمانة المطلوبة أنه بمشيئته تم نقل بني إسرائيل من كنعان وأنه في حينه الحسن سوف يرجعهم إلى أرض الموعد. وعلى سبيل التوقع يمكن أن نقرر هنا أن هذا الانتقال المؤقت كان ضروريًا من كل الأوجه. فهو يشكل تحقيق لنبوة الله عند أول قطع للعهد (تك 15: 2-17)، وكان مطلوبًا لكي يتم فصل أبناء يعقوب عن شعب الأرض.

بأية سرعة وإلى أي مدى الاحتكاك الدائم بالكنعانيين سيورط أفضل من فيهم في رذائل فظيعة يظهر من سيرة يهوذا، عندما بعد بيع يوسف ترك بيت أبيه واتحد بشعب الأرض، فصار هو وبنيه متكيفين سريعًا مع الرجاسات المحيطة بهم (تك38).

لقد كان أيضًا ضروريًا كإعداد للتاريخ المتأخر لإسرائيل عندما سيخرجهم الرب من بيت العبودية بيده الممدودة وبآيات وعجائب. من حيث أن هذا الحدث العظيم كان له أن يشكل الأساس وبداية تاريخ إسرائيل كأمة، كذلك العبودية والحالة الوضيعة التي سبقتها كانت رمزية، وذاك حال ليس فقط كل تاريخ إسرائيل، بل الكنيسة ذاتها وأيضًا حال كل شخص مؤمن خلّصه الله من العبودية الروحية بنعمته القديرة.

وأخيرًا كل الأحداث المرتبطة بنقل الشعب إلى مصر كانت مطلوبة لتدريب بني إسرائيل وبالأساس مطلوبة ليوسف لو كان له أن يتأهل للوظيفة التي أراده الله أن يشغلها. بل ولن نستطيع الإخفاق في التعرف على أنه وإن كان يوسف لم يُذكر شخصيًا في العهد الجديد كرمز للسيد المسيح، فإن تاريخه كان رمزًا بارزًا لتاريخ مخلصنا المبارك، سواء في خيانته وتسليمه وارتقائه لأعلى كرامة ومجد، وحفظه لحياة الناس، وفي اعترافهم في النهاية به وتوبتهم وندمهم عن خطيتهم.

لكن وإن كانت "معلومة عند الرب منذ الأزل جميع أعماله" (أع 15: 18)، فإن كل الأطراف قد سُمح لها أن تمارس اختيارها الحر وأن تتبع مسارها، وإن كانت تجهل أثناء ذلك أنها تساهم بنصيبها نحو تحقيق مقاصد الله وحسب. وفي هذا يكمن سر العناية الإلهية أنها على الدوام تعمل عجائب ولكن بدون أن يبدو أنها تعمل على الإطلاق، ومن ثمَّ كثيرًا جدًا ما تفلت من انتباه وملاحظة الناس. بصمت وبدون أن يلاحظ من يحيون ويتحركون تتابع مسيرها إلى أن يتم في النهاية رؤية كيف أن كل الأشياء تعمل معًا لمجد الله ولخير من يحبهم الله المدعوين بحسب قصده (رو 8: 38).

يُفتتح التاريخ الكتابي ليوسف عندما كان يبلغ من العمر سبعة عشر سنة. ومضات ولمحات كثيرة قُدمت إلينا في حياة أسرة رئيس الآباء. فنحن نرى يوسف منخرطًا في رعي الغنم والمواشي مثله مثل إخوته. لكنه بالأساس كان مع أبناء بلهة وزلفة عبدتي ليئة وراحيل. من الواضح أيضًا أنه كانت توجد مشاعر بغضة وغيرة من جانب أبناء ليئة تجاه ابن راحيل. ويلزم أن هذا التوتر غذاه وعززه الاختلاف في ميولهما الطبيعية كما أيضًا تفضيل يعقوب لابن زوجته المحبوبة على باقي إخوته.

