"ونحو الساعة التاسعة صرخ يسوع بصوت عظيم قائلًا: إيلي إيلي لما شبقتني، أي إلهي إلهي لماذا تركتني؟" (مت27: 46).. يقول قداسة البابا شنودة الثالث -أطال الرب حياته: إن هذه العبارة لا تعني ترك الآب للابن بمعنى الانفصال أو الابتعاد بينهما، ولكنها تعني (لماذا تركتني في هذا العذاب). مثلما يأخذ أحد الأشخاص ابنه لطبيب الأسنان ويمسك بيده وهو على كرسي الطبيب أثناء الحفر في أسنانه، وحينما يشعر الابن بالألم يقول لأبيه (يا بابا أنت سايبني ليه؟!) فيقول له والده (أنا معك يا ابني ولم أتركك). ويكون ممسكًا بيده طول الوقت. لقد ترك الآب السماوي ابنه الحبيب يتألم ويذوق بنعمة الله الموت لأجل كل واحد (انظر عب2: 9).
إن عبارة "لماذا تركتني؟" قد قالها السيد المسيح في صيغة سؤال. وكل سؤال له إجابة. وإجابة هذا السؤال نجدها في إشعياء النبي الذي قال: "أما الرب فسُرَّ بأن يسحقه بالحزن إن جعل نفسه ذبيحة إثم" (إش 53: 10) بمعنى؛ أن الآب ترك الابن يتعذب على الصليب لأنه قَبِل بإرادته أن يفتدي البشرية وأن يدفع ثمن عقوبة خطايا البشر. إن في سؤال السيد المسيح الذي صرخ به على الصليب، دعوة للجميع لكي يبحثوا عن الإجابة. وهي أنه "مجروح لأجل معاصينا مسحوق لأجل آثامنا" (إش53: 5).
يضاف إلى ذلك أن السيد المسيح قد أراد تنبيه رؤساء اليهود إلى بداية المزمور الثاني والعشرين الذي يحوي نبوات كثيرة عن صلبه وعن سخريتهم به. وهو ما تمموه بالفعل وقت أن كان معلقًا على الصليب. فالمزمور الذي يبدأ بعبارة "إلهي إلهي لماذا تركتني بعيدًا عن خلاصي؟" يقول أيضًا "أما أنا فدودة لا إنسان. عار عند البشر ومحتقر الشعب. كل الذين يرونني يستهزئون بي. يفغرون الشفاه وينغضون الرأس قائلين: اتكل على الرب فلينجه. لينقذه لأنه سر به" (مز22: 6-8). لقد أراد السيد المسيح أن يجعلهم يخجلون من هجومهم عليه فنطق ببداية كلمات المزمور المعروف لديهم.
وفي قول السيد المسيح في نبوة المزمور: "أما أنا فدودة لا إنسان" هل صار بالفعل دودة وليس إنسانًا؟! أم أنه يقصد أنه صار في نظر اليهود مثل دودة محتقرة "عار عند البشر ومحتقر الشعب". وهكذا عند قوله "لماذا تركتني"يقصد أنه قد صار متروكًا في نظرهم فقط لأنه صار مثل المصاب المضروب من الله كقول إشعياء النبي: "ونحن حسبناه مصابًا مضروبًا من الله ومذلولًا. وهو مجروح لأجل معاصينا مسحوق لأجل آثامنا" (إش53: 4، 5). فعبارة "ونحن حسبناه" توضح أن هذا كان في فكر الناظرين إلى المصلوب.
أما ما يحسم القضية في كل هذا الجدال أنه في نفس المزمور الذي يصف آلام السيد المسيح وثقب يديه ورجليه يقول: "يا خائفي الرب سبحوه.. لأنه لم يحتقر ولم يرذل مسكنة المسكين ولم يحجب وجهه عنه، بل عند صراخه إليه استمع" (مز22: 23، 24) إذن فالآب لم يحجب وجهه عن الابن على الصليب بل بالعكس لقد استمع إلى صراخه واستجاب له وقبل شفاعته الكفارية عن البشر، وهذا ما تتغنى به الكنيسة عن السيد المسيح في لحن "Vai `etafenf في إيتاف إنف" (هذا الذي أصعد ذاته ذبيحة مقبولة على الصليب عن خلاص جنسنا، فاشتمه أبوه الصالح وقت المساء على الجلجثة).
تدّعي إيلين هوايت النبية المزعومة للأدفنتست السبتيين في كتابها المشهور بعنوان "مشتهى الأجيال" أن يسوع المسيح الابن الوحيد، الإله المتأنس، قد انفصل عن الآب وقت آلامه.
كما ينزلق البعض من الكُتّاب، ويتحدثون عن الترك الحتمي الذي تركه الآب للابن وقت الصلب لكي لا يلحق عار الصليب بالآب، ويستندون في ذلك إلى قول السيد المسيح على الصليب: "إلهي إلهي لماذا تركتني" (مت27: 46، انظر مز22: 1).
يلزمنا أن نبحث فيما ورد في الكتب المقدسة عن استحالة ترك الآب للابن بمعنى تباعده عنه، واستحالة انفصاله عنه بأي حال من الأحوال.
نبدأ بما قاله السيد المسيح نفسه وسجّله القديس يوحنا الرسول في إنجيله في عدة مواضع:
ففي حديث السيد المسيح مع تلاميذه في ليلة آلامه وقبل القبض عليه وصلبه مباشرة قال لهم: "هوذا تأتي ساعة وقد أتت الآن تتفرقون فيها كل واحد إلى خاصته وتتركونني وحدي. وأنا لست وحدي لأن الآب معي" (يو16: 32).
