لم تكُن الرهبنة نوعًا جديدًا من المسيحية، بل نبعت من حياة الكنيسة، ويُمكننا أن نتتبّع جذورها في العهد الجديد.
فقد تحدّث السيِّد المسيح عن هؤلاء الذين أُعطوا نعمة كافية لكي يخُصُّوا أنفُسهم لأجل ملكوت السموات (مت 19: 12)، والقديس بولس الرَّسول مدح كثيرًا حياة البتولية (1كو 7: 29-34)، وفي موضِع آخر علَّم السيِّد المسيح تلاميذه أن يعيشوا حياة الفقر (مت 19: 21)، وفي رسائِله تحدَّث بولس الرَّسول مُمتدِحًا حياة النُسك والتكريس (رو 6: 8، غل 5، كو 3، 2كو 4، تي 2: 12)، والتي جاهد المسيحيون الأوَّلون والرُّهبان ليحيوا بحسبها، هذا بجانب تعاليم السيِّد المسيح ودعوته لترك العالم المادي والتحرُّر منه، كما كانت حياة النُسك التي عاشها إيليَّا ويوحنَّا المعمدان نموذجًا سعَى النُّسَاك الأوَّلون ليحتذوا به (2)...
وهذه النماذج الكِتابية تُقدِّم نذرين من نذور الرهبنة الثَّلاثة الأساسية، أي البتولية والفقر، أمَّا النذر الثَّالِث فهو الطاعة، وله أيضًا مراجعه وأصوله الكِتابية كما يتضح من الفصل الثاني.
ويُعتبر القديس كلِمنضُس السكندري مدير مدرسة الإسكندرية اللاهوتية وتلميذه العلاَّمة أوريجانوس علامتين مُتميزتين في اللاهوت النُّسكي، إذ جعلا الرهبنة -بل والمسيحية بصفة عامة- أكثر وضوحًا للعالم المُتحدَّث باليونانية والمُفكِر بها.
ولم ينظُر النُّسَاك الأوَّلون إلى حياتهم كنوع جديد من المسيحية، بل على العكس رأوا فيها عودة إلى الحياة الرَّسولية (3)، واعتبر كلٍّ من القديس الأنبا أنطونيوس الكبير (251-356 م.) والقديس يوحنا كاسيان (تنيَّح 433 م.) مُؤسس رهبنة الغرب، أنَّ الرهبنة هي استمرارية لحياة كنيسة الرسل الأولى (4)، والقديس چيروم، والذي كتب في الأعوام الأخيرة من القرن الرَّابِع، قال أنَّ المسيحيين الأوَّلين اعتادوا أن يعيشوا حياة نُسكية كما كان يفعل الرُّهبان في زمانه (5)، فالنُسك ملمح أساسي للرهبنة في كلّ مكان وكلّ زمان، لكن الكنيسة الأولى وكنيستنا الأُرثوذُكسية حتّى هذا اليوم، فهمت وعاشت المسيحية كديانة ذبيحة وكحياة نُسكية، أمَّا الرهبنة فهي مُحاولة لتحقيق وتتميم كلّ الوصايا الموضوعة على كلّ مسيحي بجانب النذور التي يتعهد بها في معموديته.
فحياة الرُّهبان النُّسكية لم تكُن شيئًا ”خاصًا“ أو ”إضافيًا“ بل تحقيق للمُتطلبات والضرورات الموضوعة على سائر المسيحيين، ولذلك كان يُنظر للرهبنة أنها ”معمودية ثانية“.
وثمة سمة أخرى للمسيحية الأولى، ذلك أنَّ الكنيسة كانت جماعة الذين جحدوا ”العالم“ واعتبروا أنفسهم غُرباء في الأرض ومواطنين في المدينة العتيدة، وقد كتب العلامة ترتليان الأفريقي (انظُر كتابنا ”العلاَّمة ترتليان الأفريقي“، الذي سننشره هنا في موقع الأنبا تكلا من سلسلة آباء الكنيسة - إخثوس ΙΧΘΥΣ) ”ليس شيئًا غريبًا عنَّا أكثر من أمور العالم“ (6) وهذا مثال واضح لتعليم الكنيسة الأولى، وعندما بدأ اضطهاد ديسيوس في عام 250 م، أطاع الكثير من المسيحيين أساقفتهم وهربوا إلى البراري حيث عاشوا هناك حياة نُسكية تحت ظروف قاسية، وصاروا أوَّل نُسَاك مسيحيين، وعندما انتهى الإضطهاد، لم يرجع البعض إلى مُدُنِهِم بل ظلُّوا في البراري حيث وجدوا فيها أفضل موضِع لجهادهم الروحي، ويُعتبر اضطهاد ديسيوس السبب التاريخي الذي جعل المسيحيين الغيورين في الكنيسة الأولى مُتدربين ومُعتادين على حياة الوحدة في البراري والجبال (7).
وعندما انقضى زمان الإضطهادات وُجِدَت الرغبة القوية في الاستشهاد كما ترسمها لنا أعمال الشُّهداء، تعبيرًا عنها وتحقيقًا لها في حياة جحد الذات التي يعيشها الراهب، وقد تحدثنا عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في أقسام أخرى. وكانت الحياة الرهبانية في ذلك الحين تُعتبر ”الشهادة البيضاء“ أي شهادة بدون سفك دم، والقديس مقاريوس الكبير كان يأخذ الآباء إلى قلاية مكسيموس ودوماديوس ويقول ”هلُّموا بنا نُعايِن شهادة الغُرباء الصِغار“ (8) وكان للقديس باخوميوس أيضًا نفس هذا الفِكْر (9).
وكانت الرهبنة – ولا تزال – جزءً عُضويًا من الكنيسة، فالقديس أثناسيوس الرسولي في كتابه ”حياة أنطونيوس“ يتحدَّث عن التوقير الكبير الذي كان القديس أنطونيوس يكِنُّه لطغمات ورُتَبْ الكنيسة، والقديس باسيليوس (330-379 م.) رئيس أساقفة قيصرية الكبَّادوك وأحد أهم واضعي قوانين الرهبنة، جعل الرهبنة في خدمة الكنيسة والمُجتمع بصفة عامة (10).
وبالجُملة، كانت القُوَّة الأساسية الدافِعة وراء الرهبنة هي الروح الرَّسولية التي كانت -كما أسلفنا- نُسكية، تميل للاستشهاد، ومليئة بالاشتياقات المجيئية الإسخاتولوچية، وهذه الروح انتقلت إلى براري وجبال مصر حيث استمرت حياة الكنيسة الأولى، ووُلِدَت الرهبنة التي كان جهادها الأوَّل هو ”ما أضيق الباب وأكرب الطريق الذي يُؤدي إلى الحياة“ (مت 7: 14).
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/5jrtxvp