إعداد: نبيل خليل
وقف الراهب في باب قلايته يتقبل نسمات لطيفة هَّبت من جهة الشمال، وحاول أن يملأ صدره بالهواء، لكنه لم يستطع، فقد كان قلبه مثقلًا بأحزانه الكثيرة.
وقف يطيل النظر في الأفق البعيد الذي طالما أحس باتساعه اللانهائي، وإذا به يجده اليوم ضيقًا كأنه في زنزانة في سجن رهيب. أهذه دائرة الأفق الواسع؟!! إنها تبدو له كسجن متجهم الجدران يكشف منظره عما فيه من كرب وضيق.
ها هنا صخور، وها هنا صخور، وأين المفر؟!... وأخذت دائرة الأفق تضيق رويدًا فأحس الراهب بأن قوى شيطانية تضغط على صدره، وتعصر قلبه، وتضيق عليه الخناق، فلا يستطيع حتى أن يتنفس.
حاول أن ينجو من هذا الكابوس المخيف فخرج إلى الصحراء وقت غروب الشمس، وللغروب في الصحراء روعته وجماله الذي لا يدانيه إلا بهجة الشروق. ولكنه لم يجد للمنظر أي جمال أو روعة. وكان الأفق بلونه الأحمر طالما سحره وفتنه، وجعله يقف في خشوع مرددًا: "السموات تحدث بمجد اللَّه والفلك يخبر بعمل يديه". وأما اليوم فلا يرى منه إلا لون النار والدم. فقال لنفسه:
"يا إلهي، هل اشتعل العالم اليوم نارًا لمضايقتي؟!
أم تخضب الأفق بالدم ليعمى بصيرتي عن رؤية ولو قليل من الجمال والخير؟!"
رفع عينيه إلى فوق حيث تعوّد أن يتلقى المعونة، وعلى غير العادة كانت السماء قاتمة والنجوم لم تلمع بعد. فامتلأ قلبه حسرة وأسى، وخيل إليه أن السماء تنخفض، والفضاء يضيق، حتى كادت السماء أن تنطبق على الأرض وأحس أنه يختنق.
وقال في نفسه:
"ها قد صارت السماء نحاسًا، والأرض حديدًا، كما قال الرب.
هذا كله بسبب خطيتي التي ليس لها مثيل.
حقًا ليس لي سلامة من جهة خطيتي كما قال المزمور".
وتذكر أيضًا قول إشيعاء النبي: "لا سلام قال إلهي للأشرار".
نعم لا سلام... ومن أين يأتي السلام وأنا أغضب اللَّه كل يوم... أنا لا أستحق السلام!
ودوى في أذنيه صوت رهيب يخترق صمت الأجيال ويصرخ في كل أذن قائلًا:
"قولوا للشرير: شر وويل للذين يشربون الإثم كالماء".
تأوَّه الراهب وقال:
"سيدي! أما من رحمة؟!
هل نضبت ينابيع محبتك؟!
أتسلط كل قوتك على دودة مثلي؟!"
بدأ يعرف حقيقة مشاعر أيوب، إذ سب يومه ولعن اليوم الذي قيل فيه لأمه أنها حبلى برجل... فقال:
"حقًا ليتني مت في الرحم ولم أرَ النور...
ليتني مت في المهد صبيًا، عقب عمادي، وكنت الآن كملاك أرتل في الفردوس".
نظر إلى فوق كأنه يعاتب خالقه قائلًا:
"لماذا تركتني أكبر وأعرف الخطية ولذات الجسد؟!
لِمَ جَعلتني أكبر مع أنك تعلم إنني سأكون هكذا نجسًا، ملطخًا بأفكار الشر؟!
أهذه حرية الإرادة التي فضلتنا بها؟!"
لقد وضعني اللَّه في مأزق، أعطاني إرادة حرة، وهو يعلم إنني غير قادر على استعمال حريتي للخير، فأنا خائر الهمة، احتاج إلى من يدفعني دفعًا في طريق الكمال.
