من أجمل الشخصيات الكتابية التي نلمح فيها ظِلال شخص ربنا يسوع المسيح، يوسف الصديق.. الشاب القوي، العفيف المنتصر، الابن والعبد، المظلوم والمَلك.
وكان يوسف شخصية رائعة، فيها الكثير من الإشارات والرموز.. التي ترمز إلى شخص ربنا يسوع المسيح، نستطيع أن نلمح بعض هذه الرموز في الأمور التالية:
(1) الابن والعبد.. فبالرغم من أن يوسف كان الابن المحبوب لدى أبيه يعقوب "وأمّا إسرائيلُ فأحَبَّ يوسُفَ أكثَرَ مِنْ سائرِ بَنيهِ" (تك37: 3).. إلاَّ أنه اشتغل كعبد عند إخوته و"كَانَ يَرعَى مَع إخوَتِهِ الغَنَمَ" (تك37: 2).. "وهو غُلامٌ عِندَ بَني بلهَةَ وبَني زِلفَةَ امرأتَيْ أبيهِ" (تك37: 2). "غلام" تعني (صبي)، أو (عبد).. إنه الابن المُدلل والمحبوب، ومع ذلك لم يستنكف من أن يكون عبدًا وغلامًا عند أخوته بني الجاريتين، بينما هو ابن الزوجة المحبوبة (راحيل).. ومع ذلك لا مانع عنده من أن يكون عبدًا وهو ابنًا.
وهو في هذا مُشبَّه بابن الله.. الذي هو من حيث اللاهوت مساو للآب في الجوهر، وهو الابن الوحيد الذي في حضن أبيه.. "الاِبنُ الوَحيدُ الذي هو في حِضنِ الآبِ" (يو1: 18)، "الحَبيبُ" (مت3: 17). ومع ذلك فمن أجلنا صار عبدًا ليرعى غنم أبيه.. "الذي إذ كانَ في صورَةِ اللهِ، لم يَحسِبْ خُلسَةً أنْ يكونَ مُعادِلًا للهِ. لكنهُ أخلَى نَفسَهُ، آخِذًا صورَةَ عَبدٍ، صائرًا في شِبهِ الناسِ. وإذ وُجِدَ في الهَيئَةِ كإنسانٍ، وضَعَ نَفسَهُ وأطاعَ حتَّى الموتَ، موتَ الصَّليبِ" (في2: 6-8). "فإنَّكُمْ تعرِفونَ نِعمَةَ رَبنا يَسوعَ المَسيحِ، أنَّهُ مِنْ أجلِكُمُ افتَقَرَ وهو غَنيٌّ، لكَيْ تستَغنوا أنتُمْ بفَقرِهِ" (2كو8: 9).
وفي هذا يصدق القول: "ولكن كما كانَ حينَئذٍ الذي وُلِدَ حَسَبَ الجَسَدِ يَضطَهِدُ الذي حَسَبَ الرّوحِ، هكذا الآنَ أيضًا" (غل4: 29).
(2) وكما كان يوسف راعيًا كذلك مُخلِّصنا الصالح الذي يرعانا بصلاحه وجوده وحكمته العالية.. وكان يرعى الغنم مع أخوته كمثلما يشاركنا السيد المسيح رعاية أولاده.
إنه لم يستأثر بالرعاية، ولم يمتنع عن مساعدة اخوته.. وكذلك لم يكتفِ السيد المسيح بأن يكون "الرَاعِي الصَالِح"، ولكنه أقام في كنيسته رعاة يشاركونه، ولم يترك هذه الرعاية لرعاة الكنيسة وحدهم فقط، ولكنه لازال يشاركهم العمل الرعوي.
(3) "فصَنَعَ لهُ قَميصًا مُلَوَّنًا" (تك37: 3).. صنع يعقوب قميصًا ملونًا لابنه الحبيب يوسف.
إن القميص هنا الذي ارتداه يوسف الصديق هو رمز لجسد المسيح الذي لبسه ليُخلِّصنا بواسطته.. ويرمز أيضًا إلى الكنيسة التي لبسها المسيح متحدًا بها التي "هي جَسَدُهُ، مِلءُ الذي يَملأُ الكُلَّ في الكُل" (أف1: 23).
والألوان المتعددة التي في القميص الواحد تشير إلى الشعوب العديدة التي تجتمع في كنيسة المسيح الواحدة المُقدَّسة الجامعة الرسولية، لها إيمان واحد كمثلما لها رب واحد ومعمودية واحدة. كما ترمز الألوان المتعددة إلى تنوع وتعدد الفضائل في شخص ربنا يسوع المسيح ابن الله المتجسد بجسد طاهر فيه كل الكمالات.
