← اذهب مباشرةً لتفسير الآية: 1 - 2 - 3 - 4 - 5 - 6 - 7 - 8 - 9 - 10 - 11 - 12 - 13 - 14 - 15 - 16 - 17 - 18 - 19 - 20 - 21 - 22 - 23

[1- وَكَانَ لِنُعْمِي ذُو قَرَابَةٍ لِرَجُلِهَا, جَبَّارُ بَأْسٍ مِنْ عَشِيرَةِ أَلِيمَالِكَ, اسْمُهُ بُوعَزُ. 2- فَقَالَتْ رَاعُوثُ الْمُوآبِيَّةُ لِنُعْمِي: «دَعِينِي أَذْهَبْ إِلَى الْحَقْلِ وَأَلْتَقِطْ سَنَابِلَ وَرَاءَ مَنْ أَجِدُ نِعْمَةً فِي عَيْنَيْهِ». فَقَالَتْ لَهَا: «اذْهَبِي يَا ابْنَتِي». 3- فَذَهَبَتْ وَجَاءَتْ وَالْتَقَطَتْ فِي الْحَقْلِ وَرَاءَ الْحَصَّادِينَ. فَاتَّفَقَ نَصِيبُهَا فِي قِطْعَةِ حَقْلٍ لِبُوعَزَ الَّذِي مِنْ عَشِيرَةِ أَلِيمَالِكَ. (را 1:2-3). ]

لقد جاء العدد الأول هنا كمقدمة وتوضيح للقارئ حتى يستوعِب ما سيأتي بعده من كلام، لا سيما وأن العناية الإلهية من البداية قد ساقَت راعوث إلى حقل -هذا المبارك من الرب- بوعز.

يقول بعض الربيون اليهود أن بوعز كان ابن أخ أليمالك، ولكن ليس هناك ما يَسْنِد هذا الكلام، ولو كان حق لكانت نعمي نزلت في بيته أو لجأت إليه في محنتها الحالية. وغير هذا لو كان هو قريب لزوجها بهذه الدرجة فكم سيكون ذاك الولي الآخر الذي تخلى عنها، وهل هناك قرابة أكثر من ابن الأخ حتى يكون الولي الآخر أكثر قربًا منه؟!

St-Takla.org Image: Ruth goes to glean in the fields (Ruth 2:1-2) صورة في موقع الأنبا تكلا: راعوث تذهب لتحصد في الحقول (راعوث 2: 1-2)

لقد وردت عبارة "جبار بأس" عن جدعون (قض12:6)، ويفتاح (قض1:11)، وكليهما كان مشهورًا بالشجاعة والإقدام في الحرب، ولكن من حيث إننا قررنا في مقدمة السفر أنه ابن نحشون ومعاصرًا لعثنيئيل وقبل فترة قضاء إيهود، فتكون هذه العبارة تعني إما أنه قد أبلى بلاء حسنًا في الحروب التي عاصرها واشترك فيها عندما كبر، وهذا ليس بمُسْتَبْعَد، وظل معه هذا اللقب حتى بعد أن كبر في السن وهذا واضح من كونه يخاطب راعوث أكثر من مرة على أنها بنت له [(ع8)؛ (را11:3)]. أو أن العبارة تعني بحسب البعض الآخر أنه واسع الثراء والنفوذ على مستوى بلدة بيت لحم. وأنا في الحقيقة أميل إلى المعنى الأول، لأن ليس كل مَن هو واسع الثراء قيل عنه أنه جبار بأس، كما أن ارتباط هذا اللقب بجدعون ويفتاح يعزز الرأي الأول.

قد يتبادر في بالنا السؤال: لماذا لم يفكر بوعز في البت في أمر نعمي من البداية وانتظر حتى تأتي راعوث إلى بيدره ليلًا؟

يبدو لي أن هذا يرجع لاحتمالين، أولهما أن نعمي عادت مع بدء موسم الحصاد، وهو عادة يكون مشغول جدًا أثناء ذلك الموسم، ولذلك أرجأ البت في الأمر لحين الانتهاء من موسم الحصاد، والثاني هو أنه كبير في السن ونعمي أيضًا كبيرة في السن ولن يجدي أن يقوم هو أو غيره بالقيام معها بدور الولي، ومن ناحية أخرى لم تكن الأمور المختصة براعوث قد اتضحت ويلزم التروي في الموضوع، ولم يكون يعرف هل تقبل راعوث بهذه التضحية وتتزوج من رجل كبير مثله ليقوم لها بدور الولي أم لا.. ولذلك سنرى أنه بمجرد أن عرف راعوث جيدًا وعرف استعدادها للقيام بهذا الدور لم يهدأ الرجل بل بالرغم من مشاغله الكثيرة في موسم الحصاد وعمل اللازم..

