St-Takla.org  >   books  >   fr-angelos-almaqary  >   bible-history-edersheim-1
 

مكتبة الكتب المسيحية | كتب قبطية | المكتبة القبطية الأرثوذكسية

كتاب تاريخ العهد القديم للعلامة ألفريد إدرشيم: الجزء الأول: عالم ما قبل الطوفان وتاريخ رؤساء الآباء الأولين - القمص أنجيلوس المقاري

18- الفصل الثامن عشر: يعقوب في محنايم - ليلة المصارعة - المصالحة بين يعقوب وعيسو - يعقوب يستقر في شكيم - يعقوب يتقدم إلى بيت إيل ليوفي نذره - موت راحيل - يعقوب يستقر في حبرون (تك32-36)

 

الفصل الثامن عشر

يعقوب في محنايم - ليلة المصارعة - المصالحة بين يعقوب وعيسو - يعقوب يستقر في شكيم - يعقوب يتقدم إلى بيت إيل ليوفي نذره - موت راحيل - يعقوب يستقر في حبرون (تك32-36)

 

نحن الآن بالقرب مما يمكن أن نصفه بالنقطة الفاصلة في الحياة الروحية ليعقوب. وإن كان التاريخ السابق لإبراهيم مختلف تمامًا عن الذي ليعقوب، لكن بمعنى من المعاني، ما كانه جبل المريا لإبراهيم، صارته مخاضة يبوق لحفيده: موضع تجربة وحسم، مع فارق وحيد أن واحد مضى إليها بينما الآخر وحده غادرها باسم جديد وكل ما حدث يتضمنه هذا الاسم.

لقاء مخيف قد عبر وولى ومخاطره المحتملة تم تحاشيها. يعقوب في خوفه تسلل هربًا من لابان. لقد تعقبه لابان كعدو، لكن الله جلب السلام في النهاية. فإذ وقف يعقوب بجانب المصفاة التي له، عاين لابان والمتحالفين معه يختفون وراء محيط جلعاد برماحهم وحرابهم اللامعة في ضوء الشمس بينما يقطعون بها شجر الغابات التي تغطي جانب الجبل.

لقد ولى خلفه الآن عدو، لكن يوجد عدو آخر أكثر رعبًا وهولًا لم يتم مقابلته بعد. في تعامله مع لابان كان يمكنه عن حق أن يترافع عن قضيته بخدمته الطويلة والأنانية القاسية للابان. لكن ماذا يمكنه أن يقول لعيسو كعذر أو مبرر للماضي؟ كيف هو سيلتقي به؟ وهل أخيه لا يزال متمسكًا بحرارة بفكرة الانتقام التي هرب هو منها منذ عشرين سنة مضت؟

عن هذه الأسئلة لم تكن هناك مطلقًا أي إجابة سوى الإجابة التي يمكن للإيمان وحده أن يدركها: أنه لو يعود الآن إلى وطنه ويواجه الخطر الذي ينتظره فيه، فإن عودته كانت بأمر واضح وصريح من الرب شخصيًا. فلو الأمر هكذا، يلزم أن يكون يعقوب في أمان وسلام. بل هو لم يتعوق طويلًا في تلقي مثل هذا الضمان والطمأنينة التي بها يمكن أن يتقوى إيمانه.

فإذ ترك جبال جلعاد، دخل يعقوب أرض الموعد في الجزء الذي كان له أن يصير فيما بعد في ملكية سبط جاد. وهنا انفتح أمامه منظر خلاب ومشهد رائع. فقد عاين جمال ودرجة إثمار ونضارة الخضرة وغنى المراعي الدسمة وغابات الجبل الداكن فوقه، والوديان الخصبة أسفل، أمور لم تعرفها أرض فلسطين المسكينة فيما بعد لقرون طويلة بعد أن تجردت من أشجارها ومع تجردها من أشجارها تجردت من رطوبتها فباتت أرض خرائب وأطلال.

