من أشهر وأعظم قديسي التوبة، الذي كان قويًّا في كل شيء، وفي توبته كمثل شرَّه، في قوَّة شخصيته واتخاذه القرار بالتوبة كمثل ما أخذه في الرب من بيت سيده وأصبح أقوى الأشرار. شخصية عجيبة تحيِّر الأذهان على مدى العصور، وتبقى نبع متدفق للتأملات في نعمة الله الفيَّاضة التي تعمل داخل قلب الإنسان مهما كانت شروره وأفعاله الرديئة. هي باعِث للأمل وعدم اليأس، هي سيرة شخصية صامدة عبر العصور تفوح منها رائحة زكية تغلَّبَت على رائحة نتن الخطية، هي سيرة تشرح باستفاضة حياة التوبة وكيف تجذب الإنسان العاتي الشرير وتحوِّله إلى قديس بار، يسطر اسمه وسيرته بأحرف من ذهب في صفحات تاريخ الكنيسة. هذا الاسم العظيم تحوِّل من رعب المنطقة الذي إذا سمع اسمه رعاة الأغنام فرّوا هاربين تاركين قُطعانهم ونسائهم للنهب والسبي والقتل والإذلال والإهانة، إلى اسم منارة لكل مَنْ هو شارد وبعيد ويائس من توبته.. هو يقول لكل خاطئ: لا تيأس، فمراحم الله غير متناهية.. فقط اطلب معونته وعمل الروح القدس يشعل قلبك نحو الأفضل والتغيير..
انظر ما قيل عن موسى العاتي الشرير: "قاتل، سارق، زاني، حب العالم الفاني".
قبل أن موسى صاحب الجلد والوجه الأسود قبل توبته قتل حواتي مائة نفس، وكانت حياته كلها سلبًا ونهبًا للقوافل المارة على الطرق الكبيرة، وكان له بين زملائه صيت في الوقاحة، والجرأة في السرقة والقتل، حتى أن زملائه -الذين قبل أنهم كانوا ما يقرب من سبعين لصًّا- اتخذوه رئيسًا عليهم بالتزكية.. فتخيلوا أيها الأحباء كم يكون شر رئيس سبعون لصًّا؟! كيف تكون سطوته وجبروت شخصيته لكي يحكم كل هؤلاء الأشرار القتلة، قاطعي الطرق، سارقي الأموال والمجوهرات، قاتلي الأبرياء والأغنياء والأطفال والنساء؟! وقيل عنه أيضًا أنه كان قويًّا في جسده، فارع الطول، كبير البنية، وكان يفرط في الأكل والشرب والسُّكْر، جبَّارًا عاتيًا، مستبيحًا لكل الشرور دون أي وجدود لضمير، بعيدًا عن كل ما يُسَمَّى أو يندرج تحت الرحمة.
لكن مراحم الله التي تسعى نحو الإنسان: "لاَ يَتَبَاطَأُ الرَّبُّ عَنْ وَعْدِهِ كَمَا يَحْسِبُ قَوْمٌ التَّبَاطُؤَ، لكِنَّهُ يَتَأَنَّى عَلَيْنَا، وَهُوَ لاَ يَشَاءُ أَنْ يَهْلِكَ أُنَاسٌ، بَلْ أَنْ يُقْبِلَ الْجَمِيعُ إِلَى التَّوْبَةِ" (2 بط 3: 9). وهو الذي لا يشاء موت الخاطئ مثلما يرجع وتحيا نفسه، ومن خلال سعيه نحو الخطاة أعلن لنا فرح السماء العظيم بخلاص البشر: "أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ هكَذَا يَكُونُ فَرَحٌ فِي السَّمَاءِ بِخَاطِئٍ وَاحِدٍ يَتُوبُ أَكْثَرَ مِنْ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ بَارًّا لاَ يَحْتَاجُونَ إِلَى تَوْبَةٍ.. هكَذَا، أَقُولُ لَكُمْ: يَكُونُ فَرَحٌ قُدَّامَ مَلاَئِكَةِ اللهِ بِخَاطِئٍ وَاحِدٍ يَتُوبُ" (لو 15: 7، 10).
