محتويات: (إظهار/إخفاء) |
سر الإفخارستيا الاجتماع الإفخارستي يُعبِّر عن طبيعة الكنيسة صلوات الإفخارستيا تبرز معنى الوحدة الكنسيَّة التمثل بالمسيح في الحب الخلاصة |
(6) سر الإفخارستيا:
إذا كانت أسرار الكنيسة كلها تؤول إلى وحدة شعب الله، وقد وضعها الله في الكنيسة لتحقيق هذه الوحدة.. فدعونا الآن نأتي إلى (سر الأسرار).. السر الذي لا يمكن إدراك كنهه بعيدًا عن مفهوم الوحدة.. إنه سر الجسد الواحد.. سر المصالحة بين الله والإنسان.. بين السماء والأرض.. بين النفس والجسد.. بين الشخص وإخوته.
إنه سر الكنيسة.. السر المقدس الذي يحقق معنى كلمة كنيسة.. جماعة المؤمنين، وهذا هو أيضًا سر الاجتماع.. حيث تجتمع الكنيسة كلها من أجله وبه، ومن خلاله يحضر السيد المسيح لكي يُتمم وحدة شعبه المقدس.
"ارفعوا أعينكم نحو المشرق لتنظروا المذبح, جسد ودم عمانوئيل إلهنا موضعين عليه" (لحن القبلة المقدسة).
عندما نرفع أعيننا نحو المشرق نجد الجسد الواحد للمسيح الواحد كائنًا على المذبح الواحد.. ليجمع فيه شعب الله الواحد.. إنه الجسد المقدس الذي يُقدَّم في كل مكان بغير تعدّد.. إنه المذبح المتواجد في كل كنيسة ولكنه مذبح واحد.
هكذا ندرك سر اتحادنا بعضنا مع بعض في المسيح يسوع.. فمهما تعددت الكنائس فهي كنيسة واحدة مقدسة جامعة.. ومهما تعددت المذابح فهو مذبح واحد مقدس ناطق سمائي، والذبيحة واحدة، والكاهن واحد، والشعب واحد.
إن السيد المسيح - في سر الإفخارستيا – يستحضر شعبه كله إلى واحد.. فبكسر الخبز الواحد، يشترك الكل فيه، فيصير الجميع واحدًا.. "فإننا نحن الكثيرين خبز واحد، جسد واحد، لأننا جميعنا نشترك في الخبز الواحد (1كو10: 17)، نصير جسدًا واحدًا للرأس الواحد، ولنا آب واحد، ويصير الكل عائلة إلهية واحدة.
بهذا يجتذبنا المسيح يومًا فيومًا إلى اتحاد أعمق مع الآب والابن، ومع بعضنا بعضًا بالروح القدس، وهذا ما يُعبِّر عنه القديس "أغسطينوس" بقوله: "ينشأ سر سلامنا ووحدتنا فوق مذبحه".
يقول القديس "يوستينوس الشهيد" (القرن الثاني الميلادي): "في يوم الأحد يجرى عندنا في مكان واحد اجتماع جميع الساكنين في المدن والقرى، كانوا يجتمعون معًا برئاسة الأب الأسقف ليقيموا سر الإفخارستيا".
ما كانوا – قديمًا – يقيمون في المدينة الواحدة إلا إفخارستيا واحدة بقيادة الأسقف الواحد للمدينة تعبيرًا عن وحدانية الكنيسة، وما كانوا يقيمون الإفخارستيا إلا إذا اجتمع كل شعب الله معًا.
يبدو أن الوضع تغيّر بسبب كثرة عدد المسيحيين، وعدم إمكانية اجتماعهم معًا في مكان واحد يضم الجميع.. فصار من حق الكهنة المحليين أن يقيموا إفخارستيا منفصلة عن إفخارستية الأب الأسقف، ولكنهم ملتزمون بنفس الإيمان والممارسة والتعليم، ولا يقيمونها إلا بإذنه وبحِّل من فمه. ولذلك يذكرون اسم الأسقف في كل قداس داخل إيبارشيته لإعلان وحدتهم معه.
