St-Takla.org  >   bible  >   commentary  >   ar  >   ot  >   fr-angelos-st-makarios  >   ruth
 
St-Takla.org  >   bible  >   commentary  >   ar  >   ot  >   fr-angelos-st-makarios  >   ruth

تفسير الكتاب المقدس - العهد القديم - القمص أنجيلوس المقاري

راعوث 1 - تفسير سفر راعوث

 

* تأملات في كتاب راعوث:
تفسير سفر راعوث: مقدمة سفر راعوث | راعوث 1 | راعوث 2 | راعوث 3 | راعوث 4

نص سفر راعوث: راعوث 1 | راعوث 2 | راعوث 3 | راعوث 4 | راعوث كامل

الكتاب المقدس المسموع: استمع لهذا الأصحاح

← اذهب مباشرةً لتفسير الآية: 1 - 2 - 3 - 4 - 5 - 6 - 7 - 8 - 9 - 10 - 11 - 12 - 13 - 14 - 15 - 16 - 17 - 18 - 19 - 20 - 21 - 22

St-Takla.org                     Divider of Saint TaklaHaymanot's website فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

الإصحاح الأول

 

[1- حَدَثَ فِي أَيَّامِ حُكْمِ الْقُضَاةِ أَنَّهُ صَارَ جُوعٌ فِي الأَرْضِ, فَذَهَبَ رَجُلٌ مِنْ بَيْتِ لَحْمِ يَهُوذَا لِيَتَغَرَّبَ فِي بِلاَدِ مُوآبَ هُوَ وَامْرَأَتُهُ وَابْنَاهُ. 2- وَاسْمُ الرَّجُلِ أَلِيمَالِكُ, وَاسْمُ امْرَأَتِهِ نُعْمِي, وَاسْمَا ابْنَيْهِ مَحْلُونُ وَكِلْيُونُ - أَفْرَاتِيُّونَ مِنْ بَيْتِ لَحْمِ يَهُوذَا. فَأَتُوا إِلَى بِلاَدِ مُوآبَ وَكَانُوا هُنَاكَ. 3- وَمَاتَ أَلِيمَالِكُ رَجُلُ نُعْمِي, وَبَقِيَتْ هِيَ وَابْنَاهَا. 4- فَأَخَذَا لَهُمَا امْرَأَتَيْنِ مُوآبِيَّتَيْنِ, اسْمُ إِحْدَاهُمَا عُرْفَةُ وَاسْمُ الأُخْرَى رَاعُوثُ. وَأَقَامَا هُنَاكَ نَحْوَ عَشَرِ سِنِينٍ. 5- ثُمَّ مَاتَا كِلاَهُمَا مَحْلُونُ وَكِلْيُونُ, فَتُرِكَتِ الْمَرْأَةُ مِنِ ابْنَيْهَا وَمِنْ رَجُلِهَا. (را 1:1-5). ]

 

+ يحدثنا النص عن مجاعة في الأرض، أرض كنعان، مجاعة في تلك الأرض التي تفيض لبنًا وعسلًا. هذه كانت أحد العقوبات التي هدد الله أن يجلبها على بني إسرائيل لأجل خطاياهم (لا19:26، 20). ظن البعض أن هذه المجاعة حدثت أيام جدعون بسبب ما فعله بهم المديانيون، ولكن ضد هذا الافتراض الذي يأخذ به البعض طول الفترة الزمنية بين زمن بوعز بل راحاب من سلمون وجدعون، وثانيًا لأننا يمكن أن نستشف من قول نعمي "أن الرب قد افتقد شعبه ليعطيهم خبزًا" (ع6)، تعني ضمنًا أن الجوع هنا عقاب من الله بمنع المطر وليس بفعل عدو كما المديانيين أيام جدعون. ولذا يمكن القول أن الأرض كانت في راحة من جهة الأعداء، لكن لم يكن هناك وفرة في الطعام -حتى في بيت لحم التي معناها بيت الخبز- إذ كان فيها مجاعة. تحولت الأرض المثمرة إلى أرض جدباء لتقوّم وتكبح ترف وفجور من يسكنونها.

St-Takla.org Image: A map for the land of Canaan and Moab (Ruth 1:1-2) صورة في موقع الأنبا تكلا: خريطة لأرض كنعان وموآب (راعوث 1: 1-2)

St-Takla.org Image: A map for the land of Canaan and Moab (Ruth 1:1-2)

صورة في موقع الأنبا تكلا: خريطة لأرض كنعان وموآب (راعوث 1: 1-2)

+ غني عن القول أن بيت لحم هنا دُعيت "بيت لحم يهوذا" لتمييزها عن بيت لحم التي في سبط زبولون. ومن ناحية أخرى كان اسمها القديم أفراتة (تك19:35؛7:47) ومنها جاء تعبير "أفراتيون" (ع2)، وقد استمر هذا الاسم إذ ورد أيضًا في نبوة ميخا (مي2:5).

+ يسرد لنا السفر عن عائلة معينة أُصيبت بالعسر في المجاعة، وهذه العائلة هي عائلة أليمالك، واسم أليمالك يعني إلهي ملك، واسم زوجته كان نعمي الذي يعني بحسب البعض محبوبتي أو بهجتي. أما اسم ولديه فكانا محلون وكليون اللذين يعنيان مرض وهزال، ربما لأنهما كانا ضعاف الصحة في فترة الطفولة.

+ رحيل هذه الأسرة من بيت لحم أفراتة إلى بلاد موآب على الجانب الآخر من نهر الأردن طلبًا للقوت بسبب المجاعة (ع1، 2). ويبدو أنه كانت هناك وفرة في الطعام في بلاد موآب، بينما كانت هناك ندرة في الطعام في أرض إسرائيل، وهذا مما يعزز الافتراض بأن هذه المجاعة كانت عقاب إلهي لبني إسرائيل.