إن أسلوب وطباع أبناء يعقوب كان فظ ووحشي وبلا قانون، وبدون أي اهتمام لرغبات أبيهم أو أهدافه. بينما من الناحية الأخرى يبدو أن يوسف كانت لديه بعض أفضل سمات أجداده. كمثل إبراهيم كان هو قويًا وحاسمًا وفطنًا، كمثل إسحق كان هو صبورًا ولطيفًا، كمثل يعقوب كان هو ودودًا ومحبًا وعطوفًا. وأفضل كل هذا أن سلوكه كان مختلفًا ومميزًا عن الذي لإخوته.

لكن من الناحية الأخرى ليس من العسير أن ندرك كيف أن حتى الصفات الواعدة لميوله الطبيعية يمكن أن تصير مصدر لخطر أخلاقي. عن هذا تاريخ أجداد يوسف قدم فقط دليل مؤلم جدًا. كم ستكون المخاطر أعظم لشاب تعرض لمثل هذه التجربة المضاعفة كمثل البغضة المتأصلة من جانب إخوته الذين لم يمكنه احترامهم، والتحيز والمحاباة الملحوظة له من جانب أبيه!

St-Takla.org Image: Jacob's Sons Show Their Father Joseph's Coat. Caption: "Jacob's sons have come home after selling their brother Joseph. They are showing their father Joseph's coat. They have torn it in some places and have put goat's blood on it. They say to Jacob they found it like this in the field; he can tell, they say, whether it is Joseph's coat or not. Jacob knows it and cries, 'It is my son Joseph's coat; some wild beast has killed him.'" - from "Bible Pictures" book, by W. A. Foster, 1897. صورة في موقع الأنبا تكلا: عرض أبناء يعقوب قميص يوسف لأبيهم: عاد أبناء يعقوب إلى البيت بعد أن باعوا أخاهم يوسف. يعقوب يرى قميص يوسف. مزقوه من بعض المواضع ووضعوا عليه دم تيس. قالوا ليعقوب إنهم وجدوه هكذا في الحقل؛ فيعرف، كما يقولون، إن كان قميص يوسف أم لا. عرفه، ثم صاح: "إنه قميص ابني يوسف؛ قتله وحش بري"." - من كتاب "صور الكتاب المقدس"، و. أ. فوستر، 1897 م.

St-Takla.org Image: Jacob's Sons Show Their Father Joseph's Coat. Caption: "Jacob's sons have come home after selling their brother Joseph. They are showing their father Joseph's coat. They have torn it in some places and have put goat's blood on it. They say to Jacob they found it like this in the field; he can tell, they say, whether it is Joseph's coat or not. Jacob knows it and cries, 'It is my son Joseph's coat; some wild beast has killed him.'" - from "Bible Pictures" book, by W. A. Foster, 1897.

صورة في موقع الأنبا تكلا: عرض أبناء يعقوب قميص يوسف لأبيهم: عاد أبناء يعقوب إلى البيت بعد أن باعوا أخاهم يوسف. يعقوب يرى قميص يوسف. مزقوه من بعض المواضع ووضعوا عليه دم تيس. قالوا ليعقوب إنهم وجدوه هكذا في الحقل؛ فيعرف، كما يقولون، إن كان قميص يوسف أم لا. عرفه، ثم صاح: "إنه قميص ابني يوسف؛ قتله وحش بري"." - من كتاب "صور الكتاب المقدس"، و. أ. فوستر، 1897 م.

التحفظ المقدس للسفر والذي على الدوام لا يخبرنا سوى بالقليل جدًا عن الإنسان والكثير جدًا عن الله لا يقدم لنا سوى لمحات، لكن هذه لمحات ذات مغزى بما فيه الكفاية. فنحن نقرأ: "وَأَتَى يُوسُفُ بِنَمِيمَتِهِمِ الرَّدِيئَةِ إِلَى أَبِيهِمْ" فهذه أحد أوجه علاقاته المنزلية، جنبًا إلى جنب الأخرى: "وَأَمَّا إِسْرَائِيلُ فَأَحَبَّ يُوسُفَ أَكْثَرَ مِنْ سَائِرِ بَنِيهِ"، بل حتى لو أن القميص الملون الذي أعطاه لابن شيخوخته كان مجرد ثوب مزركش أو نفيس، فإنه سيثير الاستياء لكونه علامة واضحة على المحاباة، ومثل هذا التصرف كثيرًا ما يثير مشاعر المرارة في الأسر.

