تحتفل كنيستنا القبطية الأرثوذكسية في يوم 5 أبيب الموافق 12 يوليو من كان بعيد الآباء الرسل (استشهاد الرسولين بطرس وبولس)، وهذا اليوم هو اليوم الختامي لصوم الآباء الرسل الذي يبدأ في اليوم التالي لعيد العنصرة (حلول الروح القدس)، والذي تتغيَّر مدته كل عام عن الآخر حسب يوم عيد القيامة، والذي يحدده حساب الأبُقطي الذي وضعه القديس البابا ديميتريوس الكرام البطريرك الثاني عشر من تعداد بطاركة الإسكندرية، كما هو معروف لدينا.
ويحدثنا القديس يوحنا الإنجيلي في بداية إنجيله عن لقاء السيد المسيح بخمسة من الرجل اليهود المختلفي الثقافة والعمل والوضع الاجتماعي، وهم: أندراوس - سمعان بطرس - فيلبس - نثنائيل - يوحنا كاتب الإنجيل نفسه (يو 1: 29-51). وقد اختارهم السيد المسيح ليصيروا تلاميذًا له يرافقونه في كل كرازته حتى لحظة صعوده إلى السماء.
وقد أطاع هؤلاء السيد المسيح بكل بساطة وسهولة دون التفكير في كيف يتركون أهلهم ويسيروا وراء شخص غير معروف حتى الآن، أو مجرد وجود بعض النبوات عن ظهوره، وهل هو المسيا المخلص أم شخص آخر.. ولكن روح البساطة والإيمان التي بداخلهم جعلتهم لا يفكرون كثيرًا، بل تركوا كل شيء وتبعوه كما تفوَّه بطرس فيما بعد: "وَابْتَدَأَ بُطْرُسُ يَقُولُ لَهُ: «هَا نَحْنُ قَدْ تَرَكْنَا كُلَّ شَيْءٍ وَتَبِعْنَاكَ»" (مر 10: 28؛ لو 18: 28)، ثم انضم إليهم بعد ذلك فيلبس (يو 1: 43)، ثم اتسعت الدائرة وانضم إليهم نثنائيل (برثلماوس الرسول) (يو 1: 43-45). ثم يذكر لنا القديس متى دعوته هو نفسه في إنجيله من عند مكان الجباية (مت 9: 9)، وكذلك ذكره القديس لوقا في إنجيله (لو 5: 27، 28).
ولم يذكر الكتاب المقدس كيفية دعوة باقي التلاميذ الاثني عشر، ولكن ذكروا في جملة في حديث القديس يوحنا أن السيد المسيح اختارهم ليتبعوه (لو 24: 48؛ أع 1: 8). وبعد ذلك كان يتحدث إليهم ويوضح لهم كلامه وأمثاله التي كان يذكرها للجميع ويشرح لهم أسرار ملكوت السموات: "لأَنَّهُ قَدْ أُعْطِيَ لَكُمْ أَنْ تَعْرِفُوا أَسْرَارَ مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ، وَأَمَّا لأُولَئِكَ فَلَمْ يُعْطَ" (مت 13: 11)، "قَدْ أُعْطِيَ لَكُمْ أَنْ تَعْرِفُوا سِرَّ مَلَكُوتِ اللهِ. وَأَمَّا الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَارِجٍ فَبِالأَمْثَالِ يَكُونُ لَهُمْ كُلُّ شَيْءٍ" (مر 4: 11). ثم استمر السيد المسيح في تدريبهم على الخدمة وشرح كل الأمور المختصة بالكرازة وأعطى لهم لقب "رسل" (لو 6: 13).
لقد ترك التجار والكتبة وجُباة الضرائب والصيادين بيوتهم وأعمالهم ومسئولياتهم وتبعوا السيد في ثقة كاملة أن هذا هو المسيا المُنتظَر، وهو الذي تكلَّمت عنه النبوات وأنبأ عنه الأنبياء عبر العصور المختلفة.
لقد اختار السيد المسيح تلاميذه من فئات بسيطة لكي يكون فضل القوة لله وليس منهم، ونحن نقول في صلاة القسمة بالقداس: "اخترت جهلاء العالم لتخزي بهم الحكماء واخترت ضعفاء العالم لتخزي بهم الأقوياء".
وهنا نرى عمل السيد المسيح في تهذيب وصقل شخصية هؤلاء الرسل المختلفي المهن والثقافات، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. فقد كان دائم الحث لهم على أهمية تغيير القلب (العمل الداخلي)، والسعي نحو الأفضل بصفته متدفقًا في إتمام وصايا الناموس من صوم وعشور أمواله والمُمارسات الحرفية التي لا تنفع الإنسان بشيء سوى جلب المديح من الآخرين، وبذلك يزهو الإنسان بنفسه وينظر إلى نفسه أنه أفضل إنسان، بل وأفضل من كل مَنْ حوله، على عكس ما يفعله العشار من قَرْع الصدر والوقوف بخشوع وانسحاق واتضاع صارخًا: "اللّهُمَّ ارْحَمْنِي، أَنَا الْخَاطِئَ" (لو 18: 13).. فهو لا يريد إلا عين الله الخفية التي ترى اتضاع قلبه وفِكره الخفي لكي يجازيه الله علانية، فكانت النتيجة أنه هرج من المجمع مُبرّرًا (لو 18: 9-14). وتطبيقًا لهذا الاتضاع انحنى السيد المسيح ليلة آلامه لكي يغسل أرجل تلاميذه - المعلم يغسل أرجل تلاميذه! شيء ضد المنطق والعقل والأعراف المُتّبعة، لقد أعطى السيد المسيح الآباء الرسل الأطهار هذا المثل لكي تكون خدمتهم مبنية على هذا الأساس المتين: "فَلَمَّا كَانَ قَدْ غَسَلَ أَرْجُلَهُمْ وَأَخَذَ ثِيَابَهُ وَاتَّكَأَ أَيْضًا، قَالَ لَهُمْ: «أَتَفْهَمُونَ مَا قَدْ صَنَعْتُ بِكُمْ؟ أَنْتُمْ تَدْعُونَنِي مُعَلِّمًا وَسَيِّدًا، وَحَسَنًا تَقُولُونَ، لأَنِّي أَنَا كَذلِكَ. فَإِنْ كُنْتُ وَأَنَا السَّيِّدُ وَالْمُعَلِّمُ قَدْ غَسَلْتُ أَرْجُلَكُمْ، فَأَنْتُمْ يَجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ يَغْسِلَ بَعْضُكُمْ أَرْجُلَ بَعْضٍ" (يو 13: 12-14).
