سؤال 14: المسيحيون يقولون بأن الله ضحى بابنه الوحيد لكي يُخلصنا، إذًا لمن أعطى الله الضحية إذا كان الله يملك الكون كله؟
في هذا السؤال خداع فلسفي.
فعلًا الله يملك كل ما في الوجود لكنه لا يملك حرية إرادة أي كائن. يملك الكائن نفسه، لكنه لا يملك حرية إرادته. لأنه إذا ملك حرية إرادته، فهو ليس حرًا فكيف يُحاسب. هذه الحقيقة غائبة في السؤال.
ويمكننا شرح هذه النقطة بأمثلة:
الطاعة والعصيان: هل يمكن إنكار أن الشيطان عصى الله؟ فرغم أن الله يملك الشيطان إلا أن الشيطان عصاه (وواضع السؤال لا يستطيع أن ينكر هذه الحقيقة) فهل الله يملك العصيان؟ إذا كانت إجابته بالإيجاب يكون قد خرج عن حدود المنطق. العصيان هو كسر وصايا الله، والخطية هي التعدي.
إذن الله يملك الكون كله، لكنه لا يُلغى حرية إرادة الخليقة العاقلة، ويعطيها الفرصة أن تصنع الخير فترضيه، فيتنسمها رائحة رضى وسرور، أو تصنع الشر فتُغضبه. هذه أساسيات للحوار.
إذن يوجد هنا تغييب لجزء هام من الحقيقة، إن الذي قُدم للآب على الصليب هو طاعة كاملة، أرضت قلب الآب، وقُدِمَتْ من خلال الإنسان، لأن المسيح أخذ طبيعة الإنسان. فكما أن الإنسان عصى الله الآب حتى الموت، فالمسيح أطاع الله حتى الموت. لأن الله حذّر آدم قائلًا "مَوْتًا تَمُوتُ" (تك2: 17)، فالعصيان كان إلى حد الموت والمسيح أطاع الله حتى الموت. إذن الذي قُدّم لله الآب هو طاعة كاملة، وهذه الطاعة هي ملك الكائن العاقل.
إذا قُلت أن المسيح هو والآب واحد ولهم جوهر واحد إلهي عاقل، أجيبك بأن السيد المسيح في هذه الحالة أخلى نفسه آخذًا صورة عبد وصار هو آدم الجديد. "كَأَنَّمَا بِإِنْسَانٍ وَاحِدٍ دَخَلَتِ الْخَطِيَّةُ إِلَى الْعَالَمِ وَبِالْخَطِيَّةِ الْمَوْتُ وَهَكَذَا اجْتَازَ الْمَوْتُ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ إِذْ أَخْطَأَ الْجَمِيعُ" (رو 5: 12). وأيضًا "لأَنَّهُ كَمَا فِي آدَمَ يَمُوتُ الْجَمِيعُ هَكَذَا فِي الْمَسِيحِ سَيُحْيَا الْجَمِيعُ" (1كو15: 22). وكما قاد آدم البشرية كلها إلى حالة التعدي والعصيان، قاد أيضًا السيد المسيح المفديين إلى حالة الطاعة الكاملة لله الآب، كرأس للكنيسة، وكنائب عن البشرية، قدم رائحة رضا وسرور لأبيه السماوي مُمثلًا للإنسان.
فعلى الصليب أخذ الآب دور الديان لأن هناك تمايز بين الأقانيم. لكن ليس معنى هذا أن الآب ديان والابن ليس ديانًا، أو أن هناك فرق في الجوهر. لا.. الابن سيُدين العالم كله في النهاية، والله الآب سيقول له: أنت الذي دفعت الثمن فمن حقك أن تطالب بحقك من البشرية. فالخلاص هو منحة وهبها السيد المسيح للخطاة الذين يحتاجون الحياة كنعمة وهبة للبشرية.
إذن الذبيحة قُدمت للآب السماوي بواسطة ابنه الوحيد في الروح القدس. في رسالة العبرانيين يقول "الْمَسِيحِ، الَّذِي بِرُوحٍ أَزَلِيٍّ قَدَّمَ نَفْسَهُ لِلَّهِ بِلاَ عَيْبٍ" (عب9: 14). أي بالروح القدس قدّم نفسه كحمل بلا عيب للآب السماوي.
وهناك اعتبارات أخرى كثيرة وهي أن البشرية عندما سقطت في الخطية، قد باعت نفسها للشيطان، {كنا ممسكين به مبيعين من قبل خطايانا} كما نقول في القداس الإلهي. فأصبح الجنس البشرى مُباعًا لإبليس بسبب العصيان. كان الله يملكه كشيء يسُر قلبه ولشركة معه، فعندما باعت البشرية نفسها للموت، الله يملكها أيضًا، لكن يملكها ككيان متهالك، مثلما تمتلك سيارة خُردة، حقًا أنت تملكها لكنها لا تصلح للاستعمال. هناك فرق بين ملكية لكيان مقدس في شركة مع الله، وملكية لكيان فاسد محكوم عليه بالموت، ويقع تحت سلطان إبليس في مملكة الظلمة الروحية. هذه الملكية تؤدى أن الله يدين هذا الشر، فرغم أن الشرير ملك الله، لكنه هلك. و"ابْنَ الإِنْسَانِ قَدْ جَاءَ لِكَيْ يُخَلِّصَ مَا قَدْ هَلَكَ" (مت 18: 11). إذن هناك فرق بين الملكية المقدسة والملكية الفاسدة. لذلك عندما أخذ المسيح جسم بشريتنا " فَإِذْ قَدْ تَشَارَكَ الأَوْلاَدُ فِي اللَّحْمِ وَالدَّمِ اشْتَرَكَ هُوَ أَيْضًا كَذَلِكَ فِيهِمَا" (عب 2: 14)، أخذ جسم بشريتنا لكي يرجعه إلى سرور وملكية الآب على ألا تكون الملكية التي تُلقى في سلة المهملات. فسلة المهلات أيضًا هي ملكك لكنك تضعها خارجًا. "يُطْرَحَ خَارِجًا وَيُدَاسَ مِنَ النَّاسِ" (مت5: 13).