وقال في نفسه:
"كف عن شرك ولا تنسب الإثم للَّه، فاللَّه أعظم من أن نعاتبه أو نجادله.
إنك لست أيوب حتى تحاجج اللَّه.
لقد أحسن اللَّه إليك، ولم يجربك في شيء، بينما جرب أيوب في كل شيء، وكانت يد اللَّه عليه ثقيلة، لذلك فتح فاه وتكلم... وبعدما تكلم أدرك أنه أخطأ، وقال أتضع وانسحق في التراب...
إذن من أنت يا راهب فاشل حتى تتحدث هكذا بتجديف على اللَّه؟!"
ثم انقلب يرد على نفسه:
"لست أجدف لكنني أعرض له شكواي... أبث لديه ضيقي... أطلبه فيستجيب".
ثم تأوَّه قائلًا: "كلا. لا يريد أن يستجيب. لقد صارت الأرض حديدًا، والسماء نحاسًا".
ثم أغمض عينيه وصلى بالمزمور الذي يحفظه ويحبه.
"يا رب لماذا تتصامم من جهتي.
لماذا تقف بعيدًا في أزمنة الضيق.
بالنهار أدعو فلا يستجيب".
ما أحب هذا المزمور وأحسنه. إنه صرخات نفس متألمة، لم يحدث أن صلى به أحد إلا وسمعه اللَّه ورحمه، أما هذه المرة فلا استجابة ولا رحمة".
وهذه هي كلمات أبيه الشيخ صارمة قاسية كالسيف قطعت حبال رجائه، ومزقت قلبه المتعب:
" يا ابني لم تخلق للرهبنة، لماذا تعذب نفسك؟! اذهب إلى العالم وباب الدير مفتوح. اذهب تزوج بامرأة تقية، ويكون لك أولاد تحتضنهم وتقبلهم وتربيهم في خوف اللَّه، فيكون لك أجر لا يقل عن أجر المتبتلين.
لم يطق الراهب أن يسمع أكثر، وسجد إلى الأرض وقال: "يا أبى أرجوك أعطني فرصة... بنعمة المسيح سأتوب توبة صادقة. أين أذهب وأين الطريق إن تركت الدير؟! كيف أستطيع الحياة؟!"
ونظر إليه أبوه نظرة حانية لكنها صارمة قائلًا: "أطع يا ولدي".
- إني لم أكن عاقًا يومًا ما، لكنني لا أستطيع.
- اذهب إذن وتتلمذ لشيخ غيري... ابحث عن آخر ما دمت لا تسمع لنصائحي.
- أبي إنني أدرك حبك لي وعطفك عليّ وإخلاصك في النصح والمشورة... فكيف تنبذني الآن؟!
- اسمع يا ولدي، فالأمر لا يتطلب مجادلة. لقد خلقك اللَّه بغرائز ملتهبة وخيال جامح. لقد أخطأت بمجيئك إلى البرية، وكان يلزمك أن تتزوج. فليس في هذا عيب، ولا حرام. عش كما يريد اللَّه، لا كما تريد أنت لنفسك. إنك لا تصلح للرهبنة. أخرج من الدير، وامتثل لمشيئة اللَّه. غدًا قبل أن تشرق الشمس غادر الدير وتزوج بأكثر سرعة.
خرج الراهب محطمًا يملأه اليأس العميق... أهكذا يا رب لا تستطيع أن تحمى راهبًا يلتجئ إليك، فتتركه فريسة لحرب الشهوات والأفكار... ألعلّك عجزت عن أن تعمل في من هو مثلي، أم أنا إنسان غير مختار!!
دخل الراهب قلايته وقلبه ملتهب نارًا، ودموعه لا تتوقف عن الانهمار، لا يعرف ماذا يعمل!
انقطعت ساعات كأنها سنوات طويلة مملوءة ظلامًا. وقبل الفجر لم يجد حلًا سوى أن يعود إلى أبيه الشيخ يسأله مهلة جديدة، قائلا في نفسه:
"سأضرب له المطانيات metanoia حتى يرق قلبه ويتحنن ويقبلني من جديد في هذا الدير، وفي شركة القديسين.
