ليست سائر الأمور ذات تأثير واحد على كل الناس. إنما يختلف الأمر حسب مدى تجاوب النفسية وانفعالها وتأثرها، أو ما يُسمَّى ال Response. فالحدث الواحد أو الخبر الواحد يُقابل من كل شخص حسب نوعية نفسيته. وسنضرب لذلك أمثلة:
يفقد أحدهم بصره، فيحزن حزنًا شديدًا إذ قد فقد بعض مقومات الحياة. ويدعوه الحزن إلى شيء من الإحباط واليأس، فيسلُك في معيشته حسب ضعف إمكانياته.
ولكن فقد البصر عند طه حسين، دفعه إلى مزيد من النشاط الفكري والثقافي لكي يعوِّض ما فقده. وهكذا تعمَّق في الدراسة، وحصل على درجة الدكتوراة، وألَّف الكتب ذات التأثير العميق. وصار أستاذًا في الأدب، ثم عميدًا لكلية الآداب بجامعة القاهرة، وأوَّل رئيس لجامعة الإسكندرية، ثم وزيرًا للتعليم. وصارت له شهرة كبيرة، وأصبح موضع إعجاب الملايين. وكان تجاوبه مع فقد البصر تجاوبًا بناءً، لا يأس فيه. قابلته نفسية قوية استطاعت أن تعوِّض ما قد فقده...
تذكِّرني قصة طه حسين بقصة مماثلة للقديس ديديموس الضرير في القرن الرابع الميلادي، الذي عوَّض فقد البصر بأنه اخترع وسيلة للكتابة على البارز، قبل طريقة برايل بحوالي خمسة عشر قرنًا من الزمان. وألَّف الكثير من الكتب، وصار من عُلماء عصره، ورئيسًا لمدرسة الإسكندرية في القرن الرابع. وكان تجاوبه مع فقد البصر تجاوبًا إيجابيًا تعويضيًا.
ونلاحظ أنَّ كثيرًا من الذين فقدوا بصرهم، قد عوَّضهم الله -جلَّت قدرته- بقوة في الذاكرة، وحساسية أقوى في باقي الحواس وبخاصة في السمع...
نقطة أخرى من جهة اختلاف التجاوب (أي الـResponse) وهو ما يختص بالمشاكل ومواجهتها. هنا أيضًا تظهر بوضوح نوعية النفسيات. فهناك مَن يُقابل المشكلة بالارتباك، فتطغى على تفكيره وأعصابه، وتتعبه وترهقه. بينما شخص آخر ينتصر على المشكلة ولا يدعها تنتصر عليه. يقابلها بالفكر العميق وبالإيمان بعمل الله، ويحاول أن يوجد لها حلًا. وثالثٌ يستشير، ورُبَّما يجد في المشورة حلًا لم يخطر على فكره فيستريح له. ورابعٌ يلجأ إلى الصلاة طالبًا من الله عونًا ينقذه من المشكلة... وهكذا تتنوَّع طرق مواجهة المشكلة، ويتنوَّع أيضًا أسلوب التجاوب والتفاعل معها، حسب نوعية النفسية...
بالمثل أي خبر مُحزِن يُصادف الإنسان: كيف يواجهه؟ نرى شخصًا حساسًا جدًا يُدمِّره الخبر المُحزِن، وإذا بالأحزان تسيطر على نفسيته مدة طويلة، في بكاء لا يأتي بنتيجة، ورُبَّما يؤثِّر الحزن الشديد على قلبه وأعصابه، ويُسبِّب له أمراضًا...! بينما شخص آخر لا يسمح للحزن بأن يستمر معه أو يسيطر عليه. ويضع أمامه هذا المبدأ "مرِّر المشاكل دون أن تُمرِّرك". أي اجعلها تمرّ دون أن تحوِّل حياتك إلى مُرّ وتقاسي المرارة بسببها...
