هذه الأنشودة الجميلة التي بدأ بها القديس يوحنا الرسول الإنجيلي رسالته الأولى "الذي كان من البدء. الذي سمعناه الذي رأيناه بعيوننا، الذي شاهدناه ولمسته أيدينا من جهة كلمة الحياة. فإن الحياة أظهرت، وقد رأينا ونشهد ونخبركم بالحياة الأبدية التي كانت عند الآب وأُظهرت لنا" (1يو1: 1، 2).
إن التجسد الإلهي قد أعطى للإنسان الفرصة أن يدرك الله بحواسه الجسدية وليس بروحه فقط.
فالإنسان يختلف في طبيعته عن الملائكة الذين هم أرواح فقط كقول الكتاب "الصانع ملائكته رياحًا (أرواحًا) وخدامه لهيب نار" (عب1: 7).
الإنسان له جسد ونفس وروح عاقل. والجسد له خمس حواس يدرك بها الأشياء المحيطة به.
والإنسان له ذهن جسدي وعقل روحي مثلما قال معلمنا بولس الرسول عن الصلاة بلغة أخرى غير اللغة التي يعرفها الإنسان من موطنه: "إن كنت أصلي بلسان فروحي تصلّي، وأما ذهني فهو بلا ثمر. فما هو إذًا. أصلي بالروح، وأصلي بالذهن أيضًا. أرتل بالروح وأرتل بالذهن أيضًا" (1كو14: 14، 15).
أي أن القديس بولس الرسول يريد أن يشترك الجسد مع الروح في العبادة، يشترك الذهن الجسدي مع الروح العاقل في الإنسان.
الروح له إمكانيات تختلف عن إمكانيات الجسد لذلك قال القديس يوحنا الرسول في بداية رؤياه: "كنت في الروح في يوم الرب" (رؤ1: 10). وقال أيضًا بعد ذلك: "بعد هذا نظرت وإذا باب مفتوح في السماء والصوت الأول الذي سمعته كبوق يتكلّم معي قائلًا: اصعد إلى هنا فأريك ما لابد أن يصير بعد هذا وللوقت صرت في الروح؛ وإذا عرش موضوع في السماء وعلى العرش جالس. وكان الجالس في المنظر شبه حجر اليشب والعقيق وقوس قزح حول العرش في المنظر شبه الزمرد.." (رؤ4: 1-3).
إن الله لم يحتقر الجسد وسعى لخلاص جسد الإنسان، كما سعى لخلاص روحه. فالإنسان يحتاج للخلاص جسدًا وروحًا.. كل طبيعته البشرية تحتاج إلى الله وتحتاج إلى الخلاص وتحتاج إلى الحياة الأبدية.
ولهذا فعندما ظهر السيد المسيح لتلاميذه بعد قيامته من الأموات؛ استمر يؤكد لهم قيامته بالجسد الذي صلب به. وقد سجّل ذلك معلمنا لوقا الإنجيلي فقال: "وفيما هم يتكلمون بهذا وقف يسوع نفسه في وسطهم وقال لهم: سلام لكم. فجزعوا وخافوا وظنوا أنهم نظروا روحًا. فقال لهم: ما بالكم مضطربين، ولماذا تخطر أفكار في قلوبكم. انظروا يديّ ورجليّ إني أنا هو جسّوني وانظروا فإن الروح ليس له لحم وعظام كما ترون لي. وحين قال هذا أراهم يديه ورجليه. وبينما هم غير مصدقين من الفرح ومتعجبون قال لهم: أعندكم ههنا طعام. فناولوه جزءًا من سمك مشوي، وشيئًا من شهد عسل. فأخذ وأكل قدامهم" (لو24: 36-43).
وكتب القديس لوقا أيضًا في سفر أعمال الرسل عن السيد المسيح وتأكيده على قيامته للرسل الذين اختارهم "الذين أراهم أيضًا نفسه حيًا ببراهين كثيرة بعد ما تألم وهو يظهر لهم أربعين يومًا ويتكلم عن الأمور المختصة بملكوت الله" (أع1: 3).
