← اذهب مباشرةً لتفسير الآية: 1 - 2 - 3 - 4 - 5 - 6 - 7 - 8 - 9
يقدم إشعياء النبي نبوات تخص بعض الأمم المحيطة بيهوذا وإسرائيل تتحقق سريعًا حتى يتأكد الشعب من أمرين: صدق نبوات إشعياء النبي فيما يخص المستقبل البعيد مثل السبي والرجوع منه ومجيء المسيا وأعماله الخلاصية، وأن الله هو إله الأرض كلها، ضابط الكرة الأرضية ومحرك الشعوب.
في هذا الأصحاح يبرز النبي تحطيم موآب على يديْ ملك أشور سرحدون أو سنحاريب بطريقة قاضية، الأمر الذي لأجله صرخ قلب النبي مشتاقًا إلى رجوعهم إلى الله وخلاصهم عوض الدمار الذي حلّ بهم بسبب جحد الإيمان.
[1]. |
|||
[2 -5]. |
|||
[6 -9]. |
"وَحْيٌ مِنْ جِهَةِ مُوآبَ: إِنَّهُ فِي لَيْلَةٍ خَرِبَتْ عَارُ مُوآبَ وَهَلَكَتْ. إِنَّهُ فِي لَيْلَةٍ خَرِبَتْ قِيرُ مُوآبَ وَهَلَكَتْ." [1].
جاء الموآبيون من نسل لوط، لذا فهم يمتّون بصلة قرابة لإسرائيل، سكنوا شرق البحر الميت، وكانت بلادهم تنقسم إلى بلاد موآب وعربات موآب وهذه كانت في وادي الأردن مقابل أريحا. سمح بنو رأوبين للموآبيين بالسكنى في مدنهم وأخذوا عنهم عبادة الإله كموش، كما وجدت علاقات طيبة أحيانًا بين موآب وإسرائيل، فقد تغربت نُعمى هناك ورجعت ومعها راعوث، وعندما قاوم شاول داود أودع الأخير والديه لدى ملك موآب، ومع هذا فقد حمل الموآبيون روح عداوة تجاه إسرائيل ويهوذا، فكثيرًا ما تحالفوا مع الشعوب المجاورة ضدهم.
يتنبأ إشعياء النبي عن خراب المدن الكبرى في موآب، وقد تحققت هذه النبوة حرفيًا وبدقة خلال ثلاث سنوات من إعلانها (إش 16: 14)، وقد حلّ الخراب على يديْ ملك آشور فجأة وبطريقة غير متوقعة.
"عار": اسم سامي معناه "مدينة"؛ تبعد هذه المدينة حوالي 14 ميلًا جنوبي نهر أرنون (عد 21: 15؛ 22: 36)، سميت أيضًا عروعير (تث 2: 36)، دعاها الإغريق عريوبوليس نسبة إلى إله الحرب "أريس" Ares، ودعاها اليهود "ربة موآب"، وهي خربة الربة.
"قير" اسم سامي معناه "سور" أو "مدينة ذات أسوار"، تبعد حوالي أحد عشر ميلًا شرقي الجزء الجنوبي من البحر الميت، موضعها اليوم مدينة كرك في الأردن.
هلكت المدينتان عار وقير في ليلة واحدة، وليس في يوم واحد أو نهار واحد. فإنه إذ يغيب شمس البر عن النفس البشرية التي تشبه مدينة عظيمة مسوّرة، يحل بها ظلام الشر والجهل وتفقد كل ما تعبته لسنوات طويلة ليحل بها الخراب. لذلك يقول القديس بولس: "جميعكم أبناء نور وأبناء نهار، لسنا من ليل ولا ظلمة، فلا ننم إذًا كالباقين بل لنسهر ونصح، لأن الذين ينامون فبالليل ينامون، والذين يسكرون فبالليل يسكرون" (1 تس 5: 5-6).
*
من يشبه ذاك الواحد الجلي الذي يسهر ويصلي في الخفاء، تحيطه هالة من النور الخفي وسط الظلمة الخارجية، أما الشرير فكابن للظلمة يسلك، إنه يقف في ضياء النهار، ومع أن النور يكسوه من الخارج لكن الظلمة تكتنفه من الداخل.أيها الأحباء، ليتنا لا ننخدع بأننا ساهرون، لأن من لا يسهر بالبر، فسهره لا يُحسب له!
القديس مار أفرام السرياني(211)
* إذ يترك الإنسان (محبة) العالم المظلم يصبح نقيًا طاهرًا بعمل الروح وبالتصاقه بالنقاء الحقيقي... فتشع النفس ضوءًا وتصير هي نفسها نورًا كوعد الرب (مت 13: 43).
