St-Takla.org  >   books  >   fr-angelos-almaqary  >   bible-history-edersheim-1
 

مكتبة الكتب المسيحية | كتب قبطية | المكتبة القبطية الأرثوذكسية

كتاب تاريخ العهد القديم للعلامة ألفريد إدرشيم: الجزء الأول: عالم ما قبل الطوفان وتاريخ رؤساء الآباء الأولين - القمص أنجيلوس المقاري

20- الفصل العشرون: يوسف في السجن - حلم موظفي فرعون - حلم فرعون - ترقية يوسف - حكمه لمصر (تك 40-41؛ 47: 13-26)

 

الفصل العشرون

يوسف في السجن - حلم موظفي فرعون - حلم فرعون - ترقية يوسف - حكمه لمصر (تك 40-41؛ 47: 13-26)

 

مرت أحد عشر سنة منذ بيع عبدًا في مصر، ولكن الوعد الذي نقله الله له في حلميه بدا أبعد من أن يتحقق بالمرة. فالجزء الأكبر من هذا الوقت الممل قد يكون تم قضائه في السجن بدون أي مستقبل آخر سوى مثل هذا التساهل الذي توفره له خدماته لحافظ السجن، عندما حدث حادث قصير المدة وعد بتغيير في حالة يوسف. نوع من الإساءة -حقيقي أو وهمي- حدث، -كما هو الحال في الشرق كثيرًا- أدى إلى مهانة فجائية وحبس لاثنين من كبار موظفي فرعون.

من الطبيعي أن التعهد بأمر رئيس السقاة ورئيس الخبازين يؤول إلى رئيس الشرط، والذي نخمن أنه خليفة فوطيفار، حيث أنه عين يوسف ليكون خادم شخصي يقضي طلباتهما. وهما لم يمضيا وقتًا طويلًا عندما بتوجيه مباشر من العناية الإلهية حلما في نفس الليلة حلمًا كان محسوب له أن يؤثر عليهما. بنفس التوجيه والإرشاد المباشر للعناية الإلهية، قاد الله يوسف أن يلاحظ في الصباح قلقهما وأن يستفهم عن سببه.

ونحن نعتبر أن الأمر من الله مباشرة أنه أمكنه أن يعطيهما في الحال وبدون تردد المعنى الحقيقي لحلميهما. نحن نندهش بالأخص في هذا الأمر بالأسلوب الذي به تصور الموقف. فعندما وجدهما في انزعاج وضيق لعوزهما لمفسر للأحلام، مثلما كان في مقدورهما لو كانا حرين وغير مسجونين، فأشار عليهما مباشرة إلى الله: "أَلَيْسَتْ لِلَّهِ التَّعَابِيرُ؟" بهذا شجعهما على أن يخبراه "قُصَّا عَلَيَّ"، وفي نفس الوقت يعد نفسه لقراءة وتفسير حلميهما بإلقاء كل شيء إيمانًا واتكالًا على الله.

وباختصار إن كان هو في النهاية سيتمكن أو لا يتمكن من فهم حلميهما، فهو على الأقل لن يظهر كمثل سحرة مصر، هو لن يدّعي أن له قوة أو حكمة، هو سيقر ويعترف بالله ويتطلع إليه.

كوننا نقول بثقة أكثر إن تفسير يوسف للحلم جاءه من الله مباشرة، ذاك يبدو في منتهى السهولة وعقلاني جدًا. لأنه في التوجيه فائق الطبيعة للأشياء الطبيعية يلزمنا بالأكثر أن نتعرف على التدخل المباشر للرب. كانت الأحلام طبيعية تمامًا، والتفسير طبيعي تمامًا - لكن كليهما من الله مباشرة. أي شيء أكثر طبيعية من كون رئيس السقاة ورئيس الخبازين، اللذين يعرفا أن فرعون تعود في عيد ميلاده الذي يحين بعد ثلاثة أيام أن يقيم وليمة لجميع عبيده، فيحلم كل واحد منهما أنه يرجع إلى وظيفته مرة ثانية؟ وأي شيء أكثر طبيعية أنه في مثل هذه المناسبة كان لفرعون أن ينظر إن كان للخير أو الشر في حالة موظفيه الغائبين في السجن؟ ثم أخيرًا، أي شيء أكثر طبيعية كون رئيس السقاة لكونه شاعر ببراءته يقترح في حلمه أنه راجع مرة أخرى يخدم سيده الملك، بينما الضمير المذنب لرئيس الخبازين لا يرى سوى الطيور تنهش من السلال التي كان يقدم منها على مائدة سيده؟(50)

