محتويات
هناك أسباب تؤدي إلى الخطية وإلى الشر، ولعل في مقدمة هذه الأسباب: سوء الاستخدام. فما المقصود بهذا؟
إن الله قد وهبنا عطايا كثيرة. ولكننا نسيء استخدامها.
وهناك في الحياة أشياء كثيرة، يمكن أن تستخدم في الخير، ويمكن أن تستخدم في الشر.
هي في ذاتها ليست خطية، إنما الخطية هي في سوء استخدامها.
فما تفسير هذا كله؟ فلنحاول معًا أن تنفهم الأمور جيدًا، حتى نستطيع أن نحدد أين يوجد الخطأ؟ وما هو مصدره؟ ولنبدأ ببعض المواهب، ونتدرج أيضًا إلى المادة، وإلى الغرائز، وإلى المخترعات، ونفحص الأمور جيدًا.
أعطانا الله عاطفة الحب. وهي ليست خطأ. بل الخطأ هو أننا لا نحب. وقيل عن الله تبارك اسمه "الله محبة" (1يو8:4). وقال الرسول "كل من يحب فقد ولد من الله ويعرف الله" (1يو7:4).
الخطأ هو أن نسيء استخدام الحب، ونوجهه توجيهًا غير سليم.
الحب أصلًا يكون موجهًا إلى الله، وإلى الناس داخل نطاق محبة الله. ويكون موجهًا إلى الخير والمثاليات، وإلى السماء والأبدية.
وقد قال الوحي الإلهي "تحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك، ومن كل قدرتك" (تث5:6). هذه هي الوصية العظمي في الناموس. والثانية مثلها "تحب قريبك كنفسك" (مت39:22).
ولكن نخطئ إذا أسانا استخدام الحب، فأصبحنا نحب العالم أو الجسد أو المادة أو الذات.
وفي هذا قال الكتاب "محبة العالم عداوة لله" (يع4:4). وقيل "لا تحبوا العالم ولا الأشياء التي في العالم. إن أحب أحد العلم فليست فيه محبة الآب. لأن كل ما في العالم: شهوة الجسد وشهوة العين، وتعظم المعيشة" (1يو2: 15، 16).
كذلك يخطئ الإنسان إن أحب ذاته محبة خاطئة.
فليس خطأ أن يحب الإنسان ذاته محبو روحية، كما قيل: تحب قريبك كنفسك". ولكن إذا أساء استخدام محبته لنفسه، بحيث توجهت هذه المحبة إلى الجسد والذات، أو إلى العظمة والكبرياء حينئذ تصبح محبة الذات خطية.
ومن ضمن محبة العالم: محبة المال.
المال ليس شرًا في ذاته، إنما الشر في سوء استخدامه.
فقد كان أبونا إبراهيم أبو الآباء غنيًا، وكان أمام الله. أيوب الصديق كان أغنَى بني الشرق، ومع ذلك كان رجلًا كاملًا ومستقيمًا يتقي الله ويحيد عن الشر (اي8:1). "وكان أبًا للفقراء، وعيونًا للأعمى، وأرجلًا للعرج. وكم أنقذ المسكين المستغيث واليتيم الذي لا معين له. وكم جعل قلب الأرملة يسر" (أي29: 12-16). لقد استخدم ماله بطريقة سليمة.
وبالمثل كان يوسف رجلًا غنيًا (مت75:27). وهو الذي كفن السيد المسيح ودفنه. وفي الجيل السابق لنا كان إبراهيم الجوهري رجلًا غنيًا. وكان إنسانًا بارًا ينفق على الكنائس والأديرة، ويعول الفقراء والمعوزين.
ولكن يصير المال شرًا، إذا أسيء استخدامه، في اللهو، وملاذ الدنيا، أو اعتمد الإنسان عليه، وصار مجالًا للكبرياء.
وليس عيبًا أن يمتلك الإنسان مالًا، إنما العيب أن يمتلك المال هذا الإنسان...
ليس الغضب شرًا في ذاته، فهناك غضب مقدس.
والغضب المقدس هو الذي يمنح الإنسان الغيرة المقدسة، والنخوة والشهامة، والدفاع عن الحق. ويبقى الغضب مقدسًا، إن كانت وسيلة مقدسة، ودوافعه مقدسة. وهنا نفرق بين الغضب والنرفزة، فالنرفزة هي تعب في الأعصاب. وقد يغضب الإنسان، ويبقى في وقاره، متزنًا، محتفظًا بأعصابه.
وقد غضب موسى النبي، عندما عبد الإنسان العجل الذهبي، وأحرق هذا التمثال بالنار، وطحنه وذراه على وجه الماء، وبكت أخاه هرون (خر32: 20، 21).
ولكن إذا أُسيء استخدام الغضب، يصبح خطية.