ومن ناحية أخرى لم تخبر نعمي راعوث بأي شيء يختص ببوعز أو الولي الآخر، ربما لكونها لم تكن متأكدة من استعداد أيًا للقيام بدور الولي، فوجدت أنه ليس هناك ضرورة لأن تخبر راعوث وتعشمها بما ليست هي متأكدة من إمكانية تحقيقه.. وربما حيائها أو إحساسها بأن الوقت غير مناسب هو الذي جعلها تحجم عن إخبار راعوث بأمر الوليين.

نحن لا ندري كيف اقتاتت نعمي وراعوث منذ لحظة الوصول إلى بيت لحم. ربما كان لا يزال متبقي معها القليل من المال الذي سيفرغ في غضون أيام قليلة، وربما عطف بعض الجارات من الأقارب والأصدقاء القدامى عليها ووفرن لها قليل طعام يكفيها في بداية فترة تواجدها في بيت لحم، وهذا ما يمكن أن نستشفه من دالة الجارات فيما بعد حتى أنهن أعطين اسم للمولود من راعوث (را 17:4).

وسواء كان طعام من عطف الجيران أو مال كاد أن ينفذ، فإن راعوث تداركت الأمر, ورغم أنها غريبة في الموضع ( إذ لهذا الأمر تم نعتها هنا براعوث الموآبية)، وما يكتنف الغريب من مشاعر تحبط من عزيمته، إذ لو كان لديه مال فقد يسعفه ماله حتى يتخطى بعض الصعاب التي تواجهه إلى أن يتأقلم مع الوضع الجديد، ولكن ها هي ليست فقط غريبة، بل أيضًا في أدنى درجات الفقر.. فهي لم تتأقلم بعد على الوضع الجديد، ولو انتظرت لحين التأقلم يكون موسم الحصاد قد انتهى، وبالتالي لن تجد هي وحماتها ما تقتات به في الشتاء. ومن ناحية أخرى حماتها لم ترتاح بعد من رحلة السفر التي أجهدتها جدًا لكبر سنها، الأمر الذي يجعلها لن تصاحبها وتؤنس وحدتها وغربتها وسط بنات بيت لحم اللاتي ستعمل هي في وسطهن. وربما هي وجدت أن سن حماتها أكبر من أن يسمح لها بالعمل، أو أن حيائها يمنعها من العمل والاستجداء بهذه الطريقة وهي التي كانت في مستوى اجتماعي عالي بين أهالي بيت لحم من قبل. وسواء لهذا السبب أو لذاك، وجدت راعوث أن الضرورة موضوعة عليها أن تقوم وتنهض لتوفر لكليهما وقتًا للشتاء فاستأذنت من حماتها كأم وكمحبوبة لها قائلة "دعيني اذهب إلى الحقل والتقط سنابل وراء من أجد نعمة في عينيه" ونظرًا لأنه لم يكن هناك مفر من التصرف هكذا قالت لها نعمي "اذهبي يا بنتي" (ع2)، ومن المؤكد أنها صرفتها مصحوبة بدعاء⁽⁹⁾ أن يسهّل الرب طريقها فتجد نعمة في عين من تلتقط في حقله وذلك على غرار دعوة يعقوب لبنيه حين صرفهم لمقابلة يوسف (تك14:43)، لا سيما وأن عبارة راعوث ".. وراء من أجد نعمة في عينيه" (ع2) قد فهمها كثيرون على أنه ولو أن الشريعة كانت تكفل للفقير أن يلتقط من وراء الحصادين (لا23:23؛ تث19:24)، لكن تنفيذ هذا الأمر لم يكن بالإجبار بل هذا يرجع إلى كرم وسخاء صاحب الحقل، وإن كان هذا الحق يمكن أن يُمنع عن أهل البلد، فكم بالأولى على راعوث الغريبة عنهم؟

St-Takla.org Image: Ruth gleaning in the field of Boaz (Ruth 2:2) صورة في موقع الأنبا تكلا: راعوث تلتقط البواقي الساقطة نمن حقل بوعز (راعوث 2:2)