يمضي أليمالك إلى هناك ليقيم لبعض الوقت أثناء المجاعة، مثلما مضى إبراهيم في ظرف مشابه إلى مصر وكما مضى اسحق إلى أرض الفلسطينيين. ولذا يمكن القول أن اهتمامه بتوفير الطعام لأسرته وأخذه ولديه وزوجته كان بدون شك أمر حميد، لكن ليس هناك ما يبرر ارتحاله إلى أرض موآب في هذا الظرف. إن نسل إسرائيل كان قد تثبت في أرضه ولا ينبغي له أن ينتقل إلى مناطق الوثنيين. يا ترى أي سبب دعا أليمالك لأن يمضي إلى هناك دونًا عن بقية جيرانه؟ كونه لم يكتف بالقليل الذي له مع جيرانه ولم يحيا على رجاء أنه ستأتي سنوات وفرة ثانية في الحين الحسن، وكونه عجز عن الانتظار بصبر لحين انتهاء تلك السنوات العجاف، فهذا كان خطأه، وهناك من يرى أنه بهذا جلب العار لله وللأرض الجيدة التي أعطاها لهم، فأضعف أيادي إخوته إذ كان ينبغي له أن يرتضي بنصيبه معهم، وبهذا وضع مثالًا سيئًا للآخرين!

إن هذا التصرف ينم عن روح غير مكتفية وخائفة وغير مستقرة ودليل على التذمر على الموضع الذي وضعنا الله فيه، وهذا ما أظهره استعدادنا لمغادرته في الحال فور مكابدتنا فيه لصعوبات وظروف غير مواتية.

لو كان أليمالك يريد أن يرتحل فلماذا إلى بلاد موآب؟ لو كان تقصى الحال لربما كان سيجد وفرة في الطعام في بعض أسباط إسرائيل، وعلى سبيل المثال في أراضي الأسباط الموجودة على الجانب الآخر من نهر الأردن والتي تتاخم أرض موآب. لو كانت له غيرة لله وحب حقيقي لإخوته، حب يليق بإسرائيلي لا غش فيه، لما كان أقنع نفسه لأن يمضي بهذه السهولة ويستوطن بين الموآبيين.

وإذ نضع كل هذا في اعتبارنا نجد أن أليمالك هرب من الضيقة بهروبه من الله وليس بهروبه إلى الله لما هرب من بيت لحم يهوذا إلى موآب الوثنية في حين أنه لو كانت المجاعة عظيمة جدًا لكان شاركه كثير من أهل بلده في هذه الهجرة، وهو بوجه من الأوجه يشبه من يهرب من المسيح أو كنيسته ليشبع ملذاته ولكن في هروبه لإشباع ملذاته يفقد كل شيء كما حدث مع أليمالك هنا. ومع أن اسمه قد يعني ألله ملكي، إلا أنه يمكن أن يمثل من لهم حياة روحية مظهرية لا عمق فيها رغم أنه يقيم في بيت لحم فيصير عقيمًا رغم أنه كان يقيم في موضع مثمر "أفراتة" وكل من على شاكلته ويطلب لذة الجسد وراحته لن يأتي بثمر قط.

St-Takla.org Image: Naomi, Ruth and Orpah, three widows for Elimelech, Mahlon and Chilion (Ruth 1:3-5) صورة في موقع الأنبا تكلا: نعمي وراعوث وعرفة ثلاث أرامل لـ: أليمالك، محلون وكليون (راعوث 1: 3-5)

St-Takla.org Image: Naomi, Ruth and Orpah, three widows for Elimelech, Mahlon and Chilion (Ruth 1:3-5)

صورة في موقع الأنبا تكلا: نعمي وراعوث وعرفة ثلاث أرامل لـ: أليمالك، محلون وكليون (راعوث 1: 3-5)

+ يتفق الكل على أن زواج ابنيه لاثنين من بنات الموآبيين بعد وفاته كان تصرف غير سليم، وكان ثمرة طبيعية للبُعد عن الأرض المقدسة الذي أنتجه فيهم تصرف والدهم، وعلى كل من يفكر في الهجرة للغرب أن يتوقع نفس السيناريو ولو بعد حين!

يقول التلمود البابلي إنهما تعديا وصية الله بأخذهما زوجات غريبة. لا يظهر لنا أن المرأتين اللتان تزوجاهما كانتا من الدخلاء في الديانة اليهودية، لأن عرفة قد رجعت إلى آلهتها (ع15).

نحن لا يمكننا القول كم بقيت هذه العائلة في بلاد موآب، ولكن يمكن القول أن أليمالك مات بعد وقت ليس بكثير ولم يكن في مقدور نعمي العودة في الحال لا سيما وأنه لم تصلها أخبار آنذاك بأن الرب افتقد شعبه (ع6)، ولكن استمرار بقائها هناك ترتب عليه أن ابنيها كبرا وقاما من نفسيهما بالزواج من أجنبيات دون الانتظار لإتمام هذا الأمر بعد العودة إلى الأرض المقدسة وهذا ما نستشفه من عبارة "أخذا لهما.. وأقاما هناك.. " (ع4)، بينما لو تم الأمر بمعرفة نعمي ورضاها لكان ورد ما قيل عن إسماعيل "وأخذت له أمه زوجة من أرض مصر" (تك21:21). بل وعبارة "أقاما هناك نحو عشر سنوات" أيضًا قد يعني ضمنًا أن نعمي كانت مغلوبة على أمرها ولو كانت موافقة لكان الفعل جاء "وأقاموا هناك.. " ولذا لم يكن غريبًا لابنين بهذه الصفات ولأب مثل هذا أن يغضب الله عليهما فيموتا في ريعان الشباب! ومن غير المستبعد أنهما لم يموتا في وقت واحد، وقد يكون الذي بقى حيًا قد رفض القيام بدور الولي لأخيه المتوفي فتكررت قصة أونان وعير من جديد..

ولكن أيًا كانت الأسباب فالذي دفع الثمن هو نعمي ولكن الله في رحمته ادخر لها عزاء في المستقبل على يد راعوث وبوعز!