وذلك إذا استخدم من أجل كرامة شخصية، أو بقسوة وبغير سبب يدعو إليه، أو إذا خلط هذا الغضب بألفاظ غير لائقة، أو باعتداء، أو بإهانات وجرح الشعور، أو بعنف، أو بظلم. ففي كل هذا يصبح الغضب خطية، لأنه قد أسيء استخدامه.
ليس الفن خطيئة، لأنه يمكن استخدامه في الخير.
نقول هذا عن الشعر، والموسيقي، والرسم، والنحت، ونقوله أيضًا عن التمثيل في المسرح أو السينما، وسائر الفنون الأخرى إذا كان استخدامها في الخير.
كان داود النبي شاعرًا، وكان موسيقيًا...
كان ينظِم المزامير شِعْرًا، ويغنيها على مزماره وكان يحس الضرب على العود" (1صم16: 16، 18). وكان آساف أيضًا شاعرًا ومغنيًا، ومريم النبية أخت هرون كانت تضرب على الدف، وتغني للرب. وقد فعلت في معجزة شق البحر الأحمر، وهي تقود النساء في التسبيح (خر15: 20، 21).
والرسول يقول "بمزامير وتسابيح وأغاني روحية، مترنمين في قلوبكم للرب" (أف19:5). والغناء الروحي موجود في الكنيسة في الألحان والتراتيل والتسابيح، بل في القداس الإلهي نفسه. والمزمور يقول "غنوا للرب أغنية جديدة"، "رنموا للرب" (مز98:95). وسفر نشيد الأناشيد يمكن أن يترجم أغنية الأغنيات The Song of the Songs.
إذن الغناء ليس خطأ في ذاته، ولكن إذا أُسِيء استخدامه في المجون والعبث، حينئذ يصبح خطية.
ونفس الوضع بالنسبة إلى الشعر، وإلى الموسيقي، يتوقف الخير أو الشر فيهما على حسن الاستخدام أو سوء الاستخدام. ونفس الكلام نقوله عن الرسم والنحت. فلوقا الإنجيلي كان رسامًا. ولا ننسى ميشيل أنجلو Michelangelo وأيقوناته في الكنائس. أما الرسامون الذين يسيئون استخدام الموهبة إلى الغرائز الجسدية، فهؤلاء يخطئون بسوء الاستخدام. وتبقى الموهبة صالحة إذا استخدمت حسنًا، كما قيل:
"كل شيء طاهر للطاهرين" (تي15:1).
هو أيضًا يتوقف خيره أو شره على استخدامه.
فالخيال الخير هو مصدر القصص النافع المفيد، والشعر الروحي المؤثر، بل قد يكون مصدرًا صالحًا للتأمل. ويمكن للإنسان أن يسرح خياله في السماء والملائكة والأبدية، بل وفي صفات الله نفسه.
ويصبح الخيال شرًا، إذا أسيء استخدامه، كما في أحلام اليقظة وتصور الشرور في الذهن.
أي إذا سرح خياله في خطية...
الطموح يكون خيرًا إن كان سعيًا وراء الكمال.
وفي ذلك قال الرسول "إذا أنسي ما هو وراء، وأمتد إلى ما هو قدام" (في3: 13). ولولا الطموح، ما كان النمو الروحي في الفضيلة، وما كان السعي إلى استرجاعنا لصورة الله فينا، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. ويكون الطموح خيرًا إذا سعي الإنسان إلى إن يكون ناجحًا في كل عمل تمتد تمتد إليه يده (مز3:1). كما كان يوسف ناجحًا في كل شيء (تك3:39).
أما إذا أُسيء استخدام الطموح، وصار طموحًا في العظمة والماديات، وفي الانتصار على الآخرين، حينئذ يصبح خطية.
كذلك إذا قاد الطموح إلى الحسد أو إلى الكراهية، أو إلى التآمر على الآخرين لأخذ مراكزهم... هنا نكون قد أسانا استخدام الطموح.
العقل موهبة من الله، يمكن أن تستخدم في الخير وفي الشر.
العقل إذا استُخْدِم في خير الإنسان روحيًا، وفي خير البشرية، وفي التوصل إلى السلوك السليم، حينئذ يتحول إلى حكمة طاهرة نافعة.
ولكن العقل يسيء البعض استخدامه، كالخطاة والمجرمين وكالشيطان نفسه.
ومن هنا قد يستخدم العقل في تدبير المؤامرات، مثلما كان يفعل أخيتوفل. ومثلما استخدمت الملكة إيزابل عقله في الفتك بنابوت اليزرعيلي (1مل21) ومثلما يدبر الشيطان لإهلاك البشر، ومثلما يفعل العظماء في اختراع أسلحة تدميرية فتاكة. وكما يفعل أصحاب الحيل والدهاء والمكر...
هنا يكون قد أساء استخدام عقله، في ضرر الآخرين أو ضرر نفسه.