واضع السؤال لم يأت بفكرة أن الله لا يملك حرية الناس، وإلا هو يلغيها، فالله يعطى حرية إرادة للناس ثم يتركهم للتصرف بمقتضى اختيارهم وحرية هذه الإرادة. إذن لا يستطيع احد أن يقول أن الله يملك حرية إرادتهم، هو يملك مصيرهم لكنه لا يملك حرية إرادتهم.
وهنا أسأل السائل السؤال التالي: إذا صليت لمن الصلاة؟ لا يستطيع أحد أن ينكر أن الصلاة مقدمة إلى الله. فإن كان الله يملك كل شيء فلماذا تُصلى؟ هو يملك فمك وعقلك ولسانك فلماذا تُصلى؟ تُصلى لأنك تملك عقل تُفكر به، وقلب تشعر به، فإذا كنت تٌحب ربنا ستُصلى له. إذن الصلاة هي تقدمة إلى الله مع أن الله يملك فكرك وعقلك ولسانك وقلبك وكل شيء.
هنا خداع في المنطق وأنا أقول لمرسل السؤال: أنت رجل من الواضح أن عندك عقلية قوية وفكر متسع فأنا أتصور أنك سوف تسحب هذا السؤال بسرعة. وأنا أقول له لو سمحت اسحب هذا السؤال لأنه لا يتفق مع أي منطق نهائيًا بالرغم من أنه يبدو لأول وهلة سؤالًا منطقيًا.
المسيح حينما أخذ جسم بشريتنا وقدمه للآب معنى ذلك أنه يُدخل البشرية التي ضاعت وتاهت في ملكية الآب مرة أخرى. لذلك يقول "أَقَامَهُ اللهُ" (أع 2: 24)، "ارْتَفَعَ بِيَمِينِ اللهِ" (اع 2: 33). لماذا قال "ارْتَفَعَ بِيَمِينِ اللهِ" مع أنه صعد بقدرته الإلهية؟ هذا لكي يُرينا مدى مسرة الآب بهذه التقدمة. وقال "أقامه": لأن المسألة تقتضى أن الذي حُكم عليه بالإعدام وهو برئ أن يعود للحياة ويُكرّم. "كَانَ يَنْبَغِي أَنَّ الْمَسِيحَ يَتَأَلَّمُ بِهَذَا وَيَدْخُلُ إِلَى مَجْدِهِ" (لو24: 26). فلابد أن يُكرم، لذلك يقول الكتاب أنه "رُفِعَ فِي الْمَجْدِ" (1تى3: 16) و"ارْتَفَعَ إِلَى السَّمَاءِ وَجَلَسَ عَنْ يَمِينِ اللَّهِ" (مر16: 19)، "جَلَسَ فِي يَمِينِ الْعَظَمَةِ فِي الأَعَالِي" (عب 1: 3). والملائكة احتفلت به وتساءلت من هذا؟ فقيل "الرب العزيز القدير القاهر في الحروب هذا هو ملك المجد" (مز23: 8). عندما دخل السيد المسيح للمقادس السماوية استُقبل استقبالًا حافلًا جدًا، باحتفال لم يحدث في السماء منذ خِلقة الملائكة. ثم سيكون الاحتفال الأكبر في المجيء الثاني عندما يُحضر الكنيسة ويدخل بها العُرس السماوي. (مثل ملك تعمل له حفلة في يوم نصرته ثم حفلة أخرى في يوم زفافه). كل هذا تكريم (لكن طبعًا لا اقصد هنا زفاف جسدي إنما زفاف الكنيسة والسيدة العذراء العروس التي بلا عيب التي تتزين بها الكنيسة).
كل هذا الكلام عكس الموجود بالسؤال. فالمسيح يدخلنا في ملكية الآب، بمعنى أن بشريتنا سقطت تحت سلطان الموت، والمسيح إذ عرف إنها غير قادرة على التحرر من الموت أخذ هذه الطبيعة وعبر بها. مثل طفل صغير لا يستطيع أن يعبر النهر فيأتي شخص كبير طويل القامة ويعبر به المياه. نحن لم نكن نستطيع أن نعبر الموت لكنه هو عبره. وهذه المأمورية لا يستطيع أن يقوم بها أي إنسان؟ من يستطيع أن يعبر الجحيم إلى الفردوس؟ لم يستطع أحد فكل الذين ذهبوا لم يعودوا. الوحيد الذي ذهب إلى الجحيم ودمره وعبر بالقديسين من الجحيم إلى الفردوس كان هو ملك المجد القاهر في الحروب. من أقوى من إبليس حتى يمكنه الانتصار عليه؟
إذن الآب بذل الابن "هَكَذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ" (يو 3: 16)، لكن الابن هو الذي قدم نفسه باعتباره رئيس الكهنة الأعظم، فقدم نفسه لله أبيه "الْمَسِيحِ، الَّذِي بِرُوحٍ أَزَلِيٍّ قَدَّمَ نَفْسَهُ لِلَّهِ بِلاَ عَيْبٍ" (عب 9: 14). ويقول "إِنَّ اللهَ كَانَ فِي الْمَسِيحِ مُصَالِحًا الْعَالَمَ لِنَفْسِهِ" (2كو 5: 19) ويقول "وَأَرْسَلَ ابْنَهُ كَفَّارَةً لِخَطَايَانَا" (1يو 4: 10). ونحن نقول عن الابن {هذا الذي أصعد ذاته ذبيحة مقبولة عن خلاص جنسنا فاشتمه أبوه الصالح وقت المساء على الجلجثة}.
