الله من كرمه ومن محبته وهبنا أشياء كثيرة وهبنا الحياة والعقل والضمير والروح والحرية. فهل نحن نهتم بهذه المواهب أم نضيعها؟
الله وهبنا العقل، ويشمل التفكير والفهم والاستنتاج والذاكرة بمستويات مختلفة. فهناك من يكون عبقري أو شديد الذكاء، وآخر ذكاءه عادي, وآخر محدود الذكاء.
والله وهبنا العقل الباطن، وفيه يختزن الإنسان أشياء يستفيد بها في وقت اللزوم.
هل العقل الذي وهبنا الله إياه نستخدمه تمامًا أم لا نستخدمه، أم نستخدمه بطريقة خاطئة، أم أننا نُخْضِع هذا العقل لأهوائنا؟
الله وهبنا الضمير، وهذا الضمير وضعه الله فينا منذ البدء. أي من بدئ خلقة العالم.
أول شريعة في العالم، كانت الشريعة التي أعطاها الله على يد موسى النبي سنة 1500 ق.م.، لكن كيف كان الناس يعيشون آلاف السنين قبل موسى؟ كانوا يعيشون بالضمير.
بالضمير عوقب قايين كقاتل مع إنه لم توجد وصية تقول لا تقتل. وبالضمير ارتفع يوسف الصديق عن مستوى الخطية، مع أن لم يكن هناك وصية تقول لا تزني. لكن بالضمير.
الله كان يعاقب الناس بالضمير ويحاسبهم بالضمير. والضمير موجود فينا للتمييز بين الخير والشر. مع الحثّ على الخير والتبكيت على الشر. لكننا أحيانًا نغطي على ضميرنا ونخفيه ونهرب منه ولا نطيعه!
الله أعطانا روح لتكون مجالًا للعلاقة بيننا وبين الله، ولكننا كثيرًا ما لا نعطيها غذائها.
غذاء الروح في القراءة الروحية، وفي التسبيح، وفي الترتيل، وفي التأمل في الكتاب المقدس، وفي التأمل في سير القديسين، وفي الصلاة.
كثيرًا ما لا نعطي الروح غذائها. وأحيانًا نترك الجسد ليطغى على هذه الروح بسقطاته.
أيضًا وهبنا الله الروح القدس يسكن فينا، فقال "أنتم هياكل الله، والروح القدس يسكن فيكم": ونص الآية هو: "أَمَا تَعْلَمُونَ أَنَّكُمْ هَيْكَلُ اللهِ، وَرُوحُ اللهِ يَسْكُنُ فِيكُمْ؟" (رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس 3: 16).
وهذه هبة عظيمة ولكننا كثيرًا ما نحزن الروح. ونرفض الشركة مع الروح.
أعطانا الله هبة الحرية. لنكون على صورته ومثاله، ولكننا كثيرًا ما نستخدم الحرية ضد أنفسنا.
الله يريدنا دائمًا ونحن لا نريده. الله يعدنا بالحياة الأبدية ونحن نضيع الحياة الأبدية بأعمالنا.
ما هي المُحاربات التي تُحارب هذه المواهب التي أعطاها الله لنا؟ محاربات كثيرة. منها الشهوة، ومنها الخوف، ومنها الشك، وتعب الأعصاب، ومنها الضعف، والتأثر بالآخرين.
والشهوة تطغى على الكل. أي لا توجد موهبة من مواهب الله إلا وأمامها شهوة مضادة تطغى عليها.
الشهوة لها أنواع. فهناك شهوة الجسد، وشهوة المال، وشهوة السيطرة، وشهوة العظمة، وشهوة المناصب، وشهوة البر الذاتي.
شهوات كثيرة تطغى على الإنسان وممكن أن تضيعه.
شهوة الجسد ممكن أن تُبْطِل العقل وتُدَنِّس الفِكر. وأحيانًا يتوقف العقل ليخطئ الجسد. وأخيرًا وبعد أن يخطئ الإنسان، وعند معاتبته على خطيئته، يقول "آسف لم أكن في عقلي" أي "الشهوة أبطلت عمل العقل".
والشهوة أيضًا تبطل عمل الضمير، أثناء الفكر الخاطئ والعمل الخاطئ والاستغراق فيه يكون الضمير متوقف تمامًا. حيث تطلب الشهوة من الضمير أن يبعد ويتركها لتعمل.
وحينما يستيقظ الضمير، تمنع عنه الشهوة التوبة. كيف ذلك؟
سبق أن قلت لكم أنه "أحيانًا يكون العقل خادمًا مطيعًا لشهوات النفس". حيث تشتهي النفس ويطيعها العقل وينفذ كل طلباتها. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والكتب الأخرى). فعندما يسقط الإنسان، ويبدأ ضميره في توبيخه، يبدأ العقل بتقديم تبريرات كثيرة حتى لا يوبخه ضميره. كإنسان يقول له عقله: الإغراء كان شديدًا عليك، أو يقول له: كل الناس على هذا الحال. أو يقول له: نحن لسنا ملائكة!