يمكن استخدام الاختراعات في الخير أو في الشر.
الطاقة الذرية Nuclear Power مثلًا التي استخدمت في تدمير هيروشيما، يمكن أن تستخدم سلميًا من أجل خير البشرية. هي ليست شرًا في ذاتها، ولن الشر يمكن في سوء استخدامها.
يسأل البعض أحيانًا: هل الراديو والتلفزيون حلال أم حرام، خير أم شر؟ وكذلك التمثيل؟
يمكن استخدام هذه المخترعات في الخير، إذا اشرف عليها أناس روحيون يهتمون بنقاوة القلب والفكر، وبقيادة الإنسان في طريق الخير.
والكنيسة تستخدم المخترعات الحديثة.
مثل الميكروفونات، ومكبرات الصوت، والفيديو، وأجهزة التسجيل، وكل المخترعات النافعة.
ويمكن أن يُسْتَخْدَم المسرح والتمثيل في متعة الناس روحيًا.
وذلك بتقديم روايات دينية من الكتاب المقدس، أو من تاريخ الكنيسة، أو حتى من الخيال، المهم أن تترك ثأثيرها الروحي العميق في نفوس مشاهديها.
يمكن استخدامها في الخير، وإذا أسيء استخدامها تصبح شرًا.
والدين يدعونا أن نكون أقوياء. والإنسان القوي الشخصية، هو إنسان نافع للمجتمع، ونافع لسرته، ونافع لنفسه في الانتصار على كل إغراءات الشر. وهنا أحب ألا يفهم الناس التواضع فهمًا خاطئًا، يكون مظهره الضعف والتخاذل.
فالسيد المسيح كان متواضعًا جدًا، وفي نفس الوقت كان قوي الشخصية، وكان يفحم الكتبة والفريسيين والصدوقيين وغيرهم في كل حواره معهم. وكانوا يشعرون بقوته وكان الجميع يبهرون بشخصه...
ولكن إذا أُسيء استخدام القوة، وتحولت إلى البطش والعنف، أو الاستبدال والتسلط أو تحولت إلى الإرهاب والظلم، حينئذ تصبح شرًا.
وهنا نميز بين القوي العادل النافع، وبين القوي المغلوب من نفسه المتسلط على غيره كل شيء نافع إذا أسيء استخدامه يتحول إلى شر.
لا أظن أن أحدًا في العالم يقول أن الحرية شر. ولكن لأشك أن سوء استخدام الحرية هو خطية بلا شك.
كأن يستخدم إنسان حريته في فعل ما لا يليق، أو بغير ضابط خلقي... أو أن يستخدم حريته في إقلاق الآخرين وإزعاجهم، أو في أن يكون عثرة لهم، وسببًا في سقوطهم.
أو أن يستخدم حريته في اللعب واللهو ويترك دروسه فيفشل.
أو أن يستخدم الإنسان حريته في الاعتداء على حريات الآخرين أو على حقوقهم، أو في انتهاك النظام العام...
هنا يكون الاستخدام السيئ للحرية خطية.
ليست الغريزة خطأ في ذاتها، وإلا ما خلقها الله فينا.
كما أن المادة ليست خطأ في ذاتها، وإلا ما كان الله خلقها. إنما المهم أن تسير الغريزة في مجراها الطبيعي، ولا يساء استخدامها...
وموضوع الغرائز موضوع طويل ليس الآن مجاله...
ونفس الكلام نقوله على الرغبات.
المادة ليست شرًا في ذاتها، إذا أسيء استخدامها تتحول إلى شر.
كذلك إذا أحبها الناس أكثر من الله، أو إذا سيطرت محبتها في قيادة الإنسان، بحيث يقولون عنه إنه إنسان مادي...
أي أن المادة استخدمت بأسلوب قضى على روحياته ومثالياته ومحبته للخير...
ومن منطلق هذا المفهوم نتكلم أيضًا على الخمر.
الخمر - كمادة ليست شرًا. ولكن الاستخدام السيئ للخمر هو الشر. ونحن لا نُحَرِّم الخمر كمادة، ولكن نُحَرِّم استخدامها السيئ.
أخطر ما في الخمر هو الكحول، هو الذي يتلف الصحة والإرادة، ويقود إلى السُّكْر ويضيع هيبة الإنسان، إن زاد مقدار الكحول عن الحد...
ولكن الكحول ليس شرًا في ذاته، ونحن لا نحرمه.
وكثيرًا ما نستخدم الكحول في عديد من الأدوية، وفي العطور، وفي الصناعات وفي الوقود. ولكن الاستخدام السيئ للكحول في إتلاف صحة الإنسان، أو في إشعال الحرائق، وما يماثل ذلك، هذا هو الخطأ.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/pope-sheounda-iii/righteousness/evil.html
تقصير الرابط:
tak.la/m5qn62k