فالمذكور هو أن الآب أرسل وأنه بذل لكن الذي قام بتقديم الذبيحة هو الابن، وهو الذي قدم نفسه لأبيه.
إذن حينما نفهم الثالوث نفهم أنه على الصليب أخذ الآب موقف الديان والابن أخذ موقف الشفيع الكفاري. لذلك قال السيد المسيح "لأَنَّ الآبَ لاَ يَدِينُ أَحَدًا بَلْ قَدْ أَعْطَى كُلَّ الدَّيْنُونَةِ لِلاِبْنِ. لِكَيْ يُكْرِمَ الْجَمِيعُ الاِبْنَ كَمَا يُكْرِمُونَ الآبَ" (يو 5: 22-23). ففي يوم الدينونة كأن الآب يقول للابن أنا على الصليب كنت الديان أخذت للعدل الإلهي حقه في ذبيحة الفداء لكن أين حقك أنت. لذلك يقول "كَمْ عِقَابًا أَشَرَّ تَظُنُّونَ أَنَّهُ يُحْسَبُ مُسْتَحِقًّا مَنْ دَاسَ ابْنَ اللهِ، وَحَسِبَ دَمَ الْعَهْدِ الَّذِي قُدِّسَ بِهِ دَنِسًا، وَازْدَرَى بِرُوحِ النِّعْمَةِ" (عب 10: 29). ففي يوم الدينونة يقول له الآب قل لهم أنا سفكت دمى فمن حقي أنا الآن أن أكون الديان.
إبراهيم أبو الآباء قال للسيد المسيح "إِنِّي قَدْ شَرَعْتُ أُكَلِّمُ الْمَوْلَى وَأَنَا تُرَابٌ وَرَمَادٌ" (تك 18: 27). وقال له أيضًا "أَدَيَّانُ كُلِّ الأَرْضِ لاَ يَصْنَعُ عَدْلًا؟" (تك18: 25). وأنا أعتقد لا يوجد اختلاف بيننا وبين صاحب هذا السؤال في أن الله هو الديان.
لكن بغض النظر عن أن الذي كان يكلم إبراهيم هو الابن الذي ظهر لإبراهيم تحت بلوطات ممرا إلا أن إبراهيم خاطبه قائلًا "إِنِّي قَدْ شَرَعْتُ أُكَلِّمُ الْمَوْلَى وَأَنَا تُرَابٌ وَرَمَادٌ" وقيل أيضًا "أَمَّا إِبْرَاهِيمُ فَكَانَ لَمْ يَزَلْ قَائِمًا أَمَامَ الرَّبِّ" (تك 18: 22). وكلمة "الرب" في النص العبري هي "يهوه" أي "الكائن" وهو اسم الله الخصوصي جدًا، فإبراهيم يقول لمن ظهر له "أَدَيَّانُ كُلِّ الأَرْضِ لاَ يَصْنَعُ عَدْلًا".
وفي الأصحاح الخامس من إنجيل يوحنا يقول "الآبَ لاَ يَدِينُ أَحَدًا بَلْ قَدْ أَعْطَى كُلَّ الدَّيْنُونَةِ لِلاِبْنِ" (يو 5: 22). ولكن كيف لا يدين الآب أحدًا في يوم الدينونة؟ هل هذا معقول؟ وما تفسير ذلك؟
تفسير ذلك في المفهوم المسيحي أنه على من يفهم عقيدة الثالوث بطريقة سليمة أن يأخذ الأمر من بدايته وليس من الوسط لأنه لو أخذ من الوسط سوف يهدم كل المنظومة الخاصة بالعقيدة المسيحية.
إن المفهوم المسيحي هو أن الثلاثة أقانيم دائمًا يشتركون في عمل واحد، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. مثلما قال السيد المسيح نفسه في نفس الأصحاح لليهود "أَبِي يَعْمَلُ حَتَّى الآنَ وَأَنَا أَعْمَلُ" (يو5: 17)، وذلك حينما شفى المريض المفلوج عند بركة بيت حسدا فأراد اليهود أن يقتلوه إذ أنه بذلك يكون قد كسر السبت في نظرهم. فقال لهم "أَبِي يَعْمَلُ حَتَّى الآنَ وَأَنَا أَعْمَلُ. فَمِنْ أَجْلِ هَذَا كَانَ الْيَهُودُ يَطْلُبُونَ أَكْثَرَ أَنْ يَقْتُلُوهُ لأَنَّهُ لَمْ يَنْقُضِ السَّبْتَ فَقَطْ بَلْ قَالَ أَيْضًا إِنَّ اللَّهَ أَبُوهُ مُعَادِلًا نَفْسَهُ بِاللَّهِ" (يو 5: 17-18).