St-Takla.org                     Divider of Saint TaklaHaymanot's website فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

[6- فَقَامَتْ هِيَ وَكَنَّتَاهَا وَرَجَعَتْ مِنْ بِلاَدِ مُوآبَ, لأَنَّهَا سَمِعَتْ فِي بِلاَدِ مُوآبَ أَنَّ الرَّبَّ قَدِ افْتَقَدَ شَعْبَهُ لِيُعْطِيَهُمْ خُبْزًا. 7- وَخَرَجَتْ مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي كَانَتْ فِيهِ وَكَنَّتَاهَا مَعَهَا, وَسِرْنَ فِي الطَّرِيقِ لِلرُّجُوعِ إِلَى أَرْضِ يَهُوذَا. 8- فَقَالَتْ نُعْمِي لِكَنَّتَيْهَا: «اذْهَبَا ارْجِعَا كُلُّ وَاحِدَةٍ إِلَى بَيْتِ أُمِّهَا. وَلْيَصْنَعِ الرَّبُّ مَعَكُمَا إِحْسَانًاكَمَا صَنَعْتُمَا بِالْمَوْتَى وَبِي. 9- وَلْيُعْطِكُمَا الرَّبُّ أَنْ تَجِدَا رَاحَةً كُلُّ وَاحِدَةٍ فِي بَيْتِ رَجُلِهَا». فَقَبَّلَتْهُمَا, وَرَفَعْنَ أَصْوَاتَهُنَّ وَبَكَيْنَ. 10- فَقَالَتَا لَهَا: «إِنَّنَا نَرْجِعُ مَعَكِ إِلَى شَعْبِكِ». 11- فَقَالَتْ نُعْمِي: «ارْجِعَا يَا بِنْتَيَّ. لِمَاذَا تَذْهَبَانِ مَعِي؟ هَلْ فِي أَحْشَائِي بَنُونَ بَعْدُ حَتَّى يَكُونُوا لَكُمَا رِجَالًا؟. 12- اِرْجِعَا يَا بِنْتَيَّ وَاذْهَبَا لأَنِّي قَدْ شِخْتُ عَنْ أَنْ أَكُونَ لِرَجُلٍ. وَإِنْ قُلْتُ لِي رَجَاءٌ أَيْضًا بِأَنِّي أَصِيرُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ لِرَجُلٍ وَأَلِدُ بَنِينَ أَيْضًا. 13- هَلْ تَصْبِرَانِ لَهُمْ حَتَّى يَكْبُرُوا؟ هَلْ تَنْحَجِزَانِ مِنْ أَجْلِهِمْ عَنْ أَنْ تَكُونَا لِرَجُلٍ؟ لاَ يَا بِنْتَيَّ. فَإِنِّي مَغْمُومَةٌ جِدًّا مِنْ أَجْلِكُمَا لأَنَّ يَدَ الرَّبِّ قَدْ خَرَجَتْ عَلَيَّ». 14- ثُمَّ رَفَعْنَ أَصْوَاتَهُنَّ وَبَكَيْنَ أَيْضًا. فَقَبَّلَتْ عُرْفَةُ حَمَاتَهَا, وَأَمَّا رَاعُوثُ فَلَصِقَتْ بِهَا. 15- فَقَالَتْ: «هُوَذَا قَدْ رَجَعَتْ سِلْفَتُكِ إِلَى شَعْبِهَا وَآلِهَتِهَا. ارْجِعِي أَنْتِ وَرَاءَ سِلْفَتِكِ. 16- فَقَالَتْ رَاعُوثُ: «لاَ تُلِحِّي عَلَيَّ أَنْ أَتْرُكَكِ وَأَرْجِعَ عَنْكِ, لأَنَّهُ حَيْثُمَا ذَهَبْتِ أَذْهَبُ وَحَيْثُمَا بِتِّ أَبِيتُ. شَعْبُكِ شَعْبِي وَإِلَهُكِ إِلَهِي. 17- حَيْثُمَا مُتِّ أَمُوتُ وَهُنَاكَ أَنْدَفِنُ. هَكَذَا يَفْعَلُ الرَّبُّ بِي وَهَكَذَا يَزِيدُ. إِنَّمَا الْمَوْتُ يَفْصِلُ بَيْنِي وَبَيْنَكِ». 18- فَلَمَّا رَأَتْ أَنَّهَا مُشَدِّدَةٌ عَلَى الذَّهَابِ مَعَهَا كَفَّتْ عَنِ الْكَلاَمِ إِلَيْهَا. (را 6:1-18). ]

 

+ طالما أن سبب مغادرة أرض يهوذا كان سببه المجاعة، لذلك لم يفكر ابني نعمي في الرجوع ما دامت المجاعة مستمرة، ولا هي أيضًا فكرت في الرجوع بالرغم مما حدث لها من أحزان كابدتها هناك بفقد زوجها وولديها، ولذلك بمجرد وصول أخبار لنعمي بانتهاء فترة المجاعة عزمت في الحال على الرجوع ولو لوحدها!

St-Takla.org Image: Naomi the mother-in-law, Ruth and Orpah her daughters-in-law in the way back (Ruth 1:7) صورة في موقع الأنبا تكلا: نعمي الحماة وراعوث وعرفة زوجات أبنائها في طريقهم للعودة (راعوث 1: 7)

St-Takla.org Image: Naomi the mother-in-law, Ruth and Orpah her daughters-in-law in the way back (Ruth 1:7)

صورة في موقع الأنبا تكلا: نعمي الحماة وراعوث وعرفة زوجات أبنائها في طريقهم للعودة (راعوث 1: 7)