فهناك عند دخوله الأرض "لاقاه ملائكة الله" (تك 32: 1). لقد مرت سنوات عشرين عندما في مغادرته للأرض لاقوه في بيت إيل، وإن جاز لنا القول صاحبوه في رحلته. والآن بعربون مشابه رحبوا به عند عودته، مع فارق وحيد وهو أنهم هناك كانوا صاعدين ونازلين في خدمتهم بينما هم هنا كانوا "جيش الله" ليدافعوا عنه في النزاع الوشيك، من ثمَّ أيضًا دعا يعقوب اسم الموضع محنايم أي جيشين أو معسكرين.

وإن كان هو رآهم في بيت إيل في حلم، الآن ظهروا له وهو مستيقظ كما لو كانوا يودون نقل طمأنينة أقوى. وفي الواقع تعزية كهذه كان يعقوب في أمس الحاجة لها. من محنايم أرسل هو إلى عيسو أخيه رسالة يبتغي بها مصالحته. لكن الرسل عادوا بلا أي رد سوى أن عيسو قادم لملاقاة أخيه على رأس أربعمائة رجل. كان هذا يقينًا إنذارًا كافيًا للخطر بغض النظر عن واقع الأمر في حقيقته، حيث إن عيسو (كما سوف نبين سريعًا) كان منهمكًا آنذاك في حملة عسكرية ضد سعير، والأربعمائة رجل الذين يتقدمهم، ربما اجتمعوا حول رايته للنهب وسفك الدم مثلما هو حال قبائل البدو الوحشية التي تحمل معها الرعب إلى هذا اليوم أينما يظهرون.

فحتى عدم تلقيه أي رد على الإطلاق سيكون في حد ذاته امتحان عظيم ومحنة شديدة لشخص كيعقوب. إلى هنا هو نجح بحيله في إزالة كل عقبة وتحاشي كل خطر. أما الآن فقد كان عاجزًا تمامًا في مواجهة عدو لا يمكنه أن ينسحب أو يهرب منه.

St-Takla.org Image: Jacob meets Esau (Genesis 33: 4), by Peter Paul Rubens. - from "The Bible and its Story" book, authored by Charles Horne, 1909. صورة في موقع الأنبا تكلا: يعقوب يلتقي عيسو (التكوين 33: 4)، رسم بيتر بول روبنز.- من كتاب "الإنجيل وقصته"، إصدار تشارلز هورن، 1909 م.

St-Takla.org Image: Jacob meets Esau (Genesis 33: 4), by Peter Paul Rubens. - from "The Bible and its Story" book, authored by Charles Horne, 1909.

صورة في موقع الأنبا تكلا: يعقوب يلتقي عيسو (التكوين 33: 4)، رسم بيتر بول روبنز.- من كتاب "الإنجيل وقصته"، إصدار تشارلز هورن، 1909 م.

يقول النص المقدس: "فَخَافَ يَعْقُوبُ جِدًّا وَضَاقَ بِهِ الأَمْر" (تك 32: 7). والتدابير التي لجأ إليها تبرهن ذلك. فهو قسم قافلته إلى جيشين على رجاء أنه لو هاجم عيسو مجموعة يمكن للأخرى أن تهرب أثناء ذلك. والنتيجة التي كان يهدف إليها مشكوك فيها وعلى أفضل الأحوال محزنة بما فيه الكفاية.

ويلزم أن يعقوب شعر بهذا بعمق، فلجأ إلى الصلاة. فإذ خلط اعترافه بعدم استحقاقه مطلقًا مع توسل للنجاة من الخطر الماثل أمامه، تابع توسله أمام الله بكونه راجع إلى كنعان بناء على أمر صريح منه ومتعشمًا في مراحمه السابقة ووعوده الكريمة، وفي نفس الوقت مخاطبًا الله بكونه الرب إله عهد لإبراهيم وإسحق. لا يمكن لواحدة من هذه الحجج أن تخيب. صرخة اليأس هذه كانت مقدمة لما تلى: لقد تعلم يعقوب الآن أن يحصل على ما وعده الرب به مما لن يحصل عليه بجهوده.