ولكن لأن عناية الرب قد تولت الأمر ولما لا وهو ولي الأرملة والغريب، ولذلك لم يكن أمر وليد الصدفة بل ترتيب إلهي أن يقع نصيب راعوث في حقل لبوعز، الأمر الذي نستشف منه أن الفقراء يجتمعون في موضع معين ويتم منه توزيعهم على الحقول المتاحة بحيث لا يتزاحمون في حقول معينة ويتركون غيرها، وبهذا يكون التوزيع في صالح الفقراء وأصحاب الحقول فلا يحدث تزاحم يربك فعلة أصحاب الحقول وينشأ منازعات لا مبرر لها بين الفقراء. وقد لا يكون هناك مثل هذا التقسيم وتصادف أن أول حقل مرت به كان لبوعز، وهذا هو الاحتمال الأرجح. وعلينا أن نلاحظ تسلسل الأفعال في العدد الثالث، إذ جاءت ثلاثة أفعال متتالية بدون توقف، الأمر الذي قلما نصادفه، إذ نراها ذهبت من عند حماتها وبعد ذلك جاءت مباشرة إلى الحقل، وبمجرد وصولها لم تضيع أي وقت بل باشرت في الحال عملها وقامت لتلتقط وراء الحصادين. ونحن على نفس المنوال مطلوب منا الجدية في الحياة العملية وبالأولى في الحياة الروحية حتى ندرك ما يريدنا الرب أن ندركه في رحلة غربتنا في العالم، إذ هو يأتي بنا إلى العالم ويتصور كل واحد منا مشروع هائل يريد من فرط حبه لنا أن نحققه لننعم بما يريده لنا كأب سماوي محب لنا..

ولعل تصادف وجود راعوث في حقل بوعز بترتيب إلهي هو الذي سيوجه كل من نعمي وبوعز للتصرف مع راعوث على النحو الذي سنراه فيما يلي من أحداث، إذ رأيا أن يد الرب في الأمر وهما بدورهما لم يعاندا الرؤية السماوية التي توجه الأمور هكذا..

← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.

[4- وَإِذَا بِبُوعَزَ قَدْ جَاءَ مِنْ بَيْتِ لَحْمٍ وَقَالَ لِلْحَصَّادِينَ: «الرَّبُّ مَعَكُمْ». فَقَالُوا لَهُ: «يُبَارِكُكَ الرَّبُّ». 5- فَقَالَ بُوعَزُ لِغُلاَمِهِ الْمُوَكَّلِ عَلَى الْحَصَّادِينَ: «لِمَنْ هَذِهِ الْفَتَاةُ؟». 6- فَأَجَابَ: «هِيَ فَتَاةٌ مُوآبِيَّةٌ قَدْ رَجَعَتْ مَعَ نُعْمِي مِنْ بِلاَدِ مُوآبَ,. 7- وَقَالَتْ: دَعُونِي أَلْتَقِطْ وَأَجْمَعْ بَيْنَ الْحُزَمِ وَرَاءَ الْحَصَّادِينَ. فَجَاءَتْ وَمَكَثَتْ مِنَ الصَّبَاحِ إِلَى الآنَ. قَلِيلًا مَّا لَبِثَتْ فِي الْبَيْتِ». (را 4:2-7). ]

بينما ورد في بداية السفر أنه ينتمي زمنيًا إلى فترة حكم القضاة، حيث الظلام والحروب والارتداد عن الله هو الصفة الغالبة، لكنه ينقلنا هنا إلى أجواء تشع فيها تقوى ومحبة وحسن معاملة بين السيد وعبيده أو فعلته العاملين لديه بالأجر. وكما سبق أن قلنا أن أحداث هذا السفر تمت في الغالب أثناء فترة قضاء عثنيئيل لأشخاص عاصروا يشوع، إذ يبدو لي أن بوعز عاصره، لأنه من غير المعقول أن لا تَلِد راحاب لسلمون طوال فترة يشوع والذي عاش لفترة ما بين 20-30 سنة بعد انتهاء حروب غزو الأرض. ومن هنا فهو ينتمي للشيوخ المتأخرين الذين عاينوا أو عاصروا الجيل الأول الذي عاصر ما صنعه الرب مع بني إسرائيل، ولذلك لم يكن غريبًا هنا مفردات التقوى والأسلوب المهذب الذي يتكلم به بوعز وحصاديه معًا.

