الكآبة المؤقتة قد تكون طبيعية تمامًا. أمَّا الكآبة الدائمة فغالبًا ما تكون مرضًا يحتاج إلى علاج.
فالكآبة المؤقتة: مثالها إنسان يكتئب بسبب خطاياه نادمًا عليها. وهذا شيء مقدس ونافع أو يكتئب بسبب حالة محزنة في المجتمع، وهذا أيضا شيء طبيعي. والكآبة بسبب الخطيئة والسقوط قد تقود إلى توبة وإلى طلب المغفرة. وهذا النوع من الكآبة مقدس. فالشخص الذي لا يحزن بسبب خطاياه، هو إنسان مستهتر لا يشعر بما هو فيه من سقوط ومن مخالفة لوصايا اللَّه. كما أن الشخص الذي لا تحزنه مآس اجتماعية هو إنسان لا يُشارك المجتمع، ولا يتأثر بأحواله.
وهناك كآبة أخرى طبيعية: ومن أمثلتها حزن إنسان على وفاة شخص عزيز عليه، أو حزن شخص على فشل مشروع قام به، أو على عدم نجاحه في الامتحان، أو عدم وصوله إلى غرض كان يريده أو وظيفة كان يتقدَّم إليها. على أن هذا النوع الطبيعي من الكآبة ينبغي أن يكون له حد زمني فلا يستمر.
وهناك من الكآبة الخاطئة، أي التي تحوي خطيئة داخلها: مثالها كآبة شخص في قلبه شهوة خاطئة لم يستطع أن يحققها. أو كآبة أخرى سببها الغيرة والحسد. كأن يحزن شخص يشعر أن غيره قد حصل على شيء نافع كان يتمناه هو، أو يرى أنه أحق منه بذلك الخير.
ومن أمثلة هذا النوع حزن تلميذ لفشله في القدرة على الغش أثناء الامتحان. أو كآبة شخص في أنه لم يستطع الانتقام من غريم له. إن الفشل في ارتكاب خطية، يكون الحزن عليه خطيئة أخرى.
وهناك كآبة سببها اليأس. واليأس في حد ذاته خطأ نفسي. فالمفروض في شخص إذا فاتته فرصة، أن يلتمس غيرها، لا أن ييأس.
وهناك كآبة إنسان ينحصر بالضيقات، ويبقى فيها حزينًا بلا رجاء. كشخص يُجمع المشاكل ويكوّمها أمامه، ويقف حزينًا بلا حل وبلا رجاء وبلا اتكال على اللَّه. لذلك إن أحاطت بك المشاكل، ضع رحمة اللَّه بينك وبينها، فتختفي ولا يظهر أمامك إلاَّ عمل اللَّه الشفوق من أجلك.
وهناك كآبة سببها الحساسية الزائدة: إذ قد يوجد إنسان حساس جدًا نحو كرامته، أو حساس جدًا نحو حقوقه. يتضايق بشدة لأي سبب، أو لأقل سبب، أو بلا سبب! يريد معاملة خاصة في منتهى الرقة، في منتهى الدقة، في منتهى الحرص. فإن لم يجدها، وطبعًا نادرًا ما يجدها، حينئذ يكتئب.
وقد تأتي الكآبة أيضًا للذين لا يعيشون في الواقع بل يرفضونه. ولا يكون لهم بديل عنه سوى خيال لا يتحقق. فهُم حزانى على وضعهم. ولا يحاولون تغييره بطريقة عملية توصلهم إلى ما يريدون. إنما يكتفون بالحزن والثورة على ما هم فيه. ويبقون حيث هم في كآبة وفي سخط على كل شيء. وإن أتتهم لحظات سعادة، نتيجة لبعض أحلام اليقظة التي يسببها الخيال. يستيقظون من أحلامهم وخيالهم، ليجدوا واقعهم كما هو، فيزدادون سخطًا وكآبة. ونصيحتنا لهؤلاء أن يكونوا واقعين. فإمَّا أن يعيشوا قانعين بما هم فيه. وإمَّا أن يعملوا على تغييره بطريقة عملية ترضيهم.