نحن نعلم تقريبًا بيقين تام البقعة ذاتها التي تم فيها هذا الحدث الهام في حياة يعقوب. لقد كان هذا عند مخاضة يبوق، نقطة التقاء نهيرين يتدفقان من الشرق إلى الأردن بين بحر الجليل والبحر الميت وتقريبًا في منتصف المسافة بين هاتين النقطتين. وفي الواقع لا يوجد سوى مخاضة يبوق واحدة "ممكن استخدامها" و"بل هنا" كما سجل مسافر سائح حديثًا: "تيار قوي يصل إلى سرج الحصان"(43).

إن جمال وخصوبة كل المنطقة مدهشة جدًا، فالمنظر كمثل حديقة جميلة فيها أراضي فضاء تتوزع بطريقة غير منتظمة مع المناطق التي تغطيها محاصيل غنية، تتجمع فيها الأشجار مع شجيرات في تنوع بديع ثم تنساب إلى وادي الأردن الكبير بخضرواته التي تنمو في جو مداري وما وراءها تلال فلسطين. ومن يتطلع من أعلى إلى المخاضة، غدير يبوق يكاد يكون غير مرئي من كثافة النباتات التي تغطي شواطئه، بينما على جوانبه المنحدرة، أعلى طريق منهما، تتشابك غابات البلوط مع البلوط دائم الخضرة.

لقد كانت ليلة أمضاها يعقوب في هذا الخلوة. وفوق رأسه تلمع نجوم لا تُعد من الكثرة، لتجسد عربون الوعد لإبراهيم. إن الصمت المؤثر كانت تقطعه فقط مياه يبوق المندفعة وإنزال القطعان عند اجتيازها عبره أو الإعداد لنقل النساء والأطفال والعبيد.

إن الأعداد الكبيرة من الماشية والغنم التي أرسلها يعقوب الآن أمامه في مجموعات منفصلة، لكي كل قطيع منها يجئ الواحد بعد الآخر كهدية من أخيه إليه، قد تنجح في تهدئة مشاعر غضبه القديم أو تلبي جشع تابعيه. أخيرًا كلها مضت إليه وكل راعي قطيع منها يحمل رسالة سلام. والنساء والبنين أيضًا عسكروا بسلام في الجزء الجنوبي من يبوق.

يعقوب وحده بقي على الشاطئ الشمالي له. لقد كان الوقت وقت خلوة "فَبَقِيَ يَعْقُوبُ وَحْدَهُ"، لوحده تمامًا مثلما كان حاله عندما خرج من بيت أبيه في البدء. هناك على أعشاب شواطئ يبوق حدث ما كان له أن يكون على الدوام الحدث الذي له أعمق وأعظم مغزى لكنيسة الله. هناك "صَارَعَهُ إِنْسَانٌ حَتَّى طُلُوعِ الْفَجْر"، وذلك الإنسان كان ملاك الرب الذي فيه كانت حضرة الله.

"وَلَمَّا رَأَى أَنَّهُ لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ ضَرَبَ حُقَّ فَخْذِهِ فَانْخَلَعَ حُقُّ فَخْذِ يَعْقُوبَ فِي مُصَارَعَتِهِ مَعَهُ". ويلزم أن المصارعة صارت مستحيلة الآن بعد خلع حق فخذه. لكن نشأت مصارعة أخرى أشد. "وَقَالَ: "أَطْلِقْنِي لأَنَّهُ قَدْ طَلَعَ الْفَجْرُ". فَقَالَ: "لاَ أُطْلِقُكَ إِنْ لَمْ تُبَارِكْنِي". لقد تعرف يعقوب الآن على شخصية من صارعه ومغزى المصارعة، فسعى لنصرة من نوع آخر وبوسيلة مختلفة تمامًا عما سبق.

