في وسط البرية ارتفع قلب يوسابيوس السائح إلى السماء وتهللت نفسه جدًا حتى صار أشبه بملاك سماوي.
عاد بذاكرته إلى عشرات السنين فقد خرج من العالم، وأما قلبه فكان متسعًا لكل البشر. ترك البشر ولم يرَ وجه إنسانٍ منذ سنوات، لكنه يود أن يراهم يشاركونه الحياة الجديدة السماوية، عربون الأبدية.
وسط هذه المشاعر المملوءة حبًا نحو كل إنسان إذا بفكرٍ يخطر في ذهنه:
"مَنْ هو مثلي؟
تُرى هل في البشرية من ترك العالم سنوات هذه عددها من أجل الاتحاد بالقدوس؟
هل يوجد من يعيش مثلي محمولًا على الأذرع الأبدية، بلا همّ؟
هل من يدرك أسرار الحب الإلهي مثلي؟
هل يوجد من هو أسعد مني بين كل البشرية؟"
هذه الأسئلة وأمثالها كانت تقتحم فكره. كان يصنع المطانيات metanoia لكي يطرد الله عنه هذه الأفكار لئلا يسقط في الكبرياء فيخسر كل ما اقتناه.
لم تهدأ هذه الحرب الداخلية قط، فكان يصرخ بمرارة إلى الله لكي يهبه نعمة وحكمة وتواضعًا.
اضغط هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت للمزيد من القصص والتأملات.
وسط هذا الصراع الداخلي الذي كاد أن يحطم سلام هذا السائح القديس إذا به وهو يصلي يشرق نور على وجهه، ويظهر له ملاك من السماء.
لم يكن غريبًا عنه أن يرى ملاكًا، فقد كانت أبواب السماء مفتوحة أمامه، يلتقي برب الملائكة، ويشارك الطغمات السمائية تهليلهم وتسبيحهم.
بلهجة مفرحة قال الملاك للسائح:
"أيها الحبيب يوسابيوس، أنا ملاك أرسلني الرب إليك لكي أخبرك. اذهب إلى إنطاكية، هناك تلتقي بالملك، فهو مثلك".
لأول مرة يتشكك يوسابيوس في رؤيا سماوية، هل هي من قِبل الله أم هي خداع من عدو الخير. تساءل في نفسه:
"كيف يكون ملك إنطاكية مثلي؟
هل ترك العالم وأمجاده وملذاته مثلي من أجل الله؟
هل نذر البتولية من أجل تكريس حياته للعبادة؟
هل يمكنه أن يكون بلا هم وهو مسئول عن تدبير كل شئون الدولة؟
هل لديه وقت للصلاة والتسبيح والتمتع بكلمة الله؟
هل يمكنه أن يرتفع بقلبه إلى السماء وسط كل مسئولياته؟"
تشكك السائح في هذه الرؤيا، لكنه انطلق إلى إنطاكية ليرى بنفسه إن كان ما قاله الملاك حقًا أم لا.
إذ بلغ يوسابيوس أسوار المدينة وجد الملك وحوله حاشيته من القادة والجند مع علامات العظمة والأبهة.
بينما كان الكل يحيّون الملك ويهتفون له كان قلب السائح يئن بمرارة مشتاقًا إلى خلاص الملك والمحيطين به. تسللت الدموع من عيني السائح ترفقًا بهذا الملك المسكين الذي يعيش في هذا الجو المفسد لهدوء النفس، فإنه يستحيل على رجل كهذا أن يمارس التواضع ويجد فرصة حتى لاكتشاف أعماق نفسه.
عبَر الملك بجواره، وكم كانت دهشة المحيطين بأن مال الملك ليهمس في أُذني هذا الراهب الذي يرتدي ملابس بالية، ويقف في صمتٍ لا يظهر أدنى مشاعر لتحية الملك.
بابتسامة عذبة قال الملك للسائح: "اسمح يا أبي أن تنطلق إلى القصر فإني أود أن التقي بك".
لم يشعر يوسابيوس بفرحٍ أن يذهب إلى القصر الملكي، وكان يود ألا يذهب في هذا الجو الصعب، لكن من أجل كلمات الملاك قال في نفسه: "لأذهب وأرى!"