+ لو نرجع إلى الوراء سنجد أن يهوذا كان له سلطان على ثامار زوجة ابنه ولو كانت تقيم بين أهلها، ومن منطلق هذا السلطان أمر بحرقها لما علم بحبلها وظنها زانية (تك24:38). ولعل وجود هذه الأعراف غير المكتوبة التي تشمل كل السكان هناك مهما كان أصلهم كانت وراء خروج عرفة وراعوث مع نعمي لدى عودتها إلى وطنها، وهذا ما نستشفه من العبارات "فقامت هي وكنتاها.." (ع6)، ".. وكنتاها معها وسرن في الطريق للرجوع إلى أرض يهوذا" (ع7)، فهي بحسب هذه الأعراف القائد الذي ينبغي أن يتبعوه ويطيعوه والذي يملك حق التصرف أو البت في كل ما يختص بأمرهما. ولكن واضح أن نعمي بدأت تفكر في الأمر بعد أن سرن معًا في الطريق لفترة، ورغم أنها تحتاج لمن يؤنس وحدتها في الطريق، إلا أنها كإسرائيلية لا غش فيها ومن منطلق محبتها لهما، قررت أن تسير في طريق الحب الباذل غير الأناني إلى النهاية فقالت لهما "اذهبا ارجعا كل واحدة إلى بيت أمها(6)" (ع8)، وبتعبير آخر كانت هي تطلق سراحهما وتعتقهما من التقيد بالعُرف السائد ليمضيا في حال سبيلهما. ولكنها لم تكتف بهذا بل صحبت قرار العتق بدعوة أو صلاة لله من أجلهما "ليصنع الرب معكما إحسانًا كما صنعتما بالموتى وبي" (تابع ع8)، هنا يتضح من بين ثنايا الكلام حلاوة العشرة لكل واحدة مع زوجها والوفاء لهما بعد موتهما وعدم ترك نعمي لوحدها في محنتها ووحدتها بعد موت زوجها وولديها، إذ كان يمكنهما الغدر بها أو الهروب منها أو حتى تركها ولو كان في هذا تحد للأعراف السائدة، ومَن سينظر لأن ينصف أرملة غريبة في البلاد من مواطني تلك البلاد؟!

ولو كانت نعمي توقفت عند هذا الحد ما كان أحد يلومها بل يمتدحها، ولكنها من فرط محبتها الصادقة لم تكتف بهذا بل تمنت لهما طلبة من الرب "ليعطكما الرب أن تجد راحة كل واحدة في بيت رجلها" (تابع ع8). وهنا نلمح شيئين أولهما أن نعمي تتكلم عن الرب بكونه معروف لعرفة وراعوث، الأمر الذي يعني أن كلتا المرأتين عرفتا الرب بكونه الإله (الحقيقي)، أو على الأقل دخلا في الديانة اليهودية بحكم الزواج من إسرائيلي والعيش في أسرة يهودية، ولو لم يكن الأمر كذلك لكانت نعمي قالت "ليصنع ربي..ليعطكما ربي.. ". والأمر الثاني أن المرأة آنذاك لم يكن لها عمل خاص بها تقتات به ولذلك كان الزواج راحة لكل فتاة حيث تجد من يعولها ويحميها.

كانت نعمي جادة في نبرة كلامها من جهة التخلي طواعية والتنازل عن حقها عليهما والذي يكفله لها العرف السائد، وكانت أيضًا صادقة في دعائها وتمنياتها الطيبة لهما ويشهد على هذا، العشرة الحلوة التي عاشوها معها والحب الباذل الذي تعوداه منها في مواقف سابقة، وكعربون حاضر أو ختم لصدق ما قالته لهما "قبّلتهما" فاهتاجت المشاعر في الصدور وكما هي عادة النساء -العاطفة الحارة والجياشة- خصوصًا في لحظات الوداع "رفعن أصواتهن وبكين" وما ورد في هذه العبارة يشمل النساء الثلاثة، ويؤكد ليس فقط على صدق المشاعر بل أيضًا على صدق ما نطقت به عرفة وراعوث في قولهما لنعمي "إننا نرجع معكِ إلى شعبك" (ع10).

وقبل مواصلة التكلم عن بقية الأعداد أجد نفسي مضطرًا للوقوف أمام هذا الحب بين الحماة وكنتاها، وهي العلاقة التي سوءها صار مضرب الأمثال على مدى الزمان والمكان في كل الشعوب. ولكن هنا يمكن القول أن الحماة هي التي أحبت أولًا وقدمت كل دليل عملي على صدق مشاعرها تجاه زوجة ابنها، فكانت النتيجة أنه بحسب القانون الإلهي "المحبة لا تسقط أبدًا" وستؤتي ثمارها ولو بعد حين. وعلى الحماة أن تجازف -إن جاز القول- وتعامل زوجة ابنها ليس كغازٍ جديد يجردها من سلطانها ومكانتها في قلب ابنها، بل تعاملها كابنة لها وتعطيها نفس مساحة الحب التي يمكن أن تعطيها لابنة لها بالجسد وستجد أن كنتها ستكون لها ابنة بالروح ربما بطريقة أعظم من التي لابنتها بالجسد، إذ قد تَحول الظروف بينها وبين ابنتها بالجسد لزواجها بعيدًا عن أمها ولا تجد مَن يخدمها ويرعاها سوى كنتها القريبة منها والتي تقيم معها أو بالقرب منها!

St-Takla.org Image: ‘Don’t urge me to leave you,’ Ruth replied. ‘Where you go I will go, where you stay I will stay. Your people will be my people and your God will be my God. Where you die I will die.’ (Ruth 1: 16-17) - Ruth, Bible illustrations by James Padgett (1931-2009), published by Sweet Media صورة في موقع الأنبا تكلا: "فقالت راعوث: «لا تلحي علي أن أتركك وأرجع عنك، لأنه حيثما ذهبت أذهب وحيثما بت أبيت. شعبك شعبي وإلهك إلهي. حيثما مت أموت وهناك أندفن. هكذا يفعل الرب بي وهكذا يزيد. إنما الموت يفصل بيني وبينك»" (راعوث 1: 16-17) - صور سفر راعوث، رسم جيمز بادجيت (1931-2009)، إصدار شركة سويت ميديا

St-Takla.org Image: ‘Don’t urge me to leave you,’ Ruth replied. ‘Where you go I will go, where you stay I will stay. Your people will be my people and your God will be my God. Where you die I will die.’ (Ruth 1: 16-17) - Ruth, Bible illustrations by James Padgett (1931-2009), published by Sweet Media

