جوهريًا وحقيقيًا ليس هناك اختلاف بين رواية الإنجيل للقديس متى من جهة، وبين روايات الإنجيل للقديسين مرقس ولوقا ويوحنا من جهة أخرى. إنما الاختلاف ظاهري، لأن الإنجيل للقديس متى يروى القصة كاملة ويذكر تفصيلًا أن الرب يسوع ركب الأتان كما ركب الجحش أيضًا، وفي هذا تحقيق لما أنبأ به النبي زكريا في القديم:
(متى21: 5) (زكريا9: 9) "قُولُوا لابْنَةِ صِهْيَوْنَ: هُوَذَا مَلِكُكِ يَأْتِيكِ وَدِيعًا، رَاكِبًا عَلَى أَتَانٍ وَجَحْشٍ ابْنِ أَتَانٍ".
أما الإنجيليون الآخرون فقد ذكروا أن المسيح له المجد قد ركب الجحش ودخل إلى أورشليم.
إن الوحي الإلهي لا يتناقض ولا يتعارض مع ذاته. فما دام الإنجيل للقديس متى قد ذكر صراحة أن تلميذي الرب قد "أتيا بالأتان والجحش ووضعا عليهما ثيابهما وأركباه عليهما".
فلابد أن الإنجيل صادق، وأن الأتان والجحش كانا معًا، ولم يكن الجحش وحده، وأن الرب يسوع قد ركب على كل من الأتان والجحش، غير أنه ليس من المعقول أن يكون السيد المسيح قد ركب عليهما معًا في وقت واحد إنما المعقول والمقبول أن يكون السيد المسيح قد ركب عليهما في فترتين متتاليتين، أي أنه ركب على أحدهما وقتًا ما، ثم تركه وركب بعد ذلك على الآخر.
وحيث أن رواية الإنجيليين الثلاثة مرقس ولوقا ويوحنا تُجمع أن الرب يسوع دخل إلى أورشليم وهو راكب جحش، ولابد أن يكون الوحي الإلهي صادقًا.
فالمعقول والمقبول أن يكون المسيح الرب قد ركب على الأتان أولًا، ثم تركها، وركب بعد ذلك على الجحش، ودخل أورشليم راكبًا على الجحش، وبهذا الوضع يكون مخلصنا ركب على الأتان والجحش معًا، ولكن في فترتين متعاقبتين.
وأما لماذا صنع المسيح ذلك، فلا بد أن له في الأمر حكمة.
إذا عرفنا أن فادينا كان دائمًا يسير على رجليه ويقطع المسافات الطويلة مشيًا على قدميه، وأن المرة الوحيدة التي ذكر الإنجيل عنه أنه ركب فيها دابة، كانت هذه المرة الوحيدة التي دخل فيها أورشليم. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والكتب الأخرى). لقد سافر ماشيًا مسافة سبعة عشر ميلًا، من أريحا إلى بيت عينيا وبيت فاجي (مت20: 29-21: 1)، (مرقس10: 46 - 11: 1).
كما سافر ماشيًا نحو أربعين ميلًا، من أورشليم إلى بئر يعقوب في
سوخار من مدن السامرة (يوحنا4: 3-6)فلماذا يركب دابة وهو ينتقل من جبل الزيتون إلى أورشليم، وهي مسافة تقل عن ميلين اثنين، علمًا بأنه طالما قطعها قبل ذلك وبعد ذلك مرارًا وتكرارًا مشيًا على الأقدام؟
إذن كان لركوبه دابة هذه المرة قصد. ولقد كشف النبي زكريا في نبوءته سر هذا الأمر بقوله:
(زكريا 9: 9) "اِبْتَهِجِي جِدًّا يَا ابْنَةَ صِهْيَوْنَ، اهْتِفِي يَا بِنْتَ أُورُشَلِيمَ. هُوَذَا مَلِكُكِ يَأْتِي إِلَيْكِ. هُوَ عَادِلٌ وَمَنْصُورٌ وَدِيعٌ، وَرَاكِبٌ عَلَى حِمَارٍ وَعَلَى جَحْشٍ ابْنِ أَتَانٍ." فالمسيح هذه المرة يدخل أورشليم ملكًا، متممًا نبوءة الوحي المقدس مبينًا أنه هو بالذات المقصود بنبوءة النبي زكريا، هو ملك أورشليم الذي تحدثت عن ملكه وسيادته نبوءات أخرى (مزمور109: 1)، (أشعياء9: 6-7)، (أرميا23: 5)، (دانيال2: 44)، (دانيال7: 13، 14، 18، 27).