(4) أحب يعقوب ابنه بينما أبغضه إخوته "ولَم يَستَطِيعُوا أنْ يُكلموهُ بسَلامٍ" (تك37: 4).
لقد أبغضه أخوته بلا سبب وكان هذا أيضًا إشارة إلى السيد المسيح الذي قيل عنه في النبوات: "انظُرْ إلَى أعدائي لأنَّهُمْ قد كثُروا، وبُغضًا ظُلمًا أبغَضوني" (مز25: 19)، "بكلامِ بُغضٍ أحاطوا بي، وقاتَلوني بلا سبَبٍ. بَدَلَ مَحَبَّتي يُخاصِمونَني. أمّا أنا فصَلاةٌ. وضَعوا علَيَّ شَرًّا بَدَلَ خَيرٍ، وبُغضًا بَدَلَ حُبي" (مز109: 3-5)، "لأنَّهُمْ بلا سبَبٍ أخفَوْا لي هوَّةَ شَبَكَتِهِمْ. بلا سبَبٍ حَفَروا لنَفسي" (مز35: 7).
وهكذا مثلما أحب الآب الابن بينما أبغضه بنو البشر وقاموا عليه وصلبوه بحقد وحسد وبغضة شديدة، ولم يستطيعوا أن يكلموه بسلام "أبغضوني بلا سبب"، وكما كان أعداء يوسف هم أخوته الذين ألقوه في البئر، ثم باعوه بقساوة.. هكذا كان أعداء السيد المسيح أخوته بني جنسه، وهو قد جاء من أجلهم.. "إلَى خاصَّتِهِ جاءَ، وخاصَّتُهُ لم تقبَلهُ" (يو1: 11). حتى إنه قيل في النبوة: "فيقولُ لهُ: ما هذِهِ الجُروحُ في يَدَيكَ؟ فيقولُ: هي التي جُرِحتُ بها في بَيتِ أحِبّائي" (زك13: 6).
(5) أرسل يعقوب يوسف ابنه قائلًا: "اذهَبِ انظُرْ سلامَةَ إخوَتِكَ وسلامَةَ الغَنَمِ ورُدَّ لي خَبَرًا" (تك37: 14)، وهذا إشارة إلى أن الآب السماوي قد أرسل ابنه الوحيد الحبيب.. ليفتقد سلامتنا، ويعود إلى الآب السماوي بالصعود المُقدَّس (ليرد له الخبر).
(6) بينما سعى يوسف لمنفعة إخوته وافتقادهم.. تشاوروا هم ليقتلوه "احتالوا لهُ ليُميتوهُ. فقالَ بَعضُهُمْ لبَعضٍ: هوذا هذا صاحِبُ الأحلامِ قادِمٌ. فالآنَ هَلُمَّ نَقتُلهُ ونَطرَحهُ في إحدَى الآبارِ ونَقولُ: وحشٌ رَديءٌ أكلهُ. فنَرَى ماذا تكونُ أحلامُهُ" (تك37: 18-20).. وهكذا أيضًا بينما جاء المسيح إلينا متجسدًا طالبًا خلاصنا.. قابله البشر بالبغضة والتهكم والرفض والصلب. لقد جاء المسيح إلينا قائلًا: "أنا طالِبٌ إخوَتي. أخبِرني أين يَرعَوْنَ؟" (تك37: 16).
(7) "فكانَ لَمّا جاءَ يوسُفُ إلَى إخوَتِهِ أنهُم خَلَعوا عن يوسُفَ قَميصَهُ، القَميصَ المُلَوَّنَ الذي علَيهِ، وأخَذوهُ وطَرَحوهُ في البِئرِ. وأمّا البِئرُ فكانَتْ فارِغَةً ليس فيها ماءٌ" (تك37: 23-24).. خلعوا قميصه ونزل إلى البئر بدون قميص.. كمثلما مات المسيح، فخلع الجسد، ونزل إلى الجحيم بروحه بدون الجسد.
(8) أشار يهوذا أخو يوسف على إخوته أن يبيعوه لقافلة التجار الإسماعيليين، وباعوه بعشرين من الفضة (ثمن العبد في عصر يوسف).. أما ربنا يسوع المسيح فقد باعه يهوذا أيضًا لكهنة اليهود بثلاثين من الفضة وهو (ثمن العبد في عصر المسيح).