إن عبارة "أَبِي يَعْمَلُ حَتَّى الآنَ وَأَنَا أَعْمَلُ" (يو5: 17) تعني إنني حينما أشفى المفلوج فإن الآب يعمل وأنا أعمل في يوم السبت، لأن الإنسان سقط في اليوم السابع الذي استراح الله فيه. فكيف يستريح الله من عمله الذي عمل خالقًا (انظر تك 2: 3) بعد سقوط الإنسان؟ "إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِي الْمَسِيحِ فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ" (2كو 5: 17). وورد أيضًا في سفر الرؤيا "قَالَ الْجَالِسُ عَلَى الْعَرْشِ: هَا أَنَا أَصْنَعُ كُلَّ شَيْءٍ جَدِيدًا" (رؤ 21: 5). أي أن الله بعدما استراح عاد يخلق من جديد. وذلك لكي يمهد للأسبوع الجديد الذي نعتبره نحن الأبدية، والذي يرمز له باليوم الثامن من الأسبوع، الذي هو اليوم الأول من الأسبوع الجديد، أي يوم الأحد الذي صار هو يوم الرب.
إن العمل مشترك بين الأقانيم الثلاثة.. فحينما خلق "فِي الْبَدْءِ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ. وَكَانَتِ الأَرْضُ خَرِبَةً وَخَالِيَةً وَعَلَى وَجْهِ الْغَمْرِ ظُلْمَةٌ وَرُوحُ اللهِ يَرِفُّ عَلَى وَجْهِ الْمِيَاهِ. وَقَالَ اللهُ: "لِيَكُنْ نُورٌ" فَكَانَ نُورٌ. وَرَأَى اللهُ النُّورَ أَنَّهُ حَسَنٌ" (تك1 : 1-3). إذن "خلق الله" و"قال الله" و"روح الله".
هنا نجد أنه بالآب وكلمته وروحه قد خلقت كل الخليقة التي على وجه الأرض. فالعمل هنا واحد. الآب يخلق "بِكَلِمَةِ الرَّبِّ صُنِعَتِ السَّمَاوَاتُ وَبِنَسَمَةِ فَمِهِ كُلُّ جُنُودِهَا" (مز33: 6).
ولكن مع أن العمل واحد إلا أن هناك تمايز في الأدوار. فنحن لا نقول أبدًا أنه ليس هناك تمايز بين الأقانيم، أبسط شيء يثبت ذلك أن الآب آب والابن ابن، فلا يصح أن أقول أن الآب هو ابن الابن أو أن الابن هو أبو الآب. فالتمايز واضح: أن الآب له الأبوة والابن له البنوة، ولكن في الجوهر لا يوجد تمايز. إن الجوهر واحد وهو متساو في الآب والابن. أي أن الجوهر واحد ومساوي في نفس الوقت.
مثال توضحي: لو كان هناك مثلث كله من الذهب فالرأس العلوي به كل الذهب والرأس الجانبي به كل الذهب. إذن جوهر الرأس العلوي "أ" هو نفسه جوهر الرأس "ب". وفي نفس الوقت جوهر "أ" مساوي لجوهر "ب". لذلك يحتار البعض: هل نقول واحد في الجوهر أم مساو في الجوهر مع الآب؟ الحقيقة هي أنه واحد ومساوي. "واحد" لأنه هو نفس الجوهر و"مساوي" لأنه ليس هناك جزء من الجوهر مع أحد الرؤوس وجزء مع الآخر.
إذن التمايز بين الأقانيم هو قضية لا يمكن أن نتنازل عنها. والتمايز ليس فقط في الخاصية الأقنومية (أن الآب آب والابن ابن والروح القدس منبثق)، ولكن هناك تمايز أيضًا في الأدوار.
على سبيل المثال: الابن له الإعلان والروح القدس له الإلهام، لكن عما يكون الإعلان وعما يكون الإلهام؟ إن الإعلان والإلهام هما عن الحق. فإذا الابن ظهر يقول "أَنَا هُوَ الْحَقُّ" (انظر يو 14: 6)، وإذا جاء الروح القدس يقول السيد المسيح عنه أنه "رُوحُ الْحَقِّ" (يو 15: 26). فالإعلان هو عن الحق، إذن الحقيقة واحدة أن الحق هو الله. لكن الابن له الإعلان والروح القدس له الإلهام. هناك تمايز في الدور.
