أهنئكم يا أخوتي وأبنائي بعيد القيامة المجيد، راجيًا فيه لبلادنا العزيزة سلامًا وأمنًا، وراجيًا للعالم كله قيامًا من سقطته المالية وكل آثارها المؤلمة في جميع الأقطار..
وبعد، نحن قد تعوّدنا في كل عام أن نتحدث عن القيامة العامة، وما تحوي من معانٍ وأفكار وتأملات، عارفين الأهمية العظمى لقيامة الأموات، التي لولاها لتشابه البشر مع الحيوانات والحشرات والهوام، تلك التي تنتهي حياتها بالموت وبعده الفناء... أما البشر فيمتازون بأن لهم حياة أخرى بعد الموت أولها القيامة التي يدخلون بها إلى الحياة الأبدية التي لا تنتهي.
ومن نِعَم القيامة إنها تفتح الباب للقاءات كثيرة وعجيبة ومجيدة، ما كان ممكنًا أن تحدث إطلاقًا بدون القيامة...
أول هذه اللقاءات: لقاء اثنين كانا متلازمين ومتزاملين طول العمر كله، لا يفترقان لحظة واحدة. بل إنهما كانا في وحدة عجيبة واندماج فوق الوصف... وأعني بهذين الاثنين: الروح والجسد في كل إنسان. وفي الوحدة التي عاشاها، كانت مشاعرهما تندمج. فإن فرحت الروح، يبتسم الجسد أو يضحك ويتهلل. وإن حزنت الروح، فإن الجسد يكتئب أو يبكي. وإن دخلت الروح في مجال الصلاة، فإن الجسد يركع أو يسجد أو يقف في خشوع وما إلى ذلك من نواحي المشاركة في كل المشاعر والانفعالات التي يسمونها في عالم الطب "سيكو سوماتيك" Psicosomatica. حقًا كل منهما للآخر شريك العمر.
هذان الصديقان المتلازمان افترقا بالموت. فصعدت الروح إلى فوق، ونزل الجسد إلى أسفل ودُفن. وبقيت الروح حية لم تمت. أما الجسد فتحلل وتحوّل إلى تراب. ومرّت مئات أو آلاف السنين على الافتراق الكامل بين الروح والجسد.
وأخيرًا بالقيامة قام الجسد، وأرسل الله الروح لتتحد بالجسد وبلا شك أنها وجدته يختلف في بعض الأحوال عما كان من قبل. لأن الله لا يقيم جسدًا بعيوب كانت له. فالأعمى لا يقوم أعمى، بل يقوم ببصرٍ جيد. والأعرج والكسيح لا يقومان كما هما، بل بأرجل سليمة. وهكذا باقي المعوقين لا يقومون بأية إعاقة. وأيضًا المشوّه والدميم يمنحهما الرب في القيامة جمالًا. والذين بُترت أعضاء من جسهم في حوادث أو جراحات، ورُكّبت لهم أعضاء تعويضية، كل أولئك يقومون بأعضاء طبيعية سليمة...
هنا ويقف أمامنا سؤال هو: كيف ستتعرف الروح على جسدها لكيما تتحد به، بعد تلك الغربة الطويلة والتغيرات الكثيرة؟ لاشك أن ذلك معجزة أخرى! هل هي ترجع إلى ذاكرة عجيبة للروح؟ أم أنها نعمة معرفة موهوبة لها؟!
المهم أن كل روح تتحد بجسدها. ثم يقفان معًا أمام الله العادل في يوم الحساب الرهيب أو يوم الدينونة العامة لكي يقدما حسابًا عن كل ما فعلاه خلال عمرهما الأرضي، خيرًا كان أم شرًا مما اشتركا فيه معًا. وبعد صدور حكم الله عليهما، يذهبان معًا إلى مصيرهما الأبدي...
هذا هو اللقاء الأول في القيامة. وماذا عن اللقاء الثاني؟ إنه لقاء الأحباء معًا، والأقارب والمعارف والأصدقاء.. منه لقاء الأسرة التي فُقد لها حبيب بالموت. ومرت على ذلك سنوات لهم في الحزن والبكاء عليه. ثم يكون اللقاء معه في القيامة العامة... إنه لقاء الأرامل بالأزواج، أو لقاء اليتامى بالآباء والأمهات...
وهنا أضع مثالًا نادرًا، وهو رجل مات وقد ترك زوجته حبلى، فولدت ابنا بعد موت أبيه، لم يرَ أباه قط، ولا يعرف شكله. هذا كيف سيتعرف على أبيه في وقت القيامة؟!
مثال آخر وهو التعرّف على سلسلة الأنساب: أي تعرّف شخص على جدّه وأبى جدّه، وجدّ جدّه، وجدّ جدّ جدّه، إلى آخر السلسلة؟! من سيقوم بتعريف الأسرة على أصولها..؟!
