يقف أمامنا سؤال هام: أيهما أفضل الصمت أم الكلام؟
لكل شيء تحت السموات وقت. فلا يجوز الصمت حين ينبغي الكلام. ولا يجوز الكلام حين يجب الصمت. وقد قال الآباء: الصمت من أجل الله جيد، والكلام من أجل الله جيد. ولقد خلق الله الإنسان كائنًا عاقلًا ناطقًا، لكي ينطق ولكن بعقل. كما أن الله خلق للإنسان أذنين ولسانًا واحدًا، لكي يسمع أكثر مما يتكلم. كما جعل الأذنين مفتوحتين باستمرار. أما اللسان فجعله في فم مغلق بشفتين وحول اللسان أسوار من الأسنان، كل ذلك لكي يستمع أكثر مما يتكلم. وقد جعل الله الأذنين كلًا منهما في اتجاه. الواحدة منهما في اليمين والأخرى في اليسار. لكي من الناحية الرمزية يستمع الإنسان إلى الرأي وإلى الرأي الآخر. وبين الأذنين توجد الرأس ترمز إلى العقل والفكر، للحكم بين الرأي والرأي الآخر.
والكلام على أنواع: فقد يكون وصفًا أو شرحًا، وقد يكون فخرًا أو ذمًا في الآخرين. وقد يكون عبادة أو مجونًا، وقد يكون سؤالًا أو حكمًا على الآخرين. وقد يكون وعظًا أو تعليقًا على الواعظ. قد يكون نقدًا أو إعجابًا... وفي كل ذلك وغيره ينبغي أن تكون الحكمة مشرفة على ذلك كله.
من جهة المشيرين: يحدث أن أبًا في ساعة وفاته يترك وصية لأبنائه. كما يحدث أن يتلقون مشورات من آخرين: من قادة دينيين، ومن مدرسين ومعلمين، ومن بعض ذوي الخبرة، ومن آخرين. وقديمًا كان أشخاص يأتون من أقاصي الأرض ليسمعوا كلمة منفعة من أحد المتوحدين في البراري... كل ذلك تتلقاه الأذنان، ويصل إلى العقل، وإلى الضمير. ويكون الإنسان مستمعًا لا مُتكلِّمًا. وأحيانًا بالضرورة يلجأ إلى الحوار في ما يسمع، إمَّا لكي يفهم، أو لكي يتأكد. أمَّا المتكلِّمون في أذنيه فيشعرون أن هذا واجبًا عليهم.
ومع كل ذلك لقد قدم لنا التاريخ أمثلة من الصامتين: كان النساك المتوحدون يرون أن الصمت أفضل، لأنهم بذلك يتفرغون للحديث مع اللَّه وليس مع الناس. أما الصمت بالنسبة للناس العاديين فإنه يعطيهم مزيدًا من التفكير، وبعدًا عن أخطاء اللسان. وبالتالي حكمة في التدبير. والإنسان الحكيم إذا سؤل سؤالًا، أحيانًا يصمت قليلًا ثم يجيب، لكي يُعطي مجالًا ليُقدِّم أحسن إجابة. وذلك لأن التعمق فيما ينبغي أن يُقال هو أفضل من التَّسرُّع في الإجابة عن شيء قبل فهمه جيدًا واستيعابه بعمق.
إن كان حكماء كثيرون قد فضلوا الصمت على الكلام، ففي الواقع ليس كل صمت فضيلة، وليس كل كلام خطيئة أو نقصًا. فكما أننا في بعض الأحيان ندان على كلام خاطئ أو متسرع، فأننا في أحيان أخرى ندان على صمتنا. فالمسألة تحتاج إلى حكمة وتمييز، لنعرف متى نتكلم وبأي أسلوب؟ ومتى نصمت؟ وإلى متى؟ لا شك أن هناك كلام نافعًا ومفيدًا حين نتكلم بالصالحات. والصمت حالة سلبية، بينما الكلام حالة إيجابية. وإنما يدرب الناس أنفسهم على الصمت، كحالة وقائية من أخطاء اللسان: إلى أن يتدربوا على الكلام النافع.