لما أخذ الآب على الجلجثة دور الديان كان الابن آخذًا دور الشفيع والوسيط بسبب تجسده. فبعدما أخذ الآب هنا دور الديان، قال السيد المسيح عن الروح القدس "وَمَتَى جَاءَ ذَاكَ (الروح القدس) يُبَكِّتُ الْعَالَمَ عَلَى خَطِيَّةٍ وَعَلَى بِرٍّ وَعَلَى دَيْنُونَةٍ" (يو 16: 8)، إذن في الوقت الحالي الروح القدس هو الديان لذلك قيل أنه "يبكت". هو الديان وهو الذي يحكم: فيحكم مثلًا على أريوس وعلى نسطور في المجامع المسكونية، لذلك في مجمع أورشليم قيل "قَدْ رَأَى الرُّوحُ الْقُدُسُ وَنَحْنُ" (أع 15: 28). فالحكم كان من فم الروح القدس. أما في يوم الدينونة من الذي سوف يكون الديان؟؟.. الابن هو الذي سوف يكون الديان. لماذا؟ الرد هو أن الابن على الصليب وفي العدل الإلهي حقه، والعدل الإلهي كان لحساب الثالوث كله. وكما قلنا من قبل أن الآب وقت الصليب أخذ دور الديان، فهناك تمايز في الأدوار لكن العمل واحد. هل نستطيع أن نقول مثلًا أنه على الصليب كان الابن فقط هو مخلص العالم؟؟.. لقد كان الآب يتقبل الذبيحة، إذن فعمل الخلاص هو عمل الثالوث وليس عمل الابن وحده، ولكن الآب لم يتجسد ولم يصلب. إذًا ما هو دور الآب؟.. إن هذا هو ما نردده في صلوات الكنيسة "هذا الذي أصعد ذاته ذبيحة مقبولة على الصليب عن خلاص جنسنا، فاشتمه أبوه الصالح وقت المساء على الجلجثة". إذن من الذي اشتم رائحة الرضى والسرور؟ إنه الآب.. فالآب له دور.. الابن لا يخلص العالم على الجلجثة ويكون الآب مجرد متفرج - حاشا! إن الآب كان بكل حضوره الفائق يتقبل هذه الكفارة العجيبة جدًا، فيقول معلمنا بولس الرسول "أَيْ إِنَّ اللهَ كَانَ فِي الْمَسِيحِ مُصَالِحًا الْعَالَمَ لِنَفْسِهِ" (2كو 5: 19)
ومثلما حدث في نهر الأردن: حيث جاء صوت الآب من السماء، والابن كان يعتمد في المياه، والروح القدس استقر على رأسه بهيئة جسمية مثل حمامة؛ فكان الثالوث في المعمودية. كذلك أيضًا كان الثالوث في الجلجثة لكن لمن يريد أن يتأمل. لذلك كتب معلمنا بولس الرسول في رسالته للعبرانيين "الْمَسِيحِ، الَّذِي بِرُوحٍ أَزَلِيٍّ قَدَّمَ نَفْسَهُ لِلَّهِ بِلاَ عَيْبٍ" (عب 9: 14).
على الصليب أخذ الآب دور الديان، وأخذ الابن دور الشفيع، والروح القدس كان يمثل النار الإلهية التي تلتهم الذبيحة. في العهد القديم حينما كانوا يقدمون ذبيحة كانت نار تنزل من السماء وتلتهم الذبيحة. حتى أن منوح حينما قدّم ذبيحته طلع المسيح في نار الذبيحة من المذبح. وكان الابن قد ظهر في صورة رجل لوالد شمشون ووالدته وقال لمنوح إن كنت تذبح جديًا لن آكل لكن اصعد الذبيحة للرب فقدم الرجل الذبيحة وإذ به يجد المسيح -الذي ظهر له وسماه هو رجل الله- صعد في نار المذبح فقال لامرأته بالعبرية (موت نموت كي إلوهيم رأينوه) أي "نَمُوتُ مَوْتًا لأَنَّنَا قَدْ رَأَيْنَا اللَّهَ" (قض 13: 22). فاعتبر منوح أنه قد رأى الله وفهم أن الذي ظهر له هو الله. كما أنه حينما سأله عن اسمه قال له "لِمَاذَا تَسْأَلُ عَنِ اسْمِي وَهُوَ عَجِيبٌ" (قض 13: 18).
ملخص: الآب على الصليب أخذ دور الديان الذي تقبل الكفارة لحساب العدل الإلهي. والعدل الإلهي يخص الثلاثة أقانيم، لكن هناك تمايز في الأدوار. فحينما يأتي يوم الدينونة يقول الابن "فَيَنْظُرُونَ إِلَيَّ الَّذِي طَعَنُوهُ" (زك 12: 10). إن يوم الدينونة هو يوم غضب الخروف (انظر رؤ 6: 16) ولئلا يظن أحد أن الابن هو للإهانة فقط مثلما حدث له وهو على الأرض، لذلك قال "لِكَيْ يُكْرِمَ الْجَمِيعُ الاِبْنَ كَمَا يُكْرِمُونَ الآبَ" (يو 5: 23). الآب سوف يعطى الابن كل الدينونة حتى يعرف كل من أساء إليه من هو يسوع المسيح. وكأن الآب يقول للابن أنت الذي قدمت الكفارة، وأنت الذي دفعت الثمن، فأنت الذي تطالب بحقك من كل إنسان مسيحي أو غير مسيحي، وهل استفاد من ذبيحتك الخلاصية أم لا؟ هل عمل بها أم لا؟ لذلك يقول معلمنا بولس الرسول عن المسيحيين "منْ خَالَفَ نَامُوسَ مُوسَى فَعَلَى شَاهِدَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةِ شُهُودٍ يَمُوتُ بِدُونِ رَأْفَةٍ. فَكَمْ عِقَابًا أَشَرَّ تَظُنُّونَ أَنَّهُ يُحْسَبُ مُسْتَحِقًّا مَنْ دَاسَ ابْنَ اللهِ، وَحَسِبَ دَمَ الْعَهْدِ الَّذِي قُدِّسَ بِهِ دَنِسًا، وَازْدَرَى بِرُوحِ النِّعْمَةِ" (عب10 : 28-29).