كما أنهم في بداية خدمة القداس يتلون (تحليل الخدام)، ويذكرون فيه أسماء الآباء الأرثوذكس – الذين دافعوا عن الإيمان الأرثوذكسي – ساويرس وديسقوروس وكيرلس وذهبي الفم وأثناسيوس وبطرس خاتم الشهداء, وآباء المجامع الثلاثة المسكونية ثم من فم البابا والأب الأسقف.. إعلانًا أن هذا القداس ليس منفصلًا عن ليتورجية الآباء الأرثوذكس وعن أسقف المدينة.
لذلك – فبالرغم من تعدّد القداسات في نفس الميعاد وفى نفس المدينة.. لكن ظل المعنى قائمًا أنه قداس واحد ممتد ومنتشر.. ممتد من مارمرقس إلى أثناسيوس وحتى اليوم، ومنتشر في كل مكان، ولكن المذبح واحد والجسد واحد والكنيسة جامعة، والكاهن واحد هو ربنا يسوع المسيح، وكهنة بشريون يمارسون كهنوت المسيح الواحد.
في هذا يقول القديس "أغناطيوس الأنطاكي": "كونوا غيورين, مواظبين على سر الشكر، لأن جسد ربنا يسوع المسيح واحد، الكأس واحدة(1) في جسده الواحد، مائدة واحدة، وأسقف واحد مع الكهنة والشمامسة الخادمين معه. وعليه إذًا فكل ما تفعلونه, فافعلوه كأنه آت من الله".
ومرة أخرى يقول القديس "أغناطيوس" موجهًا كلامه إلى الأفسسيين: "أما أنتم فلا تفعلوا شيئًا بدون الأسقف والكهنة، ولا تحاولوا أن تتمموا أي عمل منفردين، وإذا ظهر لكم أنه ضروري فافعلوه في الكنيسة، ولتكن صلاة واحدة، غفران واحد، فكر واحد، رجاء واحد في المحبة في الفرح الكامل. إن يسوع المسيح واحد، وليس شيء أفضل منه، وهكذا أنتم أسرعوا إلى هيكل الله الواحد، إلى مائدة واحدة وإلى يسوع المسيح الواحد".
إن وحدة المذبح المقدس شرط، واجتماع الشعب معًا شرط، والأب الأسقف يتقدم إلى المائدة المقدسة الواحدة عندما تجتمع الكنيسة كلها معًا، ولا يستطيع أن يقيم الإفخارستيا بالاستقلال عن أعضاء الكنيسة المجتمعين حول هذه المائدة الواحدة. "حيث يكون الأسقف، فهنالك يجب أن يكون الشعب" (القديس أغناطيوس).
فالمعنى الجميل لوحدانية الكنيسة، وعدم انقسامها يتحقق بأجلى وضوح في إقامة قداس الإفخارستيا. ولذلك نقول في القداس: "إجعلنا مستحقين – يا سيدنا – أن نتناول من قدساتك طهارة لأنفسنا وأجسادنا وأرواحنا، لكي نكون جسدًا واحدًا، وروحًا واحدًا، ونجد نصيبًا وميراثًا مع جميع القديسين الذين أرضوك منذ البدء" (القداس الباسيلي).
(1) جميع الصلوات تُقدّم بلسان الكاهن، وبصيغة الجمع: "نشكرك، نسأل ونطلب، نسجد..".
فالكاهن ينوب عن الشعب مُعبِّرًا عن وحدته واجتماعه.. "أنت الذي ينبغي لك التمجيد بصوت واحد من كل أحد..".
(2) تهتم الليتورجيا(2) بالصلاة عن كل الغائبين بالجسد.. حتى يتم اكتمال حضور الجميع بالروح قبل بدء الأنافورا(3).