لأنه كما أن الزمن عبارة عن تجميع لحظات ودقائق، كذلك الحياة في الغالب عبارة عن أفعال صغيرة تكمن عظمتها (أو خطورتها) في اتحادها وتكومها معًا. لكن الحقيقة أنه لم يكن "قميص ملون" بل هو رداء يصل إلى الذراعين والقدمين كمثل الذي يلبسه الرؤساء والأشخاص المميزين(46)، وكان يدل وينذر إخوة يوسف بمنتهى الوضوح أن أبيهم يزمع أن ينقل ليوسف حقوق البكورية.

نحن نعرف أن أكبر ثلاثة إخوة من أبناء ليئة جعلوا أنفسهم غير أهلًا لها، شمعون ولاوي بوحشيتهما في شكيم، ورأوبين بجريمته الشنيعة في مجدل عدر. فكم كان من الطبيعي بالأكثر أن يسبغ امتياز البكورية على ابن من كان يعقوب يريدها أن تكون زوجته الوحيدة؟. على كل حال كانت النتيجة أن إخوته أبغضوه، إلى أن صاروا بحسب اللغة المعبرة للنص المقدس "لم يستطيعوا أن يشرعوا في مخاطبته بالسلام"(47)، أي كما نفهمها لم يستطيعوا أن يخاطبوه بالتحية الشرقية المعتادة: "سلام لك!".

لم يكن الوضع يتطلب سوى فرصة لإظهار هذه المشاعر على الملأ وقد جاءت الفرصة بمنتهى السرعة. يبدو من الطبيعي جدًا إن يوسف إذ وضع في الظروف التي وصفناها كان له أن يحلم حلمين يعنيان ضمنًا رئاسته ورفعته في المستقبل عليهم. نحن نقول هذا حتى بالرغم من أننا نعترف أن الحلمين جاءا بتوجيه إلهي مميز. لكن السفر لا يقول أن هذين الحلمين أُرسلا له بإشارة مباشرة من الله، أو أنه تم توجيهه ليخبر أسرته بهما.

الصورة الخيالية لأول هذين الحلمين مأخوذ من الحياة الريفية، بينما الثاني مأخوذ من حياة الرعي وهي المهنة التي تمارسها الأسرة. في الحلم الأول كان يوسف وإخوته في حقل الحصاد -الأمر الذي يعني ضمنًا أن يعقوب مثل أبيه إسحق كان يزرع الأرض- فقامت وانتصبت حزمة يوسف بينما حزم إخوته سجدت لحزمته. وفي الحلم الثاني كانوا جميعًا خارجًا يرعون القطيع بينما الشمس والقمر وأحد عشر كوكبًا يسجدون له. أول هذين الحلمين يختص فقط بإخوته، بينما الثاني يختص بأبيه وإخوته.

يلزم أنه كان يوجد شيء يثير الاستياء بصفة خاصة في الأسلوب الذي به أخبر عن حلميه لأننا نقرأ ليس فقط أنهم أبغضوه، بل "ازْدَادُوا أَيْضًا بُغْضًا لَهُ مِنْ أَجْلِ أَحْلاَمِهِ" وكذلك أيضًا "وَمِنْ أَجْلِ كَلاَمِهِ"، بل يعقوب شخصيًا وجد ما يبرر توبيخه له، رغم أنه تم إضافة عبارة ذات مغزى: "وَأَمَّا أَبُوهُ فَحَفِظَ الأَمْر".

وكما نعرفها الآن فقد كانت أحلام نبوية، لكن في ذلك الوقت لم تكن هناك سبل للحكم إن كانت نبوية أم لا، خصوصًا أن يوسف نطق بها بحيث أنها قد تبدو مجرد نتاج زهو شاب قد جعلته المحاباة من جانب والده يتباهى بنفسه بطريقة لا تليق.

المستقبل وحده يمكن أن يبين هذا، لكن أثناء ذلك ألا يمكننا القول أنه كان مطلوبًا لأجل يوسف شخصيًا أن يُنقل من ظروفه الحاضرة إلى الموضع حيث ما كان مقدس وسماوي فيه أن ينمو وكل ما هو من الذات أن يُنزع ويُستأصل؟ لكن تلك النتائج لا يمكن الحصول عليها سوى بنوع واحد من التدريب وذلك بالدخول في الضيقة والمحن.