لذا يمكن أن يُقال هنا أنه لدينا كل عناصر تفسير يوسف حاضرة أمامنا، مثلما بالضبط سنراها بنفس الوضوح في الأحلام التي أزعجت فيما بعد فرعون. لكن كما أن هناك لم يستطع أحد من سحرة وحكماء مصر تفسير وقراءة الشيء الذي بمجرد تقريره بدا مُفسرًا بمنتهى الوضوح، كذلك هنا الكل يبدو ملتحفًا بالحيرة والارتباك إلى أن يعطي الله ضوء.

كما قررنا قبلًا، الحلمين لهما نفس الجوهر. في كل حالة العدد ثلاثة، سواء الثلاثة عناقيد في الكرمة التي منها عصر رئيس السقاة عصيرًا دسمًا في كأس فرعون، أو السلال التي أخذ منها رئيس الخبازين طعامًا لفرعون، وهذه تشير إلى ثلاثة أيام تفصل الحلم عن عيد ميلاد فرعون.

St-Takla.org Image: Joseph interprets the dreams of pharaoh's servants in prison. - from "Standard Bible Story Readers" book, Lillie A. Faris. صورة في موقع الأنبا تكلا: يوسف يفسر أحلام عبيد فرعون في السجن. - من كتاب "قراء قصص الكتاب المقدس الأساسية"، ليلي أ. فارس.، ليلي أ. فارس.

St-Takla.org Image: Joseph interprets the dreams of pharaoh's servants in prison. - from "Standard Bible Story Readers" book, Lillie A. Faris.

صورة في موقع الأنبا تكلا: يوسف يفسر أحلام عبيد فرعون في السجن. - من كتاب "قراء قصص الكتاب المقدس الأساسية"، ليلي أ. فارس.، ليلي أ. فارس.

أيضًا في كل حالة من الاثنين أرجعتهما الأحلام إلى وظيفتهما قبل التهمة التي وجهت إليهما، والفرق يكمن في هذا أنه في حلم قبل فرعون ما قدمه الساقي بينما في الآخر كانت الجوارح تأكل من السلة. أيضًا من الطبيعي تمامًا أنه لو كان رئيس السقاة ضميره حسن تجاه سيده يكون في أهبة الاستعداد لأن يكون أول من يخبر بحلمه، بينما رئيس الخبازين الذي يشعر بالجرم والذنب يسرد حلمه فقط عندما يتشجع بالتفسير المستحسن ظاهريًا لزميله.

ربما يلزمنا أيضًا أن نلاحظ كدليل على صدق الرواية كم أنها مصرية تمامًا في كل تفاصيلها الدقيقة الصورة التخيلية لهذين الحلمين. فمن الآثار المصرية تبرهن بوفرة نمو واستخدام الكروم في مصر، هذه التي أنكرها خصوم سابقون للكتاب المقدس.

من نفس المصدر أيضًا يمكننا أن نعرف أن صناعة الخبز والحلويات وصلت إلى تطور هائل في مصر حتى أنه يمكننا تفهم وجود مثل هذه الوظيفة: رئيس الخبازين الملكي. بل إن حمل السلال يهيئ سمة مميزة، إذ في مصر يحمل الرجال أحمالهم على رأسهم بينما النساء على أكتافهم!

برهنت الأحداث صحة تفسير يوسف. ففي يوم عيد ميلاد فرعون بعد ثلاثة أيام من وقوع الحلمين، استرد رئيس السقاة وظيفته بينما تم إعدام رئيس الخبازين.

