ويأتي بعد كنيسة أورشليم من جهة الأهمية في تلك الفترة المبكرة من تاريخ المسيحية، كنيسة أنطاكية... كانت مدينة أنطاكية هي المدينة الثالثة في الإمبراطورية الرومانية بعد روما والإسكندرية، بسبب مركزها الجغرافي والسياسي... فقد كانت العاصمة السياسية للإقليم السوري، ومركزًا استراتيجيًا هامًا في هذا الجزء من الإمبراطورية... كان سكانها خليطًا من الإغريق النبلاء والأغنياء، والسريان وهم عامة الشعب، واليهود. كان موقعها بين الشرق والغرب أنسب مكان لنشر الإيمان الزاحف إليها من أورشليم، في جهات العالم الأخرى، نظرًا لقربها من أورشليم، وبذلك استطاعت أن تظل على صلة دائمة -وبسهولة- بالكنيسة الأم في أورشليم والحصول على ما تحتاج إليه منها... وفي كلمات أخرى نقول، إن أنطاكية كانت هي باب فلسطين المفتوح على العالمين اليوناني والروماني. ومن هنا كانت خير قاعدة لنشر المسيحية فيهما... وكانت بدورها تقدم العون للكارزين الذين يخرجون منها.
وتعتبر كنيسة أنطاكية هي الكنيسة الأممية الأولى(61)، من جهة تاريخ تأسيسها... وأول ما عرف المؤمنون باسم المسيحيين كان في أنطاكية. وقد تعب في الكرازة بها القديسان برنابا وبولس (أع 11: 22-26)... ووصل إليها القديس بطرس متأخرًا، بعد مجمع أورشليم (غل 2: 11)... وجعلها القديس مركز انطلاقه في رحلاته التبشيرية.
وليس صحيحًا ما يدعيه البابوين الروم والسريان، من أن القديس بطرس الرسول هو مؤسس كنيسة أنطاكية، وأنه أول أسقف عليها(62)... وأنه أسسها بين سنتي 36، 37، ثم أقام بها سبع سنين(63)، أبحر بعدها إلى رومية. ومهما كانت شهادات الآباء والمؤرخون التي يستندون إليها، فشهادة كتاب الله أولى بالصحة والتصديق. فعقب مقتل استفانوس حوالي سنة 37، حدث "اضطهاد عظيم على الكنيسة التي في أورشليم، فتشتت الجميع في كور اليهودية والسامرة ما عدا الرسل" (أع 8: 1)... ثم ذهب بطرس مع يوحنا إلى السامرة (أع 8: 14)... وفي هذه الأثناء كان بطرس يجتاز في اليهودية وذهب إلى لدة حيث شفى إينياس، ثم ذهب إلى يافا حيث أقام طابيثا، ومكث فيها أيامًا كثيرة (أع 9: 32-42)... وبعد يافا قصد قيصرية بناء على دعوة كرنيليوس (أع 10). وبعد هذه الجولة الكرازية، صعد إلى أورشليم حيث خاصمه بعض اليهود المتنصرين بسبب عماده كرنيليوس ومن معه من الأمميين (أع 11: 2). وكان ذلك حوالي سنة 40، وفيها تقابل لأول مرة مع بولس في أورشليم (غل 1: 18،19)... وبعد قصة كرنيليوس الواردة في (أع 10، 11) من الأعمال، يتكلم القديس لوقا عن دخول الإيمان إلى أنطاكية على يد الذين تشتتوا بسبب مقتل استفانوس (أع 11: 19-21). ولما سمع هذا الخبر عن الأنطاكيين في آذان الكنيسة التي في أورشليم "أرسلوا برنابا لكي يجتاز إلى أنطاكية. الذي لما أتى ورأى نعمة الله فرح ووعظ الجميع أن يثبتوا في الرب بعزم القلب" (أع 11: 22، 23) وكان ذلك سنة 43(64)... ثم خرج برنابا إلى طرسوس ليطلب بولس ليعمل معه في الخدمة، فخدما معًا بأنطاكية سنة كاملة حتى نمت كلمة الرب وترعرعت (أع 11: 25،26).
