اختلف شكل حكومة بني إسرائيل في فترات الحكم المختلفة، ويمكننا أن نميز بين سبع فترات، كما يلي:
أولًا: فترة البداوة:
كانت الحكومة في تلك الفترة، هي الحكومة التي تلائم قبائل البدو الرحل المكونة من عشائر وعائلات، ولم يكن هذا الشكل للحكومة -بأي حال- قاصرًا على العبرانيين، بل كانت ملامحها الأساسية شائعة بين مختلف الشعوب في مرحلة البداوة. ومع أننا نستطيع أن نضرب أمثلة من مصادر متعددة، إلا أن حكومة البدو الساميين الذين يقطنون الجزيرة العربية، تقدم لنا أوضح مثال، ففي عصر الآباء الأولين كانت العائلة تضم كل من يضمه المنزل (بما في ذلك العبيد والجواري والسراري)، وكان الأب هو رئيس العائلة، له سلطان الحياة والموت على جميع أفراد العائلة (أنظر تك 22؛ قض 11:31-34).
وكانت العشيرة مجموعة عائلات تحت سيطرة شيخ القبيلة الذي كان يُختار لصفاته الشخصية، مثل الشجاعة وكرم الضيافة. وكان تركيب العشيرة يتغير تغيرًا جوهريًا حسب نقص أو زيادة عدد الأفراد والعائلات. ومع أن امتلاك المراعى كان يلعب - بلا شك - دورًا كبيرًا في تكوين القبيلة، فإن التسلسل من أصل واحد كان عاملًا هامًا. ومن المحتمل أن الاشتراك في عبادة واحدة كان من عوامل ترابط القبيلة، كما كان ذلك من أقوى الوشائج وحدة القبيلة. ويمكن أن نلمح في العهد القديم صورًا من هذه العبادات العشائرية (1صم 20: 5؛ قض 19:18).
وينبغي ألا يُخفى عنا التاريخ المعروف للأسباط، حقيقة أن نظام الأسباط لم يكن مستقرًا تمامًا، كما نلمح من الإشارة إلى بني القيني (قض 1:16)، وقائمة الأسباط في نشيد "دبورة" (قض 5).
وقد امتدت سلطة موسى إلى إقامة العدالة كما امتدت إلى شئون الحرب والعبادة. كما أن موسى عَيَّن له معاونين في أعمال القضاء "رؤساء ألوف ورؤساء مئات ورؤساء خماسين ورؤساء عشرات" (خر 18: 24- 26)، إلا أن القوانين التي كانوا يقضون بمقتضاها كانت نابعة من "العادات والعرف". ولم تكن قوانين مكتوبة. وكما كان متبعًا بين شيوخ القبائل، كانت المسائل العويصة والدعاوي الكبيرة يجيئون بها إلى موسى.
ثانيًا: الفترة الانتقالية:
بعد أن استقر الأسباط في فلسطين مكونين شعبًا زراعيًا، حلت فترة اضطراب بسبب ضرورة التكيف مع الظروف الجديدة، لأن التنظيم القبلي القديم الذي كان يلائم جيدًا الأحوال السابقة، لم يعد مناسبًا للمتلطبات الجديدة التي تتلخص في الحاجة الى تغيير التنظيم المحلي المبني على حقوق الأفراد، إلى الحكومة القبلية التي كانت تهتم بصالح العائلة والعشيرة والقبيلة. ولم يحدث هذا التغيير بالطبع فجأة، بل حدث تدريجيًا كاستجابة للرغبات الناشئة في المجتمع. كما لم يكن التطور بأكمله من الداخل، بل لا بد أنه تأثر إلى مدى بعيد بالأنظمة التي كانت قائمة بين الشعوب الكنعانية التي لم يطرد بنو إسرائيل منها إلا القليل. ومع أن الأسباط ظلت متعلقة بفكرة الانتساب إلى جد واحد حسب الأنساب المعروفة من العشائر الى الأسباط ثم إلى أمة واحدة، إلا أن العشائر التي تكونت منها الأسباط، لم تكن تجمعات لوحدات ذات أصل واحد بقدر ما كانت تجمعًا جغرافيًا. وكانت الأحوال مضطربة لوجود العناصر المتنازعة في الداخل، ولهجمات الأعداء من الخارج. ثم ظهرت طبقة من الشيوخ ذوي شخصيات قوية مميزة، أطلق عليهم اسم "القضاة"، ولم يكن القاضي حاكمًا لأمة بل كان شيخًا لقبيلة، يكتسب سلطته بفضل شجاعته وقوته وحنكته الشخصية، ولم تكن وظيفة القاضي وراثية كما نرى في حالة جدعون وأبيمالك (قضاة 8، 9). وتمشيًا مع الظروف الجديدة، أصبح الشيوخ الذين كانوا قبلًا رؤساء عائلات - ربما اقتداء بالكنعانيين - طبقة ارستقراطية واضطلعوا بمهام معينة إدارية وقضائية. كا نشأت المدن وزادت أهميتها حتى خضعت لها القرى الصغيرة المتاخمة لها، باعتبارها مراكز إدارية. وفي كل هذه - وجد أوجه شبه مع الخطوات التي أصبحت بها أثينا -في فجر التاريخ- عاصمة لأتيكا Attica، وحلت المعاهدات محل نظام القبائل التي كانت ترتبط معًا بصلة القرابة.