أحيانًا يقول له عقله: نتوب فيما بعد! لا داعي للتوبة الآن، فالتوبة موجودة وممكن أن نتوب فيما بعد!!
وكلمة "نتوب فيما بعد" تذكرنا بما قاله أمرؤ القيس (أكبر شعراء المعلقات العربية)، فقد كان معتادًا على الخمر والسُّكر، وفيما هو ساهر يشرب، جاءه خبر وفاة والده، فقال:
اليوم خمر وغدًا أمر لا صحو اليوم ولا سُكر غدًا
أي أنه قد أجَّلَ التوقف عن السُّكر للغد!
أحيانًا يقول العقل: هذا شيء بسيط والله سيغفر، ويتذكر كل الآيات المتعلقة بمحبة الله وغفران الله. وينسى أن الله لا يغفر إلا بالتوبة. والسيد المسيح يقول في (لو 13: 3، 5): "إن لم تتوبوا فجميعكم كذلك تهلكون": ونص الآية هو: "كَلاَّ! أَقُولُ لَكُمْ: بَلْ إِنْ لَمْ تَتُوبُوا فَجَمِيعُكُمْ كَذلِكَ تَهْلِكُونَ"(إنجيل لوقا 13 : 3 ، 5)
يترك نفسه للكلمات مثل: الله طيب، الله حَنَّان، الله لا يشاء موت الخاطئ مثلما يرجع ويحيا، المهم أن يرجع ويحيا.. إلخ. ومع كل هذه التبريرات تستمر الشهوة حتى تصبح عادة وتسيطر. ومن أخطر الأمور في الحياة الروحية: التبريرات. الإنسان يخطئ ويحاول تبرير الخطأ ويقول لنفسه: "لم يحدث شئ".
ضحايا الشهوة، لا يحصيهم عدد من الأعداد. وعندما يسقط الإنسان في خطية يحاول أن يخفيها بأي طريقة.
من ضمن الأشياء التي تتعب المواهب التي أعطاها لنا الله، الأعصاب المرهقة. كإنسان يخطئ فيغضب ويثور ويعلو صوته، وربما يشتم أو يهين غيره أو يهدد ليصل إلى هدفه. أثناء ثورته، أين ذهب عقله؟! وأين ضميره؟ وأثناء الشتيمة أو التهديد، أين العقل وأين الضمير؟ كلاهما في غيبوبة. العقل في غيبوبة والضمير في غيبوبة. ومَنْ المسيطر الذي يمسك بدفة السفينة؟!
وعندما تعاتب هذا الشخص، يرد بقوله: "لم أكن في وَعيي، لم أملك نفسي"! ولماذا لا تملك نفسه؟
الكتاب المقدس يقول: "مالك نفسه خير من مالك مدينة": ونص الآية هو: "اَلْبَطِيءُ الْغَضَبِ خَيْرٌ مِنَ الْجَبَّارِ، وَمَالِكُ رُوحِهِ خَيْرٌ مِمَّنْ يَأْخُذُ مَدِينَةً" (سفر الأمثال 16: 32).
لكن هذه أشياء تسيطر على الإنسان تقول للعقل: انتظر قليلًا، هذا ليس وقتك. وتقول للضمير انتظر، هذا ليس وقتك! وتمسك الأعصاب السيطرة على الموقف، أو تمسك الشهوة السيطرة على الموقف. فلا يكون هناك توازن في حياة الإنسان.
العقل أيضًا يتأثر بالآخرين، وتأثيره يُعَطِّل الضمير، ويُغَيِّر مسار الفِكر. فهناك الكثير من الناس يتأثرون بالآخرين ويصل تأثرهم وتغير فِكرهم إلى درجة "غسيل المخ"، أي يخرج بمخ غير مخه، وبطريقة تفكير غير طريقة تفكيره!! خاصة أن كثير من الناس عندما يجد شخص حزين على خطاياه، يحاول أن يُنسيه خطاياه، ويُهَوِّن من شأنها، ويجعله يسير في طريق آخر ينسى به خطأه! وفي هذه الحالة الإنسان يتصرف بعقل غير عقله، وهذا المُحِب يقوده إلى الضلال. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والكتب الأخرى). أحيانًا يكون هذا المحب هو المرشد الروحي أو أب الاعتراف، الذي يظن أن تَهوين الخطيئة محبة. لذلك قال الله: "يا إسرائيل مرشدوك مُضِلّون": ونص الآية هو: "شَعْبِي ظَالِمُوهُ أَوْلاَدٌ، وَنِسَاءٌ يَتَسَلَّطْنَ عَلَيْهِ. يَا شَعْبِي، مُرْشِدُوكَ مُضِلُّونَ، وَيَبْلَعُونَ طَرِيقَ مَسَالِكِكَ" (سفر إشعياء 3: 12) أي هذا الذي يُرْشِدَك يُضِلَّك، ويكون مشتركًا في الخطأ معك.