عند تفسيره الحلم طلب يوسف من رئيس السقاة -الذي هو نفسه كابد تهمة ظالمة- أنه يذكره بعد استرداد مكانته السابقة وقال له بترجي: "وَإِنَّمَا إِذَا ذَكَرْتَنِي عِنْدَكَ حِينَمَا يَصِيرُ لَكَ خَيْرٌ تَصْنَعُ إِلَيَّ إِحْسَانًا وَتَذْكُرُنِي لِفِرْعَوْنَ وَتُخْرِجُنِي مِنْ هَذَا الْبَيْتِ. لأَنِّي قَدْ سُرِقْتُ مِنْ أَرْضِ الْعِبْرَانِيِّينَ. وَهُنَا أَيْضًا لَمْ أَفْعَلْ شَيْئًا حَتَّى وَضَعُونِي فِي السِّجْنِ".

يبدو أن كلمات الترجي هذه تشير إلى أن كل ما كان يوسف يترجاه كحد أقصى أن يحصل على حريته وأنه ربما قصد أن يرجع إلى بيت أبيه بعد تحرره. كان هو يجهل جدًا ماذا كانت مقاصد الله الأخرى له! ثم ماذا يكون عبد عبراني مسكين في السجن بالنسبة لموظف متكبر في البلاط الملكي المصري؟ إنه لم يتصرف سوى كما تكونه الطبيعة البشرية في أيام عزها: "لَمْ يَذْكُرْ رَئِيسُ السُّقَاةِ يُوسُفَ بَلْ نَسِيَهُ!".

لقد مرت الآن سنتين أخريين في السجن، ربما بكآبة أكثر ولو نتكلم بطريقة بشرية بمزيد من اليأس عن سابقيها. وفي النهاية جاء الفرج والخلاص فجأة وعلى غير التوقع. هذه المرة كان فرعون شخصيًا هو الذي حلم حلمين على التوالي.

في الحلم الأول كانت سبع بقرات سمينة تأكل من عشب الروضة الدسم على ضفاف النيل، لكن خرجت في الحال من النهر سبع بقرات هزال التهمت البقرات السمينة، لكن بدون أن تصير سمينة بعد أكلها.

والحلم الثاني فيه سبع سنابل طالعة من ساق واحدة سمينة وحسنة وعندما نبتت بجانبها سبع سنابل رقيقة، لكن مع مجيء الريح الشرقية ابتلعت السنابل الرقيقة، السمينة. كان الحلم مُفعم بالحيوية حتى بدا لفرعون كأنه حقيقة، وَاسْتَيْقَظَ فِرْعَوْنُ وَإِذَا هُوَ حُلْمٌ.

كان مجرد حلم ولكن تأثيره لا يزال عالقًا بذهنه حتى أنه انزعج فَأَرْسَلَ وَدَعَا جَمِيعَ سَحَرَةِ مِصْرَ وَجَمِيعَ حُكَمَائِهَا وَقَصَّ عَلَيْهِمْ فِرْعَوْنُ حُلْمَهُ ليفسروه له. لكن أولئك الحكماء عجزوا عن اقتراح أي تفسير مرضي ومقنع لعقل فرعون، لأنه يكاد لا يمكننا أن نصدق أنهم لم يحاولوا تقديم أي تفسير.

وفي أثناء هذه الحيرة والبلبلة انتعشت ذاكرة رئيس السقاة عند رؤية خيبة أمل سيده فتذكر فجأة حلمه وحلم رئيس الخبازين قبل سنتين وتفسير يوسف لهما. يصير الحدث لافت للنظر أكثر وأيضًا طبيعي لو نأخذ حرفيًا التاريخ بكونه "مِنْ بَعْدِ سَنَتَيْنِ مِنَ الزَّمَان" أو بكونه الذكرى السنوية الثالثة لميلاد فرعون (!!!).

وقبل أن نشرع في التعرض للحلمين، نلاحظ بعض التفاصيل التي تعطي الرواية شكلها الحيوي وفي نفس الوقت تفسر بطريقة عجيبة ومدهشة صدقها التاريخي.

وأول كل شيء نلاحظ مرة أخرى الصبغة المصرية المميزة لكل ما ورد. فالنهر هو النيل، النهر المقدس لمصر والذي خصوبتها تعتمد عليه، وفرعون واقف على شواطئه. ثم إن كل بنية وطبيعة الحلمين مصرية كما سنبين حالًا.