وقد يأتي الاكتئاب بسبب ضيق الصدر وعدم الاحتمال. فالإنسان الواسع الصدر والقلب، يستطيع أن يبرر أشياء كثيرة، تذوب في قلبه الواسع فلا يضيق بها. كذلك سعة الفكر تعالج الكآبة، فالإنسان الذكي إذا أحاطت به مشكلة أو ضيقة، فإنه بدلًا من إرهاق أعصابه ونفسيته بالمشكلة ومتاعبها، يُشغل ذهنه لإيجاد حل للخروج منها. وإن لم يجد الحل، يصبر، ويعطي المشكلة مدى زمنيًا تزول فيه. أمَّا كآبة الإنسان بسبب المشاكل، فقد يكون سببها قلة الحيلة.
وقد تحدث الكآبة بسبب حرب خارجية من عدو الخير، دون ما سبب ظاهر. فهو يغرس في النفس أسبابًا للضيق ولو يخترعها اختراعًا، أو يكبِّر ويُضخِّم في أسباب تافهة لا تدعو إلى الكآبة... أو يوجد الشخص في جو من التردد وعدم الثبات يكون سببًا للكآبة.
ومن أسباب الكآبة والقلق، الشك إذا استمر في حالة تحطم فيها النفس. سواء كان شكًّا في إخلاص صديق، أو في أمانة زوجة وعفَّتها، أو كان شكًّا في حفظ اللَّه ومعونته، أو شكًّا في الإيمان. أو قد يكون الشكّ في الطريق الذي يسلكه الإنسان هل هو نافع له أم ضار؟ أو قد يكون شكًّا في تدابير تُدبَّر له من عدو وهو لا يدري. إن أفكار الشك تخرج من العقل لكي تسبب عذابًا للنفس وتقود إلى الكآبة.
ننتقل من كل هذا إلى الكآبة المرضية. حيث تتحوَّل الكآبة إلى مرض، إذ تضغط فيها الأفكار على الشخص حتى تُحطِّم كل معنوياته، وتزيل منه كل بشاشة.
فكر الكآبة يلصق بالمريض ولا يفارقه. يكون معه في جلوسه وفي مشيه وفي نومه وفي صحوة، بتخيلات سوداء كلها حزن وقلق وخوف، وصور كئيبة أمامه بلا حل ولا رجاء. إنها كآبة تُضيِّع حياته وروحياته ونفسيته وعقله، لاقتناع داخله أنه قد ضاع وانتهى.
وقد تصور له كآبته المرضية أن أصدقاءه ما عادوا يحبونه كما كانوا في القديم، أو أن اللَّه نفسه قد تخلَّى عنه، أو أن توبته لم تعُد مقبولة. وكل ذلك يوقعه في اليأس والكآبة.
وقد يكون سبب الكآبة المرضية هو عقدة الذنب: كأن يموت له أب أو ابن، فيشعر أنه السبب في موته. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والكتب الأخرى). أو أنه قصَّر في علاجه والاهتمام به حتى مات. ويظل هذا الأمر يتعبه ويجلب له حزنًا لا ينقطع.
ورُبّما يكون سبب الكآبة أنه وقع في مرض يظن أنه بلا شفاء. أو يتوقع له نتائج خطيرة يصورها له الوهم بأسلوب يُتعب نفسيته.
بقى أن نحدثك عن أعراض أخرى للكآبة، وعن طرق لعلاج الكآبة، ما ينفع منها وما لا ينفع، وعن بعض نتائج للكآبة. وهذه كلها لا يتسع لها هذا المقال. فاستأذنك في تكملة هذا لموضوع في المقال المقبل.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/wd52zd5