(9) "فأخَذوا قَميصَ يوسُفَ وذَبَحوا تيسًا مِنَ المِعزَى وغَمَسوا القَميصَ في الدَّمِ" (تك37: 31).. إشارة إلى جسد السيد المسيح الذي تخضب بالدم على الصليب، كما يشير إلى صبغ الكنيسة بدم المسيح في سر المعمودية وفي الإفخارستيا، فالمؤمنون أعضاء الكنيسة قيل عنهم في سفر الرؤيا: "هؤُلاءِ هُمُ الذينَ أتَوْا مِنَ الضيقَةِ العظيمَةِ، وقد غَسَّلوا ثيابَهُمْ وبَيَّضوا ثيابَهُمْ في دَمِ الخَروفِ" (رؤ7: 14). وكان هذا الدم في القميص يشير إلى دم المسيح الذي تخضب به جسده الطاهر، وقد صعد إلى السماء بهذا الجسد المذبوح لأجلنا ليظهر به من أجلنا أمام الآب.. "لأنَّ المَسيحَ لم يَدخُلْ إلَى أقداسٍ مَصنوعَةٍ بيَدٍ أشباهِ الحَقيقيَّةِ، بل إلَى السماءِ عَينِها، ليَظهَرَ الآنَ أمامَ وجهِ اللهِ لأجلِنا" (عب9: 24). "قد أُظهِرَ مَرَّةً عِندَ انقِضاءِ الدُّهورِ ليُبطِلَ الخَطيَّةَ بذَبيحَةِ نَفسِهِ" (عب9: 26).
(10) "وأرسَلوا القَميصَ المُلَوَّنَ وأحضَروهُ إلَى أبيهِمْ وقالوا: "وجَدنا هذا. حَققْ أقَميصُ ابنِكَ هو أم لا؟". فتَحَقَّقَهُ وقالَ: "قَميصُ ابني! وحشٌ رَديءٌ أكلهُ، افتُرِسَ يوسُفُ افتِراسًا" (تك37: 32-33).. إشارة إلى صعود جسد الرب إلى السماء إلى يمين الآب يحمل جراحات الصليب حيث رآه يوحنا الرائي: وهو حَمَل "قائمٌ كأنَّهُ مَذبوحٌ" (رؤ5: 6).
(11) "أمّا يوسُفُ فأُنزِلَ إلَى مِصرَ" (تك39: 1).. إشارة إلى نزول السيد المسيح من بيت الآب السماوي إلى أرضنا، وكما صار يوسف الابن عبدًا في بيت فوطيفار.. هكذا صار المسيح الابن الكلمة عبدًا في بيت آدم.
(12) كما هرب يوسف من زوجة فوطيفار وترك ثيابه في يديها.. كذلك خرج المسيح من الموت تاركًا الأكفان في يد القبر، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. لقد كانت زوجة فوطيفار قبرًا من الشهوات النتنة، وانتصر يوسف عليها.. كمثلما انتصر المسيح على الموت، وخرج منه ظافرًا به في الصليب.
(13) خرج يوسف من بيت فوطيفار، ونزل إلى السجن قبل صعوده إلى العرش.. وهكذا أيضًا خرج السيد المسيح من بيت آدم (الأرض)، ونزل إلى الجحيم من قبل الصليب قبل أن يقوم ويصعد إلى السماء بمجد الآب.
(14) تقابل يوسف في السجن مع شخصيتين (الساقي وخباز الملك)، كان أحدهما مذنبًا والآخر بريئًا.. وكذلك على الصليب صُلب مع المسيح لصان أحدهما هلك والآخر خلُص.. وقد تنبأ يوسف للساقي بأنه سيعود إلى خدمة الملك، أما للخباز فقد تنبأ له بهلاكه، وكذلك عندما نزل المسيح إلى الجحيم.. أخرج البعض منه إلى الفردوس وهم الأبرار، أما الأشرار فقد تركهم في الجحيم بسبب شرورهم وعدم إيمانهم.
(15) عندما أرسل فرعون ليأخذ يوسف من السجن.. "فأسرَعوا بهِ مِنَ السجنِ. فحَلَقَ وأبدَلَ ثيابَهُ ودَخَلَ علَى فِرعَوْنَ" (تك41: 14).. لقد بدّل ثيابه إشارة إلى الجسد الممجد الذي قام به رب المجد السيد المسيح من الأموات، وإشارة أيضًا إلى أنه نزع عنَّا عار الخطية، وذل سجن الشيطان، وفي حياتنا الروحية يرمز هذا إلى خلع الإنسان العتيق مع أعماله المظلمة وشهواته الرديئة.