وقد اهتم تلاميذ السيد المسيح كثيرًا بجسده بعد موته المحيي على الصليب سواء في طلبه من بيلاطس، أو في إنزاله عن الصليب، أو في تكفينه ودفنه، أو في الرغبة في وضع الأطياب عليه في فجر الأحد بواسطة النساء اللواتي أتين إلى القبر "فوجدن الحجر مدحرجًا عن القبر، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. فدخلن ولم يجدن جسد الرب يسوع. وفيما هن محتارات في ذلك إذا رجلان وقفا بهن بثياب براقة. وإذ كن خائفات ومنكسات وجوههن إلى الأرض قالا لهن: لماذا تطلبن الحي بين الأموات. ليس هو ههنا لكنه قام" (لو24: 2-6).
لم يحتمل الشعب في العهد القديم أن يظهر لهم الله على أعلى جبل سيناء ويكلّمهم "وكان جميع الشعب يرون الرعود والبروق وصوت البوق والجبل يدخّن. ولما رأى الشعب ارتعدوا ووقفوا من بعيد. وقالوا لموسى تكلّم أنت معنا فنسمع. ولا يتكلم معنا الله لئلا نموت" (خر20: 18، 19).
لذلك صار الله يكلّم الشعب بواسطة الأنبياء ولا يتكلم معهم مباشرة وعن ذلك قال معلمنا بولس الرسول: "الله بعد ما كلّم الآباء بالأنبياء قديمًا بأنواع وطرق كثيرة، كلّمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه الذي جعله وارثًا لكل شيء" (عب1: 1، 2). أي أمكن أن يتكلم الله مع البشر مباشرة بتجسد ابنه الوحيد.
لذلك قال القديس يوحنا الإنجيلي: "والكلمة صار جسدًا وحل بيننا، ورأينا مجده مجدًا كما لوحيدٍ من الآب مملوءًا نعمةً وحقًا" (يو1: 14).
من المفهوم طبعًا أن السيد المسيح قد اتخذ طبيعة بشرية كاملة جسدًا وروحًا عاقلًا وجعلها في وحدانية كاملة مع لاهوته بغير اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير.
ولكن مسألة التجسد قد أدت دورًا كبيرًا في تلامس الإنسان مع الله وتآلفه معه وإدراكه لكثير من الأمور التي جعلته يتمتع بمفاعيل الخلاص وينطلق نحو الحياة الروحية التي تؤهله لميراث ملكوت السماوات.
لذلك قال معلمنا يوحنا الإنجيلي: "رأينا مجده" (يو1: 14). وقال معلمنا بطرس الرسول: "لأننا لم نتبع خرافات مصنعّة إذ عرفناكم بقوة ربنا يسوع المسيح ومجيئه؛ بل قد كنا معاينين عظمته. لأنه أخذ من الله الآب كرامة ومجدًا إذ أقبل عليه صوت كهذا من المجد الأسنى هذا هو ابني الحبيب الذي أنا سررت به. ونحن سمعنا هذا الصوت مقبلًا من السماء إذ كنا معه في الجبل المقدس" (2بط1: 16-18).
لقد تلامس التلاميذ، الذين هم شهود الإنجيل، مع السيد المسيح بالسمع والنظر واللمس قبل القيامة من الأموات وبعدها، ووصلت ذروة تلامسهم من بعد القيامة إذ أدركوا حقيقة القيامة والحياة الأبدية. لذلك قال القديس يوحنا عن تلامسهم هذا: "فإن الحياة أظهرت، وقد رأينا ونشهد ونخبّركم بالحياة الأبدية التي كانت عند الآب وأُظهرت لنا" (1يو1: 2).
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/anba-bishoy/christ/saw.html
تقصير الرابط:
tak.la/4yvsx82