2 إِلَى الْبَيْتِ وَدِيبُونَ يَصْعَدُونَ إِلَى الْمُرْتَفَعَاتِ لِلْبُكَاءِ. تُوَلْوِلُ مُوآبُ عَلَى نَبُو وَعَلَى مَيْدَبَا. فِي كُلِّ رَأْسٍ مِنْهَا قَرْعَةٌ. كُلُّ لِحْيَةٍ مَجْزُوزَةٌ. 3 فِي أَزِقَّتِهَا يَأْتَزِرُونَ بِمِسْحٍ. عَلَى سُطُوحِهَا وَفِي سَاحَاتِهَا يُوَلْوِلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا سَيَّالًا بِالْبُكَاءِ. 4 وَتَصْرُخُ حَشْبُونُ وَأَلْعَالَةُ. يُسْمَعُ صَوْتُهُمَا إِلَى يَاهَصَ. لِذلِكَ يَصْرُخُ مُتَسَلِّحُو مُوآبَ. نَفْسُهَا تَرْتَعِدُ فِيهَا. 5 يَصْرُخُ قَلْبِي مِنْ أَجْلِ مُوآبَ. الْهَارِبِينَ مِنْهَا إِلَى صُوغَرَ كَعِجْلَةٍ ثُلاَثِيَّةٍ، لأَنَّهُمْ يَصْعَدُونَ فِي عَقَبَةِ اللُّوحِيثِ بِالْبُكَاءِ، لأَنَّهُمْ فِي طَرِيقِ حُورُونَايِمَ يَرْفَعُونَ صُرَاخَ الانْكِسَارِ.
يُصَوِّر إشعياء النبي ما حلّ بالمدن الكبرى في موآب بجانب عار وقير، فيقول:
"إلى البيت Bajith وديبون يصعدون إلى المرتفعات للبكاء" [2]. إذ حل الخراب بموآب لجأ الكثيرون إلى الآلهة الوثنية يصرخون بدموع وعويل لعلها تستطيع أن تنقذهم، لكن بلا جدوى، وذلك كما فعل أنبياء وكهنة البعل في أيام إيليا النبي.
لقد لجأوا إلى "البيت"؛ ويرى البعض Bajith تعني "هيكلًا"، أو "بيت" bayit أي "بيت الإله كموش أو هيكل الإله" أو bat بمعنى "بنت" أو "ابنة" أي "ابنة المدينة" أو سكانها(213).
"ديبون" اسم موآبي يعني "مرتفعات" أو "هزالًا" أو "انحلالًا". وهي مدينة تبعد ثلاثة أميال شمال نهر أرنون، شمال غربي عرعير، تُسمى بالعربية "ذيبان"، فيها وجد مرتفع الإله كموش الموآبي.
يُترجم البعض "البيت وديبون" "بيت ديبون" أو "ابنة ديبون"، كأن الموآبيين قد هربوا إلى هيكل الإله كموش أو بيته في ديبون، يبكون وينوحون على ما حلّ بهم من خراب.
"تولول موآب على نبو وعلى ميدبا" [2].
لقد خربت "نبو"، بالقرب من الجبل العظيم نبو، شرقي الأردن في نهاية جنوب البحر الميت، وهو الجبل الذي صعد عليه موسى النبي لينظر من بعيد أرض الموعد فتتهلل نفسه مشتاقًا أن يعبر إلى أرض الأحياء وينعم بكنعان السماوية، وقد مات هناك (تث 34). (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والتفاسير الأخرى). كانت نبوة محصنة بالجبل العظيم، مركز دفاع للموآبيين، لكنها ضاعت وخربت فصارت علة للولولة. في ذات الموضع الذي تهلل فيه موسى ولول الموآبيون؛ ما يُفرح قلب المؤمن يُحطم نفس الجاحد عديم الإيمان!
ولولوا أيضًا على "ميدبا"، معناها "مياه الراحة"، تُسمى حاليًا "مادبا"، تبعد حوالي 5 أميال جنوب شرقي نبو، 14ميلًا شرقي بحر لوط، دعيت هكذا لأن بها بركة في الجنوب طولها وعرضها 360 قدمًا كما توجد بها برك أصغر في الشرق والشمال.