هو لم يعد يتوقع بعد أن يغلب بقوته. فسأل البركة ممن صارعه إلى الآن فقط بقصد أن يغلبه. فأُعطيت له البركة. لكن الرب أستحضر أمامه أولًا ماذا كان اسمه القديم كتعبير عن تاريخه وسيرته القديمة: يعقوب "أي المخادع والقناص"، ثم أسبغ عليه اسم جديد يميز خبرته الجديدة ومصارعته الأفضل بالصلاة: إسرائيل "رئيس مع الله". بهذه الشخصية الجديدة ستكون له "قوة مع الله والبشر" ويتغلب على كل أعدائه. لكن الاسم السري للملاك يلزمه ألا يعرفه بعد، لأن "سر التقوى" لم يكن له أن يُستعلن تمامًا إلى أن تتحقق كل المقاصد التي لأجلها كان ليعقوب أن يصير إسرائيل.

ثم "وَبَارَكَهُ هُنَاكَ". "فَدَعَا يَعْقُوبُ اسْمَ الْمَكَانِ "فَنِيئِيلَ (أي وجه الله)" قَائِلًا: "لأَنِّي نَظَرْتُ اللهَ وَجْهًا لِوَجْهٍ وَنُجِّيَتْ نَفْسِي". "وَأَشْرَقَتْ لَهُ الشَّمْسُ إِذْ عَبَرَ فَنُوئِيلَ وَهُوَ يَخْمَعُ عَلَى فَخْذِهِ. لِذَلِكَ لاَ يَأْكُلُ بَنُو إِسْرَائِيلَ عِرْقَ النَّسَا الَّذِي عَلَى حُقِّ الْفَخِْذِ إِلَى هَذَا الْيَوْمِ". وعبارة "إِلَى هَذَا الْيَوْمِ" حرفيًا تعني أن بني إسرائيل يراعون هذه العادة ويحرصون على تطبيقها.

والآن ماذا كان معنى هذه الحادثة المهيبة؟

يقينًا كانت رمزية، لكن رمزية لماذا؟ لقد كانت حادثة حقيقية، لكنها رمزية من جهة ماضي وحاضر ومستقبل يعقوب. الإنسان الذي كان يصارع مع يعقوب حتى مطلع الفجر كان الرب.

← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.

نعم كان يعقوب الوارث المؤمن للمواعيد، لكن على مدى حياته هو صارع مع الله، سعى لأن يدرك النجاح بقوته وحيله الشخصية. وإذ كان يبدو أنه يصارع مع إنسان، كان هو في حقيقة الأمر يصارع مع الله. وفي النهاية مزيد من الصراع كان مستحيلًا.

صار يعقوب عاجزًا، لأن الله لمس حق فخذه. في محضر عيسو كان يعقوب عاجزًا. لكن قبل أن يمكنه ملاقاة أكثر عدو أرضي لدود له، يلزمه أن يلتقي بالله الذي معه كان على الدوام يصارع وإن كان لا يدري ينازعه بصراعاته وحيله. لم يكن الصراع مع عيسو يساوي شيء، بينما الذي مع الرب يساوي كل شيء.

لم يستطع الرب أن يكون إلى جانب يعقوب إلا بعد أن صار عاجزًا وتعلم أن يستخدم أسلحة غير تلك التي كان يستخدمها في مصارعته. آنذاك تعرّف يعقوب مع من كان يصارع إلى هذا الوقت. الآن هو لجأ إلى أسلحة أخرى، بل إلى الصلاة، فبحث ووجد نصرًا آخرًا، وجده في بركة الرب وقوته. آنذاك أيضًا حقًا عند طلوع الفجر نال أسمًا جديدًا ومعه قوة جديدة بها جاهد مع الله والناس وغلب.

نعم يعقوب كان "يخمع على فخذه"، لكنه كان آنذاك إسرائيل، رئيس مع الله. ولا يزال لكل العصور هذه المصارعة وهذا الانتصار، في يأسنا من جهودنا وبالصلاة المثابرة: "لاَ أُطْلِقُكَ إِنْ لَمْ تُبَارِكْنِي" كانت ولا تزال أكثر رمز ثمين لأبناء الله.

