تحدَّثنا من قبل عن الكآبة الطبيعية التي تزول بوقتها. ونحب اليوم أن نتحدث عن الكآبة كمرض. حيث يكون المصاب بها ساهمًا باستمرار كئيب الوجه والملامح، وأحيانًا كثير الشكوى وكثير البكاء. تطحنه الأفكار السوداء بلا رجاء. ويظن أن حالته لا حلَّ لها، ورُبَّما ينتظره أسوأ مِمَّا هو كائن. وهو إمَّا أن ينزوي وينطوي. وإمَّا أن يجد الشخص الذي يستريح إليه، طبيبًا كان أو مرشدًا، فيظل يُكثر التَّردُّد عليه، وإطالة الحوار معه، حتى يهرب منه ذلك المريح، فتزداد كآبته، لأنه فقد مَنْ يريحه.
والمُصاب بالكآبة المرضية كثيرًا ما يتشبَّث بفِكرهُ المحزِن. وكُلَّما يخرجونه منه يعود إليه. وإن ظنَّ أنه شفى من مرض الكآبة، يعود إليه مرة أخرى... ورُبَّما يُفكِّر في الانتحار لكي يتخلَّص من آلامه. ولكنه رُبَّما يرفض فكرة الانتحار بسبب تَدَيُّنه. أو بأنه يُفضِّل الكآبة على الموت، أو لأنه يحاول أن يحل مشاكله عن طريق الخيال. وعمومًا فالكآبة لها تأثيرها السيئ على صحته، تُنهك أعصابه، وتتعب نفسيته.
من المُهم لمثل هذا المريض أن يشعر أن الكآبة ليست علاجًا لمشاكله. وعليه أن يعرف أنه بالكآبة قد أتعب نفسه بالأكثر، ورُبَّما بسببها فقد علاقته مع كثيرين. وأصبحت كآبته بسبب المشكلة، هي مشكلة أضخم من المشكلة التي اكتئب بسببها، مع بقاء المشكلة الأصلية لم تُحل. إذن ينبغي أن يكون واقعيًا ويفكر في حل لمشاكله، ولا يركز على الاكتئاب. أو على الأقل لا يجعل كآبته تطول وتستمر، ولا يكشف نفسه أمام الناس، ولا يجعلهم ينظرون إليه في إشفاق أو في يأس. نقول لمثل هذا الشخص: حاول أن تكون أقوى من المشكلة. أو على الأقل آمن أن اللَّه قادر أن يحل المشاكل...
ولكنه قد يقول: كيف أنسى المشكلة وهى لاصقة بذهني أكثر من التصاق جلدي بلحمي؟! أُفكِّر فيها كل حين، في جلوسي مع الناس وفي وجودي وحدي. لا أتحدَّث في موضوع سواها، ولا أُفكِّر إلاَّ فيها.
نُقدِّم لمثل هذا الشخص حلًا عمليًا وهو المشغولية. حاول أن تشغل نفسك باستمرار لكي تهرب من هذا الفكر الكئيب. فمداومة التفكير فيه تضرك من كل ناحية، جسديًا وعصبيًا ونفسيًا، وترهقك بلا حل. قُل لنفسك: كفاني تعبًا من هذا التفكير الذي لم يفدني بشيء. لذلك اشغل نفسك باستمرار لكي تستريح أعصابك من إرهاق الفكر.
غير أن البعض قد يرفضون العمل أو يهربون منه لكي يخلو عقلهم مع الفكر. لذلك إن قبلوا العمل تكون علامة صحية. تدل على أنهم قبلوا الاستغناء عن الفكر الكئيب ولو قليلًا خلال فترة العمل.
وأحيانًا يكون رفضهم للعمل بحجة أن أعصابهم مرهقة، وقدرتهم الجسدية لا تمكنهم من العمل! وقد تكون هذه حجة وهمية، أو يكون وراءها عامل نفساني. ولذلك قد تقدم له بدلًا من العمل، بعض ألوان من التسلية والترفيهات.
هناك علاج آخر هو بعض أنواع من الموسيقى لها تأثير قوي على النفس تريحها وتهدئها. ويمكن اختيار قِطَع الموسيقى المفيدة التي لا تضر روحيًا... بل يكون لها العمق والتأثير والقدرة على نقل المشاعر المتألِّمة وفتح أبواب الرجاء أمامها. ولا نقصد بالموسيقى المرتبطة بالغناء. وهناك موسيقى عميقة لا يصاحبها الغناء.