ثم إذا كانت الأجساد ستقوم روحية غير مادية. كما نعتقد ? فكيف ستكون عملية التعرّف أو التعريف؟
ثالث لقاء هو لقاء الناس عمومًا، بعضهم بالبعض؟ علمًا بأن اللقاء في النعيم الأبدي سيكون فقط للأبرار مع الأبرار. أما الخطاة فإنهم سيطرحون خارجًا في الظلمة، بعيدًا عن نور الله ونور ملائكته وقديسيه...
وهنا تخطر لي بعض أسئلة منها:
أم بارة كان لها ابنان: أحدهما بار ذهب إلى السماء، ورأته معها، والابن الآخر لم يستحق أن يدخل السماء، فلم تره أمه، ولن تراه... ماذا يكون شعورها وعاطفتها من نحوه، مع معرفتنا بأن مكان النعيم الأبدي قد هرب منه الحزن والكآبة والتنهد. إنه مكان للفرح الكامل الدائم. فهل تلك الأم التي فقدت أحد ابنيها في الأبدية، سينعم الله عليها بنسيانه تمامًا، وكأنه لم يوُلد؟ أم أن مشاعرها ستكون كلها مركزة في الله وفي البر والأبرار، بحيث لا يخطر لها على بال ذلك الابن؟!
مثال آخر: إنسان بار مات قتيلًا. وكان قاتله قد ندم من كل قلبه على القتل، وتاب توبة حقيقية، وقبِل الله توبته وذهب إلى السماء. والتقى القاتل والقتيل معًا في دار النعيم. كيف يكون شعورهما، وفي الأبدية لا توجد مشاعر خاطئة إطلاقًا. يقينيًا سيلتقيان بكل مودة وحب وفرح. ولكن من أي نوع ستكون تلك المودة وذلك الفرح؟
النوع الرابع من اللقاء في العالم الآخر، سيكون لقاء شعوب وأمم وأجناس، من الأبرار من كل مكان. من الجنس الآري إلى الجنس الزنجي، وما بينهما من أجناس حسب تقسيم علم الأنثروبولوجي Anthropology: شعوب بيضاء وسوداء وصفراء بدرجاتها وأنواعها... حشد كبير لا يحصى. لا أدرى كيف سيتعرفون بعضهم على البعض؟ أم أن الله تبارك اسمه سوف يصنفهم صفوفًا صفوفًا، وفرقًا فرقًا. حسب درجات إيمانهم ودرجات روحانيتهم ودرجات معرفتهم، والكل أبرار ومقبولون... (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والكتب الأخرى). ولكن هل يمكن لقاء الكل بالكل؟ أم هذا غير ممكن؟ هنا ويقف عقلي محتارًا، لا يعرف كيف يجيب. وعلى رأى الشاعر "ذو الحجى من قال إني لست أدرى".
وهنا تحضرني قصة أخ أرسل إلى قديس شيخ متوحد، في أيامه الأخيرة يقول له: "اسمح لي يا أبي أن أزورك الآن وأراك قبل أن تنطلق إلى مستواك العالي في الأبدية حيث لا يستطيع ضعيف مثلى أن يقترب". فهل يعنى هذا أن درجات الأبرار تكون في مستويات كل منها أعلى من الآخر، وليست الخُلطة متاحة للكل! بل يرون من بعيد دون أن يندمجوا معهم ويعطلوا ما هم فيه من متعة روحية في الأبدية!
إن كان الأمر هكذا فكيف يتاح للأبرار اللقاء الخامس الذي هو اللقاء مع الملائكة وما هم فيه من درجات يعلو بعضها بعضًا؟! أم أن في الحياة الأخرى عشرة مع الملائكة، دون أن يعنى هذا اندماجًا شاملًا؟ أم هناك اندماج لأن عدد الملائكة لا يُحصى. فيمكن لأعدادهم الوافرة أن تندمج بالبشر الأبرار، وبدء ذلك الشهداء منهم والأنبياء والرسل وسائر القديسين الذين سيكون لقاء الأبرار بهم نوعًا من اللقاءات في الأبدية...
أخيرًا يخيّل إلىّ أنني تناولت موضوعات أعلى من مستوى فهمي البشرى. ويكفى أن نقول إنه ستكون لنا في الأبدية لقاءات عديدة تحدثنا عن أنواعها. أما كُنه تلك اللقاءات ونوعيتها، فإنه من الأمور التي لم تعلن لنا، ولا يسوغ لنا الخوض في أعماقها...
ختامًا أرجو لكم كل خير. وكل عام وأنتم في بركة ونعمة، مصلين من أجل رئيس دولتنا المحبوب محمد حسنى مبارك أن يمنحه الرب قوة خاصة تسنده في جهاده من أجل حفظ السلام في بلادنا وما يحيط بها.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/ky2a4sb