وهنا علينا أن نلاحظ مع وجود كل هذا التقوى بين الطرفين ومع ذلك لم نر بوعز يتواكل أو يهمل في متابعة أعماله بنفسه، بل هو ليس فقط يأتي لمتابعة العمال بنفسه، بل سنراه بعد قليل يبيت في البيدر بنفسه ليحرس حصاده.. فإن كان هذا يحدث بين أتقياء فكم بالأولى مطلوب من أي رجل أعمال في أي وقت آخر أن لا يسلّم أعماله لغيره بل عليه أن يتابع أشغاله بنفسه حتى لا ينهبه تابعيه، لأن "المال السايب" -كما يقولون- "يعلّم السرقة"، فلماذا يهدر المرء ماله بتكاسله ويعثر غيره ويغريهم على سرقته فيتعلمون السرقة بسبب تسيبه..

"لمن هذه الفتاة" من هذه العبارة يمكن أن نستشف أن راعوث كانت في ريعان شبابها حتى إن مَن لا يعرفها يظنها فتاة لم تتزوج بعد. وهذه العبارة تدل على أن بوعز لم يكن قد رأى راعوث من قبل، رغم أنه سمع الكثير عنها (ع11). وربما الذي لفت انتباهه جديتها في العمل وكون شكلها غريب عن المنطقة، وليس جمالها كما يقول البعض، لأنه رجل كبير وفي مقام والدها ومن غير المعقول أن يجذبه شيء كهذا.. ولكونها غريبة أراد أن يعرف لمجرد العلم بالشيء لمن تنتمي من البيوت في المدينة.. فكان رد غلامه -أي وكيله الذي يباشر الفعلة- بأنها فتاة موآبية رجعت مع نعمي من بلاد موآب.

"قالت دعوني التقط واجمع بين الحزم وراء الحصادين" هنا لا يوجد مجال لتقسيم الحقول بين الفقراء كما قلت من قبل، بل كان ترتيب الله أن أول حقل تصادفه راعوث هو حقل بوعز، فجاءت في الحال إلى وكيل العمل وطلبت منه الإذن لتجمع ما يقع من حبوب من وراء الحصادين أو ما يسقط من بين الحزم بعد ربطها، ولكون هذا أمر مباح من بوعز بحسب تعليماته لوكيله لأي فقير، لذلك لم يكن امتياز خاص لراعوث أعطاه الوكيل لراعوث لمعرفته بالقرابة التي تربطها ببوعز. ولإكمال تقريره قال الوكيل أنه لاحظ جديتها في عملها وكيف أنها لم تضيع ولا دقيقة واحدة من وقتها بل ظلت تعمل طوال الوقت ولم تسترح إلا لوقت قليل جدًا بينما من حولها لم يكونوا في نفس جديتها "جاءت ومكثت من الصباح إلى الآن. قليلًا ما لبثت في البيت" (ع7)، والمقصود بالبيت هنا، الموضع الذي يستريح فيه الفعلة وقت حر لظهيرة لبعض الوقت وهناك يوجد الأكل والشرب للفعلة، وحتى الوقت الذي كان حر الظهيرة يجبر الآخرين استكثرته راعوث على نفسها..

St-Takla.org Image: Boaz talks with Ruth (Ruth 2:8-12) صورة في موقع الأنبا تكلا: بوعز يكلم راعوث (راعوث 2: 8-12)