صورة في موقع الأنبا تكلا: "فقالت راعوث: «لا تلحي علي أن أتركك وأرجع عنك، لأنه حيثما ذهبت أذهب وحيثما بت أبيت. شعبك شعبي وإلهك إلهي. حيثما مت أموت وهناك أندفن. هكذا يفعل الرب بي وهكذا يزيد. إنما الموت يفصل بيني وبينك»" (راعوث 1: 16-17) - صور سفر راعوث، رسم جيمز بادجيت (1931-2009)، إصدار شركة سويت ميديا

لقد كان سر نجاح نعمي مع كنتاها هو أنها كانت -كما قلنا في الفقرة السابقة- تعامل كنتيها كبنتين لها ".. يا بنتي.. " (ع11، 12، 13)، ومن هنا نقول أن الروشتة الروحية لعلاج سوء هذه العلاقة من البداية هو أن تعامل الحماة زوجة ابنتها بكونها ابنة لها، وتنصفها على ابنها لو كان الحق بجانبها لو حدث خلاف، بل وتلوم ابنها لو لزم الأمر وكان في هذا حفظ كيان أسرتهما من التفكك..

لقد كان لنعمي السلطان بمقتضى العرف السائد -كما سبق القول- ولكنها تنازلت طواعية عن هذا الحق وتصرفت بمنطق الحب كما لابنتين لها بالجسد تفكر فيما يؤول لخيرهما ولو على حسابها! ومن هذا المنطلق قالت نعمي "ارجعا يا بنتي. لماذا تذهبان معي؟" يمكن للعاطفة الجامدة أن تتوقف عند هذا الحد ولن يلومها أحد إذ هذا في حد ذاته تفكير معقول ومنطقي وينم عن حب غير أناني. ولكن نعمي لم تتوقف عند هذا الحد، بل واصلت الكلام وقدمت حجج إضافية لتعزيز موقفها وما قالته وذلك سعيًا منها لقطع كل تأنيب ضمير أو شعور بالتقصير يطرأ على فِكْر عرفة أو راعوث فيما بعد فقدمت حجة أخرى بها تبرر صرفها لهما بسلام: "هل في أحشائي بنون بعد حتى يكونوا لكما رجالًا". ولو توقفت هنا لكنا قلنا أنها أحسنت فيما فعلت بتباسطها، ولكنها -كما هو منتظر من هذه المرأة العظيمة التي لو خيروني لأطلقت على السفر اسمها أيضًا مناصفة مع الرائعة راعوث، لكونها شريكتان معًا في التألم وبالتالي في المجد- فَعَلَت ما هو أحسن إذ قطعت شوطًا إضافيًا في طريق التباسط النابع من حب حقيقي لهما إذ قالت "ارجعا يا بنتي واذهبا لأني قد شِخْت عن أن أكون لرجل". وبينما تتهرب كثير من النساء من ذِكْر السن الحقيقي لأحد، نجد هنا نعمي تعترف بمنتهى البساطة بأنها شاخت، الأمر الذي يدل على أن كبرها بدرجة تعني انقطاع عادة النساء من عندها. وتتقدم إلى الأمام في طريق البساطة فتقدم افتراضًا يعزز موقفها في رفض رجوعهما معها: "وإن قلت لي رجاء أيضًا بأني أصير هذه الليلة لرجل وألد بنين أيضًا. هل تصبران لهم حتى يكبروا؟ هل تنحجزان من أجلهم عن أن تكونا لرجل؟" (ع12، 13). وبالطبع بعد تقديم هذه الحجة الأخيرة، لم يكن لدى نعمي مزيد من الكلام لتقدم تباسط أكثر من هذا، ولكن هنا واصلت تقديم ما هو أكثر بقولها "لا يا بنتي" وهذه ثالث مرة تنطق بهذه العبارة الجميلة، وكتأكيد لصدق مشاعرها -والتي أشعر بها رغم عدم حضوري لهذا اللقاء الذي تم منذ زمن بعيد- قالت إنها "مغمومة جدًا من أجلكما". يا إلهي، ما هذا الذي تقولينه أيها المغبوطة؟ إن لديك ما يكفيك من مبررات تستوعب همومك وغمك ومن هذا المنطلق قالت لأهل بيت لحم "لا تدعوني نعمي بل مرّة لأن القدير قد أمرنّني جدًا" (ع20)، ومع هذا تجدين مساحة في مشاعرك بها تقولين إنك مغمومة من أجلهما؟ لقد أحزن قلبها ترمل المرأتين وهما في ريعان الشباب وما أرادت لهن أن يبقين أرامل كل حياتهن.. ومما هو جدير بالذكر أنها أغفلت الكلام عن إمكانية وجود ولي في أرض يهوذا، من ناحية لأنها غادرت البلاد منذ فترة ولا تدري كيف الحال هناك وهل يوجد أحياء ممن يمكنهم أن يقوموا بهذا الدور، ومن ناحية فالمرأتين غريبتا الجنس ومن أين لها أن تضمن وجود من يقبل أن يتزوج بهن من أهل البلاد، لذلك رأت أنه من الصواب أن ترجع عرفة وراعوث إلى بلدهما حيث فرصة زواجهما أفضل وأوفر.

"لأن يد(7) الرب قد خرجت عليّ": من يقرأ هذا العبارة، وسواء نزعها من سياق الكلام هنا أو نظر إليها في ضوء (ع20، 21)، قد يخرج بانطباع أن ما قالته هنا صدر عن تذمر على الرب، ولكن يبدو لي أن هذه المغبوطة لم تقل ما قالته هنا على سبيل التذمر بل على سبيل تقرير حال أو وصف عملي لحالها، إذ رغم ما أصابها ونسبته ليد الرب فهي لا تنسب للرب أي ظلم بل كإسرائيلية لا غش فيها تسلّم له حياتها وكل أمرها، إذ يمكن أن نستشف من (ع15، 16)، أن رجوعها لشعبها كان رجوعًا لإلهها، ليس بمعنى أنه فقدته ولم يكن موجود في حياتها في أرض غربتها، بل بمعنى أن رجوعها له من حيث أن أرض كنعان هي الأرض المقدسة التي حضور الله فيها متميز من خلال خيمة الاجتماع وتابوت العهد والكهنوت والذبائح..