أي إنسان سوف يخطئ بعد المعمودية سوف يكون حسابه أشد ممن لا يؤمن بالمسيح. ليس عند الله تحيز.
هناك تمايز في الأدوار بين أقانيم الثالوث، ليس هناك انفصال إنما تمايز في الأدوار. الابن يقدم نفسه للآب فالثالوث في مشهد الجلجثة هو مثل مشهد الأردن تمامًا: آب وابن وروح قدس. "الَّذِي بِرُوحٍ أَزَلِيٍّ قَدَّمَ نَفْسَهُ لِلَّهِ بِلاَ عَيْبٍ" (عب 9: 14)، لأنه كرئيس كهنة قدم نفسه بالروح القدس. لكن قدم نفسه لمن؟ قدم نفسه للآب ففي يوم الدينونة يجلس على كرسي مجده ويقول "فَيَنْظُرُونَ إِلَيَّ الَّذِي طَعَنُوهُ" (زك 12: 10). وهي ليست "إلى" بل "إِلَيَّ" كما وردت في سفر زكريا، أي إِلَيَّ أنا، لأنه كنبي كان يتكلم بلسان الرب نفسه ويقول قال الرب. أما يوحنا الحبيب فهو يحكيها كحدث فيقول "سَيَنْظُرُونَ إِلَى الَّذِي طَعَنُوهُ" (يو 19: 37). هو سوف يجلس على كرسي مجده ويحضر من طعنوه ويحاسبهم. "وَهُمْ يَقُولُونَ لِلْجِبَالِ وَالصُّخُورِ: اُسْقُطِي عَلَيْنَا وَأَخْفِينَا عَنْ وَجْهِ الْجَالِسِ عَلَى الْعَرْشِ وَعَنْ غَضَبِ الْحَمَلِ، لأَنَّهُ قَدْ جَاءَ يَوْمُ غَضَبِهِ الْعَظِيمُ. وَمَنْ يَسْتَطِيعُ الْوُقُوفَ" (رؤ 6: 16-17). المسألة أن الآب على الصليب أخذ موقف الديان والنار التي كانت تنزل من السماء لتلتهم الذبيحة كانت هي عمل الروح القدس في الجلجثة.
هناك تمايز في الأدوار بين الثلاثة أقانيم لكن هناك وحدة في العمل. العمل واحد وهو الفداء. أما الأدوار فلكل دوره: الآب هو قابل الذبيحة، الابن هو الذبيحة، الروح القدس هو النار التي تصعد الذبيحة. فالنار رمز للروح القدس. والروح القدس حل في يوم الخمسين على هيئة "أَلْسِنَةٌ مُنْقَسِمَةٌ كَأَنَّهَا مِنْ نَارٍ" (أع 2: 3).
الإجابة: لقد قدم الابن نفسه ذبيحة لأبيه السماوي وبذلك استوفى العدل الإلهي حقه. الابن كان هو الكفارة والآب كان هو الذي يستوفى للعدل الإلهي حقه. و"لِكَيْ يُكْرِمَ الْجَمِيعُ الاِبْنَ كَمَا يُكْرِمُونَ الآبَ" (يو 5: 23) فالابن هو الذي سوف يكون الديان في يوم الدينونة.
الضحية هي عبارة عن ذبيحة للتكفير عن خطايا العالم، قُدمت باسم البشرية، وتقبلها الآب السماوي بفعل الروح القدس الذي رافق تقديم هذه الذبيحة، التي قدمها الابن الوحيد كنائب عن البشرية وكرئيس كهنة الخيرات العتيدة (انظر عب 9: 11).
إن جسد يسوع المتحد باللاهوت هو من جانب تقدمة البشرية للآب ومن جانب آخر هو هدية الآب للبشرية.
وكلمة "بذل" هي غير كلمة ضحى. لقد " بَذَلَ" الآب، لكن التقدمة مقدمة للآب: "الْمَسِيحِ، الَّذِي بِرُوحٍ أَزَلِيٍّ قَدَّمَ نَفْسَهُ لِلَّهِ بِلاَ عَيْبٍ" (عب 9: 14). إذن التقدمة مقدمة للآب ولكن البذل هنا في عبارة "بَذَلَ ابْنَهُ" تعنى أن الآب وافق على أن ابنه يبذل نفسه عن كثيرين. لكن ليس أن الآب قدم تقدمة الصليب للآب، ولكن الذي قدّم هو الابن بالروح القدس، فإن "بذل" تعنى أن الآب وافق أن يصير الابن "فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ" (مت 20: 28).
إذن فإن إجابة السؤال (لمن قدمت ذبيحة الصليب؟) بالتحديد هي إن ذبيحة الصليب قدمت للآب السماوي.. من الذي قدمها؟ قدمها الابن الوحيد الجنس. وأين كان الروح القدس؟ قدمها الابن بالروح القدس، باعتباره رئيس كهنة، وكان يعمل في رئاسة كهنوته ليس بعيدًا عن الروح القدس.