كان أبناء يعقوب يرعون قطعانهم حول شكيم عندما أرسل يعقوب يوسف ليسأل عن سلامتهم. وإذ لم يكن الفتى مدرك بالمرة للخطر المتربص به أسرع في تنفيذ مهمته. لم يجد يوسف إخوته في شكيم ذاتها، لكن غريب دله أنهم مضوا إلى دوثان التي تعني البئرين.

كانت دوثان موضع جميل على بعد اثنتي عشر ميل من السامرة. شمالًا تنتشر أخصب مراعي الأرض، وتفصلها عن سهل اسدراليون العظيم قليل من التلال الضخمة. ويلزم أن موقعها كان منه جواز المرور إلى اسدراليون، هكذا كانت كحارس للمدخل من الشمال ليس فقط لأفرايم بل لفلسطين ذاتها.

من أحد قمم تلك التلال لا يزال من الممكن الإشارة إلى خرائب دوثان الواسعة، ومن سفحها الجنوبي لا تزال ينبع ينبوع ماء جاري. هل هذا أحد البئرين اللذين منهما اشتقت دوثان اسمها؟ من هذه التلال نزل جدعون فيما بعد على جيوش مديان.

← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.

وكان هنا أن يوسف جاء إلى إخوته على غير موعد فطرحوه في البئر الجاف. وقد كان من تلك القمة يلزم أن أبناء يعقوب رأوا القافلة العربية تدور ببطيء حول الأردن في طريقها إلى مصر عندما باعوا أخيهم على رجاء تقييد الكلمة ومنع يد الله. لكننا نعجّل في حدوث الأمر. فبمجرد أن الإخوة لمحوا يوسف عن بُعد حتى اختمرت خطة الغدر بالتخلص منه حيث لا يوجد غريب يعاين فعلتهم. فهذه ستكون أسرع وسيلة للتخلص من صاحب الأحلام وأحلامه.

رأوبين وحده جزع من الفكرة ليس بدافع المحبة لأخيه بقدر اعتباره لأبيه. تحت ادعاء أنه سيكون من الأفضل ألا يسفكوا دم أخيهم فعلًا، عرض عليهم طرحه في أحد تلك الآبار الجافة وتركه هناك ليهلك، لكن على رجاء أن يقوم شخصيًا في السر على إنقاذه وإرجاعه إلى أبيه. وافق الآخرون في الحال على خطته.

ولقد ترك لنا كاتب يوناني وصف تصويري لمثل هذه الآبار. فهو يصفها بكونها مبنية بشكل منتظم وبحيث تكون ضيقة عند الفم وتتسع تدريجيًا كلما نزلوا إلى أسفل إلى أن يصلوا إلى قاعها حيث يكون العرض أحيانًا مائة قدم. نحن نعلم انها عندما تجف أو تُغطى بالوحل فقط في القاع، يمكن استخدامها كمواضع للاختباء بل وكسجن مؤقت (إر 38: 6؛ إش 24: 22).

في بئر فارغ كهذا تم طرح يوسف الآن، بينما إخوته -كما لو كانوا أنجزوا عملًا ما- جلسوا ليأكلوا. لقد كتبنا تقريبًا أن الأمر حدث هكذا، لكن بالحق كان بتدبير عناية الله أنه في ذلك الوقت تظهر في مرمى الرؤية قافلة عربية قادمة ببطئ. كانوا هم يتابعون مسيرهم فيما يمكن أن ندعوه طريق العالم القديم من منطقة توابل جلعاد إلى مصر عبر الأردن، تحت بحر الجليل وعلى وادي يزرعيل، ومن هناك يسيرون على طوال شاطئ البحر.

مرة أخرى عرض عطف لأخ آخر من إخوته تقريبًا برهن أنه عرض مشئوم ليوسف. رأوبين قضى على خطتهم بسفك دمه بطرح يوسف في بئر على رجاء أن يتمكن فيما بعد من إنقاذه. يهوذا الآن رغب في إنقاذ حياته ببيعه عبد لقافلة العرب المجتازة. لكن لا أحد منهما كانت لديه الشجاعة أو الاستقامة لأن يقاوم بصورة صريحة الخيانة والجريمة التي تمت.