(16) الأحلام التي حلمها يوسف الصديق كان فيها إشارة إلى السيد المسيح الذي يملك على أخوته ويسجد له كل بني البشر.. "ليُستَعبَدْ لكَ شُعوبٌ، وتسجُدْ لكَ قَبائلُ. كُنْ سيدًا لإخوَتِكَ، وليَسجُدْ لكَ بَنو أُمكَ. ليَكُنْ لاعِنوكَ مَلعونينَ، ومُبارِكوكَ مُبارَكينَ" (تك27: 29).
(17) كما شرح يوسف رموز الأحلام لكل من الساقي والخباز ثم أيضًا لفرعون.. هكذا كشف لنا السيد المسيح عن أسرار العهد القديم ورموزه.. "ثُمَّ ابتَدأَ مِنْ موسَى ومِنْ جميعِ الأنبياءِ يُفَسرُ لهُما الأُمورَ المُختَصَّةَ بهِ في جميعِ الكُتُبِ" (لو24: 27)، "حينَئذٍ فتحَ ذِهنَهُمْ ليَفهَموا الكُتُبَ" (لو24: 45).
(18) "فقالَ فِرعَوْنُ لعَبيدِهِ: هل نَجِدُ مِثلَ هذا رَجُلًا فيهِ روحُ اللهِ؟" (تك41: 38).. يشير هذا إلى إيمان الأمم بلاهوت المسيح.. بينما رفضه اليهود كمثلما فعل إخوة يوسف معه.
"وخَلَعَ فِرعَوْنُ خاتِمَهُ مِنْ يَدِهِ وجَعَلهُ في يَدِ يوسُفَ، وألبَسَهُ ثيابَ بوصٍ، ووَضَعَ طَوْقَ ذَهَبٍ في عُنُقِهِ" (تك41: 42).. بالمقارنة بما فعله به إخوته، حينما خلعوا عنه القميص الملون وأهانوه، وهذا يرمز إلى رفض اليهود لمُلك المسيح عليهم.. بينما قبله الأمم وصاروا مملكته بالحقيقة التي هي الكنيسة.
(19) "ودَعا فِرعَوْنُ اسمَ يوسُفَ "صَفناتَ فعنيحَ" (تك41: 45)، وهذا الاسم معناه "مُخلِّص العالم" أو "طعام الحياة" وربنا يسوع المسيح هو مخلص العالم الحقيقي، وهو طعام الحياة.. وكما خلص يوسف العالم من المجاعة بتوفير القمح لهم.. كذلك خلَّصنا ربنا يسوع من الهلاك بأن أعطانا القمح الحقيقي الذي هو جسده ودمه الطاهرين.
(20) تزوج يوسف من "أسناتُ بنتُ فوطي فارَعَ كاهِنِ أونَ".. إشارة إلى اقتران كنيسة الأمم بالسيد المسيح.. وقد تركت أسنات عبادة آبائها لتدخل في عبادة الله الحقيقي إله يوسف زوجها.. كمثلما ترك الأمم عباداتهم الوثنية ليرتبطوا بإله السماء ربنا يسوع المسيح نفسه.
(21) جاء إخوة يوسف إليه في مصر وسجدوا له كمثلما آمن الآباء الرسل بالمسيح، وسجدوا له من بعد قيامته المُقدَّسة.
(22) بارك يعقوب ابني يوسف ونقل البكورية من منسى إلى أفرايم بعلامة الصليب.. كذلك انتقلت البكورية من آدم إلى المسيح بالصليب، وصار السيد المسيح "بكرًا بَينَ إخوَةٍ كثيرينَ" (رو8: 29) بدلًا من آدم.. ومع ذلك فهو متميز عن جميع أبناء الله إذ هو ابن الله بالطبيعة، أما نحن فأبناء الله بالتبني.. هو الابن الوحيد الذي من جوهر الآب وهو الابن الأزلي الذي ليس له بداية أيام ولا نهاية حياة.. "بلا أبٍ، بلا أُم، بلا نَسَبٍ. لا بَداءَةَ أيّامٍ لهُ ولا نِهايَةَ حياةٍ، بل هو مُشَبَّهٌ بابنِ اللهِ. هذا يَبقَى كاهِنًا إلَى الأبدِ" (عب7: 3).
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/anba-raphael/christ-in-genesis/joseph.html
تقصير الرابط:
tak.la/a3xvt4a