وسوف نقدم هنا أمثلة للكلام النافع. وهو كل كلمة تفيد السامع لبنيان عقله وروحه، ولثقافته وهدايته: من ذلك كلمة النصح والإرشاد لمن يحتاج إليها، حتى لا يضل الطريق. وكلمة الحكمة التي يجعلها السامع نبراسًا له في طريق الحياة. وكلمة التشجيع لإنسان على حافة اليأس أو في حالة انهيار، لكي تبعث فيه الرجاء من جديد. وكلمة العزاء لشخص حزين. كذلك كلام التعليم على شرط أن يكون تعليمًا سليمًا. يضاف إلى ذلك كلمة البركة من أب لابنه، أو من أستاذ لتلميذه. كذلك كلمة التوبيخ المخلصة التي تصدر من صديق أو مرشد أو أب، لكي تحذر شخصًا يسير في طريق خاطئ، حتى يصحح سلوكه أو يمتنع عن خطأ سيفعله.... كل ذلك يدخل في نطاق كلام المنفعة، لأن من يسمعه ينتفع به.
ما أكثر كلام المنفعة في الحياة العملية. من أجله تنعقد مؤتمرات التوعية في شتى المجالات: منها مؤتمرات الأسرة ليتكلم فيها متخصصون عن كيف يتعامل الخطيبان معًا، أو كيف يسلك المتزوجون حديثًا في حياة جديدة عليهم، أو كيف تحل المشكلات الزوجية دون أن تتسع أو تصل إلى المحاكم، ودون أن تدخل فيها الحموات فتُعقِّدها، بل ربما يعقد مؤتمر أسري عن مثالية سلوك الحموات الفضليات... كل ذلك كلام منفعة.
تعقد مؤتمرات للشباب يسمعون فيها مما هم أكبر منهم سنًا، وأكثر منهم معرفة، يحدثونهم عن طاقة الشباب في تلك السن وكيف تستخدم، وعن المفهوم السليم لكلمة الحرية، والمفهوم السليم للقوة، وعن النجاح في الحياة وكيف يكون؟ وعن العلاقة المثلى في محيط الأسرة، وبين الأصدقاء وفي المجتمع... وكل ذلك كلام نافع.
بل حتى في الكليات العسكرية: هناك معلومات وإرشادات تعطى للمبتدئين في كيف يسلكون. يلقيها عليهم القادة أو من هم أقدم منهم رتبة. وحتى بعد التخرج يتلقون إرشادات أخرى عملية.
مَثل آخر هو المؤتمرات العلمية تعقد لكي يستمعوا فيها رجال العلم إلى آخر ما وصل إليه العلم في نقاط معينة.
كل ذلك كلام نافع يسعى إليه الناس للاستفادة. يضاف إليه كلام الحكماء والأدباء والمتخصصين في نطاقهم، وأيضًا كلام المسئولين إلى من هم تحت إدارتهم... (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والكتب الأخرى). ويعتبر كل ذلك في حدود الواجب، يلام من يقصر فيه.
لا يستطيع الأب أن يقول (الصمت فضيلة)، ويقصر في تربية أولاده! بينما يقول الشاعر:
وينشأ ناشئ الفتيان مِنَّا على ما كان عوَّده أبوه
وكذلك الأم في تربيتها لأطفالها من بدء سنهم.
هناك كلام يدخل في حدود الواجب، وهو لازم وملزم. فلا يجوز التقصير في واجب التعليم والتهذيب والتربية.
كذلك إن صمتنا عن الشهادة للحق، ندان على صمتنا. وأن أعطى صمتنا مجالًا للباطل أن ينتشر وأن ينتصر، كذلك ندان على صمتنا. وإن قصرنا في إنذار البعض وأضر ذلك بنفسه أو بغيره ندان أيضًا. وهكذا إن رأيت شخصًا يوشك أن يسقط في حفرة، ولم تحذره، فإن سقط ومات يطالبك الله بدمه ويزعجك ضميرك. بهذا يكون الواجب على الرعاة والقادة أن يتكلموا. ويجب الكلام أيضًا على من كلفهم الله أن يقولوا كلمة الحق ويشهدوا لوصاياه.
وحينئذ تكون الفضيلة أن نتكلم حين يجب الكلام.
أما عن الصمت لكي نتقي أخطاء الكلام. وكذلك الحديث عن أخطاء الكلام وآداب الحديث... فله منا بمشيئة الله مقال آخر.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/tdtn98v