نعم. إني محتاج إلى مهلة، لكنه أمهلني كثيرًا.
كم من المرات قطعت عهودًا ألا أفكر إلا فيما هو طاهر؟!
كم من المرات أذللت جسدي بالأصوام والأسهار، وقضيت أوقاتي أتأمل في القراءات المقدسة، لكن سرعان ما كنت انقلب إلى الشر. تهيم أفكاري وتأخذني أسيرًا لا حول لي ولا قوة..
هل يليق براهب أن يُحارب هكذا، حتى في الكنيسة بيت اللَّه؟!
حقًا لقد صرخت والرب سمع صراخي، لكنني عدت بعد أيام قليلة أتمرغ في وحل أحلامي الدنسة.
جمعتني أفكاري إلى بيت سعيد وأطفال كالزهور وامرأة كالزيتونة والكرمة المخصبة...
حقًا إنني لا أصلح أن أكون راهبًا، بل ولا مسيحيًا علمانيًا. إذن لأخرج من بين صفوف القديسين؛ لأعود إلى العالم!
وداعًا يا ديري الحبيب... وداعًا يا قلايتي. يا من سمعتِ أنيني، وشاهدتِ بهجتي. أحسستِ بما بلغته من أمجاد، وما هويت إليه من فساد... ترى مَن ِمن القديسين يسكنك؟!
وداعًا يا برية القديسين، يا جنة اللَّه، يا أرض الملائكة!
وداعًا يا آبائي... فإنني لا استحق صلواتكم وعطفكم ومحبتكم ولا أن أعيش خادمًا بينكم!
وداعًا... وداعًا... وداعًا...
إذ بلغ إلى هذا الحد، لم يستطع أن يحتمل البقاء، فتسلل من قلايته وهو لا يطيق أن يودع أباه أو أحد أخوته، لا يطيق حتى أن يرى زيه الرهباني!
تسلل ولا يدرى إلى أين يذهب، فهو لا يستحق أن يدعى راهبًا ولا مؤمنًا، لأن أفكار الشهوة تقاتله.
سار الراهب كخيال ليل مخيف، يخشى أن يسمع أحد صوته أو يدرك أحد تنهداته التي كانت تنفلت من بين شفتيه لا شعوريًا... وفي الطريق رأى باب الكنيسة الخارجي، فارتمى عليه، وكاد أن يصوّت، لولا خشية الفضيحة والعار. إذ بالكاد تمالك نفسه، قبّل أعتاب الكنيسة، وأخذ يتحسس طريقه نحو باب الدير متعثرًا في مشيته، إذ كانت دموعه تحجب عنه الطريق...
لم يفكر الراهب ماذا يقول عنه الرهبان في الصباح، ولا ماذا تكون أحاسيس أبيه تجاهه، ولا موقف أب الدير، بل كانت أفكار اليأس قد ابتلعته... هو يعرف شيئًا واحدًا أنه راهب فاشل ومسيحي مرتد شهواني!!
وبينما هو يتعثر في الطريق، تارة يسقط في حفرة، وأخرى يقبّل رمل الصحراء، وثالثة يتنهد بصوتٍ عالٍ، ورابعة يحدث نفسه... إذ بصوت أحد الآباء المتوحدين الساكنين خارج الدير يناديه عن قرب.
- من هذا القادم في الظلام؟
- إنه صوت أبى مرقس المتوحد، الأب المختبر، الذي سما في القداسة، وانكشفت له الرؤى، ومّيز الأفكار.
- من أنت يا ولدي... ولماذا أنت خارج من الدير؟
وهنا أدرك أن الأب عرف عنه كل شيء فقال في خجل.
- أبي...
- إلى أين يا ولدي.
- أغفر لي... وصلي من أجلي أنا النجس، الضعيف!
- حدثني يا ولدي... ما الذي أزعجك حتى تركت قلايتك وصلاتك...