[8- فَقَالَ بُوعَزُ لِرَاعُوثَ: «أَلاَ تَسْمَعِينَ يَا ابْنَتِي؟ لاَ تَذْهَبِي لِتَلْتَقِطِي فِي حَقْلِ آخَرَ, وَأَيْضا ًلاَ تَبْرَحِي مِنْ هَهُنَا, بَلْ هُنَا لاَزِمِي فَتَيَاتِي. 9- عَيْنَاكِ عَلَى الْحَقْلِ الَّذِي يَحْصُدُونَ وَاذْهَبِي وَرَاءَهُمْ. أَلَمْ أُوصِ الْغِلْمَانَ أَنْ لاَ يَمَسُّوكِ؟ وَإِذَا عَطِشْتِ فَاذْهَبِي إِلَى الآنِيَةِ وَاشْرَبِي مِمَّا اسْتَقَاهُ الْغِلْمَانُ». 10- فَسَقَطَتْ عَلَى وَجْهِهَا وَسَجَدَتْ إِلَى الأَرْضِ وَقَالَتْ لَهُ: «كَيْفَ وَجَدْتُ نِعْمَةً فِي عَيْنَيْكَ حَتَّى تَنْظُرَ إِلَيَّ وَأَنَا غَرِيبَةٌ!». 11- فَأَجَابَ بُوعَزُ: «إِنَّنِي قَدْ أُخْبِرْتُ بِكُلِّ مَا فَعَلْتِ بِحَمَاتِكِ بَعْدَ مَوْتِ رَجُلِكِ, حَتَّى تَرَكْتِ أَبَاكِ وَأُمَّكِ وَأَرْضَ مَوْلِدِكِ وَسِرْتِ إِلَى شَعْبٍ لَمْ تَعْرِفِيهِ مِنْ قَبْلُ. 12- لِيُكَافِئِ الرَّبُّ عَمَلَكِ, وَلْيَكُنْ أَجْرُكِ كَامِلًا مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ إِلَهِ إِسْرَائِيلَ الَّذِي جِئْتِ لِكَيْ تَحْتَمِي تَحْتَ جَنَاحَيْهِ». 13- فَقَالَت: «لَيْتَنِي أَجِدُ نِعْمَةً فِي عَيْنَيْكَ يَا سَيِّدِي لأَنَّكَ قَدْ عَزَّيْتَنِي وَطَيَّبْتَ قَلْبَ جَارِيَتِكَ, وَأَنَا لَسْتُ كَوَاحِدَةٍ مِنْ جَوَارِيكَ». 14- فَقَالَ لَهَا بُوعَزُ: «عِنْدَ وَقْتِ الأَكْلِ تَقَدَّمِي إِلَى هَهُنَا وَكُلِي مِنَ الْخُبْزِ وَاغْمِسِي لُقْمَتَكِ فِي الْخَلِّ». فَجَلَسَتْ بِجَانِبِ الْحَصَّادِينَ فَنَاوَلَهَا فَرِيكًا, فَأَكَلَتْ وَشَبِعَتْ وَفَضَلَ عَنْهَا. 15- ثُمَّ قَامَتْ لِتَلْتَقِطَ. فَأَمَرَ بُوعَزُ غِلْمَانَهُ: «دَعُوهَا تَلْتَقِطْ بَيْنَ الْحُزَمِ أَيْضًا وَلاَ تُؤْذُوهَا. 16- وَأَنْسِلُوا أَيْضًا لَهَا مِنَ الْحُزَمِ وَدَعُوهَا تَلْتَقِطْ وَلاَ تَنْتَهِرُوهَا». (را 8:2-16). ]

بعد أن أخذ بوعز تقريرًا حسنًا عن راعوث من وكيله، تقرير جعله يصدق ما سمعه عنها من معروفها مع حماتها وحبها له كما لأم، لم يملك إلا أن يكون لطيفًا وودودًا معها فناداها كما يليق من الأب لابنته "ألا تسمعين يا بنتي" كانت هي في العمر تبدو كفتاة لم تتزوج بعد، وهو كان عمره بالنسبة لها كما أب، ورغم أنها فقيرة وغريبة لم يستنكف من أن يدعوها ابنة له، الأمر الذي يبين لنا حسن معدنه وعظم تقواه..

وخوفًا عليها من أن تقع في حقل شخص آخر يسئ إليها هو أو غلمانه، آثر بوعز أن يجعلها تلازم الفتيات العاملات لديه في الحصاد، وواضح أن لديه أرض شاسعة يغطي حصادها تقريبًا كل موسم الحصاد، ومن حيث أنه كولي ثاني ملزم نوعًا ما بتدبير طعام لها ولحماتها ولكنه حفاظًا على مشاعرها وحماتها لم يعطها خبز الصدقة بل تركها تعمل كما غيرها وكأنها تأكل بعرق جبينها!

ما من شك حين تعلم الفتيات بمدى قرابة بوعز لحماتها لن يجرح أحد منهن مشاعرها، وبوعز بدوره أوصى غلمانه أن لا يمسها أحد بأذى مستغلًا عدم إعالة بوعز لها وتركه إياها تعمل كما أي فقير آخر في بيت لحم. ولم يتوقف بوعز عند هذا الحد، بل أعطاها الأذن أن تتصرف كصاحبة الموضع فإن عطشت فلتمضي لتستقي من الماء الذي يجلبه الغلمان (ع8، 9). وهنا يمكن القول أن الغلمان يحصدون بالمنجل أما الفتيات فيقمن بحزم الشمائل في حزم وربطها تمهيدًا لنقلها إلى موضع الدرس، وسواء اقتربت راعوث من الغلمان أو من الفتيات كان مسموح لها أن تنتقل في حرية وغير مسموح لأحد من المجموعتين أن يتكلم معها بالسوء..

