هذا الأمر كان في كل مراحل حياة السيد المسيح من ميلاده إلى موته على الصليب..
كان الشيطان في حيرة وارتباك عظيمين منذ ميلاد السيد المسيح وما صاحب هذا الميلاد من مظاهر الاتضاع والعظمة في آنٍ واحد.
فميلاده من عذراء بسيطة متواضعة في حظيرة للخراف كطفل مقمّط مضطجع في مزود؛ كان في تقديره لا يتناسب مع عظمة الإله الكلمة المتجسد. مجرد ميلاده كطفل محتاج للرعاية كان ضد فكر العظمة لدى الشيطان.
ولكن تسابيح جماهير الملائكة في السماء بعد ظهور الملاك للرعاة الساهرين، هذه التسابيح قد أربكت الشيطان وشعر أن المولود ليس إنسانًا عاديًا.
وعمومًا فإن فكرة أن يُخلي الابن الوحيد نفسه من مجده الإلهي لكي يتجسد من عذراء، ويأخذ صورة عبد "الذي إذ كان في صورة الله لم يحسب مساواته لله اختلاسًا لكنه أخلى نفسه آخذًا صورة عبد صائرًا في شبه الناس وإذ وُجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب" (فى2: 6-8)..
فكرة إخلاء الذات في حد ذاتها كانت بعيدة جدًا عن حسابات الشيطان الممتلئ غرورًا وكبرياءً. وحقيقة أن السيد المسيح يخفي مجده المنظور عندما تجسد آخذًا صورة عبد؛ كانت فوق تصوُّر الشيطان. لهذا ارتبك الشيطان عند ميلاد السيد المسيح ولم يقدر أن يحدد طبيعة المولود الحقيقية.
جاء المجوس للسجود للسيد المسيح بإرشاد النجم المعجزي الذي قادهم إلى البيت حيث كان الصبي فسجدوا له وقدّموا هداياهم ذهبًا ولبانًا ومُرًّا.
كان لتلك الأحداث وقع سيئ على الشيطان الذي بدأ يشعر بخطورة المولود "ملك اليهود" (مت 2: 2).
ولكنه عندما وجد القديس يوسف يأخذ الصبي وأمه ويهرب إلى مصر من وجه هيرودس الملك شعر أن المولود لا يمكن أن يكون هو ملك الملوك ورب الأرباب. لأنه بحسب فكره: كيف يهرب العظيم من أحد عبيده مثل هيرودس الملك؟ هل يمكن أن يهرب الرب الذي الكل خاضع بعنق العبودية تحت خضوع قضيب ملكه؟ هذا الأمر حيّر الشيطان جدًا، إذ لم يفهم أن هروب السيد المسيح إلى مصر كان ضمن خطته الإلهية في مباركة أرض مصر وشعبها وزعزعة مملكة الشيطان هناك، ولم يفهم أن الهروب إلى مصر كان مرتبطًا بمذبحة أطفال بيت لحم وما قيل عنها من نبوات وما تحمله من رموز، وإن الهروب إلى مصر كان لسبب أن الصليب هو طريق المسيح المولود إلى إتمام الفداء بعد عماده في نهر الأردن، وبعدما يختار تلاميذه ويعلّمهم ويعلّم الجموع، ويكرز بالإنجيل، ويصنع المعجزات، ويعمل كل ما عمله لتأسيس الكنيسة. فكيف يمكن لطفل مولود أن يفعل كل ذلك ويكون معلّمًا وقائدًا روحيًا، أو أن يحمل الصليب في الطريق إلى الجلجثة، ولماذا؟
إذن كان من الطبيعي أن يؤجّل السيد المسيح مسألة ذبحه إلى أن يكبر في السن -بحسب إنسانيته- ويصنع كل ما صنع متممًا نبوات الأنبياء.
كان الشيطان في ارتباك -كما قلنا- في كل مراحل حياة وخدمة السيد المسيح. وظهر ذلك الارتباك أيضًا حينما سمح له السيد المسيح أن يجرّبه بعد صومه الطويل على الجبل فقال له الشيطان: "إن كنت ابن الله فقل أن تصير هذه الحجارة خبزًا" (مت4: 3). وقال أيضًا: "إن كنت ابن الله فاطرح نفسك إلى أسفل" (مت4: 6).
ظل هذا السؤال "إن كنت ابن الله؟" يتردد في روع الشيطان إما يردده هو، أو يدفع الآخرين لترديده؛ مثلما قال قداسة البابا شنودة الثالث -أطال الرب حياة قداسته- عن هذا السؤال: (ويُرفع المسيح على الصليب والشيطان ما يزال معذبًا في شكوكه، وإذ أخفى الرب عنه قوته ما يزال يسأل سؤاله القديم: "إن كنت ابن الله فانزل عن الصليب" (مت 27: 40)).
وبالرغم من أن الشيطان حينما رأى معجزات السيد المسيح قد صرخ قائلًا: "أنا أعرفك من أنت: قدوس الله" (مر1: 24)، إلا أنه عاد فشك في ذلك حينما كان السيد المسيح يتصرف بطريقة إنسانية طبيعية مثل أنه يصلي إلى الآب، أو أن يحتمل قول اليهود عنه أنه ببعلزبول رئيس الشياطين يخرج الشياطين، أو أن يتكلم عن آلامه وصلبه وموته بواسطة الأشرار. مثلما كتب قداسة البابا عن شك الشيطان في لاهوت السيد المسيح بعد أن ادّعى أنه قد عرفه من هو (ولكنه يسمع الرب بعد ذلك مباشرةً يُظهر لتلاميذه أنه ينبغي أن يذهب إلى أورشليم "ويتألم كثيرًا من الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة ويقتل وفي اليوم الثالث يقوم" (مت16: 21) فيتعجب كيف يكون هو ابن الله ويتألم ويُقتل؟!).
وقد شرح قداسة البابا شنودة الثالث سبب إخفاء السيد المسيح قوة لاهوته عن الشيطان فقال: (في الواقع إنه من أبرز الأسباب التي تجعل البعض يظن أن السيد المسيح كان ضعيفًا هو أن الرب كان باستمرار يخفي قوته، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. كان يخفيها من باب الاتضاع، وكان أيضًا يخفيها عن الشيطان لدرجة أن الشيطان كان يقف متحيرًا أمام حقيقة المسيح يسأل نفسه أهو حقًا المسيح أم أنه ليس هو؟ "يا ترى هو واللا مش هو؟". ولم يكن من الصالح أن يعرف الشيطان حقيقة المسيح لئلا يبذل جهده لعرقلة عمل الفداء لأن الشيطان لا يحب خلاص العالم وكان يتمنى أن ذلك لا يتم).
ثم استطرد قداسة البابا شنودة الثالث -أطال الرب حياة قداسته- وعرض كثير من الأمثلة لهذا الشك الذي وقع فيه الشيطان نتيجة لإخفاء الرب قوته الإلهية عنه وأورد ذلك كله في كتاب "مجموعة تأملات في أسبوع الآلام" في الصفحات من 67 إلى 75 وهي نفسها التي أوردها في الكتاب الثاني من هذه الكتب بعنوان "لك القوة والمجد"في الصفحات من 37 إلى 49. وسوف نجد في هذه الأمثلة الكثير والكثير مما نستفيد منه في فهم هذا الموضوع العقائدي المهم.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/anba-bishoy/christ/how.html
تقصير الرابط:
tak.la/tk722cp