علاوة على ذلك من الملاحظ كيف أن الأبحاث الحديثة المستقلة إلى حد بعيد أكدت التعبيرات الكتابية عن السحرة وحكماء مصر. لقد كان معروفًا على الدوام وجود فرقة كهنوتية خاصة في مصر إليها يُعهد ليس فقط ديانة البلاد بل علومها أيضًا. لكن مؤخرًا علمنا قدر كبير أكثر عن هذا.

← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.

نحن نعرف ليس فقط أن السحر كان يشكل جزء هامًا من ديانة مصر، بل أيضًا تمكنا فعليًا من معرفة الطقوس السحرية القديمة ذاتها! نحن نعرف تعويذاتهم وأحجبتهم مع أشارة خاصة للموتى، اعتقادهم بأيام الحظ والنحس وأحداث التشاؤم والتفاؤل بل وما يُعرف بالعين الشريرة.

لكن ما هو الأهم بالنسبة لغرضنا الحالي هو أن نعرف أن الاهتمام بكتب السحر كان يُعهد لفئتين من المتعلمين لقبهما يعادل ما يمكن -للافتقار إلى تعريف أكثر- أن يُجعل سحرة أو ربما "كتبة"، وحكماء!

إذًا أمام هذا الحشد من الأحكم والأكثر علمًا وخبرة في السحرة وأكثر الناس توقيرًا في الكهنة سرد فرعون باطلًا حلميه. نعم هم الأكثر حكمة في هذا العالم، لكنهم الأكثر غباء وحماقة، الأكثر علمًا ولكنهم الأكثر جهلًا!

يا لها من مفارقة بين الخبرة الجليلة والعتيقة لمصر والعبد العبراني المسكين الذي تم إحضاره من السجن: هم اعترفوا بمزاعمهم أنه بجانب معرفتهم الحقيقية لهم قوات فائقة للطبيعة، بينما هو من البداية أقر بتنكره ورفضه لوجود أية قوة فيه ولجأ واحتكم إلى الله!

لم يصور لنا السفر مشهد أعظم من هذا، ويا له من شرح وتفسير لما كان حقيقي آنذاك، كان حقيقي في أيام ربنا يسوع بالجسد، حقيقي في أيام بولس الرسول وإلى نهاية هذا التدبير: "أَيْنَ الْحَكِيمُ؟ أَيْنَ الْكَاتِبُ؟ أَيْنَ مُبَاحِثُ هَذَا الدَّهْرِ؟ أَلَمْ يُجَهِّلِ اللهُ حِكْمَةَ هَذَا الْعَالَمِ؟" (1كو 1: 20).

ولكن عندما نسمع التفسير من فم يوسف كم هو بسيط بل كم هو ظهر واضحًا واستحوذ على اقتناع فرعون في الحال. من الواضح أن الحلمين لهما نفس المغزى، الأول له صلة بالحياة الرعوية والآخر بالحياة الزراعية في مصر. الأحلام هي عن قطعان الماشية والمحاصيل. في كلا الحلمين يوجد سمنة سبعة أضعاف ثم نحافة سبعة أضعاف، نحافة تبتلع السمنة السابقة ومع ذلك لا تترك أي أثر.

الحلم الثاني يفسر الأول، ومع ذلك الحلم الأول فعليًا يحمل في ذاته تفسيره. لأن البقر في مصر كان يتم توقيره بكونه رمز لإيزيس، إلهة الأرض منعشة ومغذية لها، وفي اللغة الهيروغليفية تؤخذ البقرة بكونها تعني الأرض والزراعة والقوت. فكانت تلك البقرات ترتع وترعى على ضفاف النيل والذي على فيضانه بمفرده يتوقف الأمر إن كانت السنة مثمرة أم هناك مجاعة.

كذلك مصريًا هو وصف الساق بسنابلها الكثيرة والتي هي بالضبط أحد أنواع القمح الذي لا يزال ينمو في مصر. لكن نحن نكرر ثانية أنه إن كان كل هذا يبدو واضح بالنسبة لنا، لكن حكماء مصر وقفوا عاجزين عن الكلام أمام ملكهم!