لم يكن أمام هذه التلميذة التي أحسنت تعلم الفضائل على يدي معلمتها الماهرة نعمي إلا أن تنفعل بالشكر للإحسان الذي أظهره بوعز من نحوها فسقطت بتلقائية على وجهها وسجدت إلى الأرض أمام بوعز سجود الاحترام والعرفان بالجميل، لكونها رأت أول غريب عنها يعاملها بمثل هذه المعاملة الحسنة وهي لم تكن تعلم بعد بمدى قرابته لنعمى، ولذا قالت له "كيف وجدت نعمة في عينيك حتى تنظر إليّ وأنا غريبة؟" (ع10).

St-Takla.org Image: Boaz praises Ruth (Ruth 2:14) صورة في موقع الأنبا تكلا: بوعز يمدح راعوث (راعوث 2: 14)

تجاوب بوعز مع اتضاعها باتضاع مماثل وأخبرها أنه لم يتصرف معها هكذا من فراغ، إذ قد علم عن المعروف الذي صنعته مع حماتها، وكيف أنها تركت أباها وأمها وأرض مولدها -حيث كان يمكنها أن تتزوج هناك من أحسن الشبان وتنعم بالراحة في بيت زوجها- ولكنها بدلًا من هذا آثرت أن تأتي مع حماتها إلى شعب غريب لم تعرفه من قبل (ع11). ولأجل هذا يعتبر بوعز أنه يعجز عن مكافأتها عن كل صنيعها هذا، ولذا واصل كلامه قائلًا "ليكافئ الرب عملك وليكن أجرك كاملًا من عند الرب إله إسرائيل فهو الوحيد الذي يستطيع مكافأتك، ولما لا وقد جاءت راعوث لكي تحتمي تحت جناحيه⁽¹⁰⁾" (ع12). وهنا نلمح في العبارة الأخيرة "لكي تحتمي تحت جناحيه" أن بوعز أدرك أن سبب مجيء راعوث وتغربها هنا، كان أساسه يرجع إلى محبتها لله من خلال الحب الذي سكبته في قلبها تلك العجوز نعمي، ولولا ذلك ما عرّضت ذاتها قط لكل هذه الأتعاب التي كانت في غنى عنها..

"ليتني أجد نعمة في عينك يا سيدي": ما هذا الذي تقولينه أيتها السيدة المحبوبة في الرب؟ ألم تعلمي بعد أن كل هذا الكلام قيل لك لأنك فعلًا وجدت نعمة ليس فقط في عيني بوعز بل أيضًا في يعني سيد بوعز وربه؟ آه ليتني أنا أجد نعمة في عينيك فتذكريني عند الرب الذي لأجله تغربتي عن أهلك ووطنك كما إبراهيم في القديم..

لم تقل راعوث ما قالته إلا من أتضاع وشعور بعدم الاستحقاق ولذا واصلت الكلام قائلة "لأنك قد عزيتني وطيبت قلب جاريتك وأنا لست كواحدة من جواريك". لماذا هذا الكلام يا سيدتي وأنت كان بإمكانك أن تعيشي معززة ومكرمة في وطنك وبيت زوجك الموآبي هناك؟ لقد عشتي طول عمرك حرة ولم تحيي قط حياة الإماء، فكيف تعتبري ذاتك مجرد واحدة من الجواري ( ولكن ربما الذي دفعها إلى قول هذا هو فقرها الحالي وغربتها عن البلاد وخلفيتها الوثنية). حقًا إن من يتضع يرتفع.. وكل هذه الخصال جعلتها تستحق عند جدارة أن تكون في سلسلة نسب المسيا مخلص العالم.. (ع13).

كان تحصيل حاصل بعد هذا أن يجعلها بوعز تتقدم عنده وقت الأكل وأعطاها نصيب كبير من الفريك حتى أنه زاد عليها. ويبدو أن الفريك كان وجبة ممتازة لم يأكلانها منذ فترة ولذلك من فرط محبتها العظيمة لحماتها التي كانت بمثابة أمها الروحية بل والجسدية إن جاز التعبير، ادخرت لها ما تبقى منه.

وواضح أنه بعد انتهائها من الأكل قامت في الحال لمتابعة عملها "ثم قامت لتلتقط" فانتهز بوعز فرصة مغادرتها وشدد على غلمانه أن يدعوها تلتقط بحرية بين الحزم بدون أذية (ع15)، بل وزاد على ذلك أنه أمرهم أن ينزعوا بعض السنابل من الحزم ويتركوها خلفهم كأنهم نسوها لتقوم هي بالتقاطها، حتى تأخذ ولا تشعر أنها أخذت على سبيل الإحسان.. (ع16).

← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.