ألا يمكننا أن نضيف أيضًا أنه كما أشار هوشع النبي إليها كرمز لتاريخ إسرائيل (هو 12: 4)، لذلك هي ستتحقق بالتمام "فَيَنْظُرُونَ إِلَيَّ الَّذِي طَعَنُوهُ وَيَنُوحُونَ عَلَيْهِ كَنَائِحٍ عَلَى وَحِيدٍ لَهُ وَيَكُونُونَ فِي مَرَارَةٍ عَلَيْهِ كَمَنْ هُوَ فِي مَرَارَةٍ عَلَى بِكْرِهِ" (زك 12: 10)؟.

بمجرد أن اجتاز يعقوب مخاضة يبوق في الصباح الباكر، كان بريق الرماح والحراب في أشعة الشمس تتسلل من بين غابات الصنوبر الداكنة لتعلن عن مقدم عيسو ومعه رجاله الأربعمائة. لكن يعقوب لم يعد لديه شيء يخشاه، فقد انتهى فعلًا الصراع الحقيقي الوحيد.

كان من الضروري عند عودة يعقوب لامتلاك الأرض والمواعيد أن كل ما كان ماضي في تاريخه لابد أن يكون في طي الماضي، وفعلًا كان الأمر هكذا! إطلاقًا لم يصارع يعقوب بعد تلك الليلة مرة ثانية بالأسلحة الجسدية وإن كان اسمه القديم يعقوب يظهر مرارًا وتكرارًا بجانب اسمه الجديد، فقد كان هذا لتذكيره وإيانا أن يعقوب وإن كان يخمع لكنه ليس ميت، وأنه يوجد فينا على الدوام الطبيعة الثنائية التي ليعقوب والتي لإسرائيل.

وما تلى الآن لا يمكننا أن نخبر به أفضل من الكلمات التي كتبها كاتب ألماني حديث: "يعقوب الذي في مصارعته مع ملاك الرب غلب بالصلاة والتوسل، الآن أيضًا يغلب بالتواضع والوادعة أمام عيسو الذي جاء ليلاقيه بأربعمائة رجل".

كما أشرنا من قبل، ربما كان عيسو كان للتو مشتبكًا في تلك الحملة العسكرية ضد سعير والتي نتج عنها استيلائه على الأرض التي استقر فيها فيما بعد (تك 36: 6، 8). هذا يعلل لظهوره على رأس جماعة مسلحة. وربما قد يكون في نفس الوقت قد رغب أن يكون له نقمة بث القلق والانزعاج في قلب أخيه وأن يبين له الفرق بين مكانة كل واحد منهما، أو هو قد يكون إلى آخر لحظة لم يحسم أمره بعد كيف له أن يتصرف مع أخيه.

على كل حال، تحت تأثير تحكم الله وهيمنته ولكونه غُلب من تواضع يعقوب وبرقة قلبه، "رَكَضَ عِيسُو لِلِقَائِهِ وَعَانَقَهُ وَوَقَعَ عَلَى عُنُقِهِ وَقَبَّلَهُ" (تك 33: 4). وبتمنع قبل عيسو الهدايا السخية التي قدمها يعقوب وعرض عليه أن يرافقه لنهاية رحلته برجاله المسلحين، وهو عرض رفضه يعقوب بروح ودية. هكذا الأخوين بعد فراق وخصام طويل تصالحا مع بعضهما البعض. وبقيت المودة والتفاهم الطيب بينهما بدون تكدير إلى يوم وفاتهما.

لم يكن هناك شيء في لهجة يعقوب مع أخيه عند ترجمتها من النمط الشرقي إلى نمطنا الغربي من جهة السلوك والتعبير لا تتوافق مع احترام الذات كما ينبغي. فإن كان هو رفض العرض بحرس مسلح فهذا لأنه شعر بعدم احتياجه لجيش أرضي لحمايته. بالإضافة إلى ذلك كان من الواضح استحالة مواكبة الماشية والأطفال الصغار لمسير جماعة من البدو المحاربين.