أولًا: السيد المسيح قدّم طاعة كاملة لأبيه السماوي باعتباره هو آدم الجديد، وكنائب عن البشرية، إذ أن آدم قد عصى الله حتى الموت والسيد المسيح قد أطاع الله أبيه حتى الموت. الطاعة قُدِمَتْ للآب السماوي واشتمها رائحة رضى وسرور. وهذه الطاعة التي قُدِّمَت قد صالحت الآب مع البشرية. حقًا إن الله يملك الكون كله ولكنه لا يُلغى حرية إرادة الخليقة العاقلة، ولا يغصِبها على طاعته. ولذلك فإن بعض الكائنات قدمت له الطاعة مثل الملائكة الأبرار، وبعضها تاهت في العصيان مثل إبليس وكل جنوده. فهل يجوز أن نقول أن الله يملك عصيان إبليس؟ إن الله يملك مصير الأشرار، ولكنه لا يملك عصيان هؤلاء الأشرار. أما الأبرار فيحتفظون بملكية الله لإرادتهم من خلال الطاعة الكاملة. فيقول البار لله: أنا يا رب أشتهى أن أكون ملكك. فبإرادته يجعل الله يملك عليه وليس بالغصب، "لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ" (مت6: 10).
ثانيًا: هل لأن الله يملك الكون كله كقول مرسل السؤال لا تُقدّم له الصلاة؟ ألأنه يملك العقل والفم واللسان الذي للإنسان، والرُكب والمفاصل، ألا يُقدم له السجود؟ وتُقدم له العبادة والصلاة؟ فلماذا يعترض على تقديم ذبيحة الصليب للآب السماوي.
ثالثًا: ينسب إلينا السائل أننا نقول "أن الله ضحى بابنه الوحيد ليُخلصنا" ويُستخرج من ذلك أن الله الآب قد قدّم الضحية لنفسه. ويقصد بذلك أن يُربِك قارئ السؤال. بمعنى أن الله قد قدّم الضحية لنفسه، وقد وضع نقطتين:
§ كيف يُقدّم ضحية لنفسه وهو يملك الكون كله؟
§ ما معنى يُقدّم الضحية لنفسه؟ هل يوجد أحد يُقدّم شيء لنفسه؟
ونحن نجيب على ذلك بأن نص الإنجيل يقول "هَكَذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ" (يو3: 16). وبذلك يكون قد نسب إلينا عبارة نحن لم نقل بها. لأن عبارة "بذل" تحمل معنى العطاء أما عبارة "ضحى" في مفهوم مرسل السؤال المتعارف عليه فتعنى أنه هو الذي قام بتقديم الذبيحة. وهنا يبدو أن المقصود هو إيجاد نوع من الالتباس، سواء كان ذلك عن قصد أو دون قصد.
الذي قدّم الذبيحة هو الابن المتجسد لأبيه السماوي. كقول معلمنا بولس الرسول "الْمَسِيحِ، الَّذِي بِرُوحٍ أَزَلِيٍّ قَدَّمَ نَفْسَهُ لِلَّهِ بِلاَ عَيْبٍ" (عب9: 14). أي أن المسيح بالروح القدس، وكرئيس كهنة أعظم قد قدّم نفسه لله الآب، كحمل بلا عيب. وفيما أن الابن قد قدّم نفسه كفارة عن خطايا العالم، فإن الآب قد تقبّل هذه الكفارة إيفاءً للعدل الإلهي حقه، وإظهارًا لقداسة الله كرافض للخطية. كما أنه قد أعلن حبه للبشرية في عطية الفداء التي دبرها بتجسد ابنه الوحيد. فذبيحة الفداء هي تقدمة من البشرية إلى الآب السماوي بواسطة رأس الكنيسة مخلصنا يسوع المسيح. وهو في آنٍ واحد هدية الآب السماوي للبشرية في شخص ابنه الوحيد، الذي ارتضى الآب أن يبذله من أجل خلاصنا.
هي ليست تقدمة من البشرية للآب لكنها هدية من الآب للبشرية. فهو من حيث أنه الابن المتجسد فهو هدية من الآب لنا، وبذلك قد استفدنا من الفداء، أو أنعم علينا بالفداء. وفي نفس الوقت تقدمة من البشرية للآب. لكن البشرية لم تكن تملك شيء تقدمه، فأخذت هدية الآب لها وقدمتها له، فلأنها لم تملك شيء نظر الآب إلى فقرها أعطاهم العطية، التي هي ابنه، ثم قامت البشرية بتقديمها للآب لكي تتم المصالحة بالصليب. وهنا يكون القاضي هو الذي دفع الثمن من أجل إعلان محبته ولكي تأخذ العدالة مجراها.