من منطلق غمها على كنتاها رفعت نعمي صوتها وبكت لأجلهن فلم يملكن إلا أن يرفعن الصوت ويبكين هن أيضًا وهكذا بكى الثلاثة مرة أخرى (ع9، 14).

St-Takla.org Image: Map: When Naomi realised that Ruth was determined to stay with her they both set off on the road to Bethlehem (Ruth 1: 18-19). - Ruth, Bible illustrations (1931-2009), published by Sweet Media صورة في موقع الأنبا تكلا: خريطة: "فلما رأت أنها مشددة على الذهاب معها، كفت عن الكلام إليها. فذهبتا كلتاهما حتى دخلتا بيت لحم" (راعوث 1: 18-19) - صور سفر راعوث، (1931-2009)، إصدار شركة سويت ميديا

St-Takla.org Image: Map: When Naomi realised that Ruth was determined to stay with her they both set off on the road to Bethlehem (Ruth 1: 18-19). - Ruth, Bible illustrations (1931-2009), published by Sweet Media

صورة في موقع الأنبا تكلا: خريطة: "فلما رأت أنها مشددة على الذهاب معها، كفت عن الكلام إليها. فذهبتا كلتاهما حتى دخلتا بيت لحم" (راعوث 1: 18-19) - صور سفر راعوث، (1931-2009)، إصدار شركة سويت ميديا

لقد قدمت نعمي احتجاج مقنع ورائع، فكانت النتيجة أن عرفة اقتنعت فقبّلت حماتها وانصرفت، أما راعوث فجاء رد فعلها معاكس إذ زادتها هذه الحجج تمسكًا بعدم ترك هذه العجوز، وصارت ملتصقة بها ليصيرا معًا جسدًا واحدًا وفكرًا واحدًا وعلى غِرار ما يفعل الرجل حين يترك أباه وأمه ويلتصق بامرأته ويكونان جسدًا واحدًا" هكذا فعلت راعوث هنا إذ تركت أبيها وأمها والتصقت بحماتها، ليس بدافع من شفقة عليها أو حب طارئ انفعالي، بل لأن عند حماتها وشعبها ما لن تجده لدى عودتها ورجوعها إلى وطنها وشعبها، إذ عندها وفي معيتها يمكن أن تستظل تحت جناحي القدير. نعم لقد ترملت كما حماتها مع فارق أنها في ريعان شبابها ويمكنها بأسلوب ما أن تقول ما قالته نعمي منذ قليل "لأن يد الرب خرجت عليّ"، ولكنها هي أيضًا في وسط تجربتها وجدت الله معها ويعزي قلبها.. اختبرته إلهًا محبًا، عرفت أنه إله يعِد مدينة أو وطنًا سماويًا (عب10:11، 16) لمن يحبونه بالحق، فكيف تتركه؟! وهناك مَن يرى أن التصاق راعوث بحماتها يرمز إلى الالتصاق الشخصي بالكنيسة وعن طريق ذلك الالتصاق يحدث الزواج مع العريس المسيح كما تزوجت راعوث ببوعز!

لذلك لما قالت لها نعمي "هوذا قد رجعت سلفتك إلى شعبها وآلهتها. ارجعي أنت وراء سلفتك" (ع15)، استنكرت راعوث عليها هذا الكلام، وقالت لها "لا تلحّي عليّ أن أتركك وأرجع عنك، لأنه حيثما ذهبت اذهب وحيثما بت أبيت.. حيثما مت أموت وهناك اندفن" (ع16، 17)، وليعذرني القارئ لو قلت أن هذا الكلام يشبه بطريقة ما، ما قاله بطرس الرسول للرب يسوع حين عرض على تلاميذه أن يتركوه "إلى من يا رب نذهب. كلام الحياة الأبدية عندك" (يو68:6)، إذ كنز الحياة الأبدية في كفة نعمي وعند شعبها وفي أرضها فكيف لراعوث أن تضيع فرصة عمرها بل تضيع حياتها الأبدية وتترك نعمي؟ وهذا الكلام يذكرني أيضًا بقول الرب يسوع حين تكلم عن الذين يتركون من أجل الأب والأم وكل الأهل والوطن من أجل الله (لو26:14)، إذ هي تركت أمها وأبيها وأرض مولدها (را 11:2). ولم تكتف بالقول "شعبك شعبي وإلهك إلهي" بل قالت "هكذا يفعل الرب بي وهكذا يزيد(8)" وكأنها بهذه العبارة الأخيرة تقول ما معناه "ليعاقبني الرب أشد عقاب إن تخليت عنك" أو بأسلوب آخر: "تركك هو الهلاك بعينه وضياع أبديتي، ولذا لن أتركك ترحلين بمفردك، لا سيما وأنني أحب أن أكون في معيتك إلى الأبد ولن يفصلني عنك سوى الموت" (ع17). وإذ قالت راعوث هذا الكلام بلهجة حازمة وحاسمة وجدت نعمي أنه من غير المُجدي التكلم معها في هذا الأمر و"كفّت عن الكلام إليها" (ع18)، ومضيا في الطريق معًا يؤنسان وحدتهما وإن كان هذا لا يخلو من همّ شعرت به نعمي إذ كأم محبة لراعوث شعرت بمسئولية جديدة وهي من أين لها مَن يرضى أن يتزوج راعوث ويقوم بدور الولي لها، ولولا مبادرة بوعز العطوفة وتصرفه الودود مع راعوث ربما ما فكرت نعمي في السعي لزواج راعوث من أي ولي!

ولكن يبدو أن راعوث لم تكن تفكر في الأمر أو يعنيها في شيء، وذلك لأنها قطعت شوطًا غير قليل في معرفة الرب فلم تستطع أن ترجع إلى الوراء، وفي المقابل ليس لنا أن نلوم عرفة فهي من ناحية خضعت لنصيحة نعمي، ومن ناحية أخرى يمكن القول إنها كما الكثيرين ممن عرفوا الرب ودُعي اسمه عليهم ولكن لم يذوقوه أو يختبروه، لذلك مع أول بادرة للبُعْد عنه -أيًا كانت الأسباب سواء ظروف معيشية صعبة أو اضطهاد من الخارج- رجعوا إلى الوراء وصاروا نسيًا منسيًا كما عرفة، بينما من كان على شاكلة راعوث صار له نصيب أبدي على غِرارها..

← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.

St-Takla.org                     Divider فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

St-Takla.org Image: Heading back to Bethlehem, the land of Naomi (Ruth 1:19-22) صورة في موقع الأنبا تكلا: العودة إلى بيت لحم أرض نعمي (راعوث 1: 19-22)

St-Takla.org Image: Heading back to Bethlehem, the land of Naomi (Ruth 1:19-22)

صورة في موقع الأنبا تكلا: العودة إلى بيت لحم أرض نعمي (راعوث 1: 19-22)

[19- فَذَهَبَتَا كِلْتَاهُمَا حَتَّى دَخَلَتَا بَيْتَ لَحْمٍ. وَكَانَ عِنْدَ دُخُولِهِمَا بَيْتَ لَحْمٍ أَنَّ الْمَدِينَةَ كُلَّهَا تَحَرَّكَتْ بِسَبَبِهِمَا, وَقَالُوا: «أَهَذِهِ نُعْمِي؟!». 20- فَقَالَتْ لَهُمْ: «لاَ تَدْعُونِي نُعْمِيَ بَلِ ادْعُونِي مُرَّةَ, لأَنَّ الْقَدِيرَ قَدْ أَمَرَّنِي جِدًّا. 21- إِنِّي ذَهَبْتُ مُمْتَلِئَةً وَأَرْجَعَنِيَ الرَّبُّ فَارِغَةً. لِمَاذَا تَدْعُونَنِي «نُعْمِيَ» وَالرَّبُّ قَدْ أَذَلَّنِي وَالْقَدِيرُ قَدْ كَسَّرَنِي؟». 22- فَرَجَعَتْ نُعْمِي وَرَاعُوثُ الْمُوآبِيَّةُ كَنَّتُهَا مَعَهَا, الَّتِي رَجَعَتْ مِنْ بِلاَدِ مُوآبَ, وَدَخَلَتَا بَيْتَ لَحْمٍ فِي ابْتِدَاءِ حَصَادِ الشَّعِيرِ (را 19:1-22). ]

 

أخيرًا وصلت نعمي وراعوث بعد مسيرة شاقة سيرًا على الأقدام إلى بيت لحم، وقد جاءتا في وقت ملائم في ابتداء حصاد الشعير الذي كان أول حصيدهم ويتلوه حصاد القمح، وهذا يعني أنهما بدءا رحلة العودة في فصل الشتاء القارص ووصلا في الفترة التي تقع بين أواخر شهر مارس وأوائل شهر أبريل بتوقيتنا الحالي.

واضح أن عائلة نعمي كانت ذات مكانة ومعروفين جيدًا بين أبناء تلك المدينة الصغيرة، لذلك ما أن وصلت حتى انتشر خبرها بسرعة إلى كل بيوت تلك البلدة الصغيرة، فكانت النتيجة أن المدينة كلها تحركت بسببهما، وتوافد إليها النساء بالأخص ممن كانوا أقاربها ومعارفها أو جيرانها ليستفسروا عن أحوالها، ومن المؤكد أن وصول خبر لكل سكان المدينة عن وصولها بمفردها دون زوجها وولديها ومعها امرأة غريبة لم يعرفوا صلتها بها بعد هو الذي جذب الانتباه وجعل المدينة كلها تتحرك، إذ ما كانوا يتخيلوا أن نعمي التي خرجت ومعها زوجها وولديها ومعها من المال ما يكفي لتغطية مصاريف الإقامة ومواصلة العيش في الغربة، والذي في سبيل توفيره قد يكون رهن أرضه لحين رجوعه وسداد الرهن واستردادها، ترجع هكذا فارغة دون زوجها وابنيها وأحفادها.. بل وفي منتهى الفقر..

ولكن نظرًا لأن السيناريو لم يسير على النحو الذي تخيله أهل المدينة، إذ نظروا نعمي وقد انكسر قلبها وتغيرت ملامحها وشاخت بأكثر مما يستحق عمرها الحقيقي -بسبب ما حَلَّ بها بلايا- لذلك هتفوا معًا بدافع من الشفقة والرأفة: "أهذه هي نعمي؟! (ع19).

لقد سبق أن أشرت في سفر أيوب أنه كان قانعًا بما آل إليه حاله وكان يشكر الرب على كل ما أصابه، ويلوم زوجته لتبرمها قائلًا لها ألا تكون كإحدى الجاهلات الذين يقبلون من يد الله الخير ويرفضون البلايا التي يسمح بها لهم، ولكن بمجرد وصول أصدقائه الثلاثة الأغنياء، تغير الحال لما قارن حاله بحالهم وبدأ يسب يوم مولده. وهنا أيضًا يمكن القول أن نعمي كانت صامتة ومسلّمة الأمر لله "يد الرب قد خرجت عليَّ" (ع13)، ولكن لدى رؤيتها لجيرانها وأحبائها القدامى وما هم فيه من حال أفضل بكل المقاييس من وضعها المأساوي الذي تجوزه الآن، لذلك ردًا على تساؤلهم الذي يبدو أنهم قالوه في محضرها: أهذه هي نعمي؟ أجابتهم قائلة "لا تدعوني نعمي بل ادعوني مرّة لأن القدير قد أمرني جدًا.. لقد ضاعت البهجة -التي يعنيها اسمي نعمي- وتبدل حالي حتى صرت امرأة مرّة النفس، لأني ذهبت بزوجي وولدي وأموال ليست بقليلة، والآن عدت بدون زوجي وولدي ولا أملك شيئًا سوى ما يستر جسدي. لقد شعرت في بداية رحلتنا أننا في حمى القدير والآن أشعر أنه يده قد ثقلت عليّ فجردني من كل ما أملك "الرب قد أذلني والقدير قد كسرني" (ع21). ومما هو جدير بالذكر أنني سبق أن أشرت إلى أنها قالت ما ذكرته هنا ليس على سبيل التذمر والتشكي من الله، بل قالته على سبيل توصيف لوضعها الحالي، لأن تعبير القدير يدلّ على تسليم لله وبكونه ضابط الكون وبيده كل أمورنا، ولا يقول هذا التعبير إلا مَن يعرف الرب معرفة عن قرب ولديه رجاء في أن يغير الأحوال نحو الأحسن بقدرته اللانهائية، بينما مَن هو بعيد عن الله ومتذمر على ما أصابه لن يفكر في الله وإن ذكره بلسانه فلن يكف عن السب والشتم بسبب أوضاعه السيئة التي يجوزها وهذا ما لم يحدث هنا، بل هي حتى لم تفكر في إلقاء الملامة على زوجها المتوفي الذي برحلته الفاشلة هذه خسرت معها كل شيء.. الأمر الذي يدل على عظم تقواها.. وإن كان الله قد عاملها بطريقة صعبة ومرّة، فهي سَتُكَيِّف نفسها لتدبيره، ويكفيها في الوقت الراهن أن بيتها القديم لا يزال موجودًا لتنزل فيه ولا تكون ضيفة ثقيلة على أحد..