St-Takla.org Image: When Ruth got up to continue working Boaz gave secret orders to his men. ‘Let her gather among the sheaves without telling her off. Even pull out some stalks from the bundles and drop them for her to gather.’ Ruth busily gathered grain until the evening. (Ruth 2: 15-17) - Ruth, Bible illustrations by James Padgett (1931-2009), published by Sweet Media صورة في موقع الأنبا تكلا: "ثم قامت لتلتقط. فأمر بوعز غلمانه قائلا: «دعوها تلتقط بين الحزم أيضًا ولا تؤذوها. وأنسلوا أيضًا لها من الشمائل ودعوها تلتقط ولا تنتهروها». فالتقطت في الحقل إلى المساء" (راعوث 2: 15-17) - صور سفر راعوث، رسم جيمز بادجيت (1931-2009)، إصدار شركة سويت ميديا

[17- فَالْتَقَطَتْ فِي الْحَقْلِ إِلَى الْمَسَاءِ, وَخَبَطَتْ مَا الْتَقَطَتْهُ فَكَانَ نَحْوَ إِيفَةِ شَعِيرٍ. 18- فَحَمَلَتْهُ وَدَخَلَتِ الْمَدِينَةَ. فَرَأَتْ حَمَاتُهَا مَا الْتَقَطَتْهُ. وَأَخْرَجَتْ وَأَعْطَتْهَا مَا فَضَلَ عَنْهَا بَعْدَ شِبَعِهَا. 19- فَقَالَتْ لَهَا حَمَاتُهَا: «أَيْنَ الْتَقَطْتِ الْيَوْمَ وَأَيْنَ اشْتَغَلْتِ؟ لِيَكُنِ النَّاظِرُ إِلَيْكِ مُبَارَكًا». فَأَخْبَرَتْ حَمَاتَهَا بِالَّذِي اشْتَغَلَتْ مَعَهُ وَقَالَتِ: «اسْمُ الرَّجُلِ الَّذِي اشْتَغَلْتُ مَعَهُ الْيَوْمَ بُوعَزُ». 20- فَقَالَتْ نُعْمِي لِكَنَّتِهَا: «مُبَارَكٌ هُوَ مِنَ الرَّبِّ لأَنَّهُ لَمْ يَتْرُكِ الْمَعْرُوفَ مَعَ الأَحْيَاءِ وَالْمَوْتَى». ثُمَّ قَالَتْ لَهَا نُعْمِي: «الرَّجُلُ ذُو قَرَابَةٍ لَنَا. هُوَ ثَانِي وَلِيِّنَا». 21- فَقَالَتْ رَاعُوثُ الْمُوآبِيَّةُ: «إِنَّهُ قَالَ لِي أَيْضًا لاَزِمِي فِتْيَانِي حَتَّى يُكَمِّلُوا جَمِيعَ حَصَادِي». 22- فَقَالَتْ نُعْمِي لِرَاعُوثَ كَنَّتِهَا: «إِنَّهُ حَسَنٌ يَا ابْنَتِي أَنْ تَخْرُجِي مَعَ فَتَيَاتِهِ حَتَّى لاَ يَقَعُوا بِكِ فِي حَقْلِ آخَرَ». 23- فَلاَزَمَتْ فَتَيَاتِ بُوعَزَ فِي الاِلْتِقَاطِ حَتَّى انْتَهَى حَصَادُ الشَّعِيرِ وَحَصَادُ الْحِنْطَةِ. وَسَكَنَتْ مَعَ حَمَاتِهَا. (را 17:2-23). ]

لقد ظلت راعوث تعمل باجتهاد إلى آخر ضوء من النهار، وقبل المغادرة "خبطت ما التقطته" أي نفضته وجعلته في أقل حيز ممكن فيمكن حمله بسهولة أو خبطته بعصا لتفصل الحبوب عن التبن ليكون جاهز للاستعمال. ورغم أن راعوث كانت تجمع حبة، حبة، إلا أن وزن ما جمعته كان يعادل أيفة، ومن غير المتيقن ماذا يكون وزن الأيفة، إذ هناك من يجعلها 15 كيلوجرام والبعض الآخر يعتبرها 30، وإن كنت أرجح الرقم الأول لأنه من العسير على من يجمع بالحبة أن يتجاوز هذا الرقم مهما كان كرم وسخاء صاحب الحقل. ولكن أيًا كان الرقم فإنه على كل حال يتجاوز كثيرًا ما يمكن جمعه في المعتاد (وهو يرجع هنا إلى اجتهاد راعوث وكرم بوعز معها). ولذا إذ رأت نعمي هذه الكمية الكبيرة مع علامات الفرح على وجه راعوث مضاف إلى هذا نصيب الفريك الذي حجزته لها، سألتها مندهشة: "أين التقطت اليوم وأين اشتغلت" وقبل أن تعرف من يكون الشخص دعت له بالبركة قائلة لها "ليكن الناظر إليك مباركًا".