لذلك بينما عاد عيسو إلى جبل سعير حيث هناك ينتظر زيارة من أخيه يعقوب، فإن يعقوب توجه إلى الشمال الغربي باتجاه سكوت وهي موضع لا يزال شرق الأردن، وفيما بعد صارت من نصيب سبط جاد. وربما هو هنا أقام لفترة طويلة لأننا نقرأ أنه "َبَنَى لِنَفْسِهِ بَيْتًا وَصَنَعَ لِمَوَاشِيهِ مِظَلَّاتٍ" ومنه أيضًا اُشتق الاسم سكوت (الذي يعني بالعبرية مظلات סֻכּוֹת).

 أخيرًا عبر يعقوب نهر الأردن مرة ثانية، "ثُمَّ أَتَى يَعْقُوبُ سَالِمًا إِلَى مَدِينَةِ شَكِيمَ الَّتِي فِي أَرْضِ كَنْعَانَ" (تك 33: 18). ويبدو أن هذه الكلمات تم اختيارها خصيصًا لتشير إلى أن الله حقق بالتمام ما طلبه منه يعقوب في بيت إيل: "ورجعت بسلام إلى بيت أبي يكون الرب لي إلهًا" (تك 28: 21).

لكن تغيرات عظيمة قد حدثت في أرض كنعان. فعندما دخل إبراهيم الأرض وجعل هذا الموضع أول سكن له، لم تكن هناك مدينة في هذا الموضع، بل كان الموضع يُدعى "موضع شكيم" (تك 12: 6). أما الآن فالمنطقة كلها تم زراعتها وامتلاكها وبُنيت مدينة، ربما بواسطة حَمُورَ الْحِوِّيِّ، والد شكيم التي أطلق عليها اسم ابنه (قارن تك 4: 17).

ومن مِنْ يَدِ بَنِي حَمُورَ وَابْتَاعَ يعقوب قِطْعَةَ الْحَقْلِ الَّتِي نَصَبَ فِيهَا خَيْمَتَهُ. وهذا كان النصيب الذي أعطاه يعقوب فيما بعد لابنه يوسف (تك 48: 22)، وهنا على الأقل لبعض الوقت "عِظَامُ يُوسُفَ الَّتِي أَصْعَدَهَا بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْ مِصْرَ دَفَنُوهَا فِي شَكِيمَ" (يش 24: 32).

وما هو أكثر أهمية جدًا من كل هذا، أن نعرف أنه بجانب البئر الذي حفره يعقوب هناك، جلس بعد ذلك بعدة قرون أعظم أبناء داود ليخبر المرأة السامرية الخاطئة والمسكينة بخصوص "ينبوع الماء الذي ينبع إلى حياة أبدية"، وهي أول امرأة غير يهودية بوركت بتذوق المياه التي كل من يشربها لا يعطش إلى الأبد (يو 4: 14). يعقوب "أَقَامَ هُنَاكَ مَذْبَحًا وَدَعَاهُ "إِيلَ إِلَهَ إِسْرَائِيلَ" (تك 33: 20).

لكن مكوثه في شكيم برهن أنه مصدر جديد للتجربة ليعقوب. فإن دينة ابنته التي كانت في ذلك الوقت تبلغ (بحسب استنتاجنا) من العمر حوالي خمسة عشر سنة، وبلغة النص المقدس: "خَرَجَتْ لِتَنْظُرَ بَنَاتِ الأَرْضِ"، أما يوسيفوس المؤرخ اليهودي فيخبرنا أنها خرجت لتشارك في عيد لأهل شكيم.

يكاد لا يمكننا أن نعطي تحذيرًا أكثر رعبًا من هذا الذي قدمته لنا نتائج طياشتها ومشاركتها التي تستحق كل لوم في احتفالات غير دينية بل لأعياد وثنية. فهذه المغامرة أدت إلى ضياع دينة ذاتها، ثم إلى عرض بالمصاهرة والتحالف بين الحويين وإسرائيل، والذي لم يمكن لإسرائيل بالطبع أن توافق عليه، وأخيرًا أدى إلى خداع خسيس من جانب شمعون ولاوي بقصد الانتقام الدموي المفرط والذي بمقتضاه تم قتل كل ذكر في مدينة شكيم.

← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.