ثالثًا: فترة الملكية:
بينما كان رؤساء الأسباط والقضاة يتولون مناصبهم على أساس كفاءتهم ودعوة الله لهم، فإن نظام الوراثة كان من أول أركان الملكية التي نشأت عن الرغبة في تنظيم عملية تولي الحكم، لتقوم قيادة قوية راسخة. ولم يطبق - بالطبع- هذا المبدأ عند تعيين شاول "أول ملك" إذ نال هذا الامتياز بسبب شجاعته الشخصية وتأييد صموئيل النبي له بناء على توجيه من الله. أما ابنه أيشبوشث فقد حكم إسرائيل لمدة عامين، ولكنه فقد عرشه بسبب سخط الشعب (2صم 2-4). أما داود ملك يهوذا فقد تولى عرش كل إسرائيل بصفة استثنائية، وكان ذلك راجعًا إلى ضعف شخصية الوريث المفترض للعرش، كما يرجع إلى شجاعة داود ومؤهلاته الشخصية. أما سليمان المُخْتَار من الله ومن أبيه داود، فقد تولى العرش بحق الوراثة وبتأييد من القادة العسكريين والرؤساء الدينيين. ومنذ ذلك الحين- ظلت وراثة العرش مرعية في المملكة الجنوبية (مملكة يهوذا)، وذلك بسبب تماسكها وما نتج عنه من عدم قيام اضطرابات داخلية بها، بينما كثيرًا ما فشل مبدأ الوراثة في المملكة الشمالية (إسرائيل) التي كانت الأحقاد بين الأسباط تمزقها. ولكن حتى عندما لم يمكن تطبيق هذا المبدأ، فإنه كان يعتبر المطلب الأساسي لولاية الملك، رغم أن صوت الشعب الذي كان هو الأصل في إقامة الملكية كثيرًا ما كان قوة تؤخذ في الاعتبار.
(أ) تاريخ الملكية ومهامها:
(1) الامتيازات الملكية: فقد كان الملك كرب العائلة أو شيخ القبيلة يقوم بتمثيل رعاياه في أمور الدين والحرب وإقامة العدالة، وستجد المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في صفحات قاموس وتفاسير الكتاب المقدس الأخرى. ففي كل هذه المجالات كان هو الرئيس الأعلى. وكان يمارس سلطاته بنفسه أو عن طريق ممثلين له، أصبحوا بذلك جزءًا من المؤسسة الملكية. ويجب أن نذكر أن الصفة الكهنوتية أو المقدسة للملك والتي كانت امتدادًا لامتيازاته كرئيس للعائلة الكبيرة لم تكن من القوة بين اليهود مثلما كانت بين الشعوب الشرقية الأخرى. ورجال الدين الذين كان يعينهم الملك، استطاعوا بمرور الوقت أن يستحوذوا على سلطات أكبر. أما مسئولية الملك في الحفاظ على الأمن العام، فكانت تحمل معها التزامه بحراسة كنوز الدولة التي كانت تشمل أيضًا كنوز الهيكل، وكان من حق الملك استخدامها عند الحاجة للدفاع عن البلاد، كما أصبح من الضروري قيام الملك وممثليه بفرض الضرائب وجمع الإيرادات من مختلف الموارد والتصرف فيها.
(2) موظفو البلاط: لا نعرف إلا القليل نسبيًا عن تكوين بلاط الملك في عهدي شاول وداود. كما أنه ليس لدينا المعلومات الوافية عن عهد سليمان، وإن كنا نعلم أن البلاط في عهده لم يعد في بساطته الأولى، أما موظفو البلاط المعروفرن لنا، فهم:
1. رجال الدين مثل رئيس الكهنة والكهنة (2صم 17:8423:20).