أعطت راعوث لنعمى تقريرًا عن العطف الذي تلقته من بوعز (ع19)، والآمال بأن تلقى منه مزيدًا من العطف لأنه أوصاها أن تلازم فتياته كل زمن الحصاد (ع21).

بمجرد سماع نعمي لاسم بوعز أكدت دعوتها السابقة بأن قالت أنه فعلًا شخص مبارك من الرب، إذ تذكرت العطف السابق الذي أظهره بوعز لزوجها وابنيها وضمت هذا العطف الحالي إلى ما سبق فقالت "لأنه لم يترك المعروف مع الأحياء والموتى" وقد يكون المعنى المقصود هنا أنه إكرامًا للموتى لم يتخلى عن أهل بيتهم بعد وفاتهم.

لم تكن نعمي تضمن إمكانية تقديم معونة من قبِل أي ولي ولذلك لم تفاتح راعوث قط في هذا الموضوع حتى لا تعشمها بشيء قد لا يتحقق، ولكن التصرف النبيل لبوعز فتح باب للرجاء في إمكانية قيامه هو أو الولي الآخر في عمل شيء، لذلك قالت نعمي لراعوث "الرجل ذو قرابة لنا. هو ثاني ولينا". وهذا الأمر جعل راعوث تتذكر ما قاله لها بوعز "لازمي فتياتي حتى يكملوا حصادي" إذ بهذا القول يتأكد إمكانية الرجاء في تحقيق الفرج على يد الولي. والولي عمومًا منوط به عتق قريبه إن باع نفسه عبدًا ولم يتمكن من إيفاء دينه، أو استرداد أرضه لو رهنها ولم يتمكن من فكاكها، ومن الثأر لدمه في حالة قتله والزواج من أرملته لو مات دون أن ينجب..

وهنا أوصت نعمي راعوث بالاستمرار في العمل في حقول بوعز "إنه حسن يا بنتي أن تخرجي مع فتياته حتى لا يقعوا بك في حقل آخر" إذ لن تجد من أحد معاملة حسنة كالتي وجدتها من بوعز وفعلته، وقد تتعرض للمضايقات والأذى من آخرين لو عملت في موضع آخر لا سيما وأنها فقيرة وغريبة عن الموضع. وغير هذا ليس من اللائق رفض مثل هذا العرض السخي من رجل كريم مثله.

اتبعت راعوث كل تعليمات حماتها وكانت مطيعة لها في كل ما تشور به عليها إذ وثقت بها وأحبتها من كل قلبها، فلازمت فتيات بوعز في الالتقاط حتى انتهى حصاد الشعير وحصاد الحنطة". ومن المؤكد أنها جمعت أكبر قدر ممكن من مئونة الطعام ليستخدماها في الشتاء.

"وسكنت مع حماتها" قد تبدو هذه العبارة غريبة، لأنها تحصيل حاصل، فهي منذ وصولها وهي تقيم مع حماتها، ثم إنها غريبة عن الموضع وليس لها أحد تعرفه هناك غير حماتها. ولكن يبدو أن الكاتب يود القول أنها لازمت البيت بعد انتهاء فترة خروجها أثناء موسم الحصاد. ورغم أنها من المؤكد قد عقدت أواصر الصداقة مع فتيات بوعز بحكم التقارب في العمر والعمل جنبًا إلى جنب طوال أشهر الحصاد، لكنها بمجرد الانتهاء من تلك الفترة لم تخرج من البيت بل لازمت حماتها ليس فقط من باب التأدب والاحترام، بل أيضًا من باب تعلقها الشديد بها إذ وجدت في عشرتها لذة تغنيها عن كل آخر ولو كان من الفتيات القريبات في السن منها..

_____

الحواشي والمراجع لهذه الصفحة هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت:

← تفاسير أصحاحات راعوث: مقدمة | 1 | 2 | 3 | 4

الكتاب المقدس المسموع: استمع لهذا الأصحاح

تفسير راعوث 3

قسم تفاسير العهد القديم القمص أنجيلوس المقاري (اقرأ إصحاح 2 من سفر راعوث)

تفسير راعوث 1