* ففي رفع بخور عشية نصلي من أجل إخوتنا وآبائنا الذين سبقوا ورقدوا في الإيمان المسيحي، وكذلك أيضًا نذكرهم في الترحيم بعد المجمع.
* وفي رفع بخور باكر نصلي من أجل المرضى ومن أجل المسافرين.
* وكذلك تصلي الكنيسة من أجل خلاص العالم وكل مدينة.
* وتصلي من أجل الفقراء، ومن أجل الأرملة واليتيم والغريب والضيف.
* وتصلي أيضًا من أجل الهراطقة أن يهدم الله آراءهم الهرطوقية، ويعودوا إلى حظيرة الإيمان الأرثوذكسي.
* وتصلي أيضًا عن المتضايقين والموعوظين.
* وعن الرئيس والمسئولين والجيران والمعارف.
هذه الصلوات التي تقدمها الكنيسة بروح التوسل إلى عريسها المسيح.. إنما تُعبِّر تعبيرًا جيدًا عن معنى الإفخارستيا الحقيقي وهو تجميع الكل في المسيح ليكون الجميع جسدًا واحدًا وروحًا واحدًا، ويكون هناك الاهتمام الواحد.
(3) توزيع مزامير السواعي على جمهور المُصلين.. له أيضًا دلالة روحية جميلة، فما يُصليه الشخص بمفرده (12 مزمور في كل صلوة).. تُصليه الكنيسة معًا باعتبارها جسد واحد، ونحن أعضاؤه.. نتشارك معًا في الصلاة والطلبة.
(4) في الصلوات التي يعترف فيها الكاهن بخطاياه وضعفاته أمام الله يتكلَّم بصيغة المفرد "أنت يا سيد العارف أني غير مستحق وليس لي وجه أن أقترب.. اغفر لي أنا الخاطئ.."، وعندما يتكلَّم مع الله عن احتياج الشعب يتكلَّم بصيغة الجمع (في نفس الصلوة): "نعم يا سيدنا كن معنا، اشترك في العمل معنا، باركنا، لأنك أنت هو غفران خطايانا، ضياء أنفسنا، حياتنا، وقوتنا ودالتنا" (صلاة الاستعداد).
وهنا تُميز الكنيسة بوضوح بين وحدتنا أمام الله، وبين مسئولية كل شخص عن خطاياه الخاصة وتعدياته. والكاهن بروح متضعة - كما تلقنه الليتورجيا - يقر بخطاياه الخاصة، ويطلب عن الشعب، وإذا تكلَّم عن تعديات شعبه أمام الله يذكر أنها (جهالات).
(5) في بداية ليتورجية القداس يعلن الكاهن ووجهه نحو الشعب ماسكًا القربانة فوق رأسه "مجدًا وإكرامًا للثالوث.. سلامًا وبنيانًا لكنيسة الله..".
فالإفخارستيا هي بنيان الكنيسة بتجميع أعضائها، وتوحيدهم في جسد الله. وهنا كما في أوشية سلام الكنيسة تُذكر صفات الكنيسة التي هي واحدة وحيدة مقدسة جامعة رسولية أرثوذكسية.
وهذا ما تؤكده صلوات الليتورجيا دائمًا أن الكنيسة واحدة غير منقسمة، وأنها وحيدة (أي فريدة في وحدتها) وارتباطها بالله، وأنها جامعة من كل مكان بدون تمييز أو تعصب.. فقط أن يكون الجميع واحدًا في الإيمان الأرثوذكسي. "هذه الكائنة من أقاصي المسكونة إلى أقاصيها، كل الشعوب وكل القطعان.." (أوشية السلام).
(6) تهتم الليتورجيا القبطية بذكر آباء الكنيسة لنضمن اجتماعهم معنا.. فنذكر اسم بابا الكنيسة وأسقف الإيبارشية، كما نصلي عن الآباء القمامصة والقسوس وكل الشمامسة وكل الخدام.