اضغط هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت للمزيد من القصص والتأملات.
انطلق الأب يوسابيوس إلى القصر الملكي، وعند الباب لم يعرف ماذا يفعل. وإذ جاء الملك أمسك بيده، وانطلق به إلى القاعة العظمى بالقصر، حيث رأى الملكة وقد ارتدت الثوب الملكي ووضعت على رأسها تاجًا مزينًا بحجارة كريمة ثمينة.
أعدت مائدة فاخرة جدًا وجلس الملك على رأس المائدة وبجواره السائح يوسابيوس. كانت عينا السائح تطلّعان هنا وهناك، فقد جلس عظماء الدولة والقادة وحرس الملك يأكلون، وكان الملك والملكة جالسين ببهجة قلب يشاركان الحاضرين بهجتهم دون أن يأكلوا.
عبرت الدقائق كأنها ساعات طويلة، فإن السائح الذي هرب من العالم لكي لا ينشغل إلا باللَّه والسماء إذا به داخل القصر بكل أبهته، وقد بدأ فكره يضطرب من أجل الكثيرين الذين يعيشون في حياة مترفة مدللة كهذه.
ما أن انتهت الوليمة حتى خرج الكل وبقي الملك والملكة ومعها السائح يوسابيوس.
لم يعرف هذا السائح ماذا يفعل، هل يستأذن الملك والملكة ويعود إلى البرية أم يسأل الملك إن كان يطلب منه شيئًا!
في ابتسامة أمسك الملك بيد السائح وهو يقول: "اسمح يا أبي أن تأتي معنا في جناحنا الخاص. تساءل في نفسه قائلًا: "إنه جناح الملك والملكة لا يدخل إليه سواهما ومن يخدمونهما، فماذا يريد الملك من زيارتي للجناح؟"
انطلق السائح مع الملك والملكة وقد ظهرت علامات الحيرة على وجهيهما.
اضغط هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت للمزيد من القصص والتأملات.
دخل الملك والملكة لابسين المسوح وجلسا مع الراهب والسائح يوسابيوس. وكان الكل يعملون بأيديهم في جدل السعف وهم يسبحون بالمزامير. شعر يوسابيوس أنه قد ارتفع قلبه وفكره وارتفعت كل أحاسيسه كما إلى السماء عينها.
لم ينطق أحدهم لكلمة سوى كلمات التسبيح وقراءات من الكتاب المقدس مع تلاوة بعض سير القديسين.
عبرت الساعات القليلة كأنها دقائق أو لحظات أو أشبه بحلم مفرح جميل، وإذ حلّت الساعة الثالثة بعد الظهر تقدم الكل للأكل، وكان الطعام بسيطًا للغاية، لكنهم كانوا يتناولون ببهجة قلب.
استأذن الملك والملكة لكي يخرجا ويرتديان الثياب الملوكية ليديروا شئون المملكة، واستأذن القديس يوسابيوس ليعود إلى البرية.
انطلق القديس السائح وقد انسحق قلبه في داخله، كما غمر قلبه فرح شديد بعمل نعمة الله الفائقة في كل الفئات حتى يبلغ الملك والملكة هذه الدرجة الروحية العالية.
لم يعد يوسابيوس يظن أنه ليس له مثيل على الأرض، وإنما صار هذا اللقاء علّة تبكيت مستمر لنفسه.
+ عجيبة هي نعمتك يا إلهي.
تهب الإنسان محبوبك أن يعيش فوق الطبيعة.
وهبت يوسابيوس أن يمتطي السحاب ليعبر أينما ذهبت.
وهبت ملوكًا وملكات أن يعيشوا كملائكة الله.
+ افتح عن عيني فلا يمكن لكل مباهج أن تسحب أعماقي.
ولا يمكن للعالم بكل التزاماته أن يقلق نفسي.
أعيش معك في قصر نعمتك.
أعيش معك ملكًا بفكر متحرر!
أشارك ملائكتك روح التسبيح المفرح!
أشارك ملائكتك روح التسبيح المفرح!
أشارك السمائيين ببهائك!
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/t4pjzr5