وقد قال عنه الملاك جبرائيل عندما بشر العذراء مريم بميلاده منها:
(لوقا1: 33)، (متى28: 18) "وَيَمْلِكُ عَلَى بَيْتِ يَعْقُوبَ إِلَى الأَبَدِ، وَلاَ يَكُونُ لِمُلْكِهِ نِهَايَةٌ".
ولقد عرف المجوس في بلادهم هذه الحقيقة، فجاءوا عند ميلاده من بلاد المشرق، والنجم يتقدمهم وهم يسألون:
(متى 2: 2) "قَائِلِينَ: "أَيْنَ هُوَ الْمَوْلُودُ مَلِكُ الْيَهُودِ؟ فَإِنَّنَا رَأَيْنَا نَجْمَهُ فِي الْمَشْرِقِ وَأَتَيْنَا لِنَسْجُدَ لَهُ".
ولذلك فإن الوالي الروماني بيلاطس البنطي عندما سأل الرب يسوع أثناء المحاكمة قائلًا:
"فَوَقَفَ يَسُوعُ أَمَامَ الْوَالِي. فَسَأَلَهُ الْوَالِي قِائِلًا: «أَأَنْتَ مَلِكُ الْيَهُودِ؟» فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «أَنْتَ تَقُولُ". (متى27: 11)، (مرقس15: 9، 12، 18)، (لوقا23: 2-3)، (يوحنا18: 33، 36، 37، 39)، (19: 12، 14، 19، 21).
ولقد كان من عادة الملوك أن يركبوا الجياد أو الخيل، لكن رب المجد يسوع المسيح لم يشأ لتواضعه أن يركب جوادًا، بل ركب أتانًا وجحشًا ابن أتان. عن هذا قال النبي: "اهْتِفِي يَا بِنْتَ أُورُشَلِيمَ. هُوَذَا مَلِكُكِ يَأْتِي إِلَيْكِ. هُوَ عَادِلٌ وَمَنْصُورٌ وَدِيعٌ، وَرَاكِبٌ عَلَى حِمَارٍ وَعَلَى جَحْشٍ ابْنِ أَتَانٍ."
ثم لكي يطمئن الناس بعامة، والملوك بخاصة إلى أنه ملك روحاني لا جسداني، وأن مملكته ليست من هذا العالم (يوحنا18: 36)، (6: 15)، (متى26: 53)، (لوقا17: 21)
أما لماذا ركب الأتان أولًا، ثم تركها وركب بعد ذلك الجحش ودخل أورشليم وهو راكب على الجحش، فلابد من قصد، ولا بُد له من غاية روحية وهدف تعليمي.
أما الأتان فترمز إلى الأمة اليهودية، وإلى أورشليم اليهودية (أرميا2: 24)، ولعل وجه الشبه بين الأتان وبين أمة اليهود أن الأتان تمرست على الركوب، وتعودت عليه، كما تمرست الأمة اليهودية على نير الشريعة ونداءات الأنبياء. أما الجحش فهو لطياشته يرمز إلى الأمم الوثنية من غير اليهود، الذين لم يخضعوا لشريعة الله. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والكتب الأخرى). كما أن الجحش في نظر اليهود نجسًا. لأنه لا يجتر وهو غير مشقوق الظلف. وكذلك الأمم غير اليهودية كانت في نظر اليهود نجسة. فإذا كان المسيح له المجد ركب على الأتان ثم تركها، ففي هذا إشارة إلى أنه جاء أولًا إلى اليهود ثم رفضوه:
(يوحنا1: 11) "إِلَى خَاصَّتِهِ جَاءَ، وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ".