والأجمل من هذا أن الليتورجيا تهتم بأن نأخذ الحِّل(4) من فم الآباء البطاركة والقديسين الأولين المدافعين عن الأرثوذكسية قبل أن نبدأ الأنافورا، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. فنحن نؤمن أنهم مازالوا أحياء ومازالوا يمارسون سلطانهم الكهنوتي في السماء، وأنهم حاضرون معنا في القداس، ولن يسمحوا لهرطوقي أن يشارك في الإفخارستيا، لذلك فالكنيسة تستأذنهم قبل البدء بالصلاة، ليكونوا معنا ويباركوا صلواتنا.. إنها شركة مقدسة رائعة.
(7) وتهتم الليتورجيا أيضًا بإبراز حضور القديسين من خلال الهيتنيات، وصلاة المجمع، وفي السنكسار وفي التمجيد.
إنهم مازالوا معنا في الجسد الواحد.. لم ينفصلوا بالموت بل تعمق انتماؤهم وهم الآن في السماء يجذبوننا بحبال الحب ليتعمق انتماؤنا نحن أيضًا لهذا الجسد المقدس العظيم.
(8) ووجود هؤلاء القديسين معنا يحفّز توبتنا وقداستنا "نسألك يا سيدنا إجعلنا مستحقين نصيبهم وميراثهم، وأنعم لنا كل حين أن نسلك في آثارهم، ونكون متشبهين بجهادهم، ونشترك في العرق الذي قبلوه من أجل التقوى.. حارسًا بيعتك المقدسة هذه التي أسستها بواسطتهم.. وبارك خراف قطيعك، واجعل هذه الكرمة تكثر.." (سر الكاثوليكون).
(9) صلاة الصلح جزء أساسي من ليتورجية القداس القبطي، ولا يمكن أن يبدأ الكاهن الأنافورا ويرفع الإبروسفارين(5) من على المذبح إلا إذا نادى الشماس "قبلوا بعضكم بعضًا بقبلة مقدسة..".
وتكون هذه القبلة المقدسة علامة الحب والمصافحة والمسامحة، ويكون جميع مَنْ بالكنيسة بروح واحد ومحبة كاملة.. حينئذ يمكن للكاهن أن يقول: "ارفعوا قلوبكم".
إن القبلة المقدسة هي شرط للتناول من جسد الرب ودمه.. "إجعلنا مستحقين كلنا يا سيدنا أن نقبل بعضنا بعضًا بقبلة مقدسة، لكي نتناول بغير طرحنا في دينونة من موهبتك غير المائتة السمائية".
(10) يحضر معنا في القداس أيضًا الطغمات الملائكية، وليس القديسون فقط "الملائكة ورؤساء الملائكة والرئاسات والسلطات والكراسي والربوبيات والقوات، والشاروبيم والسيرافيم"، بل بالأكثر أننا نشاركهم تسبحتهم الإلهية.. "قدوس قدوس قدوس".
(11) تؤكد الليتورجيا أيضًا على وصف الكنيسة بأنها (شعب مجتمع) "وجعلنا له شعبًا مجتمعًا".
وهذه صفة محبوبة جدًّا تُعبِّرعن طبيعة شعب الله وجوهر الكنيسة، وتُعبِّر عن فعل الإفخارستيا في البشر في تجميعهم معًا في جسد واحد.
(12) وبعد حلول الروح القدس في القداس الإلهي يصلي الكاهن معلنًا فعل الإفخارستيا فينا "إجعلنا كلنا مستحقين يا سيدنا أن نتناول من قدساتك (الجسد والدم) طهارةً لأنفسنا وأجسادنا وأرواحنا، لكي نكون جسدًا واحدًا وروحًا واحدًا، ونجد نصيبًا وميراثًا مع جميع القديسين الذين أرضوك منذ البدء".