يقول النبي "في كل رأس منها قرعة، كل لحية مجزوزة، في أزقتها يأتزرون بمسح، على سطوحها وفي ساحاتها يولول كل واحد منها سيالًا بالبكاء" [2-3]. هذه جميعها علامات الحزن الشديد (إر 48: 37؛ 2 صم 3: 31؛ إر 4: 8؛ 41: 5؛ مرا 2: 10). قرع الرأس يُشير إلى المذلة، إذ اعتاد الغالبون أن يحلقوا شعر الذكور والإناث المسبيين علامة العبودية والقبح؛ وجز اللحية إشارة إلى مهانة الكهنوت وفقدان سلطانه الروحي وكرامته، والاتزار بالمسح علامة اليأس الشديد، أما البكاء حتى تصير الدموع كالسيل فمعناه فقدان الفرح الداخلي.
هذه هي صورة النفس التي تعتزل إلهها ليسبيها العدو الشرير؛ تفقد حريتها وجمالها وسلطانها وكرامتها وفرحها، لتصير أشبه بأمة قبيحة ذليلة منكسرة، لا تجد راحة لا في الأزقة ولا على السطوح (حيث يضع الوثنيون آلهتهم) ولا في الساحات؛ أينما وجدت لا تشعر بالراحة.
"وتصرخ حشبون وألعالة، يسمع صوتهما إلى ياهص، لذلك يصرخ متسلحو موآب، نفسها ترتعد فيها" [4]. كأن الموآبيين قد هربوا من مدينة إلى مدينة، وكان صراخهم يسمع من بعيد، من مدن بعيدة؛ صراخ سكان حشبون وألعالة يدوي في ياهص.
"حشبون" اسم موآبي معناه "حسبان" أو "تدبير"، وهي مدينة سيحون ملك الأموريين، أخذها الموآبيون من سبط لاوي (يش 21: 29، أي 6: 81)، تُعرف حاليًا باسم "حسبان"، وهي مدينة خربة قائمة على تل منعزل بين أرنون ويبوق، تقع نحو سبعة أميال ونصف شمال مادبا(214).
"ألعالة"، كلمة عبرية ربما تعني "الله صعد"، تبعد حوالي ميلين شمال حشبون، تُسمى حاليًا "العال"، تقع على تل.
وتعتبر المدينتان في أقصى الشمال، كانتا موضع نزاع بين إسرائيل وموآب.
أما "ياهص" فكلمة عبرية تعني "موضعًا مدوسًا"، تُسمى "يهصه"، يُقال إنها قرية أم المواليد أو خربة اسكندر، تبعد حوالي 10 أو 12 ميلًا جنوب حشبون.
لم يحتمل إشعياء النبي أن يرى ما يحل بهذه المدن العظيمة، وكيف تحول شعبها إلى الصراخ المستمر، حتى صارت موآب ترتعد في داخلها: "نفسها ترتعد فيها" [4]، لذلك يقول "يصرخ قلبي من أجل موآب" [5]. لا يقف شامتًا في الأعداء، إنما يشاركهم مرارتهم، مشتاقًا إلى رجوعهم عن عداوتهم وتمتعهم بالخلاص. هذه هي سمة رجال الله: الحب الداخلي الصادق والرغبة العميقة لخلاص حتى المقاومين لهم!
* لو لم يكن شريرًا ما كان قد صار لكم عدوًا. إذن اشتهوا له الخير فينتهي شره، ولا يعود بعد عدوًا لكم. إنه عدوكم لا بسبب طبيعته البشرية وإنما بسبب خطيته!
* لا تفيدنا الصلاة من أجل الأصدقاء بقدر ما تنفعنا لأجل الأعداء... فإن صلينا مِنْ أجل الأصدقاء لا نكون أفضل من العشارين، أما إن أحببنا أعداءنا وصلينا من أجلهم فنكون قد شابهنا الله في محبته للبشر.
يقول النبي: "يصرخ قلبي من أجل موآب، الهاربين منها إلى صوغر كعِجْلة ثلاثية لأنهم يصعدون في عقبة اللوحيث بالبكاء، لأنهم في طريق حورونايم يرفعون صراخ الانكسار" [5].
جاءت كلمة "الهاربين" في العبرية في صيغة المفرد؛ وكأن إشعياء النبي يصور لنا الهاربين من أقصى الشمال إلى صوغر في الجنوب، المدينة الصغيرة التي لجأ إليها لوط عند حرق سدوم وعمورة، أشبه بعجلة واحدة عمرها ثلاث سنوات قد هربت كما من النير الثقيل الذي لم تعتد عليه. صاروا كشخص واحد ليس من يسنده ولا من يعزيه، يهرب إلى الأماكن الصغيرة (صوغر) فلا يجد له ملجأ.
