كل شيء له ثمن، سواء في السماء أو على الأرض. وهكذا يقتضي عدل اللَّه، كما تقتضي العدالة على الأرض أيضًا. فالحرية مثلًا لها ثمن. وقد صدق الشاعر في قوله:
وللحرية الحمراء باب بكل يد مدربة يدق
أي تكون هذه الحرية مدربة بالدم، دم الذين جاهدوا ليحصلوا عليها... فحرية العبيد في أمريكا، كان لها ثمن هو ثورة العبيد في أمريكا... وحرية السود في جنوب أفريقيا، كان لها ثمن دفعه مانديلا الذي احتمل السجن سنوات عديدة، حتى خرج ليكون أول رجل أسود حكم جنوب أفريقيا بعد زوال التفرقة العنصرية.
وتخلص مصر من الاحتلال البريطاني، كان له ثمن هو الثورة الجبارة التي قام بها سعد زغلول سنة 1919م بعد أن نُفِيَّ إلى جزيرة سيشيل هو وأصحابه. تلك الثورة الشاملة التي قامت في مصر كلها. وأعقبها الحصول على الدستور لأول مرة سنة 1923م.
وكذلك حصول الهند على الاستقلال بعد أن حكمتها إنجلترا سنوات عديدة. هذا أيضًا كان له ثمن هو الجهاد المُضني الذي قام به زعيمنا مهاتما غاندي Mohandas Karamchand Gandhi في أصوام وفي صبر واحتمال حتى اعترفت إنجلترا باستقلال الهند أخيرًا.
النجاح أيضًا في أي شيء له كذلك ثمن: وثمنه التعب والجهاد. فلا يُمكن لأحد أن ينال النجاح بمُجرَّد الرغبة فيه. والرغبة وحدها لا تكفي، وإنما كما قال الشاعر:
وما نَيْل المطالب بالتمنِّي ولكن تؤخذ الدنيا غلابا
وعلى رأي المَثل "مَن جَدَّ وجَدَ". يُضاف إلى النجاح أيضًا التفوق وهذا لا يمكن أن يناله الإنسان إلا بجهد فائق غير عادى.
الصحة أيضًا لا يحصل عليها أحد إلا بثمن. وثمنها هو مراعاة كل القواعد الصحية، وإبعاد الجسد عن كل أسباب المرض والضعف. وتقويته مِمَّا يحتاج إليه من غذاء ورياضة وهواء نقى. أمَّا في حالة المرض: فثمن الصحة هو العلاج اللازم والدواء، وإطاعة الإرشاد الطبي، واحتمال الألم. وما أكثر الثمن الذي يبذله الإنسان في ظروف العمليات الجراحية. سواء من جهة ماله أو احتماله، والصبر حتى يُشفَى. وبعد ذلك أيضًا الحرص في فترة النقاهة خوفًا من النكسة.
كذلك أيضًا كسب محبة الناس، ما أعظم الثمن الموصل إليه... يحتاج الإنسان في ذلك إلى تدريب طويل على البذل والعطاء، والثبات في ذلك، واحتمال أخطاء الآخرين، وحسن مُعاملة الكل من الصغار والكبار، وعدم التعامل بالمِثل مع المُسيئين، وعدم الخوض في سيرة الناس. بل إن تحدَّث عنهم بذكر فضائلهم وينسى ما لهم من سيئات... لهذا كله يكسب الإنسان محبة الآخرين. كما يلزمه أن يدرس ويختبر نفسيات الذين يتصل بهم، ويتعامل مع كل منهم حسب ما يُناسِب نفسيته.