لم يستطع أن يتمادى في الأفكار إذ وجد نفسه مدفوعًا بقوة لا تقهر إلى أن يصارح الأب المتوحد بكل شيء...
- أبى لقد هاجمتني الأفكار الشريرة، وكثرت عليّ جدًا، وطرحتني أرضًا، وتفادح الأمر يومًا بعد يوم. ولقد نفذت نصائح أبى جميعها، فما ازداد حالي إلا سوءً!
- تقول أنك نفذت نصائحه، فازداد حالك سوءً، كيف يمكن أن يحدث مثل هذا؟!
- هذه هي الحقيقة يا أبي، وأخيرًا اسودت الدنيا في وجهي، وضاق بي الأمر جدًا، فانطرحت بلا معين!
- كيف تقول انك بلا معين، والرب فاديك يحبك ويعينك؟!
- كيف يحبني ويعينني وها هو يتركني لحرب الشهوات، الأمر الذي لا يسقط فيه المؤمن العلماني العادي؟
- تأكد يا ولدى أن اللَّه مخلصك يحبك ويعينك.
- لا يا أبي... لقد تركني... لقد أذلني... أين هو؟
- من قال لك انه تركك؟
- لقد آمنت بقوته، وكانت لي كل الثقة أنه يخلصني من خطاياي، لكن كان ذلك إلى حين!
هنا مدّ الشيخ يده، ووضعها على كتف الراهب الشاب وهو يقول له:
- من قال لك أنه لا يحبك ولا يعينك؟ لا تعلم يا ولدى أن بين الحرب والسقوط فرقًا، وبين هجوم الفكر، ولو إلى فترات طويلة، والاسترسال فيه اختلافًا.
- كيف يا أبى؟
- يا ولدي إن إنساننا الداخلي يخدم ناموس اللَّه، لكن الإنسان العتيق فينا يحاربنا، لكن حربه معنا هي لحساب المسيح لا ضده. فالحرب علامة الحيوية... إنك بالرب حيّ، تجاهد، فتغلب، وتتكلل!
- إنني لم أغلب!
- أليس كراهيتك لأفكارك، وجهادك في الصلاة والأصوام والأسهار من أجلها غلبة؟!
- لكن الحرب لم تفارقني يا أبي!
- كيف تفارقك وأنت جندي المسيح؟!
- أبى قال لي انه هو لم يُحارب هكذا مثلي منذ صباه... فأنا شاذ يا أبي لا أصلح لا للرهبنة ولا للمسيحية... وهو قال لي أن أرجع إلى العالم وأتزوج.
- قل لي يا ولدي... إن كنت وأنت شاب تعود لتتزوج من أجل الحرب ضدك، لكن ماذا أعمل أنا فإنني أحارب أكثر منك وأنا شيخ مسن!
- كيف يا أبى... أتحارب مثلي؟!
- نعم يا ولدى.
- وماذا تعمل؟
- لنرجع سويًا إلى الدير ونطلب بركة الآباء، ونمسك بسلاح الإيمان ونجاهد حتى الدم ولا نهرب من المعركة.
بعد قليل هدأ الراهب جدًا، واستراحت نفسه، وعاد مع الشيخ بعد ما طمأنه أنهما يجاهدا سويًا من أجل الملكوت.
عاد الراهب إلى قلايته وهو يحس كأنه قد وُلد من جديد. لقد أعطاه اللَّه فرصة لا تعوض. عندئذٍ قال في نفسه: "أنا لست صالحًا في شيء، لكن... حارب يا رب محاربيّ. خذ ترسًا وحامي عني... " وبدأ على الفور صلاته وقد أضاء في قلبه نور الرجاء...
" هذا هو اليوم الذي صنعه الرب، فلنبتهج ولنفرح فيه..."
فجأة مزق صمت الليل قرع خفيف على باب قلايته. ومع أن الطرقات الخافتة كانت واضحةً في سكون الليل إلا أنه لم يشأ أن يقطع صلاته ليفتح الباب، واستمر يرتل مزموره.