ونقول ثانية يا لها من شهادة لله عندما أُحضر يوسف على وجه السرعة من المزبلة! وعن تحدي فرعون بقوله: "حَلُمْتُ حُلْمًا وَلَيْسَ مَنْ يُعَبِّرُهُ. وَأَنَا سَمِعْتُ عَنْكَ قَوْلًا إِنَّكَ تَسْمَعُ أَحْلاَمًا لِتُعَبِّرَهَا" ويقصد هنا أن يقول ليوسف: إنك لا تحتاج سوى لأن تسمع الحلم لكي تفسره.

فيجيب يوسف ببساطة وبتشديد لكن بإيمان : "لَيْسَ لِي -التفسير أمر لا يخصني- اللهُ يُجِيبُ بِسَلاَمَةِ فِرْعَوْنَ"، أي يجيب بما فيه سلام للملك.

كما لا يمكننا أن نغفل دليل آخر إضافي على دقة الرواية كلها، عندما نقرأ أنه استعدادًا لظهوره أمام فرعون: حلق، وهذا نعرف من الآثار المصرية أنها كانت خاصية مصرية في ظروف كهذه، بينما بين العبرانيين حلق اللحية كانت يُعتبر علامة مهانة.

قدم يوسف بمنتهى التواضع لكن بحسم تام تفسيرًا بكون الحلمين يشيران إلى سبعة سنوات مثمرة بطريقة لم يسبق لها مثيل، تليها سبع سنوات مجاعة وطأتها شديدة حتى أن الوفرة السابقة كأنها لم تكن، وذاك التفسير لاقى استحسان في الحال لدى فرعون وكل عبيده.

قرن يوسف هذا التفسير بأعظم نصيحة حكيمة، لأنه في لحظة عصيبة كهذه يلزمنا أن نتطلع إلى مصدر أعلى من قدرة وعبقرية الإنسان (انظر مت 10: 18-19). فهو أشار على فرعون أن يأخذ خُمس المحصول في سنوات الوفرة ويخزنه تحت إشراف ملكي لسنوات الجوع السبعة.

لو ننظر إليها بكونها ضريبة، فهذه يقينًا لم تكن ضريبة ثقيلة لو وضعنا في اعتبارنا أنها سنوات وفرة ليس لها مثيل، ولو نظرنا إليها بكونها تدبير مالي حكومي، فقد كانت أكثر نفعًا مقارنة بما يمكننا أن نفترض أنه كان سابقًا مجرد نظام استبدادي للضرائب في حقيقتها كانت ابتزاز يتسم بالطغيان، بينما في نفس الوقت سوف تحفظ الشعب من هلاك تام.

أخيرًا لو ننظر إليها في ضوء ترتيب أعلى من الملاحظ جدًا أن نسبة العطاء هذه من جانب رعايا فرعون، صارت فيما بعد الأساس لما طلبه من إسرائيل الرب ملكهم السماوي(51).

نحن بالكاد يمكننا أن نتعجب كيف أن فرعون لم يعين في الحال مثل هذا المجلس أو أن يشرف على الترتيبات التي قدمها يوسف. في الواقع هو أعطاه حقوق الموطنة والجنسية وجعله نائبه الأول وصرح علانية بتعيينه حاكم على كل الأرض. مرة أخرى كل سمة في الوصف تحمل الصبغة المصرية النقية.

أعطاه فرعون خاتمه: وَخَلَعَ فِرْعَوْنُ خَاتِمَهُ مِنْ يَدِهِ وَجَعَلَهُ فِي يَدِ يُوسُفَ وَأَلْبَسَهُ ثِيَابَ بُوصٍ والتي كانت ثياب النبلاء والكهنة وَوَضَعَ طَوْقَ ذَهَبٍ فِي عُنُقِهِ، وهذه كانت نمط التقلد للوظائف العليا في مصر، وَأَرْكَبَهُ فِي مَرْكَبَتِهِ الثَّانِيَةِ وَنَادُوا أَمَامَهُ "ارْكَعُوا".

ولإكمال عملية تجنيسه تم تغيير اسم يوسف ليصير "صَفْنَاتَ فَعْنِيحَ" والذي في الغالب قد يعني "عاضد الحياة"، أو "طعام الأحياء"، مع أن آخرين جعلوه "مخلّص العالم"، والربيين اليهود جعلوه وإن كان بدون سند كافي "كاشف الأسرار".