مرة أخرى وافق الإخوة الآخرين على ما يبدو أنه اقتراح رحيم، وتمت الصفقة بسرعة وبيع يوسف للإسماعيليين بعشرين من الفضة (20 شيكل)، وهو ثمن يعادل في أزمنة متأخرة بيع عبد ذكر من عمر خمسة إلى عشرين سنة (لا 27: 5)، والثمن المتوسط للعبد حوالي ثلاثين شيكل فضة أو حوالي أربع جنيهات على اعتبار أن شيكل الهيكل كان ضعف ثمن الشيكل العادي (خر 21: 32).

لم يكن رأوبين حاضرًا عندما تم البيع. وعند عودته مزق ثيابه وبكى بكاء العاجز. لكن إخوته الآخرين غمسوا قميص يوسف الملون في دم تيس معزي ليعطوا لأبيهم الانطباع أن يوسف افترسه وحش رديء، وقد نجحت حيلتهم. فبكاه يعقوب بمرارة لأيام كثيرة ورفض كل تعزية قدمها له برياء بنيه وبناته. لكن حتى نحيبه المر عبّر عن رجائه وإيمانه في أنه سيلتقي بابنه المحبوب في عالم آخر، لأنه قال: "إِنِّي أَنْزِلُ إِلَى ابْنِي نَائِحًا إِلَى الْهَاوِيَةِ" (تك 37: 35).

ماعدا الإشارة العرضية إلى هذا الأمر في اعتراف إخوته مؤخرًا (تك 42: 21)، لا يتم إخبارنا سواء عن الدموع أو التوسلات التي عبثًا حاول يوسف بها أن يحرّك مشاعر إخوته ولا عن أي شيء يختص برحلته إلى الطريق إلى مصر.

نحن نعلم أنه عند سيره في قافلة أسياده الجدد، يلزم أن يوسف رأى من على بعد قمم حبرون حيث كان والده -الذي لا يخطر في باله بالمرة شيء مما حصل- ينتظر عودة ابنه المحبوب والمفضل لديه. لكن إلى هذا البيت لن يعود يوسف أبدًا. فنحن سوف نلتقي به بعد ذلك في سوق العبيد.

هنا كما يمكن أن يبدو التسلسل الطبيعي للأحداث، اشتراه من يد الإسماعيليين فوطيفار رئيس شرط فرعون. وكثيرًا ما يتردد اسم فوطيفار في آثار مصر حيث اسمه يعني "مكرس للإله رع" أي للشمس. وبحسب بعض الكتّاب فإن الوقت الذي فيه بيع يوسف في مصر لم تكن البلاد متحدة تحت حكم سلالة ملكية واحدة من أهل البلاد، بل كانت تحكمها عدة أسر ملكية، ومن بينها كانت الأسرة الملكية للملوك الرعاة (الهكسوس) كانت السلالة السائدة بينما كل الملوك الآخرين كانوا تابعين(48).

على كل حال حُمل يوسف إلى ذلك الجزء من مصر والذي كان على الدوام مرتبط جدًا بفلسطين. كانت وظيفة فوطيفار في بلاط فرعون هي رئيس الشرط، ومن المرجح جدًا أن تكون وظيفته بمثابة رئس الحرس الشخصي لفرعون. جرت الأمور مع يوسف في بيت فوطيفار كما كان سابقًا في بيته، لأنه ليس في مقدور الظروف سواء كانت ظروف نجاح وخير أو شر وبلية أن تغير الشخصيات. الذي كان أمينًا في القليل كان أيضًا أمينًا في الكثير، ومن لا يعرف كيف يستخدم ما أُودع إليه، سيؤخذ الذي له.