كم جزعت بشدة نفس يعقوب من هذه القسوة الشرقية فهذا يتضح من حقيقة أنه حتى على فراش موته بعد ذلك بسنوات كثيرة، رجع لتذكر الأمر بهذه الكلمات: "شَمْعُونُ وَلاَوِي أَخَوَانِ. آلاَتُ ظُلْمٍ سُيُوفُهُمَا. فِي مَجْلِسِهِمَا لاَ تَدْخُلُ نَفْسِي. بِمَجْمَعِهِمَا لاَ تَتَّحِدُ كَرَامَتِي!" (تك 49: 5-6).

لكن كانت هناك نتيجة واحدة للجريمة وإن كانت غير مقصودة برهنت أنها بركة إضافية ليعقوب. لقد أتضح تمامًا أنه يلزم ليعقوب ولبيته أن ينتقل من مسرح خيانة وقسوة شمعون ولاوي. آنذاك أمر الله يعقوب أن يعود إلى بيت إيل ويوفي النذر الذي قطعه هناك عند هربه من وجه عيسو أخيه.

يلزم أنه مرت حوالي عشر سنوات منذ عودة يعقوب من أرض ما بين النهرين وإلى الآن لم يوف نذوره للرب! مما تلى من أحداث يمكننا أن نستنتج أنه من المرجح جدًا أن سبب هذا التأخير يرجع إلى كون أسرة يعقوب لم تتطهر بعد من عبادة الأوثان، وأنه إلى الآن كان يعقوب أضعف من أن يزيل من أهل بيته ما يلزم أنه جعل ظهوره في بيت إيل أخلاقيًا وأدبيًا غير ممكن.

لكننا نقرأ الآن: "فَقَالَ يَعْقُوبُ لِبَيْتِهِ وَلِكُلِّ مَنْ كَانَ مَعَهُ: "اعْزِلُوا الآلِهَةَ الْغَرِيبَةَ الَّتِي بَيْنَكُمْ وَتَطَهَّرُوا وَأَبْدِلُوا ثِيَابَكُمْ (هذه علامة التطهير). وَلْنَقُمْ وَنَصْعَدْ إِلَى بَيْتِ إِيلَ... فَأَعْطُوا يَعْقُوبَ كُلَّ الْآلِهَةِ الْغَرِيبَةِ الَّتِي فِي أَيْدِيهِمْ وَالأَقْرَاطَ الَّتِي فِي آذَانِهِمْ فَطَمَرَهَا يَعْقُوبُ تَحْتَ الْبُطْمَةِ الَّتِي عِنْدَ شَكِيمَ (تك 35: 2-3، 5).

وتم تسجيل حادثة مؤثرة عقب وصولهم مباشرة إلى بيت إيل: "وَمَاتَتْ دَبُورَةُ مُرْضِعَةُ رِفْقَةَ وَدُفِنَتْ تَحْتَ بَيْتَ إِيلَ تَحْتَ الْبَلُّوطَةِ فَدَعَا اسْمَهَا "أَلُّونَ بَاكُوتَ" [أي بلوطة البكاء]" (تك 35: 8). هكذا خدمة دبورة الطويلة والأمينة لبيت إسحق وبكاء الأسرة على صديقة الأسرة العجوز والمحنكة قد أُعتبرت جديرة بتذكار أبدي في كتاب الله!

لكن من حادثة موت دبورة في بيت يعقوب، يمكننا أن نستنتج ليس فقط أن سيدتها رفقة قد ماتت، بل أيضًا أنه يلزم وجود اتصالات بين إسحق ويعقوب منذ رجوعه إلى أرض كنعان. من المرجح جدًا أن يعقوب كان يزور والده الشيخ وإن كان السفر لا يذكر هذا، لأن خبر كهذا لا علاقة له البتة بتاريخ العهد.

في بيت إيل ظهر الله مرة أخرى ليعقوب، وبينما مرة أخرى أسبغ عليه اسم إسرائيل ومواعيد العهد التي سبق إعطائها، فإن يعقوب أيضًا وفى نذره للرب، ومن جانبه جدد كذلك تخصيص الموضع ودعا اسم الموضع "بيت إيل".