أخيرًا لكي يعطيه مكانة بين أعلى نبلاء الأرض أَعْطَاهُ أَسْنَاتَ (كلمة تعني التي من نيت، وهي الإلهة المصرية للحكمة) بِنْتَ فُوطِي فَارَعَ (أي الرئيس المكرس للشمس) كَاهِنِ أُونَ ( مدينة الشمس، العاصمة الدينية والأدبية وربما السياسية للبلاد) زَوْجَة. وهذا جدير بملاحظة أكثر لكون رئيس الكهنة كان يُختار عادة من بين أقرب أقارب فرعون.

لكن في كل هذه الرواية لا يوجد شيء غير عادي. فمن حيث أن مصر تعتمد في نتاجها تمامًا على مياه النيل، فالبلاد كانت معرضة في كل الأوقات لمجاعات مرعبة، واحد هذه المجاعات التي دامت لمدة سبع سنوات تسجلت (ما بين عام 1064- 1071م)، وأهوالها تبين لنا حكمة التدابير الاحتياطية التي اتخذها يوسف.

← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.

وأيضًا على قدر ما يختص بالأمر بالترقي الفجائي ليوسف، فإن التاريخ الشرقي يحتوي على أمثلة كثيرة شبيهة، وفي الواقع يخبرنا مؤرخ يوناني عن ملك مصري جعل ابن شخص ماسوني زوج ابنته لأنه حكم بأنه أمهر وأذكى إنسان في الأرض.

ما هو جدير بالملاحظة هو التعيين الإلهي العجيب في كل هذا وكذلك الاختيار الإلهي المدهش للوسيلة لتحقيق هذا.

كان عمر يوسف عند ارتقاه سدة الحكم ثلاثين سنة بالضبط، ونلاحظ أنه نفس السن الذي فيه دخل ربنا المبارك مجال خدمته بكونه "مخلص العالم"، "عاضد الحياة"، "كاشف الأسرار".

إن تاريخ إدارة يوسف لمصر يمكن أن نتتبعه في جمل قليلة. أثناء سبع سنوات الوفرة: "خَزَنَ يُوسُفُ قَمْحًا كَرَمْلِ الْبَحْرِ كَثِيرًا جِدًّا حَتَّى تَرَكَ الْعَدَدَ إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَدَدٌ" وهي ملاحظة تتفق بصورة ملحوظة مع ما تصوره الآثار التي تبين أن محتويات المخازن كان يلاحظها بدقة الكتبة عند امتلائها.

بعد ذلك أثناء سنوات الجوع، باع القمح للناس أولًا بالمال. وعندما نفذ مالهم قَاتَهُمْ بِالْخُبْزِ تِلْكَ السَّنَةَ بَدَلَ جَمِيعِ مَوَاشِيهِمْ. وأخيرًا عرضوا عليه من تلقاء أنفسهم قائلين له: "اشْتَرِنَا وَأَرْضَنَا بِالْخُبْزِ فَنَصِيرَ نَحْنُ وَأَرْضُنَا عَبِيدًا لِفِرْعَوْن"، إِلاَّ إِنَّ أَرْضَ الْكَهَنَةِ لَمْ يَشْتَرِهَا إِذْ كَانَتْ لِلْكَهَنَةِ فَرِيضَةٌ مِنْ قِبَلِ فِرْعَوْنَ. فَأَكَلُوا فَرِيضَتَهُمُ الَّتِي أَعْطَاهُمْ فِرْعَوْنُ. لِذَلِكَ لَمْ يَبِيعُوا أَرْضَهُمْ.

بهذا صار فرعون المالك المطلق لكل الأموال وكل الماشية وكل أراضي مصر وذلك بناء على طلب الشعب! وهذه الميزة ستكون أعظم لو كان هناك أي ميل للاستياء ضد البيت المالك بكونه من جنس غريب.

لكن يوسف لم يسئ استغلال السلطان الذي مُنح له بهذا. بل على العكس بتصرف تلقائي للسخاء الملكي رد للناس أراضيهم على شرط أن يدفعوا من الآن فصاعدا خمس محصولهم بدلًا من كل الضرائب الأخرى.