هكذا تصير التلمذة والخدمة في المسيحية، المعلم العظيم يكون خادِمًا للكل ومُحبًا للكل. وهكذا كان الآباء الرسل جميعهم في خدمتهم، يقدمون الجهد والوقت، ويكونوا في أسفار وفي أخطاء كثيرة لكي يكرزوا للخليقة كلها، ولكي تصل كلمة الخلاص إلى أقطار المسكونة، فهم كانوا في شركة واحدة يمثلون جسد المسيح، وقد حملوا أمانة الكنيسة ومسئولية الكرازة، فكانوا هم نواة الكنيسة الأولى، وكان عليهم أن يكرزوا بتعاليم المسيح وما رأوه وسمعوه، وصاروا هم الأساسات في بناء كنيسة المسيح، الكنيسة الجامعة الواحدة المقدسة الرسولية.
ولقد شُبِّه الآباء الرسل بالكواكب، ففي القطعة التاسعة من ثيئوطوكية يوم الخميس بتسبحة نصف الليل نقول: "رأيت آية ظهرت في السماء إذ بامرأة متسربلة بالشمس والقمر أيضاً تحت رجليها. واثنا عشر كوكباً تكلل رأسها، وهى حُبلى تتمخض صارخة لتلد. هي مريم السماء الجديدة التي على الأرض المشرقة لنا منها شمس البر. لأن الشمس المتسربلة بها هي ربنا يسوع المسيح والقمر الذي تحت رجليها هو يوحنا المعمدان. والاثنا عشر كوكباً المكللة رأسها هي الاثنا عشر رسولًا يحيطون بها ويكرمونها"..
ومن المكانة العالية لآبائنا الرسل الأطهار نجد صلوات الكنيسة مملوءة بذِكرهم، فلا نجد صلاة من صلواتنا الكنسيَّة العامة والصلوات الطقسية والقداسات وصلوات الحِل التي يقولها الكاهن وجميع الطلبات في الكنيسة، إلا وتذكر الآباء الرسل. وكذلك تعبيرًا على أنهم الأحجار الكريمة التي بُنِيَت عليها الكنيسة من أيام السيد المسيح حتى الآن.
كذلك وضعت الكنيسة صومًا خاصًا على اسمهم، واحتفلت بنهايته في ذِكرى استشهاد القديسين بطرس وبولس، فنقول عنهم: "استشهد بطرس مصلوبًا مُنَكَّس الرأس وبولس بحد السيف، ونالا إكليل الرسولية وإكليل الشهادة، وتضع الكنيسة أيقونات الاثني عشر رسولًا مع حامل الأيقونات بجوار أيقونة العشاء الأخير، موجهة أنظارنا إلى آبائنا الذين أوصلوا الإيمان لنا بدمائهم، وقائلةً لنا: "اُذْكُرُوا مُرْشِدِيكُمُ الَّذِينَ كَلَّمُوكُمْ بِكَلِمَةِ اللهِ. انْظُرُوا إِلَى نِهَايَةِ سِيرَتِهِمْ فَتَمَثَّلُوا بِإِيمَانِهِمْ" (عب 13: 7).
ونحن نصلي في صلوات القسمة كمثال للآباء الرسل وهم العمودين النيرين "بطرس وبولس" ونقول: "أما بطرس وبولس الرسولان فكان ظِل أحدهما يشفي الأمراض، وكانت مناديل وعصائب الآخر تُذْهِب الأمراض وتُخْرِج الأرواح الشريرة. وبعدما كرزا بإنجيل الملكوت وعلَّما الأمم، سفكا دمهما من أجل اسمك ونالا إكليل الرسولية وإكليل الشهادة".
فيا ليتنا نأخذ آبائنا الرسل مثلًا في الاتضاع وإنكار الذات، وأن نحيا بمبدأ يوحنا المعمدان الذي قال: "يَنْبَغِي أَنَّ ذلِكَ يَزِيدُ وَأَنِّي أَنَا أَنْقُصُ" (يو 3: 30)، لكي تسير حياتنا بخير وسلام، ونبتعد عن محبة الظهور وتألق الذات والتفاخُر بكل ما نقدمه، فهؤلاء الآباء الرسل كانوا شموعًا احترقت من أجل إضاءة العالم بنور المسيح، كانوا رائحة المسيح الذكية التي فاح أريجها وملأ كل المسكونة بعطر كريم الرائحة، فأصبحت سيرتهم وحياتهم مِثالًا لكل الأجيال في كل مكان بسبب اتضاعهم وتشبههم بسيدهم المسيح الذي قال: "اِحْمِلُوا نِيرِي عَلَيْكُمْ وَتَعَلَّمُوا مِنِّي، لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ الْقَلْبِ، فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ" (مت 11: 29).
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/articles/fr-botros-elbaramosy/a/the-twelve-stars.html
تقصير الرابط:
tak.la/yxmvg99