St-Takla.org Image: Ruth clings to Naomi, and Orpah is seen ready to leave - by Philip H. Calderon (Ruth 1:16) صورة في موقع الأنبا تكلا: راعوث الموآبية تستمسك بحماتها نعمي، وتُرى عرفة في الصورة على استعداد للرحيل - لوحة للفنان فيليب إ. كالديرون

St-Takla.org Image: Ruth clings to Naomi, and Orpah is seen ready to leave - by Philip H. Calderon (Ruth 1:16)

صورة في موقع الأنبا تكلا: راعوث الموآبية تستمسك بحماتها نعمي، وتُرى عرفة في الصورة على استعداد للرحيل - لوحة للفنان فيليب إ. كالديرون

ومع هذا يمكن القول أنه لو كشف الله عن عيني نعمي وعرفت أن عوبيد الذي ربته وكان لحساب ابنها محلون منه جاء داود الذي ليس فقط شكّل عائلة ملكية ظلت تحكم إسرائيل لقرون عديدة ومنه جاء المسيا بالجسد، بل وجاءت سيرتها في الكتاب المقدس بما يؤول لمجدها، بينما لو كان زوجها وابنيها عائشين، ربما ما كنا سنسمع عنها وعن أسرتها أي شيء.. ولو كانت عرفت كلما هذا يقينًا ما كانت ستقول "لا تدعوني نعمي بل مرّة.. " بل كانت لن تكف عن شكر الله على الدوام على كل ما سمح الله به لها. ونفس هذا الكلام ينطبق علينا وموجه لنا، ولذا علينا أن لا نكف عن شكر الله على الرغم من كل الظروف المعاكسة التي نواجهها واثقين أننا في يد القدير ولن يستطيع أحد أن يؤذينا طالما نحن نحب الله ونعمل على السير في وصاياه قدر استطاعتنا بحسب قدر النعمة المعطاة لنا، هو يقينًا يخرج حلاوة لحسابنا من الجفاء والظروف الصعبة التي نواجهها، إذ هو يحول كل الأمور لما فيه خيرنا ولو لم نره بأعيننا الجسدية كما حدث هنا مع نعمي!

لقد وردت عبارة "في ابتداء حصاد الشعير" كمقدمة لما سيأتي في الإصحاح التالي من خروج راعوث للعمل وراء الحصادين كما الفقراء ليوفروا لنفسهم قوت الشتاء.. ومن هنا أيضًا نلمح كيف أن راعوث لم تكد ترتاح من عناء السفر حتى شرعت في التفكير في تدبير طعام لها ولحماتها قبل بدء فصل الشتاء..

وبينما نجد أن عرفة قد تكون ارتاحت في بيت زوجها سريعًا بحسب عُرف العالم ومَن ينجرفون فيه.. نجد أن راعوث التي اختارت النصيب الصالح عانت مشقة وتعب لتأخذ نصيبًا صالحًا ليس فقط على الأرض بل أيضًا في السماء وتسجلت سيرة حياتها في كتاب الله الخالد لتبقى سيرتها عطرة إلى الأبد، بينما عرفة طواها النسيان ولم نعد نعرف عنها شيء.. وعلى نفس المنوال أمام كل واحد منا طريق التعب في الأرض والراحة والمجد في السماء أو الطريق الواسع في الأرض والشقاء إلى الأبد في السماء وعلى أساس الاختيار يكون الجزاء في الآخرة فليتنا نَتَعَقَّل ونختار ما يريدنا الله أن نكونه لنكون في معيته إلى الأبد.

_____

الحواشي والمراجع لهذه الصفحة هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت:

(6) هناك من يرى -وهو محق في قوله- أن ذكر بيت الأم، كان لتعدد الزوجات في ذلك العهد فكان الأولاد والبنات يقيموا لدى أمهم. وهناك من يرى أن النبات بالأخص تقيم مع أمها في موضع الحريم بعيدًا عن أعين الغرباء.. ولكن على كل حال من أقدر من الأم في تعزية البنت في محنتها؟

(7) لا شيء يقود النفس الكريمة وهي تحت التجربة والضيق إلى الرضى بالأكثر سوى اعتبارها أن يد الله هي في الأمر..

(8) نلاحظ في هذه العبارة قسم من راعوث باسم الرب فيه من ناحية تؤكد تمسكها بإله إسرائيل ومن ناحية أخري تنهي موضوع النقاش في الأمر مع حماتها، ولذلك نرى أن نعمي أغلقت النقاش في هذا الأمر (ع18).

St-Takla.org                     Divider فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

← تفاسير أصحاحات راعوث: مقدمة | 1 | 2 | 3 | 4

الكتاب المقدس المسموع: استمع لهذا الأصحاح


الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع

https://st-takla.org/bible/commentary/ar/ot/fr-angelos-st-makarios/ruth/chapter-01.html

تقصير الرابط:
tak.la/crx3awp