الذي يُجامِل الخاطئ يشترك في الخطأ معه، ولو بنصيحة خاطئة، ومجاملة المخطئ معناها شركة مع المخطئ. ولذلك يقول الكتاب: "لا تشتركوا في أعمال الظلمة، بل بالحري بكتوها": ونص الآية هو: "وَلاَ تَشْتَرِكُوا فِي أَعْمَالِ الظُّلْمَةِ غَيْرِ الْمُثْمِرَةِ بَلْ بِالْحَرِيِّ وَبِّخُوهَا" (رسالة بولس الرسول إلى أهل أفسس 5: 11).
نقطة أخرى وهي أن الضمير يتأثر بالتقاليد، مثل بعض البلاد يكون من تقاليدها الأخذ بالثأر، فإذا قُتِلَ شخص من عائلة، لا بد أن تأخذ عائلته بثأره من القاتِل أو أقاربه.
وأحيانًا إذا قُتِل شخص من العائلة لا يأخذون العزاء حتى يقتلوا القاتل، ثم يأخذون العزاء بعد ذلك. وهذه تقاليد موجودة عند البعض.
أو مثلًا شخص إذا زنت أخته يقتلها، ويعتقد بذلك أنه يغسل عار الأسرة! ويكون بذلك قد قتل أخته وهي في خطيئتها، وحرمها من فرصة التوبة. وكان من الممكن أن يعاقبها بأي شكل غير القتل. ولكن تكون التقاليد متحكمة فيه. وهنا تقود التقاليد الخاطئة العقل والضمير.
وقد يتأثر الضمير بالشفقة على الآخرين. مثل تلميذ يغشش زميله، كنوع من الشفقة عليه. وقد ذكرت الجرائد قصة شخص ارتدى ملابس المنقبات ليمتحن بدلًا من حبيبته، قاده عقله إلى أن هذا هو الحب أو الشفقة، ولو يرتكب خطيئة من أجل الحب. وهذا ليس حب بل شفقة.
ومثال الطبيب الذي يعطي شهادة طبية لشخص غير مريض ليسهل له الحصول على أجازة.. نوع من الشفقة، وضميره يسمح له بذلك.
مثال آخر: الشخص الذي يكذب لكي ينقذ غيره. حيث يسمح ضميره بالكذب. لأن الضمير مختل.
هذه أمثلة لضمائر إما غائبة أو مُخْتَلَّة.
من ضمن الأشياء التي تسيطر على العقل والضمير: الخوف. شخص يخاف من التهديد. فيقول شيء ضد ضميره، أو يقوم بعمل ضد ضميره.
لذلك في سفر الرؤيا إصحاح 21، وضع الخائفين الذين من هذا النوع في أول درجات المخطئين الذين لا يدخلون الملكوت. حيث يقول: "وَأَمَّا الْخَائِفُونَ وَغَيْرُ الْمُؤْمِنِينَ وَالرَّجِسُونَ وَالْقَاتِلُونَ وَالزُّنَاةُ وَالسَّحَرَةُ وَعَبَدَةُ الأَوْثَانِ وَجَمِيعُ الْكَذَبَةِ، فَنَصِيبُهُمْ فِي الْبُحَيْرَةِ الْمُتَّقِدَةِ بِنَارٍ وَكِبْرِيتٍ، الَّذِي هُوَ الْمَوْتُ الثَّانِي" (سفر رؤيا يوحنا اللاهوتي 21: 8).
حيث يقوم الإنسان بعمل يندم عليه فيما بعد. وفي الخوف يفقد حرية إرادته ويتصرف بغير إرادته.
الشك أيضًا يُتْعِب العقل. ويُدْخِله في حالة من التردد تجعله لا يدري ماذا يفعل. وقد يكون الشك في الفِعْل، أو الشك في الناس، فيتعب الإنسان. فقد يتصور الإنسان أن جميع الناس تجري وراءه.
وقد يكون الشك في العقيدة والإيمان، وهنا العقل يرتبك ويضيع. صحيح أن العقل موهبة، ولكن في هذه الحالة يكون العقل ليس في حالة فِهم سليم.
وقد يشك الإنسان في الله نفسه، أو الشك في العالم الآخر. هنا لا يكون العقل مستقرًا أبدًا، كما يقول الشاعر:
كريشة في مهب الريح طائرة لا تستقر على حال من القلق
أي يكون الإنسان كريشة سائرة. ويتصرف الإنسان تصرفات هوجاء.
نرجو أن نعيش في المواهب التي أعطاها الله لنا ونستفيد منها لمنفعتنا..
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/xdyn29b