رابعًا: إن ذبيحة الصليب قد قُدمت ليس فقط كمحرقة طاعة للآب، ولكنها قُدمت أيضًا كذبيحة إثم وذبيحة خطية وذبيحة سلامة. فهي متعددة الأسباب: فإذا تكلمنا عنها كذبيحة خطية نقول أن السيد المسيح قد حمل خطايا البشرية "فَاللَّهُ إِذْ أَرْسَلَ ابْنَهُ فِي شِبْهِ جَسَدِ الْخَطِيَّةِ وَلأَجْلِ الْخَطِيَّةِ دَانَ الْخَطِيَّةَ فِي الْجَسَدِ" (رو8: 3). بمعنى أن الصليب قد أظهر بشاعة الخطية، وعلى الصليب قد دينت الخطية، وبآلام المسيح وبجلداته يوبخ الخاطي، لكي يدرك مقدار بشاعة خطيته، ولكي يُدرك أيضًا قداسة الله الذي لم يُشفق على ابنه بل بذله لأجلنا أجمعين. إذن الأمر ليس فقط تقديم ذبيحة محرقة، وطاعة كاملة للآب، ولكنه أيضًا إعلان عن إدانة الخطية. "الرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا" (اش 53: 6). وتظهر بشاعة الخطية في أن "الَّذِي بِجَلْدَتِهِ شُفِيتُمْ" (1بط2: 24). نرى بشاعة الخطية في أن الله لم يُشفق على ابنه، فإذ حمل خطايانا والعدل الإلهي استوفى حقه نُبكت نحن على خطايانا. إذًا هنا ذبيحة الصليب ليست فقط قربان من البشرية إلى الآب، مما وهبه لنا، وليست فقط عطية من الآب للبشرية، ولكن ذبيحة الصليب هي إدانة للخطية. "أَرْسَلَ ابْنَهُ فِي شِبْهِ جَسَدِ الْخَطِيَّةِ" بمعنى جسد يشبه جسدنا لكن بلا خطية، فحمل خطايانا: "وَلأَجْلِ الْخَطِيَّةِ دَانَ الْخَطِيَّةَ فِي الْجَسَدِ" إذن الخطية أصبحت مدانة ومدانة أمام الكل. هذه هي نتيجة خطايانا. لذلك الذي يرى الصليب يبكى على خطاياه، والذي يرى دم المسيح المسفوك يندم على خطيته، هذا إن كانت عنده مشاعر. إذًا ليس مجرد أن الصليب قُدِّم للآب السماوي، لكن هناك توبيخات نأخذها نحن من خلال الصليب: {احتملت ظلم الأشرار بذلت ظهرك للسياط وخديك أهملتهما للطم لأجلى يا سيدي لم ترد وجهك عن خزي البصاق} (من صلوات القداس الغريغوري). الصليب هو توبيخ صامت لأن السيد المسح كان "مِثْلَ شَاةٍ سِيقَ إِلَى الذَّبْحِ وَمِثْلَ خَرُوفٍ صَامِتٍ أَمَامَ الَّذِي يَجُزُّهُ هَكَذَا لَمْ يَفْتَحْ فَاهُ" (أع8: 32) مما يحرك قلب الإنسان الخاطئ فيندم ويتوب عن خطاياه.
المسألة بهذه الصورة تختزل كلها: فالمنطق مرفوض (أنه ضحى بابنه فإن كان هو الذي أعطى الضحية إذن لمن قدمها وهو يملك الكون كله؟) وهل كان يملك الإنسان الخاطئ الذي تاه وضاع؟
خامسًا: هناك فرق بين أن نملك شيئًا نعتز به وبين أن نملك شيئًا يُضايقنا ولا موضع له إلا في سلة المهملات. فماذا يُقال على الإنسان الذي باع نفسه للخطية؟ وباع نفسه للموت وفساد الموت؟ هل يمكن احتمال وجود شخص ميت في بيتك دون دفنه مهما كان عزيزًا لديك؟ إن فساد الموت أصعب من سلة المهملات. ماذا يفيد هذا الجسد النتن في ملكية الله له؟
لقد قال السيد المسيح: "لأَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ قَدْ جَاءَ لِكَيْ يَطْلُبَ وَيُخَلِّصَ مَا قَدْ هَلَكَ" (لو19: 10). أنعيب عليه أنه جاء لكي يعبر بنا من الموت إلى الحياة؟ أنعيب عليه أنه جاء لكي يعبر بنا من الفساد إلى عدم الفساد؟ وهو الذي لم يفسد جسده في القبر. أنعيب عليه أنه "أبْطَلَ الْمَوْتَ وَأَنَارَ الْحَيَاةَ وَ الْخُلُودَ" (2تى1: 10)؟ أنعيب عليه أنه جاء لكي يحررنا من الجحيم وينقلنا إلى الفردوس؟ أنعيب عليه أنه جاء لكي يُنقذنا من جهنم الأبدية ليفتح لنا أبواب الملكوت إذ يُدخلنا في ملكية الآب السماوي؟
حقًا إن ذبيحة الصليب هي ملك الآب السماوي وقُدّمَت إليه كرائحة رضا وسرور. وأيضًا للمصالحة بين البشرية والآب، ولإدخال البشرية بصورة نهائية إلى الأبد في ملكية الآب، لأن "آخِرُ عَدُوٍّ يُبْطَلُ هُوَ الْمَوْتُ... كَيْ يَكُونَ اللهُ الْكُلَّ فِي الْكُلِّ" (1كو15: 26،30). بشرية هلكت وأدخلها المسيح في ملكية الآب فكيف يقال أن الله ليس محتاجًا. هو ليس محتاج أما نحن فمحتاجين. لذلك فحتى لو لم يكن الله محتاجًا إلينا، ولكننا نحن المحتاجون إليه، وإلى خلاصه العجيب. وحينما نقدم الإفخارستيا نقول للآب: {نقدم لك قرابينك من الذي لك على كل حال ومن أجل كل حال وفي كل حال} (من صلوات القداس الإلهي). إنها عطية الآب للبشرية نقدمها له، أنها هي موضوع سروره، كما ذكرنا سابقًا في طاعة الابن الوحيد الذي تجسد من أجل خلاصنا.
كل ما قلناه الآن لا يمثل واحد على مائه من الرد على هذا السؤال لأن الرد على هذا السؤال يتطلب شرح كل قضية الفداء. فنحن نرد بسرعة لكن كل الموضوع يدور حول قضية الفداء.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/anba-bishoy/anti-christian-questions/sacrifice.html
Connection failed: SQLSTATE[08004] [1040] Too many connections