بدأ عمل الروح القدس يُنير الظُّلمة القاتمة داخل قلبه حينما سمع عن رهبان برية شيهيت وطهارة سيرتهم، فتطلَّع إلى الشمس التي لا يعرف غيرها إلهًا وقال له: "أيتها الشمس، إن كنتِ أنتِ الإله فعرِّفيني". وكأنه يقول داخل نفسه المتمررة من علقم الخطية وسمومها: "أيها الإله الذي لا أعرف عرِّفني ذاتَك".. ومن خلال الاستعداد القلبي بدأ الله ونعمته تعمل معه وفيه، فلم يتركه الله دون إجابة، وبدأت مراحم الله أن تدركه في الوقت المناسب. وقد سأل الأخوة شيخًا مختبرًا قائلين له: قيل عن أنبا موسى الأسود أنه بينما كان متقلِّبًا (عائشًا) مع أصحابه قُطَّاع الطرق في أفعالهم القبيحة، أدركته فكرة صالحة فذهب إلى البرية، فإذا كان هذا من عمل نعمة الله، فلماذا لم يتم قبل ذلك الوقت؟ فقال الشيخ: "كل فضيلة هي من نعمة الله كما قال الرب "بِدُونِي لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَفْعَلُوا شَيْئًا" (يو 15: 5). إلا أن فِعل النعمة يكمل باختيار الإنسان إرادة الإنسان، وهي لا توقظ الإنسان إلا عندما يعلم الله أن فكره قد مال إلى الخير، وذلك حِفظًا لحرية إرادته، وحينئذٍ توقظه النعمة. فإذا اختار الخير يكمل فيه عمل النعمة كما حدث لإبراهيم.
لقد تذكَّر موسى رهبان برية شيهيت الذين سمع عنهم وعن قداستهم من قبل، وكان صيته الإجرامي "رعب المنطقة" واصِل إليهم، ولعل مما هو غير معروف أن بعضًا من هؤلاء قد يكون دائم الصلاة من أجل توبته ورجوعه، وهذا هو عمل الراهب الخفي أن يصلي من أجل خلاص الجميع، مَنْ يعرفهم ومن لا يعرفهم، يكون متشبهًا بخالقه الذي أوضح لنا بفرح السماء بتوبة الخاطئ. هذه الصلوات الغير معروفة والغير معروف مصدرها قد سمعها الله وحرَّك قلب موسى العاتي الشرير إلى التوبة.
لقد ذهب موسى إلى رهبان شيهيت حاملًا سيفه ليستكشف أحوالهم، فكان من لطف الله وصلاحه أن تَقابَل مع أول مَنْ قابله هو القديس إيسيذورس الطويل البال (الطويل الأناة) المتأني على كل الخطاة مثل خالقه. فقد ذُكِرَ عن الأنبا إيسيذورس أن الآباء حينما كانوا يجدون أخًا مُتعبًا من مرض روحي صعب شفاءه وعدم استجابتهُ لهم ولنصائحهم، كانوا يرسلونه إلى الأب إيسيذورس فيعالجه بطول أناته ومحبته وإرشاده، حتى يستجيب ويُشفى من مرضه القاتل ويُرْجِعهُ إلى أبيه الروحي مرة ثانية..
لقد ذُهِلَ القديس إيسيذورس من منظره المُرعب فسأله قائلًا: ماذا تريد يا أخي هنا؟ فأجابه: سمعت أنك عبد الله الصالح، لذلك هربت وأتيت إليك لكي يخلصني الإله الذي خلَّصَك، وظلَّ يطلب منه بإلحاح وخشوع قائلًا: أريد أن أكون معك، ولو أنني صنعت خطايا كثيرة وشرورًا عظيمة..