2. عمال القصر مثل: الساقي (1مل 10: 5)، ورئيس المخازن (2مل 10: 22)، والمشرف على القصر (1مل 4: 6) الذي يرجح أنه كان خصيًا (1مل 9:22؛ 2مل 6:8؛ 9: 32).
3. رجال الدولة، ومنهم: الكاتب (2صم 8: 17؛ 20: 25... إلخ)، والمسجل (1مل 3:4)، ومشير الملك (2 صم 15: 12)، وربما أيضًا صاحب الملك (2 صم 15: 37؛ 16: 16؛ 1 مل 4: 5)، والمشرفون على الأشغال العامة (2صم 20: 24).
4. رجال الجيش ومنهم: قائد الجيش (2 صم 8: 16)، ورئيس الحرس؟ (2صم 8: 18؛ 20: 23).
(3) المؤسسات المالية: إن بساطة الحكم في عهد شاول لم تكن تكلف الشعب كثيرًا، فقد عاش شاول كرئيس قبيلة معتمدًا على أملاكه الموروثة، كما كان يتقبل الهدايا الاختيارية من رعاياه (1صم 10:27؛ 16: 20)، كما كان يأخذ نصيبًا من الغنائم. وليس هناك دليل قاطع على أنه قد فرض على الشعب ضريبة منتظمة (1صم 17: 25). ومع نمو وازدهار البلاد، غير داود من نظام القصر مقلدًا في ذلك -إلى حد ما- ملوك الشرق الآخرين. ولا يذكر صراحة أنه قد فرض ضريبة منتظمة، ولو أنه من المحتمل أنه كان يفكر في هذا عندما قام بالاحصاء الذي تم في عهده (2صم 24: 1-9) كما أنه كان يستولي على نصيبه من الغنائم (2 صم 8: 11؛ 12:30). أما في عهد سليمان فقد استلزمت رفاهية العيش في بلاطه، فرض المزيد من الضرائب. ومن المحتمل أن بعض الدخل قد تحقق عن طريق الزراعة الجبرية لأراضي الملك (1 صم 8: 12). ولو أن الأشغال الشاقة، والتي شجعت على الثورة وانقسام المملكة، كانت موجهة بصفة عامة إلى الأشغال العامة. وقد دفعت الشعوب الخاضعة لسليمان جزية كبيرة له (1مل 21:4). ولأول مرة نسمع عن ضريبة أو جزية تفرض على القوافل وعلى التجار (1مل 10:14، 15)، ولو أنها على الأرجح كانت تشكل مصدر دخل حتى في عصر البداوة. كما كان هناك مورد آخر للدخل من نقل البضائع بالأسطول التجاري (1مل 10: 11، 22) ومن تجارة الخيول والمركبات مع مصر (1مل 28:10، 29).
وقد قسم سليمان مملكته أيضًا إلى اثني عشر إقليمًا، كان يحكمها وكلاؤه الذين كان عليهم أن يمدوا الملك وأهل بيته بالمؤن. وكان على كل وكيل أن يقوم بتقديم هذه المؤن لمدة شهر في السنة (1مل 7:4- 20). ولا يظهر اسم يهوذا في قائمة هذه الأقاليم، ولا نعلم هل كان هذا لأنها كانت معفاة من تلك الضريبة، أو كان ذلك لسبب آخر. ويبدو من استيلاء أخآب كل كرم نابوت، أن ممتلكات الأشخاص الذين كان محكوم عليهم بالموت لارتكابهم جريمة، كانت تصادر لصالح الملك (1مل 21).
(4) إقامة العدالة: كان الملك - مثله في ذلك مثل شيخ القبيلة - يجلس للقضاء بين الناس في الأمور الهامة، أما الأمور الأقل أهمية، فكانت تحال إلى حكام الأقاليم وغيرهم من الموظفين.
(5) الديانة: كان الملك يعتبر الممثل الطبيعي لشعبه أمام الله، ومع أنه كان يقوم ببعض المهام الكهنوتية بنفسه، إلا أن هذه المهام كان يقوم بها الكاهن المعين من قِبَل الملك.
(6) الإدارة المدنية: كان الملك يدير بنفسه دفة بعض أمور الدولة، ويوكل بعضها الآخر إلى الوزراء والرؤساء (1مل 4: 2 - 6)، ومن بين هذه الأمور، العلاقات برعاياه، والأمراء الأجانب، وإدارة الأشغال العامة لخير الشعب، وبعض الأعمال العسكرية مثل تحصين المدن، وبعض الشؤون الدينية كما حدث في بناء الهيكل. أما الشئون المحلية فكانت -إلى حد بعيد- تترك للأسباط والعشائر. ولكن مع التزايد التدريجي لسلطة الملك، فقد أخذ شيئًا فشيئًا في مد نفوذه إلى مجتمعات القرى، لكن كثيرا ما كان لشيوخ الشعب كلمة مسموعة حتى في أخطر شؤون الدولة.