الأمانة أيضًا لها ثمن. والطاعة كذلك لها
ثمن. الأمانة الخاصة بعفة اليد ثمنها تدرج الشخص على ألا يأخذ شيئًا
ليس من حقه، ولا يأخذ شيئًا أزيد من حقه. وهكذا يبعد تمامًا
عن المال الحرام، ويحترس من الرشوة بكل إغراءاتها... والأمانة في أداء
الواجب ثمنها بذل الجهد على قدر المُستطاع في القيام بالمسئوليات، وعدم التقصير في
شيء منهما... أمَّا عن
الطاعة فثمنها محبة مَن تُطيعه، والتضحية بمشيئتك الشخصية
لأجل تنفيذ مشيئته، في نطاق مشيئة اللَّه.
كذلك تكوين الثروة له ثمن، والوصول إلى السُّلطة له ثمن... فالثروة لا تهبط على الإنسان من فوق كعطية مجانية من السماء! وإنما تحتاج إلى جهد وتعب في الحصول عليها. وكثير من الناس يشتهون الثروة ويسعون إليها. ولكن لا ينالها إلا الذين كانت لهم حكمة وخبرة في إدارة الأمور المالية. وأيضًا في الحرص على الثروة حتى لا يفقدوها... وأيضًا الحكمة في اختيار شركائهم... لئلًا يقعوا في شريك يُضيِّع كل جهدهم.
أمَّا من جهة السُّلطة، فما أكثر الذين يسعون إليها ويشتهوها. ولكن لا يصل إليها إلاَّ الذين تعبوا في هذا السبيل وصبروا، وكانت لهم علاقات طيبة مع الذين بيدهم الأمر، حتى حصلوا على مكانة توصلهم إلى السُّلطة.
وفى كل ذلك ليس فقط الحصول على الثروة والسلطة يحتاج إلى ثمن، بل أيضًا الحفاظ على كل منهما يحتاج إلى ثمن. لأنَّ كثيرين حصلوا على الثروة وعلى السُّلطة ثم فقدوها، بسبب سوء الاستخدام أو بسبب الكبرياء...
ونوال المغفرة له ثمن وهو التوبة، والتوبة أيضًا لها ثمن هو جهاد النفس ضد الخطية. وأقصد بالخطية كل أنواعها: سواء خطايا الجسد أو الفكر أو القلب أو الحواس، أو خطايا اللسان وغير ذلك. ومن الناحية الإيجابية: حِفظ نقاوة القلب، وامتلائه بمحبة اللَّه. ثم الثبات في كل ذلك، والبُعد ن كل أسباب النكسة الروحية.
صدِّقوني يا إخوتي إنَّ الخطية أيضًا لها ثمن. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والكتب الأخرى). فما أكثر الذين بذلوا الجهد والمال والصحة ثمنًا للخطية. ثم بعد ذلك فقدوا الكل، فلا بقى لهم جهد ولا مال ولا صحة. كما فقدوا الخطية ولم تدم لهم.
أحب أيضًا أن أقول: إنَّ السعادة والحياة الأخرى لها أيضًا ثمن. وثمنها هو الإيمان السليم، والحياة الطاهرة المقبولة أمام اللَّه. وسعيد كل مَن ثبت فيهما، وكل مَن كان في كل حين مستعدًا للقاء اللَّه بضمير صالح قدامه.
فإن كان الثمن مطلوبًا في كل الأمور العالمية والاجتماعية والاقتصادية، فكم بالأوْلَى الأمور الروحية! والناس عمومًا يختلفون في دفع الثمن، بقدر ما يكونون أمناء وجادين في ذلك. ومادام الإنسان سيُجازَى بحسب أعماله في يوم الدينونة الرهيب، إذًا عليه أن يبذل كل جهده، وكل إرادته لكي يصل إلى أعلى قدر من الحياة الفاضلة، وينمو في ذلك كل حين، حتى يصل بقدر الإمكان إلى الكمال النسبي الذي تستطيعه طاقته البشرية. وسوف يُكافأ على ذلك.
اجلس يا أخي إلى نفسك وحاسبها جيدًا: هل بذلت كل طاقتها في عمل الخير؟ فهذا هو الثمن الذي يطلبه اللَّه منها، لكي يكون لها نصيب مُميَّز في السماء.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/2f7rvda