سأل القديس إيسيذورس موسى قائلًا: مَنْ هو الذي جاء بك إلى هنا؟ فأجاب موسى: أخبرني أحد المزارعين عن قداستك وقال لي: امضي إلى أنبا إيسيذورس فهو يساعدك على خلاص نفسك. فعبق رائحة التقوى والقداسة لا يمكن أن يُخفى بل يفوح ليملًا كل مَنْ حوله برائحة زكية وكريمة - هكذا كانت سيرة العظيم أنبا إيسيذورس. وسأله ثانية ماذا كان معبودك إذن؟ أجابه: إنني لست أعرف الله، بل كانت زائغًا في شروري، وحالما تأثرت من سماعي عن رهبان الإسقيط تحرَّكت لعبادة إلهي، ولم أكن أعرف سوى الشمس إلهًا، لأنني لما تطلَّعت إليها وجدتها أنها هي التي تنير المسكونة بضيائها والظلام يحل بغيابها.. لقد عرفت أن هناك إلهًا آخرًا لا أعرفه أعظم من الشمس والنجوم والكواكب.. وقلت لله: أيها الرب الإله الساكِن في السماء، مُهدي الخليقة كلها، أهدني إليك الآن وعرِّفني ما يرضيك. ولما سمعت أن رهبان شيهيت يعرفون ا لله أتيت إليك لتخبرني وتسأل عني حتى لا يغضب عليَّ لأجل شرّ أعمالي، ولا يهلكني لأجل قبائحي غير المعدودة.
عجيب أنت أيها القاتِل السارق الزاني، من أين أتيت بهذه القوة والصمود أمام مُحاربات الشيطان القوية؟! مَنْ يستطيع أن يتخلَّى عن كل هذه الملاذ والمُغريات العالمية والشهوات الجسدية بهذه السهولة، ونحن نعلم أن "الْمِيَاهُ الْمَسْرُوقَةُ حُلْوَةٌ، وَخُبْزُ الْخُفْيَةِ لَذِيذٌ" (أم 9: 17)، "لأَنَّهَا طَرَحَتْ كَثِيرِينَ جَرْحَى، وَكُلُّ قَتْلاَهَا أَقْوِيَاءُ" (أم 7: 26). مع ما تفوَّه به موسى وقف مرشده مندهشًا من فِعل التوبة داخل الإنسان، فأخذه بيده لكي يقيمه من سقطته ولا يدعهُ فريسة سهلة لشيطان اليأس، لكي لا يُضَخِّم له شروره وجرائمه وييأس من توبته كما يفعل مع البعض منها، فالبعض يقول مع ميخا النبي وموسى الأسود: "لاَ تَشْمَتِي بِي يَا عَدُوَّتِي، إِذَا سَقَطْتُ أَقُومُ. إِذَا جَلَسْتُ فِي الظُّلْمَةِ فَالرَّبُّ نُورٌ لِي" (مي 7: 8). والبعض يترك نفسه لفِكر اليأس، فيبتلعهُ ويرفض التوبة متحججًا بعدم قبولها، وذلك لكثرتها وفظاعتها..
فإن أتاك هذا الفِكر المدمر ضع أمام عينيك أيها الحبيب قصة قديسنا العظيم الأنبا موسى الأسود.. وافعل كما فعل في أنه ركع أمام قس الإسقيط القديس إيسيذورس واعترف علنًا بجرائم حياته في تواضع وانكسار، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في السيرة. وهذا هو مفتاح قبول التوبة وعملها داخل القلب، مَنْ رفضها وعدم الشعور بقيمتها وقمرها. وبعد اعترافه بجرائمه وشروره سلَّمه القديس إيسيذورس إلى أبيه القديس أنبا مقار الكبير، الذي وضعه تحت رعايته فترة من الزمن، ثم سلَّمه إلى أنبا إيسيذورس مرة ثانية ليستكمل معه مشوار التوبة حتى عمَّده وصار مسيحيًّا، ثم أرسله إلى القديس مكاريوس مرة أخرى. ثم ابتدأ موسى بالاعتراف علنًا في الكنيسة بجميع خطاياه وقبائحه الماضية، وكان لصدق موسى وتوبته القوية أن كشف الله عن عيني القديس مكاريوس فرأى لوحًا مكتوبًا عليه كِتابة سوداء، ولكما اعترف موسى بخطية مسحها ملاك الله حتى انتهى من الاعتراف فوجد الله صار كله أبيضًا.