" يا رب خلصنا... يا رب سهل سبلنا...".
عاد الطرق مرة أخرى، ومع الطرق سمع صوت الشيخ يقول له: "أفتح يا أبانا... أنا توما".
إنه صوت أبي... لعله جاء يتعجل خروجي من الدير، ألعلَّ الأب الشيخ الذي أعادني لم يذهب إليه كما وعدني، أم اختلف معه في الطريق؟! وماذا أقول لأبى؟!
وفيما هو حائر في أفكاره، إذا به يسمع صوت أبيه حانيًا منكسرًا: "افتح يا ولدى واصنع محبة".
أسرع بفتح الباب، وما أن رأى أباه حتى أسرع وضرب له مطانية metanoia. فبادر الراهب العجوز وضرب له أيضًا مطانية قائلًا: "أخطأت يا ولدي سامحني.
دهش الراهب الشاب دهشة بالغة، وأمسك يد أبيه وقبّلها، قائلًا: "حاللني يا أبي... لا تقل هذا، فأنا ابنك".
- بطرس يا ولدى، الحمد للَّه أنك مازلت هنا. فقد عرفت أنك أفضل مني!
سارع الراهب بالانحناء وضرب مطانية لأبيه الشيخ، ولكن الشيخ سارع أيضًا وانحنى إلى الأرض وضرب مطانية. وأمسك الأب بيد تلميذه. واستقرت راحة الابن بين يديْ أبيه. فقال الأب في رفق وهو يربت على يد ابنه:
"ولدي اغفر لي...
اضغط هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت للمزيد من القصص والتأملات.
لقد كنت قاسيًا عليك أكثر مما ينبغي...
لم أقَّدر ظروفك، ولم أكن أعرف قوة الحرب إلا عندما كشف اللَّه لي...
لقد أمرتك أن تخرج، وكان هذا حكمة بشرية،
أما اللَّه فقد علمني أن أتمثل به فأكون رحيمًا على مثاله.
ويل للعالم لو كان الناس يدينون الناس،
لكن الحمد للَّه، فالدينونة هي للابن الكلمة الذي أحب خاصته إلى المنتهى...
نحن بين أيدٍ رحيمة...
عندما قلت لك أخرج قبل شروق الشمس، كنت اعتقد أنني أقدم لك مشورة حكيمة، لكن اللَّه أعلمني أنها حكمة بشرية...
لقد تألمت لآلامك وبكيت لبكائك،
وسهرت الليالي من أجلك،
لكنني لم أتراجع أمام توسلاتك،
وقلت لك تعلم الطاعة لابد أن تخرج...
كنت أدرك انك في محنة قد تؤدى بحياتك كلها،
وخفت لئلا يبتلعك اليأس، ووضعت في نفسي ألا أنام الليلة كلها،
وقلت لأجاهد من أجل نفسك المعذبة،
وسهرت طول الليل أتضرع من أجل ابن مات المسيح من أجله!!
الحقيقة يا ولدي أحسست أن السماء أغلقت،
وقلت في نفسي لا بد أن أجاهد في الصلاة من أجلك...
لكنني كنت يائسًا من جهتك...
كيف يُحارب راهب بأفكار الدنس زمانًا هذا مدته؟!
كنت أتخيل أنك غير صريح في اعترافاتك معي،
وتارة كنت أحسب انك تخدعني، بل تخدع نفسك فتكذب عليّ،
وثالثة كنت أظن أنك مستهتر متهاون.
ورابعة كنت أقول لنفسي لعل خلاص نفسه خارج الدير...
وفي هذا كله كنت أحس في قلبي أن هذه الأفكار ليست من اللَّه...
وفي وسط هذه الليلة الطويلة أتدرى ماذا حدث يا ولدي؟!
إنني أخجل جدًا... ولكنني لا بد أن أقول لك كل شيء...
سامحني. لقد بدأت أنا ابن السبعين أحس بطياشة الفكر... الحرب لم تثر ضدي منذ زمن بعيد!