يختلف التجاوب أيضًا في نوعية مقابلة الإساءة أو الإهانة: فهناك مَن يغضب بل يثور. ويقول إنَّ كرامتي قد خدشت، ولابد أن أنتقم وألقِّن هذا المسيء درسًا لَن ينساه. وشخص آخر يقول إنَّ كرامتي أسمَى من أن ينالها مسيء قد فقد أدبه، وكما يقول المَثل: "إن أتاك العيب من أهل العيب، فلا يُعتبر ذلك عيبًا "، أو كما يقول الشاعر:
وإذا أتتك مذمتي من ناقصٍ فهي الشهادة لي بأني كامل
وآخر يقول: من الأفضل لي أني لا أردّ، لأنَّ الرد قد يقابل بردّ آخر، وردّ الردّ يحتاج إلى ردّ، والموضوع يمتد ويزداد. فإهماله يجعله ينتهي من أوَّله...
وهكذا مع كل نقد: هناك مَن يقابله بموضوعية وبعقل، ومَن يقابله بأعصاب وبانفعال. وتعتمد المواجهة دائمًا على نوعية النفسية... هل بهدوء، في شرح مُقنع، أم بهجوم مضاد، أم بلامبالاة؟!
اختلاف نوعية التجاوب، يظهر أيضًا في مواجهة الفشل، ومواجهة النجاح... فإنسان إذا فشل، قد يفقد الثقة بنفسه، ويُصاب بصغر نفس، فينهار بسبب فشله. بينما شخص آخر إذا ما فشل يعاود الكرَّة مرة أخرى. ويقول لنفسه: "إن فاتتك فرصة فالتمس غيرها". مثال ذلك شخصان: أحدهما إن هُدِمَ له بيت يجلس عند بقية البناء المنهدم يندب ويبكي. بينما آخر لا تنهار نفسيته بانهيار بنائه. وإنما يبدأ من جديد أن يحفر أساسًا ليشيد بناءً بديلًا.
نفس الوضع بالنسبة إلى نوعية النفسية في مواجهة النجاح والشهرة. هناك مَن يقابل النجاح بلون من الغرور ومن التباهي، ويمشي في الأرض مرحًا في إعجاب بالنفس، يستقبل المديح ويستزيده. بينما آخر يُقابل النجاح باتضاع، وينسب ذلك إلى الظروف المحيطة، وإلى تعاون الآخرين معه وجهدهم، وإلى معونة الله قبل كل شيء. وإذا قوبل بمديح من الناس، يقول: مَن أكون أنا في المقارنة بمَن فاتوني في هذا المجال؟! وهكذا يبتعد عن الغرور... ويحاول أن ينمو، دون الاكتفاء بما وصل إليه من نجاح...
يظهر اختلاف التجاوب أيضًا من جهة الأخبار. فهناك مَن يصدق كل خبر يصل إليه، وينفعل به، فيحزن أو يفرح أو يثور، ويتحدَّث في انفعال -من جهة هذا الخبر- مع كل مَن يقابله... بينما آخر يسمع أو يقرأ الأخبار، فيحلّلها ويفحصها، ويرفض البعض، ويقبل البعض الآخر، ولا يسمح للأخبار بأن تؤثِّر على نفسيته أو تقوده...
يختلف أيضًا تجاوب الناس من جهة المرض والموت. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والكتب الأخرى). فهناك مَن يقابلها بتذمُّر وألم. والبعض يقابل كل ذلك برضى وخضوع لمشيئة الله. والبعض قد يقوده المرض والألم إلى التوبة. ويقوده الخوف من الموت إلى الاستعداد لملاقاة الله في الحياة الأخرى.
كذلك من جهة مواجهة موت الأحباء. قد يكون تأثير ذلك على البعض هو الحزن الشديد. بينما قد يترك موت أولئك شعور بالزهد وإيقانًا بأنَّ العمر مصيره إلى الزوال مهما طال. فيأخذ الأحياء درسًا لحياتهم من موت أحبائهم. والبعض -في مجال الموت- يفكِّرون في القيامة وأنهم سوف يتقابلون في أحبائهم في حياة أخرى أفضل من هذه الدنيا...
أخيرًا بالنسبة إلى المبادئ السامية، يختلف أيضًا تجاوب الناس من جهتها. فالبعض يقول: "أنال منها حسب إمكانياتي ولا أزيد". والبعض الآخر يحرص أن يصل إلى الكمال الذي تتيحه له النعمة. وآخرون يقولون: "هذه القيم العالية هي للقديسين وليس لنا". وكل شخص حسب نوع نفسيته يتخذ له طريقًا في حياته.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/2m8agg4