فأهملهم حزينًا عليهم وهناك يرثى لأورشليم:
(متى23: 37-38)، (لوقا13: 34-35) "يَا أُورُشَلِيمُ، يَا أُورُشَلِيمُ! يَا قَاتِلَةَ الأَنْبِيَاءِ وَرَاجِمَةَ الْمُرْسَلِينَ إِلَيْهَا، كَمْ مَرَّةٍ أَرَدْتُ أَنْ أَجْمَعَ أَوْلاَدَكِ كَمَا تَجْمَعُ الدَّجَاجَةُ فِرَاخَهَا تَحْتَ جَنَاحَيْهَا، وَلَمْ تُرِيدُوا! هُوَذَا بَيْتُكُمْ يُتْرَكُ لَكُمْ خَرَابًا".
وفى يوم أحد الشعانين ذاته:
(لوقا19: 41-44) "وَفِيمَا هُوَ يَقْتَرِبُ نَظَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَبَكَى عَلَيْهَا قَائِلًا: إِنَّكِ لَوْ عَلِمْتِ أَنْتِ أَيْضًا، حَتَّى فِي يَوْمِكِ هذَا، مَا هُوَ لِسَلاَمِكِ! وَلكِنِ الآنَ قَدْ أُخْفِيَ عَنْ عَيْنَيْكِ. فَإِنَّهُ سَتَأْتِي أَيَّامٌ وَيُحِيطُ بِكِ أَعْدَاؤُكِ بِمِتْرَسَةٍ، وَيُحْدِقُونَ بِكِ وَيُحَاصِرُونَكِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، وَيَهْدِمُونَكِ وَبَنِيكِ فِيكِ، وَلاَ يَتْرُكُونَ فِيكِ حَجَرًا عَلَى حَجَرٍ، لأَنَّكِ لَمْ تَعْرِفِي زَمَانَ افْتِقَادِكِ".
ولقد ترك المسيح له المجد الأتان، وتركه لها يشير إلى أن المسيح عاقب الأمة اليهودية بتخليه عنها وتركه لها، إذ قد أدركهم الغضب إلى النهاية (1تسالونيكى2: 16)، ثم ركب المسيح على الجحش، الذي "لم يركبه أحد من قبل" (مرقس11: 2) والجحش يرمز إلى الأمم الوثنية التي لم يظهر فيها نبي، ولم تكن لهم شريعة سماوية، فقد قبلهم المسيح في مملكته بعد أن طرد اليهود منها لشرهم وقساوة قلوبهم وعنادهم (رومية10: 21)، (أشعياء65: 2) وصار هو ملكا على تلك الأمم الوثنية، ودخل بها إلى أورشليم وإلى هيكل الله.
وإذا ركب المسيح على الأتان أولًا، ثم على الجحش ثانيًا، فقد أعلن ذاته ملكًا على اليهود والأمم معًا "فمملكته على الكل تسود" (مزمور102: 19)، (مزمور46: 8، 2).
ومملكته هي كنيسته التي جمع فيها تحت لوائه اليهود والأمم معًا فأصبحت جامعة لكل الشعوب والأمم
(غلاطية3: 28) "لَيْسَ يَهُودِيٌّ وَلاَ يُونَانِيٌّ. لَيْسَ عَبْدٌ وَلاَ حُرٌّ. لَيْسَ ذَكَرٌ وَأُنْثَى، لأَنَّكُمْ جَمِيعًا وَاحِدٌ فِي المسيح يَسُوعَ".
(كولوسي 3: 11) "حَيْثُ لَيْسَ يُونَانِيٌّ وَيَهُودِيٌّ، خِتَانٌ وَغُرْلَةٌ، بَرْبَرِيٌّ سِكِّيثِيٌّ، عَبْدٌ حُرٌّ، بَلِ الْمَسِيحُ الْكُلُّ وَفِي الْكُلِّ".
المرجع: كتاب مقالات في الكتاب المقدس - الجزء الرابع - المتنيح الأنبا غريغوريوس.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/pva6hmv