ومن بيت إيل واصل ترحاله تجاه ممرا موضع سكن إسحق. وفي الطريق على مسافة من أفراتة "المثمرة" والتي في أزمنة متأخرة دُعيت "بيت لحم" أي "بيت الخبز" (مي 5: 2)، ماتت راحيل وهي تلد الابن الثاني عشر ليعقوب. كانت رغبة أمه أن تدعوه "بن أوني" أي "ابن حزني"، لكن أباه أسماه "بنيامين"، وهو الاسم الذي أُعطي تفسيرات متنوعة لمعناه: "ابن يدي اليمنى، ابن الأيام، أي الشيخوخة، وابن السعادة"، لأنه أكمل عدد الاثنى عشر ابنًا.

ومن (إر 31: 15) يمكننا أن نستنتج أن راحيل ماتت فعليًا في الرامة. "فَنَصَبَ يَعْقُوبُ عَمُودًا عَلَى قَبْرِهَا". وكما كانت نخلة دبورة(44) لا تزال معروفة في زمن القضاة، عندما دبورة القاضية الاسم الآخر الأعظم الذي تسمت به جلست تحت ظلها "بين الرامة وبيت إيل في جبل أفرايم" (قض 4: 5)، كذلك العمود الذي كان يميز قبر راحيل كان علامة معروفة في زمن صموئيل (1صم 10: 2-3).

جريمة أخرى دنست عائلة يعقوب عند مجدل عدر (وتعني برج مراقبة القطيع)، وكنتيجة لها حُرم رأوبين من امتيازات البكورية (تك 49: 4).

أخيرًا وصل يعقوب إلى نهاية رحلته: "وَجَاءَ يَعْقُوبُ إِلَى إِسْحَاقَ أَبِيهِ إِلَى مَمْرَا قَرْيَةِ أَرْبَعَ الَّتِي هِيَ حَبْرُونُ حَيْثُ تَغَرَّبَ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْحَاقُ" (تك 35: 27). وهنا يتوقف السفر ليسجل على سبيل التوقع مقدمًا موت إسحق عن عمر 180 سنة، مع أن الحدث تم بعد 12 سنة من وصول يعقوب إلى حبرون، وفي الواقع عاش إسحق ليشارك حزن أبنه، عندما بيع يوسف في مصر، ولم يمت سوى قبل عشر سنوات من استقرار يعقوب وبنيه في مصر(45).

لكن مسار التاريخ المقدس تحول من إسحق وفي الواقع يعقوب نفسه صار الآن مجرد ممثل ثانوي في أحداثه. فالاهتمام الرئيسي من الآن فصاعدًا سوف يتركز حول يوسف الابن الأكبر لراحيل، والذي بحياته يرتبط خط سير التاريخ المقدس.

_____

الحواشي والمراجع لهذه الصفحة هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت:

(43) انظر الوصف في كانون تراسترام "أرض إسرائيل" ص470-563.

(44) واضح هنا أن الكاتب يود أن يرجع نسبة مخلة دبورة في سفر القضاة إلى دبورة مرضعة رفقة.

(45) من حيث أن يعقوب كان عمره 77 سنة عندما مضى إلى ما بين النهرين، فيلزم أن عمره كان 108 سنة عند عودته إلى حبرون، بينما إسحق كان عمره في ذلك الوقت فقط 168 سنة، حيث أن يعقوب ولد عندما كان عمر أبيه ستين سنة كما يظهر من (تك 25: 26). لكن من المناسب أن نضيف أن دكتور هيرالد بروني يقدم جدول تاريخي آخر لحياة يعقوب (بحسب كينّوت وهورسلي)، وهو الجدول الذي سيجعل عمر يعقوب أصغر بعشرين سنة، فيكون عمره 57 سنة عند هروبه إلى فدان آرام.

(See Bible Commentary, vol. 1. pp. 177, 178.)


الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع

https://st-takla.org/books/fr-angelos-almaqary/bible-history-edersheim-1/jacob-mahanaim.html

تقصير الرابط:
tak.la/k6java8