قرعت جبهتي في الأرض، وسجدت مرات ومرات بلا عدد... صليت وتأوهت...
بكيت وصرخت، لكن الأفكار كانت تلح عليّ أكثر فأكثر.
صرخت إلى المصلوب، ورشمت علامة الصليب، وطلبت الغفران،
لكنها كانت تزداد وتزداد... وانبعثت في داخلي ثورة عنيفة لم تحدث لي حتى في صباي وجهلي.
صرت كصبي مراهق...
أحسست آلام مرة...
كنت أتمرَّغ في التراب...
وأخيرًا إذ لم تُنزع عني هذه الأفكار قررت أن أهرب من الدير...
خرجت منه يا ولدى كرجل مخمور لا يدرى بما حوله،ولا حتى بنفسه...
وما هي إلا خطوات، وإذا بالأب المتوحد مرقس أمامي.
خفت وخشيت لئلا يعرف ما في داخلي، أما هو ففي لطف قال لي:
- ما الذي أخرجك في الظلام يا أبي.
- لا شيء يا أبي.
- لعلي أراك مرتبكًا... ما الذي يقلق نفسك أيها الأب؟
في هذه اللحظة دارت رأسي وانهارت قوتي، وأدركت انه اكتشف أمري، وللحال أخبرته بكل شيء... وعندئذ طيب قلبي، وأخبرني بما دار بينكما... وأنه جاء إلى قلايتي، ورفع صلاة من أجلي، لكي أتذوق مرارة الحرب وقسوتها... وأكمل حديثه معي قائلا:
"لقد حكمت على الشاب أنه لا يصلح،
جرب نفسك، وقل إن كنت تصلح...
فقد حوّل اللَّه الحرب من الشاب إليك!
ها أنت ابن السبعين تحارب نفس آلامه، ألعلّك ظننت أنك بلغت الطهارة بجهدك الذاتي؟!
اعلم أنه من أجل ضعفك وعدم قدرتك على الجهاد لم يسمح لك اللَّه إلا بحرب أخرى قدر احتمالك...
فلماذا تقسو على أخيك؟!"
بعدما اعترفت له بخطيتي وجهلي صلينا معًا، ورفع اللَّه الحرب عني، فأدركت أن العفة منحة من اللَّه...
أدركت يا ولدي أنني كنت مخطئًا وظللت أصارع الندم... وأتلهف وأصرخ إلى اللَّه... كيف أردك؟
ماذا أفعل إذا وجدتك قد غادرت الدير وظللت أصلى، وها أنا قد وجدتك...
فاغفر لي، واستمر يا ولدي في جهادك، وسيرفع اللَّه عنك كل حرب لا لشيء إلا من أجل صبرك، لأنك لم تقطع رجاءك في إلهك...
الآن أعرف لماذا قال القديس بولس: "ليس أنني قد نلت أو صرتُ كاملًا. لكنني أسعى لعلي أدرك الذي لأجله أدركني المسيح".
علينا أن نجاهد يا ولدى مادمنا في هذه الأرض.
وعلينا أن نحارب حربنا، عالمين أن قائدنا يسوع لا يمكن أن يتركنا للهزيمة.
أما إذا ظننا أننا قد وصلنا إلى الكمال، وبدأنا نحتقر جهاد الآخرين، فإن اللَّه يتخلى عنا لنعرف ضعف طبيعتنا.
عندما أشرقت الشمس كان الراهب الشيخ وتلميذه يرتلان المزامير بصوت واحد جميل:
"هذا هو اليوم الذي صنعه الرب،
فلنفرح ونبتهج فيه،
يا رب خلصنا،
يا رب سهل سبلنا..."
وأما الراهب الأب توما فكان يجول خارج الباب وقد جعل آية تأمله هذا اليوم المبارك: "تمموا خلاصكم بخوف ورعدة".
← ترجمة القصة بالإنجليزية هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت: No One Like God.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/jxv77j7