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
واضح من كل ما تقدم أنه حتى سنة 43 -وهي السنة التي أرسلت كنيسة أورشليم برنابا إلى أنطاكية ليساعد في الكرازة ونشر الإيمان- لم يكن أحد من الرسل قد ذهب إلى أنطاكية... وفي سنة 44 قبض هيرودس أغريباس على بطرس وسجنه، لكن ملاك الرب فتح أبواب السجن وأطلقه، ومضى إلى موضع آخر (أع 12: 3-17) بعد ذلك لا نقرأ في سفر الأعمال عن بطرس إلا في مجمع أورشليم حوالي سنة 50... على أنه لا يمكن أن يكون قد خرج عن دائرة اليهودية -لا إلى روما ولا إلى غيرها من الأقاليم النائية- لأن بطرس كان لا بُد له من أن يتم تأسيس وتثبيت كنائسها(65).
ثابت أن بطرس ذهب إلى أنطاكية عقب مجمع أورشليم، أي حوالي سنة 51 (غل 2: 11). ولا يمكن أن يكون قد ذهب قبل ذلك التاريخ... فالقضية التي اجتمع لأجلها مجمع الكنيسة في أورشليم، كانت قضية التهود المعروضة على المجمع من كنيسة أنطاكية (أع 15: 1،2). ولما تكلم بطرس أمام المجمع أشار إلى إيمان كرنيليوس ومن معه. ولو كان له سابق خدمة في أنطاكية لكان أشار إلى ذلك باعتباره رئيس الكنيسة هناك وأسقفها، وأن كنيستها هي التي تعرض القضية على المجمع... لكن شيئًا من ذلك لم يحدث (أع 15: 7-11)... ولو كان لبطرس أيه علاقة بكنيسة أنطاكية لظهر ذلك في قرار المجمع. لكن كنيسة أورشليم (الرسل والكهنة مع كل الكنيسة) أرسلوا برسابا وسيلا مع بولس وبرنابا إلى أنطاكية (انظر أع 15: 22، 23).
إذن -من كل ما تقدم- يتضح جليًا أن وصول بطرس إلى أنطاكية كان حوالي سنة 51 أو ما بعد ذلك... ووجوده هناك وتصرفه إزاء المسيحيين من اليهود والأمم، والموقف الغريب الذي وقفه بعد وصول جماعة من عند يعقوب... كل ذلك يدل على أنه لم يكن لبطرس أي موقف متميز هناك، فكم برئاسة الكنيسة التي يدعيها البعض (غل 2: 11-21)!! وثمة ملاحظة أخيرة نوردها عن هذا الموضوع... فالأب جان كلسون Jean Colson الذي صنف كتابًا كاملًا عن الأسقف في الكنائس الأولى(66)، يجعل برنابا المؤسس لكنيسة أنطاكية(67).
_____
(61) Schaff, Vol. 1, p. 279.
(62) De Pressense, Vol. 1, pp. 77, 78.
(63) أسد رستم، كنيسة مدينة الله أنطاكية العظمى جـ 1 ص 19، 20 - الدرر النفيسة ص 142 - سليم سليمان، تاريخ الكنيسة الأمة القبطية ص 289.
(64) Danielou, Vol. 1, p. 24.
هذه الشهادة لها قيمتها لأن المؤلف راهب يسوعي كاثوليكي.
(65) سليم سليمان، تاريخ الأمة القبطية ص 289 Smith, Dictionary of the Bible, Vol. 2, p. 803.
(66) Colson, L’Eveque dans les communautes Primitives.
(67) أسد رستم، كنيسة الله أنطاكية العظمى، جـ 1 ص 20.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/anba-yoannes/apostolic-church/antioch-church.html
تقصير الرابط:
tak.la/xk4pqz2