وقد قيل عن موسى التائب: أنه لما بدأ موسى يداوم على الصلاة ﻭﺍﻟﺘﺄﻣﻞ، ﺇﺫ ﺑﺎﻟﺸﻴﻄﺎﻥ ﺍﻟﺬﻱ ﻛﺎﻥ ﻳُﻐﺮﻳﻪ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺨﻄﻴﺔ ﻣﻨﺬ ﺻﺒﺎﻩ ﻳﻈﻬﺮ ﻟﻪ ﺑﺼﻮﺭﺓٍ ﻣُﺮﻋﺒﺔٍ ﻣﻄﺎﻟﺒًﺎ ﺑﻔﺮﻳﺴﺘﻪ ﺍﻟﻘﺪﻳﻤﺔ، ﻓﺤﺎﺭﺑﻪ ﺑﺸﺪّﺓ. ﻭﻻ ﺳﻴﻤﺎ ﻓﻲ ﺷﻬﻮﺍﺗﻪ ﺍﻟﺠﺴﺪﺍﻧﻴﺔ ﺣﺘﻰ ﺃﻭﺷﻚ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻴﺄﺱ. ولكنه ذهب مرة أخرى إلى أبيه وأخبره بكل ذلك ولم يخفي عنه شيئًا، كما نفعل في بعض الأحيان ونشتكي أننا نقع في نفس الخطايا مئات المرات. فالعيب ليس في الإرشاد ولكن في أمانة المُعترف مع أبيه الروحي.. فالشيطان يهرب حينما يرى نفسه قد فُضِح وفُضِحَت أعماله النجسة أمام الأب الروحي.
وقد قيل عن الأنبا موسى: أنه في بِدء رهبنته كان يمارس النسك بغيرة شديدة، فكان لا يأكل سوى خبز جاف بالإضافة إلى أنه كان يتلو خمسين صلاة كل يوم، مع الأعمال الشاقة الكثيرة التي كان يعملها، وهكذا كان يُميت جسده، إلا أنه كان يشعر كأن نارًا تشتعل في ميول وشهوات الجسد، وظلَّت الأحلام تزعجه. فذهب مسرعًا إلى أبيه أنبا إيسيذورس كاشِفًا فِكره ومحارباته مشتكيًا هذا الصراع العنيف قائلًا: ماذا أفعل يا أبي؟ إن الأحلام الشريرة تظلم ذهني فتستيقظ كل الميول النجسة الرديئة ولا سيما ليلًا، حيث تصوِّر أمامي الحفلات الصاخبة التي كنت أشارك فيها في العالم وكل مشاعر الخطية.. فأجاب الأب: هذا يحدث لك لأنك لا تهرب من تصوّراك، فواظِب على الصلاة الكثيرة والصوم، وكن مستيقظًا لحياتك وتحكَّم في حواسك، وثِق أنك ستنتصر على الشيطان وتتغلَّب على جسدك الثائر. فقوِيَت عزيمة أنبا موسى وعمل بهذه المشورة إذ ألزم نفسه ألا يرقد طوال الليل حتى يثني ركبته.
ولعلَّ الشكوى التي تفوَّه بها موسى التائب قد نشكو منها نحن وهي كثرة المُحاربات أثناء الصلاة، أو أثناء الليل وتلويث الذهن.. فالعلاج ليس البُعد عن الصلاة، كما يتفوَّه البعض ويتخيَّل البعض الآخر، ولكن العلاج في ثلاث كلمات: السهر - الجهاد - الاتضاع. ومن خلال الطلب المستمر من الله أن يرفع عنَّا هذه الأفكار وينظر إلينا ويعيننا ويرفعها عنّا كما عمل مع موسى الشرير القاتل السارق الزاني، وأصبح أقوى الأبرار وقديس يُحتَذَى به في حياة التوبة، هكذا يفعل معك الله برحه القدوس الذي يلهب قلبنا بالتوبة، ويحثنا على تقديمها بدون يأس واتضاع وأمانة كاملة مع أب الاعتراف لكي يقبلها الله، وننمو فيها حتى تصبح حياتنا نقية، ونسمع ما سمعه موسى يوم رسامتهُ كاهِنا: ها قد صرت أبيضًا كلك من الداخل والخارج يا موسى. وليعطنا الرب أن نرضي اسمه القدوس طول أيام حياتنا.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/articles/fr-botros-elbaramosy/a/st-moses-the-black.html
تقصير الرابط:
tak.la/4d9fpwb