كان يوسف أمينًا ومستقيمًا وحيي الضمير لأنه في خدمته الأرضية كان يخدم سيده السماوي الذي هو يشعر بحضوره على الدوام. بناء على ذلك "كَانَ الرَّبُّ مَعَ يُوسُفَ" و "كُلَّ مَا يَصْنَعُ كَانَ الرَّبُّ يُنْجِحُهُ بِيَدِه"، ولم يستغرق الأمر وقتًا طويلًا لكي يلاحظ سيده هذا. ومن وظيفة خادم عادي في البيت رقاه سيده فَوَكَّلَهُ عَلَى بَيْتِهِ وَدَفَعَ إِلَى يَدِهِ كُلَّ مَا كَانَ لَه. والثقة التي وضعها في يوسف كانت في محلها، وَكَانَتْ بَرَكَةُ الرَّبِّ عَلَى كُلِّ مَا كَانَ لَهُ فِي الْبَيْتِ وَفِي الْحَقْل، فما كان من فوطيفار إلا أنه َتَرَكَ كُلَّ مَا كَانَ لَهُ فِي يَدِ يُوسُفَ. وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ يَعْرِفُ شَيْئًا إلاَّ الْخُبْزَ الَّذِي يَأْكُلُ (تك 39: 2-6).

إن قبور ورسوم قبور قدماء المصريين تُحضر أمامنا بصورة حية الحياة اليومية وواجبات يوسف. "نرى أملاك الناس العظماء يديرها كتبة يمارسون أقصى الملاحظات الحسابية والدقيقة على كل أعمال الزراعة وما يتعلق بالبساتين ومخازن الطعام وصيد الأسماك. كان يتم تسجيل كل منتج بحرص لكبح غش العاملين في هذا المجال.

وربما لم تكون هناك دولة لها نظام زراعي منظم أكثر من مصر آنذاك. معرفة يوسف السابقة برعي الغنم وربما بالزراعة وشخصيته الأمينة جعلته مؤهلًا تمامًا لوظيفته الحالية. لكن لم يتم إخبارنا عن مدى الفترة التي شغل فيها هذه الوظيفة.

إنه خطأ شائع الافتراض أن التدين الجاد والاستقامة يلزم بالضرورة أن يواكبهما النجاح حتى في هذا العالم. نعم حقًا أن الله لن يمنع أي خير عمن يكون هو شمسهم وترسهم، لكن قد لا يكون النجاح دومًا خير بالنسبة لهم. بجانب هذا كثيرًا ما يمتحن الله إيمان وصبر شعبه، وهذا هو معنى تجارب كثيرة. بل وكثيرًا ما تكون التجارب مطلوبة للتهذيب والتمرين أو لكي يمكنهم أن يتعلموا كيف يمجدون الله في آلامهم ومعاناتهم.

وفي حالة يوسف كانت هي تجربة وامتحان بها يتم إعداده خارجيًا وداخليًا للوظيفة التي كان له أن يشغلها. إن الجمال الذي ورثه يوسف عن أمه عرّضه للإيحاءات الشريرة من جانب زوجة سيده، والتي ستفاجئ حتى من هم على أفضل معرفة بحالة المجتمع المصري القديم.

كان يوسف يقف وحيدًا في بيت وبلد وثنية، ولم يكن محاطًا سوى بما من شأنه أن يفسد إحساسه الأدبي ويجعل التجربة أشد قوة وسطوة. وكانت لديه أيضًا -مقارنة بنا- معرفة ناقصة جدًا بناموس الله في ارتفاعه وعمقه. وعلاوة على ذلك ما رآه من إخوته الأكبر منه لن يرفع سقف آرائه الدينية.

لكنه مع ذلك وقف يقاوم الشر بحزم بدافع من إحساسه بالإخلاص تجاه سيده وفوق كل هذا خشية من أن يخطئ هذا الشر العظيم أمام الله. لكن يبدو أن الأمور لم تصر إلا أسوأ بسبب مبادئه. فكما هو المعتاد في الغالب فإن الشهوة العنيفة للمرأة تحولت إلى بغضة عنيفة، فلفقت له بخبث تهمة كاذبة(49).

نحن لدينا مبرر للاعتقاد أن فوطيفار لم يمكنه أن يصدق من كل الأوجه رواية زوجته. لأن العقوبة التي ترصدها مصر للجريمة التي تم اتهام يوسف بها أقسى جدًا من التي نالها يوسف. أودعه فوطيفار في سجن الملك والذي كان تحت إشرافه بكونه رئيس الحرس الملكي.

← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.

أما كيف كانت الأحوال مرّة وصعبة مع يوسف في البداية فهذا نعرفه من تلك الكلمات التي وردت في (مز 105: 17-18): "أَرْسَلَ أَمَامَهُمْ رَجُلًا. بِيعَ يُوسُفُ عَبْدًا. آذُوا بِالْقَيْدِ رِجْلَيْهِ. فِي الْحَدِيدِ دَخَلَتْ نَفْسُهُ".

لم يكن ممكنًا أن تكون المفارقة أعظم من هذا بين أحلامه النبوية السابقة وحالته الراهنة. لكن مع ذلك بقي يوسف ثابتًا وراسخًا. وكما لو أنه لكي يوضع أمامنا المفارقة الأخرى بين العيان والإيمان، يقرر النص المقدس بصريح العبارة: "وَلَكِنَّ -هذه الكلمة (لكن) ينبغي أن يشدد إيماننا عليه كثيرًا- الرَّبَّ كَانَ مَعَ يُوسُفَ وَبَسَطَ إِلَيْهِ لُطْفًا وَجَعَلَ نِعْمَةً لَهُ فِي عَيْنَيْ رَئِيسِ بَيْتِ السِّجْنِ" (تك 39: 21).

وتدريجيًا لما ظهر كماله واستقامته أكثر وأكثر، عُهد إليه بمهمة الإشراف على المساجين، فمن حيث أن "كُلَّ مَا يَصْنَعُ كَانَ الرَّبُّ يُنْجِحُهُ بِيَدِه"، فكانت النتيجة النهائية أن كل إدارة شئون السجن تم تسليمها ليوسف. هكذا هنا أيضًا برهن الرب نفسه بكونه إله أمين في عهده. شريط الضوء الفضي كان يرسم صفًا وحدًا للسحابة الداكنة. لكن يلزم لفضيلة الصبر أن تعمل عملها التام (يع 1: 4)..

_____

الحواشي والمراجع لهذه الصفحة هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت:

(46) إن السيد ر. س. بوولي R. S. Poole كتب في مقالة عن يوسف في قاموس سميث الكتابي ما يلي: "إن الطبقات الأغنى بين المصريين القدماء كانوا يلبسون ثياب طويلة من الكتان الأبيض. وشعوب فلسطين وسوريا صورت في نصبها التذكارية المصريين كأعداء أو تابعين بملابس شبيهة ملونة جزئيًا وعمومًا لها خطوط ملونة حول حواف الأكمام وأطراف الثياب".

(47) هذه ترجمة حرفية للنص.

(48) انظر ر. س. بوولي كما الاقتباس السابق. هنا ذكرنا وجهة النظر المعتاد عليها. لكن كانون كوك يلّح على تقديم أسباب قوية ومقنعة -كما يبدو لنا- بافتراض أن بيع يوسف حدث في ختام السلالة الملكية الثانية عشر أو تحت حكم الفراعنة الأصليين قبل أن تبدأ سيادة الملوك الرعاة. والمسألة سيتم مناقشتها باستفاضة في الجزء التالي من كتبنا هذه. وأثناء ذلك يلزم للقارئ الفضولي أن يرجع إلى مقالة عن التاريخ المصري في الجزء الأول من كتاب: The Speaker’s Commentary.

(49) توجد قصة مصرية مشابهة تمامًا عنوانها "الأخوان" وتم ترجمتها مؤخرًا وتشابه كثيرًا الرواية الكتابية حتى أننا ميالين لاعتبارها مؤسسة على الأقل على تجربة يوسف. مختلفين في هذا عن السيد بوولي، فنحن نعتبر أن ثقل الدليل في صالح الافتراض بكونها مأخوذة عن رواية يوسف. [في تلك القصة حاولت زوجة الأخ الأكبر أن تغوي الأخ الأصغر الذي كان يقيم معهما ليخطئ معها ولما رفض لفقت له تهمة شبيهة. المترجم. ]


الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع

https://st-takla.org/books/fr-angelos-almaqary/bible-history-edersheim-1/joseph.html

تقصير الرابط:
tak.la/8y2wms8