(13) في ختام صلاة القسمة يصلي أبونا قائلًا: "طهِّر نفوسنا وأجسادنا وأرواحنا وقلوبنا وعيوننا وأفهامنا ونياتنا.."، لاحظ أن هذه العبارات تُقال بصيغة الجمع، أي تُعبِّر عن كل الكنيسة.. تأمل بعد ذلك صيغة الصلاة.. "لكي بقلب (واحد) طاهر ونفس (واحدة) مستنيرة ووجه (واحد) غير مخزي..".. هذه الصيغة بالمفرد. لقد صارت الكنيسة قلبًا واحدًا طاهرًا، ونفسًا واحدة مستنيرة، ووجهًا واحدًا غير مخزي أمام الله.. وبمحبة كاملة.
(14) وقبل التناول يصلي الأب الكاهن التحليل لتُغفر خطايانا، ونتقدم باستحقاق لشركة التناول، وفي صلاته هذه يقول: "لكي إذا طهرتنا كلنا (بالروح القدس وبالقداس) تؤلفنا بك (أي تجعلنا واحدًا كلنا معك) من جهة (بواسطة) تناولنا من أسرارك الإلهية"، إن الروح القدس في القداس يطهرنا، "وصيرنا أطهارًا بروحك القدوس". والتناول يوحدنا.. ووحدتنا مبنية على هذه الطهارة.
ويؤكد أبونا هذه الطلبة قبل التناول مباشرة "وليجعلنا تناولنا من أسرارك المقدسة واحدًا معك إلى الانقضاء، لكي نكون جسدًا واحدًا وروحًا واحدًا معك".
إن ليتورجية القداس تعلن بكل وضوح فعل الإفخارستيا في تجميع شعب الله ووحدته.. وتشرح لنا كيف أن: "مَنْ يحرم نفسه من المذبح فهو محروم من الله، ويحسب ذئبًا مهما كان مظهره معتدلًا".
(15) وفي القداس الغريغورى: "وصرت لنا وسيطًا مع الآب والحاجز المتوسط نقضته، والعداوة القديمة هدمتها، وصالحت الأرضيين مع السمائيين، وجعلت الاثنين واحدًا، وأكملت التدبير بالجسد" (صلاة الصلح). "الذي بكثرة رحمته حل عداوة البشر" (مقدمة القسمة في القداس الغريغوري).
(16) وتعبَّر أيضًا ليتورجية "القديس غريغوريوس" عن كمال العلاقة التي تربط بين السمائيين والأرضيين بسبب الوحدة والصلح الذي أكمله السيد المسيح بالصليب: "الذي ثبَّت قيام صفوف غير المتجسدين (الملائكة) في (بين صفوف) البشر، الذي أعطى الذين على الأرض (البشر) تسبيح السيرافيم، اقبل منا نحن أيضًا أصواتنا مع غير المرئيين، احسبنا (معدودين ضمن) مع القوات السمائية".
(17) وتبرز أيضًا ليتورجية القديس غريغوريوس الحب الإلهي الذي يغمر الجنس البشري.. في الخلق والفداء والرعاية اليومية.. تبرز الحب الإلهي ليكون نموذجًا للسلوك الإنساني.. وكأن الليتورجيا تُفسِّر لنا الآية المقدسة.. "أيها الأحباء، إن كان الله قد أحبنا هكذا، ينبغي لنا أيضًا أن يحب بعضنا بعضًا" (1يو4: 11).
إن محبة الله لنا لا يمكن التعبير عنها: "ليس شيء من النُطق يستطيع أن يَحُد لُجة (كثرة) محبتك للبشر"..
المحبة هي سبب الخلق: "خلقتني إنسانًا كمحب البشر".. "من أجل تعطفاتك الجزيلة كونتني إذ لم أكن".