أما اللوحيث وحورونايم فلا يعرف موضعهما، إنما غالبًا ما كانا بجوار صوغر.
6 لأَنَّ مِيَاهَ نِمْرِيمَ تَصِيرُ خَرِبَةً، لأَنَّ الْعُشْبَ يَبِسَ. الْكَلأُ فَنِيَ. الْخُضْرَةُ لاَ تُوجَدُ. 7 لِذلِكَ الثَّرْوَةُ الَّتِي اكْتَسَبُوهَا وَذَخَائِرُهُمْ يَحْمِلُونَهَا إِلَى عَبْرِ وَادِي الصَّفْصَافِ. 8 لأَنَّ الصُّرَاخَ قَدْ أَحَاطَ بِتُخُومِ مُوآبَ. إِلَى أَجْلاَيِمَ وَلْوَلَتُهَا. وَإِلَى بِئْرِ إِيلِيمَ وَلْوَلَتُهَا، 9 لأَنَّ مِيَاهَ دِيمُونَ تَمْتَلِئُ دَمًا، لأَنِّي أَجْعَلُ عَلَى دِيمُونَ زَوَائِدَ. عَلَى النَّاجِينَ مِنْ مُوآبَ أَسَدًا وَعَلَى بَقِيَّةِ الأَرْضِ.
لا يقف الأمر عند خراب المدن والهزيمة المنكرة والهروب والصراخ وإنما يحل بموآب مجاعة كثمرة طبيعية للهزيمة في الحرب وتحطيم الموارد الطبيعية والبشرية، أو ربما كعلامة من علامات ثورة الطبيعة نفسها ضدهم. يقول النبي: "لأن مياه نمريم تصير خربة، لأن العشب يبس، الكلأ فنى، الخضرة لا توجد، لذلك الثروة التي اكتسبوها وذخائرهم يحملونها إلى عبر وادي الصفصاف" [6-7].
"نمريم" اسم سامي معناه "مياه صافية"، وهي ينابيع في وادي نميرة في الساحل الجنوبي الشرقي للبحر الميت. والمعنى هنا أن جماهير اللاجئين تكون عظيمة فلا تستطيع الواحة أن تكفيهم هم وحيواناتهم، لذا يتركون حيواناتهم ويأخذون ما يستطيعون حمله من ثروة وذخائر ليكملوا الطريق لعلهم يصيرون في غير عوز، لكنهم لا يقدرون أن يحملوا كل احتياجاتهم(217). ويرى بعض الدارسين أنه بجانب ما يحل ببلادهم من مجاعة يقوم الأعداء بالاستيلاء على ثروتهم وذخائرهم ويحملونها إلى بلادهم ليتركوا موآب خرابًا.
تتحول موآب كلها إلى موضع صراخ وولولة، يدوي الصراخ في كل تخومها، يُسمع في الجنوب في وادي نميرة حتى اجلايم بجوار قير وبير ايليم في الشمال. وتتحول مياه ديمون إلى دم [9] بسبب كثرة سفك الدماء في تلك الليلة الشهيرة [ديمون أو ديبون ومعناها دم، غالبًا ما يقصد مياه نهر أرنون]، فلا يجد أحد ما يروى ظمأه.
البقية التي تنجو تصير كما في حالة رعب، تواجه أسدًا مفترسًا لا يمكن مقاومته [9]!
في اختصار تفقد موآب مدنها العُظْمَى، وحقولها، ومياهها، وسلامها لتصير في خراب تام.
_____
(211) On Nativity, hymn 1.
(212) On Virginity 11.
(213) Cf. R.E. Clements: The New Century Bible Commentary, Isaiah 1-39, 1987, p. 152.
(214) Ibid 152.
(215) Ser. On N.T. Lessons 6:9.
(216) المطران أبيفانيوس: الأماني الذهبية من مقالات إكليل القديسين يوحنا الذهبي الفم، 1972، ص 49.
(217) New International Comm, on the O.T., Isaiah 1-39, p. 338-9.
← تفاسير أصحاحات إشعياء: مقدمة | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | 41 | 42 | 43 | 44 | 45 | 46 | 47 | 48 | 49 | 50 | 51 | 52 | 53 | 54 | 55 | 56 | 57 | 58 | 59 | 60 | 61 | 62 | 63 | 64 | 65 | 66
الكتاب المقدس المسموع: استمع لهذا الأصحاح
تفسير إشعياء 16 |
قسم
تفاسير العهد القديم القمص تادرس يعقوب ملطي |
تفسير إشعياء 14 |
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/c4mg8a3