وفي حديثه مع اليهود، أراد أن يشير إلى أن أحداث صلبه وقيامته المقبلة سوف تكشف للكثيرين أنه هو الله الكلمة المتجسد الذي قهر الموت وانتصر عليه بموته وبقيامته، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. وأن هذه الأمور كلها هي بتدبير إلهي واحد، وبقدرة إلهية واحدة، لا ينفصل فيها الابن عن الآب، ولا يترك فيه الآب الابن "فقال لهم يسوع: متى رفعتم ابن الإنسان (أي متى رفعوه على الصليب) فحينئذ تفهمون أني أنا هو. ولست أفعل شيئًا من نفسي، بل أتكلم بهذا كما علمني أبي. والذي أرسلني هو معي ولم يتركني الآب وحدي لأني في كل حين أفعل ما يرضيه" (يو8: 28، 29).
وقد قال إشعياء النبي عن واقعة الصلب: "أما الرب فسرَّ (أي كان مسرورًا) بأن يسحقه بالحزن إن جعل نفسه ذبيحة إثم يرى نسلًا تطول أيامه ومسرة الرب بيده تنجح" (إش53: 10).
فقول السيد المسيح: "لم يتركني الآب وحدي، لأني في كل حين أفعل ما يرضيه" (يو8: 29) ينطبق بالأكثر على واقعة الصلب التي قدّم فيها طاعة حتى الموت للآب السماوي، وصنع مسرته. بدليل قول إشعياء النبي عن الآب أنه "سر بأن يسحقه بالحزن"وعن مسرة الآب به "ومسرة الرب بيده تنجح".
وإذا كان الآب لم يترك الابن وحده في أي وقت منذ أن أرسله إلى العالم، لأنه يفعل في كل حين ما يرضيه، فمن باب أولى لا يتركه حينما يفعل مسرته في طاعة كاملة بتقديم نفسه ذبيحة من أجل خلاص العالم. ولا شك أن عبارة كل حين تشمل وقت آلامه.
معلوم يقينًا أن الجوهر الإلهي واحد لا يتجزأ ولا ينقسم. ولذلك فإن الآب والابن والروح القدس يجمعهم معًا جوهر واحد وكينونة واحدة ولهم طبيعة إلهية واحدة، بالرغم من التمايز الأقنومي لكل منهم، إذ أن الآب له الأبوة والابن له البنوة والروح القدس له الانبثاق.
وقد تكلّم السيد المسيح كثيرًا عن وحدانيته مع الآب فقال في حديثه مع الآب عن تلاميذه: "ليكونوا واحدًا كما أننا نحن واحدٌ" (يو17: 22) وقال أيضًا: "ليكون الجميع واحدًا كما أنك أنت أيها الآب فيَّ وأنا فيك ليكونوا هم أيضًا واحدًا فينا ليؤمن العالم أنك أرسلتني" (يو17: 21).
وقال لليهود: "إن كنت لست أعمل أعمال أبي فلا تؤمنوا بي. ولكن إن كنت أعمل، فإن لم تؤمنوا بي فآمنوا بالأعمال لكي تعرفوا وتؤمنوا أن الآب فيَّ وأنا فيه" (يو10: 37، 38). وقال لهم أيضًا: "أنا والآب واحد" (يو10: 30)، بما لا يدع مجالًا للشك في عدم الانفصال.
وقال السيد المسيح لتلميذه فيلبس ولسائر تلاميذه: "الذي رآني فقد رأى الآب فكيف تقول أنت أرنا الآب. ألست تؤمن أني أنا في الآب والآب فيَّ. الكلام الذي أكلمكم به لست أتكلم به من نفسي لكن الآب الحال فيَّ هو يعمل الأعمال. صدقوني أني في الآب والآب فيَّ" (يو14: 9-11).
إنه من المستحيل أن ينفصل الآب عن الابن من حيث لاهوته وإلا دخلنا في تعدد الآلهة. كما إنه من المستحيل أن ينفصل لاهوت الابن عن ناسوته، أي أن تنفصل طبيعته الإلهية عن طبيعته الإنسانية.
فمثلًا حينما قال السيد المسيح لتلميذه فيلبس: "الذي رآني فقد رأى الآب.. ألست تؤمن أني أنا في الآب والآب فيَّ"، من الواضح أن الذي رآه فيلبس هو جسد السيد المسيح المتحد باللاهوت، أي هو الله الكلمة المتجسد، ولا يمكن لفيلبس أن يرى لاهوت المسيح مجرّدًا، لأن الله الابن قال لموسى عن مجد لاهوته: "الإنسان لا يراني ويعيش" (خر33: 20). وقال القديس يوحنا الإنجيلي عن الآب: "الله لم يره أحد قط. الإله الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبّر" (يو1: 18). أي أن لاهوت المسيح حينما اتحد بالناسوت، أعطانا الإمكانية أن نرى الله حينما تجسد الله الكلمة. فعبارة "الذي رآني فقد رأى الآب" تؤكد عدم انفصال الناسوت عن اللاهوت في المسيح الواحد.
ونفس الأمر ينطبق على أعمال السيد المسيح التي عملها، وكلامه الذي قال وهو في الجسد فهذه كلها كان يعملها وينطق بها بناسوته المتحد باللاهوت. مثل لمسه بيده للأبرص الذي شفاه "فمدّ يده ولمسه.. وللوقت ذهب عنه البرص" (لو5: 13)، وعبارة "لعازر هلم خارجًا" (يو11: 43) التي نطق بها بفمه وأقام لعازر من الموت. وعن ذلك قال السيد المسيح: "الكلام الذي أكلمكم به لست أتكلم به من نفسي (أي منفصلًا عن الآب). لكن الآب الحال فيَّ هو يعمل الأعمال" (يو14: 10).
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/anba-bishoy/christ/left.html
تقصير الرابط:
tak.la/3f68nr8