* المحبة تظهر بوضوح في خليقة الله الخادمة للإنسان واحتياجاته: "أقمت السماء لي سقفًا، ثبت ليَّ الأرض لأمشي عليها، من أجلي ألجمت (أغلقت – وضعت حدودًا) البحر، من أجلي أظهرت طبيعة الحيوان، أخضعت كل شيء تحت قدمي، لم تدعني معوزًا شيئًا من أعمال كرامتك".
* وكذلك تظهر المحبة في خلق الإنسان متميزًا عن كل الخليقة الأخرى: "أنت الذي جبلتني ووضعت يدك عليَّ، ورسمت فيَّ صورة سلطانك ووضعت فيَّ موهبة النطق، وفتحت ليَّ الفردوس لأتنعم، وأعطيتني عِلم معرفتك..".
* وتتجلى المحبة الإلهية بأكثر وضوح في فداء الإنسان: "أنت يا سيدي حولت ليَّ العقوبة خلاصًا، كراعٍ صالح سعيت في طلب الضال، كأب حقيقي تعبت معي أنا الذي سقط.. أنت الذي خدمت لي الخلاص لما خالفت ناموسك".
ولم يكن الفداء مجرد موت من أجل الإنسان ونيابة عنه.. بل كان هناك أيضًا التجسد بكل تبعاته التي قبلها الله الكلمة، ورضى بها حبًا بنا.. "واضعت ذاتك وأخذت شكل العبد، باركت طبيعتي فيك، وأكملت ناموسك عني، عرفتني القيام من سقطتي.. أزلت لعنة الناموس.. احتملت ظلم الأشرار بذلت ظهرك للسياط، وخديك أهملتهما للطم، لأجلي يا سيدي لم ترد وجهك عن خزي البصاق"..
* وكانت حياة السيد المسيح على الأرض تفيض حبًا وعطاءً لكل الناس: "وهبت النظر للعميان، أقمت الموتى من القبور، أقمت الطبيعة بالكلمة.. أعطيت إطلاقًا لمَنْ قُبض عليهم في الجحيم".
* وتستمر الليتورجية في شرح هذا الحب الإلهي: "أتيت إلى الذبح مثل حمل حتى إلى الصليب، أظهرت عظم اهتمامك بي، قتلت خطيتي بقبرك، أصعدت باكورتي إلى السماء"..
"نشكرك.. لأنك أحببتنا هكذا، وبذلت ذاتك للذبح من أجل خطايانا، شفيتنا بضرباتك وأبرأتنا بجراحاتك، وأنعمت علينا بالحياة من قبل جسدك المقدس ودمك الكريم" (صلاة الشكر بعد التناول).
إن الحب الإلهي الرائع الذي تشرحه ليتورجية القديس غريغوريوس.. إنما هي نموذج تلح به الكنيسة على أذهان المؤمنين أثناء الصلاة، لينطبع فيهم ويصير موجِّهًا لسلوكهم اليومي.
فعلى معيار محبة المسيح التي شرحتها ليتورجية "القديس غريغوريوس".. ينبغي أن تكون محبتنا بعضنا لبعض.. "فكونوا متمثلين بالله كأولاد أحباء" (أف5: 1).
فنحن مُطالبون أن نعبِّر عن هذا الحب نحو الإخوة، كمثلما أظهر السيد المسيح حبه لنا، وذلك عن طريق:
(1) المصالحة: فكما صالحنا المسيح مع السمائيين.. أعطانا أيضًا خدمة المصالحة: "مجتهدين أن تحفظوا وحدانية الروح برباط السلام" (أف4: 3). "الله الذي صالحنا لنفسه بيسوع المسيح، وأعطانا خدمة المصالحة..... نطلب عن المسيح تصالحوا مع الله" (2كو5: 18-20).
(2) حب نحو الإخوة الأصاغر: وكما أعطانا أن نتشارك مع السمائيين في تسابيحهم، ينبغي لنا أن نحب ونتشارك مع الإخوة الأصاغر، ولا نحتقر أحدًا: "انظروا، لا تحتقروا أحد هؤلاء الصغار" (مت18: 10). "لا شيئًا بتحزب أو بعجب، بل بتواضعٍ، حاسبين بعضكم البعض أفضل من أنفسهم" (في2: 3).