بالإضافة إلى الاعتبارات الأخرى التي قررناها سابقًا في صالح مثل هذا التدبير، يلزمنا أن نضع في الاعتبار أن في مصر حيث كل أنتاج يتوقف على مياه النيل، يلزم أنها ضرورة عامة ضرورة الاحتفاظ بشبكة للري والقنوات على نفقة الحكومة(52).

أما مقولة السفر التي استثنت من هذا القدر من الضريبة العامة أراضي الكهنة التي لم تصر ملكًا لفرعون، فهذه المقولة تتفق بصورة ملفتة مع ما سجله المؤرخون العاديين(53).

يوجد هنا شيئان بارزان في تاريخ يوسف. فنفس يد الرب الكريمة التي حفظته أثناء مذلته من الخطية والكفر واليأس، حفظته الآن في مركزه الرفيع من الكبرياء ومن الانزلاق إلى الوثنية التي كان يمكن لزواجه من ابنة رئيس كهنة مصر أن يجرفه بسهولة إليها.

علاوة على ذلك هو اعتبر نفسه غريب ونزيل في مصر، فقلبه كان في بيت أبيه ومع إله أبيه وعلى وعود أبيه (التي تلقاها من الله). وعن كلا الحقيقتين يوجد دليل دامغ. لقد أنجبت له زوجته المصرية ابنين قبل مجيء سنوات الجوع، فأعطى لهما أسماء عبرية وليست مصرية.

فسمّى الأول "منسى" أي "هو الذي جعلني أنسى" فهو أراد أن يقر بصلاح الله الذي جعله ينسى حزنه وتعبه السابقين.

وأعطى الثاني اسم أفرايم أي "ثمر مضاعف" فهو يعترف بوضوح أنه وإن كانت مصر هي الأرض التي جعله فيها مثمرًا، فهي لا تزال ويلزم ألا تكون أبدًا أرض فرح بالنسبة له بل هي أرض مذلته!

ولو سأل أحدهم لماذا لم يخبر يوسف أبيه في فترة نجاحه ورقيه بحياته ونجاحه، نجيب أنه في تاريخ كهذا السلامة والأمان يكمنان في انتظار الرب تمامًا. لو كان يوسف قد تعلم درس حياته العظيم فهو هذا الدرس أن كل ماضيه كان من الله. فلن يتدخل هو الآن ويعمل أية خطوة من جانبه. سيريه الرب الطريق ويقوده إلى النهاية(54). لكن بالنسبة له هو آمن ولذلك لن يتعجل. بهذا سيتمجد الله وبهذا أيضًا سيُحفظ يوسف في سلام تام لأنه وثق بالله واتكل عليه.

_____

الحواشي والمراجع لهذه الصفحة هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت:

(50) ملاحظة للمترجم: هذا تبسيط مجحف لحلم هذين الشخصين وإن كنا لا نستبعد عمل العقل الباطن في تشكيل كثير من الأحلام، لأن الحلمين هنا كان الغرض الإلهي منهما واحد وهو التمهيد فيما بعد لخروج يوسف من السجن إلى حكم مصر.

(51) هذا سوف نبينه تمامًا في كتاب قادم عندما يتم شرح المساهمات الدينية وأعمال المحبة والإحسان لإسرائيل.

(52) نحن نعرف في الواقع أن أحد ملوك الأسرة الثانية عشر ويُدعى أمينيمها الثالث Amenemha III أسس أولًا نظام كامل لقنوات الري وحفر بحيرة صناعية هائلة لتأخذ مياه النيل الزائدة ثم يُعاد توزيعها مرة ثانية.

(53) ملاحظة للمترجم: إن هذه الجمل وما يشبهها يركز عليها الكاتب لأنه يخاطب العقلانيين الذين كانوا يشككون في صحة كل ما ورد في الكتاب المقدس وهذا للعلم.

(54) لا يوجد دليل أنه في ذلك الوقت عرف يوسف أن الله خطط لعودة التحامه ثانية مع أسرته، فكم بالأولى هو لم يكن يعرف أن لهم أن يأتوا إليه في مصر.


الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع

https://st-takla.org/books/fr-angelos-almaqary/bible-history-edersheim-1/joseph-pharaoh-dream.html

تقصير الرابط:
tak.la/ndrd3mn