رابعًا: إسرائيل تحت حكم ملوك الشرق:
كان مبدأ الحكم الذاتي يراعى إلى حد بعيد في الدول الشرقية التي كانت تهتم بصفة أساسية بالأمور السياسية والعسكرية، وكذلك بجمع الخراج. ومن ثم فليس ثمة غرابة في أن اليهود قد تمتعوا بقسط كبير من الحكم الذاتي في أثناء خضوعهم لغيرهم من دول الشرق القديم، بل حتى في أثناء فترة السبي كانوا يهرعون إلى ممثليهم للاحتكام إليهم فيما ينشأ بينهم من منازعات، فكانت فلسطين تحت حكم الفرس جزءًا من الولاية الفارسية الممتدة غربي نهر الفرات وكان لها في وقت ما حاكمها الخاص.
خامسًا:
بعد العودة من السبي: سعى عزرا ونحميا إلى إدخال نظام جديد أرسَى -بعد نحو قرنين من الزمان- أساس حكومة مزدوجة تخضع لسلطة الدولة الحاكمة. وطبقًا لهذا النظام كان الموظفون المدنيون خاضعين لرئيس الكهنة الذي أصبحت له مكانة الحاكم الشرعي، ويحكم حسب الشريعة. أما الحاكم الممثل للأسباط وشيوخ الشعب فقد ظل يمارس بعض السلطات المحدودة.
سادسًا: في العصر اليوناني:
ظل اليهود يتمتعون بقسط كبير من الحكم الذاتي تحت حكم البطالسة والسلوقيين، واحتفظوا بصفة عامة بنظام الحكم الداخلي كما كان في عهد عزرا ونحميا. وتكون مجلس من "الشيوخ" برئاسة رئيس الكهنة الذي كان يعينه الملك. وقد اعترف البطالسة والسلوقيون برئيس الكهنة حاكمًا، وحملوه مسئولية دفع الجزية. ولكي يحقق ذلك منحوه سلطة فرض الضرائب. ولم تغير فترة الاستقلال السياسي القصيرة تحت حكم الأسمونيين (الحشمونيين) من نظام الحكم تغييرًا جوهريًا، فيما عدا أن رئيس الكهنة الذي كان -ولمدة كبيرة- أميرًا (حاكمًا) بالفعل في كل شيء ما عدا الاسم، اتخذ الآن لنفسه اللقب صراحة. أما مجلس الشيوخ، فقد استمر في عمله ولكن بسلطات أقل من ذي قبل. وقد تأثرت سائر النواحي بنظام الحكم اليوناني.
سابعًا:
عصر الرومان: عندما أنهى بومبي حكم الأسمونيين، ظلت الحكومة كما هي، لم يطرأ عليها سوى تغيير جوهري بسيط. فكما فعل اليونانيون، عهد الرومان -في البداية- إلى رئيس الكهنة بقيادة البلاد، ولكن سرعان ما انتزعوا منه سلطاته السياسية، وقسمت البلاد إلى خمس مناطق، يحكم كل منطقة منها مجلس خاص. ثم أعاد القيصر رئيس الكهنة مرة أخرى إلى رتبته كحاكم. وفي عهد الملك هيرودس، كان هو الذي يعين رئيس الكهنة ومجلس السنهدريم ويعزلهما حسب ما يرى فيه مصلحته هو وهواه، ففقدا بذلك الكثير من منزلتهما وسلطانهما.
وبعد موت هيرودس، قسمت البلاد مرة أخرى، وتولى حكم إقليم اليهودية والٍ خاضع لحاكم سورية، وكان له استقلال فعلي في دائرته، وتمتع اليهود بقدر كبير من الحرية في الشؤون الداخلية كما كان الحال في العهود السابقة، ولم يعد رئيس الكهنة يستمتع بأي سلطة سياسية، وأصبح للسنهدريم -وقد كان رئيس الكهنة عضوًا فيه- نفوذه إذ كان في الحقيقة مجلسًا أرستقراطيًا شبيهًا بمجلس الشيوخ الروماني في كثير من الوجوه، فكان يجمع بين المهام القضائية والإدارية، لا يحد من ممارسته للسلطة إلا شيء واحد، هو أنه كان للوالي الحق في مراجعة قراراته. وكان مجلس السنهدريم في أورشليم يقوم بدور المجلس الحاكم للمدينة.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/k42dga5