(3) فيض الحب: وكما أن محبته لا يعبَّر عنها.. ينبغي أن نحب بعضنا بعضًا بدون شرط أو قيود.. "بهذا قد عرفنا المحبة: أن ذاك وضع نفسه لأجلنا، فنحن ينبغي لنا أن نضع نفوسنا لأجل الإخوة" (1يو3: 16).
(4) المحبة العملية: وكما أن محبته لنا عبَّر عنها بعطايا فائقة الوصف.. ينبغي لنا أن نحب الإخوة بالعطاء والخدمة وتسديد احتياجاتهم: "يا أولادي، لا نحب بالكلام ولا باللسان، بل بالعمل والحقِّ" (1يو3: 18). "وكونوا لطفاء بعضكم نحو بعضٍ، شفوقين متسامحين كما سامحكم الله أيضًا في المسيح" (أف4: 32). "بالمحبة اخدموا بعضكم بعضًا" (غل5: 13).
(5) الاحتمال: وكما احتمل المسيح آلام الصليب وما قبله، ليُخلِّصنا وليُخلِّص صالبيه أنفسهم، كذلك علينا أن نحتمل بعضنا بعضًا.. "فيجب علينا نحن الأقوياء أن نحتمل أضعاف (ضعفات) الضعفاء، ولا نرضي أنفسنا" (رو15: 1). "احملوا بعضكم أثقال بعضٍ، وهكذا تمِّموا ناموس المسيح" (غل6: 2).
والمسيحي هو إنسان حامل المسيح.. والمسيح هو الحب الخالص. والليتورجيا تبرز هذا الحب بإلحاح ذهني يثبته في قلوب وأذهان العابدين الروحانيين.. فنخرج من الكنيسة لا متحدين فقط – بفعل التناول من الأسرار المقدسة – ولكن أيضًا حاملين في أنفسنا نموذج الحب الإلهي الباذل والمتنازل، والمتجه إلى الآخر.. ليخدمه ويُسدد احتياجاته.
الإفخارستيا سر تجميع الكل في المسيح، لنكون جسدًا واحدًا.. باشتراكنا في الجسد الواحد، وفي القداس الإلهي تجتمع كل الكنيسة، مُتخطية حواجز المكان والزمان.. فيحضر معنا الغائبون عنا بالجسد، ويحضر معنا جمهور السمائيين، ونكون جميعًا شعبًا مجتمعًا حول المسيح القدوس، ثم نأكل جسده ونشرب دمه المقدس.. لتتعمق وحدتنا فيه وبه، ويتحقق قول الكتاب.. "لتدبير ملء الأزمنة، ليجمع كل شيء في المسيح، ما في السماوات وما على الأرض" (أف1: 10).
_____
(1) يُقصد هنا دم واحد في جسده الواحد.
(2) "الليتورجيا": كلمة يونانية، معناها الحرفي (العمل الجماعي)، ويُقصد بها الصلوات التي نُصليها معًا في الكنيسة.. مثل: القداس، والعشية، والتسبحة، واللقان... إلخ.
(3) "الأنافورا": كلمة يونانية، معناها (الصَعيدة)، ويُقصد بها الصلوات والقرابين التي نُصعدها لله، كذبيحة حب في سر الإفخارستيا.
(4) في تحليل الخدام.
(5) "الإبروسفارين" هو الغطاء الكبير القماش الذي يُغطى به المذبح والذبيحة، من بعد صلاة الشكر حتى نهاية صلاة الصلح، حينما يرفع الكاهن لتنكشف الذبيحة. وكلمة (بروسفارين) كلمة يونانية معاناها (التقدمة).
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/anba-raphael/all-may-be-one/eucharist.html
تقصير الرابط:
tak.la/623b6nf