على أن بعض المرضى بالاكتئاب يلجئون إلى العلاج بالعقاقير وإلى العلاج النفسي. وقد تكون العقاقير للتهدئة. فإذا هدأت الأعصاب تصبح في حالة تسمح بالعلاج النفسي. ولكن لا يصح أن تكون العقاقير علاجًا دائمًا أو العلاج الوحيد. إن المريض بالكآبة قد يأخذ المهدئات أو المُسكِّنات أو المنومات لكي يستريح من الفكر الذي يتعبه. وقد ينام ثم يصحو فيجد الفكر مازال أمامه... لذلك فلتكن تمهيدًا للعلاج النفسي.
ومِمَّا يفيد في البُعد عن الكآبة، البُعد عن التدين المريض، الذي فيه يجعلون الصرامة في معاملة النفس، ومعاملة الآخرين مبدأ روحيًا. أو التدين المريض الذي يتبع مثاليات فوق طاقته فإذا لم يستطعها يكتئب. وللأسف فإن بعض المرشدين لا يتحدَّثون عن الفرح والبشاشة. ويعتبرون ذلك ضد التوبة، بينما اللَّه يريدنا دائمًا أن نكون فرحين. إن مثل هؤلاء المرشدين قد يقدمون للناس بحياتهم قدوة كئيبة. وحيث يهرب البعض من التدين لئلا يصير في تلك الصورة المحزنة الدائمة التجهُّم التي لا تضحك أبدًا، وقد فقدت البشاشة والابتسامة والوجه المضيء!
نقول أيضًا أنه يوجد علاج روحي كذلك للكآبة. في مقدمته الإيمان بأن اللَّه يهتم بنا ويحل مشاكلنا. وأن كل الأشياء تعمل معًا للخير للذين يحبون اللَّه. وحتى إن وجدت بعض التجارب فإنها تكون لفائدتنا، ويكون لها وقت محدود تزول فيه.
من علاج الكآبة أيضًا: الصبر. والإنسان الروحي الواسِع الصدر يعطي مدى زمنيًا للمشكلة لكي تُحل فيه. أمَّا الذي يريد حلًا سريعًا لمشاكله، فما أسهل أن يقع في الكآبة كُلَّما وجد الأيام تمر والحالة كم هي في ضيقها. إنما الوضع السليم أن نؤمن بأن اللَّه لابد سيحل المشكلة مهما طال الوقت.
ولذلك يحسن باستمرار أن تكون للإنسان النظرة المستبشرة من جهة المستقبل، وعدم الاستسلام لليأس مهما كانت الظروف ضاغطة، ومهما كانت الحالة سيئة. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والكتب الأخرى). فطبيعي أن اليأس يلد كآبة، والكآبة أيضًا تلد يأسًا. ويكون كل منهما بالنسبة إلى الآخر سببًا ونتيجة. بل ينبغي أن نعرف أن كل باب مُغلق له عند اللَّه مفتاح أو عدَّة مفاتيح.
ولعلاج الكآبة يحسن أن يعيش الشخص في الواقع الذي هو فيه، وليس في الخيال. فإن مات لك حبيب، أو إن فاتتك فرصة، أو إن فقدت شيئًا، أو إن أصابك مرض، فعِش في واقعك. وحاول أن تتأقلم مع الوضع إلى أن يغيره اللَّه أو يمنحك صبرًا عليه. وكثير من الناس يتعبون من مُعاملات الآخرين لهم. كما لو كانوا يفترضون أن هؤلاء الآخرين لهم عصمة لا تخطئ، بينما العصمة هي للَّه وحده. إنَّ العالم الحاضر لا يخلو من المتاعب، فلنَعِش في الواقع، وأن نُدرِّب أنفسنا على الفرح مهما كانت الضيقات، ولا نبالغ في حجم المشاكل ولا في صعوبة حلّها. وإن وقع أحد في الكآبة عليه أن يخرج منها مهما كان سببها. فترك النفس في الكآبة يتعبه ويمرضه، فلا داع إذن للبقاء فيها.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/ca3rr6v